عبد الصمد الديالمي - المدينة العربية الإسلامية - الجنس والمعمار والجسد واسطتهما

من المؤكد أن مشروع المدينة العربية الإسلامية التأسيسي استهدف تجاوز التجزؤ القبلي، فقد كان ذلك النمط الحضري حيزا لاندماج الخصوصيات القبلية الانقسامية باسم إيمان مشترك كوني النزعة في هوية جديدة، دينية، موحِّدة. لكن، وفي البداية على الأقل، نزعت كل عاصمة عربية – إسلامية إلى الإبقاء على الخصوصيات وإلى احترامها، موكلة لتجميع تلك الخصوصيات في الفضاء الواحد مهمة اندثارها على المدى الطويل. لذا نجد كل مؤسسي المدن العربية الإسلامية يحترمون في تصميمها الطابع الإثنى والقبلي، إلى درجة تخصيص حي لكل قبيلة.

في هذا الصدد، يقول جرجي زيدان: “ابتني قادة الجند في صدر الإسلام، مدنا هي أشبه بالحصون والمعسكرات كالبصرة والكوفة والفسطاط، ينزل فيها جند العرب نزول الحامية أو حيث الاحتلال. وقد تهاجر القبيلة بكاملها إلى ديار الفتح، فينزلون في المعسكرات في سكك ودروب معينة حسب التقسيمات الداخلية القبلية” ( جرجي زيدان: “تاريخ التمدن الإسلامي” بيروت. منشورات دار مكتب الحياة، 1966، ص: 49.). نفس الشيء قام به إدريس الثاني عند بناء مدينة فاس حيث أنه “أقام كل مجموعة إثنية مع ما يلائمها في مكان مجاور للحرفة التي تلائمها، وأعطاها الإذن لممارستها” (مؤلف مجهول: “قضية البلديين المعبر عنها بالمهاجرين” الرباط، الخزانة العامة، مخطوط رقم 1115.).

ليس للمدينة العربية الإسلامية إذن مفعول إدماجي تحويلي مباشر. إنها “مكثف اجتماعي”، بمعنى أنها تجميع مركّز لهويات خصوصية مختلفة في فضاء محدد ومحدود تسيجه أسوار ويسمى دارا للإسلام. لكن بديهي أن تقاوم الهوية السلالية المهددة بالانقراض هذا المفعول التركيبي للمدينة، وذلك عبر آليات مختلفة مثل الوقف والزواج الداخلي. إنها مقاومة ضد المدينة لكن داخل المدينة، فهي معارضة قبلية من الداخل، بمعني أن التشبث بالقبيلة تشبث شبه انفعالي ولاشعوري في حين أن الاندماج الإسلامي ضرورة شعورية رسمية.

المدينة، بين القبيلة والأمة

كيف تمت، معماريا، مقاومة العقل القبلي للشمولية الإسلامية داخل المدينة وبها؟ كيف تم الإبقاء على نقاء النسب؟ رغم الأمر الديني المطلق والشمولي النزعة، استطاع العقل السلالي أن يستمر من خلال تحقيق نفسه في كتابة معينة بالمجال وللمجال، وبالخصوص بفضل تنظيمه تنظيما انطوائيا. فالمعمار الانطوائي (ونقصد به غياب الشرفة وغياب النوافذ المطلة على الخارج، الدرب اللامخرج/المأزق، مدخل الدار المكوع) معمار دفاعي يعبر عن إرادة سلالية، أي عن إرادة “الاحتفاظ بكل فتيات العائلة إلى فتيان العائلة” من أجل الحفاظ على وحدة الملكية العائلية، أي على وحدة أساسها الاقتصادي. في هذا السياق، اضطرت المدينة أن تقنن استهلاك المرأة للمجال (الحجاب)، وأن تضبط دورانها الزوجي. فتزوج المرأة من خارج السلالة الأبيسية يمكّنها من نقل ثروتها الموروثة بفضل الشرع الإسلامي إلى أبنائها، أي إلى عصب آخر. من هنا نفهم لماذا تم تفضيل الزواج الداخلي (بين أبناء العم) وكيف لعب المعمار الانطوائي دورا في الحفاظ على صفاء النسب وعلى وحدة الملكية العائلية وتوارثها في الخط الأبيسي.

إنها ممارسة قبلية تقاوم الثورة الإسلامية التي “أبدعت” المرأة شخصا قانونيا، له حق الملكية وحرية التصرف فيها وحق نقلها إلى ورثة. ومن ثم يمكن الخلوص إلى أن النزعة الفردانية في الإسلام بدأت من المرأة، وبالمرأة. هناك إذن تناسق واضح بين الإستراتيجية الزوجية الداخلية وبين المعمارالانطوائي، فهو معمار يحمي استمرار الأنا الأبيسي. إن المعمار الانطوائي لا يكتسب معقولية إلا في علاقته بالجنسانية السلالية، إلى درجة أن المعمار يصبح سلاليا في الوقت الذي تتحول فيه السلالة بدورها إلى معمار ( دار عائلة كذا، درب عائلة كذا...).

هذا هو الرهان المؤسس للمدينة العربية – الإسلامية، ونقصد به التمزق بين المطلب السلالي (الخصوصي) وبين المثل الأعلى الإسلامي (الشمولي). وهو تمزق يجد حله في منطق عملي ينسحب على المجال والجنس معا، باعتبارهما “حقلين مختلفين للممارسة”. فكل واحد من هذين الحقلين يخترق الآخر، وكل واحد منهما يُخضع الآخر ويقيده بالقيم الذي يتقيد بها هو نفسه. لا محيد عن القول بتبعية المعمار والجنس لنفس الرؤيا داخل نفس النسق العام. فهما معا أنساق لا لغوية لها دلالة، أنساق تابعة ومتكاملة في تعبيرها عن قيم المجتمع.

فالمعمار العربي-الإسلامي يتميز بالانطواء لأنه يوجه حياة الدار نحو داخلها/وسطها، وهذه طريقة يدل بها المجتمع على هويته ويستعملها من أجل كتابة رؤيته الخاصة للعالم. والجنسانية العربية- الإسلامية بدورها تعبر عن القيم والاختيارات المؤسسة مثل تشجيع النسل والتكاثر (كأساس لقوة القبيلة ولقوة الدولة)، بالرغم من التشديد على بُعد المتعة في عصور الازدهار. في نهاية التحليل، يحتم هذا التقابل ضرورة مقاربة الجنس والمعمار من خلال نفس الوساطة، وهي وساطة الجسد.

نظام الجسد

أمام ضرورة فهم المجال وتنظيمه، تمت أنسنته حين اعتبره الإنسان جسدا شبيها بجسده. فمرجعية الإنسان الأولى هي جسده، الشيء الذي قاده إلى إسقاط نظام جسده على المجال فأصبح المجال رمزا للجسد ولأعضائه. إن الجسد هو المقياس الأول لتنظيم العالم. يقول ميرلو – بونتى Merleau-Ponty في هذا الصدد: “إن الجسد هو رحم كل منطق مجالي، إنه ليس فقط أحد المدركات من بين المدركات، إنه مقياس… كل أبعاد العالم”. إن الجسد مجال معجمي يتكون من مناطق دلالية يمكن اعتبارها وحدات جسدية-دلالية تبين أن الجسد فضاء منظم للعالم.

إنه المرجعية التي يتم الاستناد عليها من أجل أنسنة العالم من خلال انتظامه في تقابلات أساسية مثل الأعلى والأسفل، الأمام والوراء، العمودي والدائري. وليس صدفة أن يستعمل فرويد مفهوم المنطقة ليميز بين مختلف المناطق اللذية في الجسد (الفم، الشرج، البظر، القضيب...) وليتحدث عن لذة مهاجرة فوق جغرافية الجسد.

لا غرابة إذن أن يتم إسقاط نظام الجسد على العالم من خلال إسقاط تكاملي وغير صراعي انطلاقا من منطق عملي. كان لابد من إقامة نسقية ولو إجمالية systématicité en gros حسب تعبير بورديو Bourdieu، كان لابد من بناء التقابلات المعمارية انطلاقا من التقابلات الجنسية/ الجسدية، التي تبدو طبيعية للإنسان. فالتقابل بين المركز والمحيط في المجال يقوم حتما على التقابل بين الطاهر والمدنس الذي له بدوره أصل جسدي في التقابل بين أعضاء مركزية نبيلة وأعضاء محيطية مدنسة (بكسر النون). إن النسقية الإجمالية الناتجة عن فهم عملي تقيم تماثلا بين الجسد والدار، بين الجسد والقرية، بين الجسد والمدينة (ما قبل الصناعية). فالكل يشارك في رمزية شاملة وواحدة تنسحب على كل مستويات الوجود والوعي. من ثم تتكون استمرارية “منطقية” شبه طبيعية بين أذرع الأنا، وهي الجسد والدار والقرية والمدينة. بفضل تلك الأذرع يحافظ الأنا (الفردي والجماعي) على هويته وعلى وجوده وعلى سيادته.

إن الدار امتداد للجسد، إنها جسد ثان يحمي الجسد ويحتمي بدوره داخل جسد أكبر، جسد القرية أو جسد المدينة. “ليس هناك سيطرة حقيقية على هذا المنطق إلا بالنسبة لمن هو مسيطر عليه من طرف هذا المنطق نفسه، لمن يمتلكه، لكن إلى حد أن يصبح ممتلكا من طرفه تماما، أي مستلبا”: إن ما يسري على الجنس يسري على المجال.

أبعد من ذلك، أسقط الإنسان قدسية على بعض الأماكن انطلاقا من شبهها الشكلي أو الوظيفي مع بعض أعضاء جسده المحرمة/المقدسة. لنأخذ التقابلين بين الطهر والدنس، وبين المركز والمحيط. صحيح أن هناك ميل إلى اعتبار التقابل الأول تقابلا جنسيا والثاني تقابلا مجاليا. لكن يمكن “تمجيل” التقابل الأول كما يمكن جنسنة التقابل الثاني. فتمييز فرويد بين جنسانية قضيبية وأخرى ما قبل قضيبية يدل على تقسيم الجسد إلى مركز وإلى محيط.

إن المناطق اللذية غير القضيبية ليست هي المركز (القضيبي)، وتكمن في كل منطقة قادرة على إعطاء لذة مُمهِّدة أو مكملة للذة المركزية القضيبية. إن اللذة تنتقل من منطقة إلى منطقة، داخل فضاء الجسد… لذة تهاجر من الفم نحو الشرج، ثم من الشرج نحو البظر، وهو قضيب غير منجب، فلا يتم الاعتراف إلا بالهجرة النهائية نحو القضيب ونحو سيادته.إن القضيب هنا هو المركز. ومن ثم، يتحدد “أمام” الجسد كمنطقة محددة للهوية الجنسية، مميزة بين الذكر والأنثى، بين حضور القضيب وبين غيابه.

في مقابل ذلك، ينقسم المجال إلى مجال طاهر وآخر دنس. فالأنشطة الحرفية الملوثة تشغل مكانا بعيدا عن مركز المدينة، دنسا وهامشيا، في حين أن الأنشطة الفاضلة مثل التعبد والتجارة، الطاهرة، تحتل الأماكن المركزية. خير دليل على ذلك، تموقع ضريح مؤسس المدينة والجامع الكبير والسوق جنبا إلى جنب فهي مركز المدينة وهي أطهر أمكنة المدينة... إن ما هو طاهر مركزي مجاليا. نفس التمييز يوجد على مستوى كل وحدة معمارية، على مستوى الدار بالخصوص، باعتبارها النموذج المثالي المؤسس للمدينة ما قبل الصناعية. فأماكن النظافة والطبخ لا تحتل الموقع المركزي في الدار، إنها أماكن في الهامش، في الظل.

صحيح – انطلاقا من هذا الطرح- أن العلاقة بين المجال والجنس علاقة لاشعورية. لكن لاشعورية تلك العلاقة ما هي إلا مستوى من العلاقة العامة التي تجمع بينهما. فتقسيم الفضاء إلى أمكنة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء، وهو ما يسميه عبد الوهاب بوحديبة بالحدود الجنس.

هذه التمهيدات النظرية تسمح لنا ببناء أربعة أنماط للعلاقة بين الجنس والمجال وهي:

— النمط الرمزي: وتساؤله الرئيسي يدور حول إعطاء دلالة جنسية إلى الموضوع المعماري. بتعبير آخر، يتوجب تشخيص مواضيع معمارية تلعب دور الرامز بالنسبة إلى مرموز جنسي، مما يؤدي إلى التمييز بين مواضيع معمارية مذكرة وأخرى مؤنثة، انطلاقا من أشكالها الهندسية أو من وظائفها (القائمة على تموقعها في نظام من الاختلافات، أو على الاستراتيجيات الموضوعة فيها).

— النمط اللساني: ويكمن في تسمية أمكنة معينة من المجال بأسماء أعضاء جسدية (الرأس، الفم، الصدر…). وتكون تلك الأعضاء مجنسنة أو قابلة للتجنسن، قضيبية أو قبل–قضيبية. ويمكن توصيف هذه العملية التي تعبر عن استعارة معجمية معجمية بأنها شكل من أشكال الإسقاط، مما يفضي إلى اعتبار المجال امتدادا للجسد.

— النمط الوظيفي: وتدور أسئلته حول أمكنة الفعل الجنسي. فهل توجد أمكنة مخصصة للفعل الجنسي قبل ظهور غرفة النوم؟ وهل يعني ظهور غرفة النوم كغرفة وظيفية أن كل النشاط الجنسي يتم داخلها؟ هل يمكن القول – على العكس من ذلك – أن ظهور غرفة النوم تزامن وانفجار النشاط الجنسي في المجال، بمعنى أن المواقعة تحررت من التعيين المكاني بالضبط بعد تحقق ذلك التعيين؟ وجه آخر من المستوى الوظيفي يكمن في الربط بين الجنسانيات اللاشرعية (الخيانة الزوجية، الجنسانية قبل–الزوجية…) واللاسوية (اللواط، السحاق…) وبين فضاءات معينة. فهل تختلف فضاءات الجنس باختلاف طبيعة وشرعية الجنس؟ ذلك ما يوحي به التمييز الصارم بين الدار والماخور، أي بين النكاح والزنا، بين المقدس والمدنس.

— النمط الحدودي : ويتعلق بانتصاب حدود مجالية بين عالم الرجال وعالم النساء، أي بتقسيم المجال إلى أماكن خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء، داخل البيت وخارجه. والتساؤل الذي يطرح من جراء الحداثة الجنسية، وهي سيرورة مناهضة للتقسيم الجنساني للمجال، يعني بمدى نجاح واكتمال التحديث الجنسي للمجال. فمن المشروع أن يرى الباحث في استمرار وجود الحدود الجنسية في أماكن مثل الحمام والمسجد دليلا على استمرار قدسية المجال والجنس، ودليلا على عدم تحويلهما بعد إلى أشياء اقتصادية بشكل كلي. وفعلا، يمكن التساؤل عن أسباب إمكان الاختلاط في الشواطئ وعن عدم إمكانه في الحمام؟ ولمَ يتم الاختلاط في المدارس ولا يتم في المساجد؟

الأخطر من ذلك أن الحدود الجنسية انطلاقا من تحولها إلى حدود نفسية باطنية، تستمر في الأماكن الأكثر حداثة مثل المقهى. فجلوس المرأة في المقهى لم يتحرر من بعض الشروط التي تبين أن الحداثة المجالية لا تعني آليا الحداثة الجنسية. نادرا ما تجلس المرأة لوحدها في المقهى، ونادرا ما تجلس في رصيفه، كما أن هناك مقاهي لا ترتادها النساء قطعا، دون أن توجد مقاهي خاصة بالنساء.

إن عدم الاعتراف بالحدود الجنسية في منطق المقهى يظل مبدئيا وغير مندمج بعد في الحس العملي، وفي الحس المشترك. إن شعورية التقسيم الحدودي للمكان (وقصديته) تقوم على استبطان تجنيس المجال في اللاشعور العميق للفرد والمجتمع العربي. ، تقسيم يثبت وجود علاقة شعورية بين المجال والجنس.

إن الحدود الجنسية حدود مجالية. فكل مستهلك للمجال يعرف، تبعا لهويته الجنسية، أين يمكن أن يتواجد داخل الدار وفي المدينة، ويعرف أيضا أين لا يسمح له أن يتواجد. ويخضع تجاوز الحدود المجالية بين الجنسين إلى قوانين اجتماعية صارمة، الشيء الذي يؤدي إلى تنظيم الاختلاط في المجال وإلى ربط الفعل الجنسي بأماكن معينة. لا داعي إذن إلى بذل مجهود كبير من أجل التدليل على وجود جانب شعوري وقصدي في العلاقة بين المجال والجنس



.

Léon Auguste Adolphe Belly
(1827–1877)
صورة مفقودة
 
أعلى