عبد الصمد الديالمي - في ذكورية المدينة العربية الإسلامية

إن تداخل الأشكال المذكرة والمؤنثة في المعمار العربي-الإسلامي ليس اعتباطيا، بل إنه يرمز في بعض الأحيان إلى الوقاع نفسه، وهو الشيء الذي يمكن التأكد منه في وصف بورديو Bourdieu للدار "القبايلية" (منطقة القبايل) في الجزائر. يقول بورديو: "وسط حائط الفصل، بين "دار البشر" و "دار البهائم، تنتصب الركيزة الرئيسية التي تدعم الجائز الأساسي (اسلاس، الماس، بالأمازيغية، وهي كلمة مذكرة)، بل تدعم هيكل الدار كله. ويُماثل الجائز برب البيت بشكل صريح بينما تماثل الركيزة الرئيسية، وهي جذع شجرة مزدوج الفروع (تيغجديث، كلمة مؤنثة)، بالزوجة (…) أما تداخلهما فيصور التناكح". لا يتعلق الأمر هنا بتأويل. فالتطابق بين الجائز والزوج من جهة، وبين الركيزة والزوجة من جهة ثانية ليس فعل قراءة، أي قراءة لظاهرة معمارية-ثقافية من طرف باحث خارجي.

لا يتعلق الأمر هنا بالامتياز الإبستمولوجي للملاحظ الأنثربولوجي. فالدلالة الجنسية لموضوعي الجائز والركيزة ولتداخلهما ليست لا شعورية لأن التماثل بين الجنسي والمعماري حاضر بشكل مباشر في وعي الإنسان القبايلي نفسه ولا ينتظر فعلا تأويليا خارجيا لكي يبرز إلى الوجود.

إن الرمزية الجنسية هنا بسيطة، أولية، لا تحتاج إلى جهاز مفاهيمي عالِم. وفي هذا المثال، يعبر المذكر عن سيادته وعن تفوقه بكل بساطة وعفوية، وهو الشيء الذي يتعذر تحقيقه بنفس السهولة داخل المجال الحضري. كيف ذلك؟ كيف تتمظهر الرمزية الذكورية على مستوى معمار المدينة العربية الإسلامية أولا؟ إن المدينة، في صراعها ضد الجاهلية الأفقية المؤنثة (غير المبنية، الطبيعية) قلم شارع، قلم ذكر. في صراعها ضد باديات متعددة، انقسامية، عاجزة عن الارتقاء إلى نظام الدولة، تتحول المدينة إلى قلم. إن الإسلام يحول المدينة إلى قضيب، فيصبح القضيب العربي قضيبا حضريا. ما هي التمظهرات المعمارية التي استعملها الإسلام لتحويل مدنه إلى قضيب حضري، يخصب ويؤسلم البوادي الجاهلية، المؤنثة بالنظر إلى انبطاحها المعماري والعمراني؟

أسوار الشرع:

أول تمظهر للقضيب المعماري نجده في الأسوار العالية التي تحيط بالمدينة والتي تجعل منها وحدة متميزة، منفصلة، غير قابلة لتمدد لانهائي. تموت المدينة عند أسوارها، عند حدودها، ليبدأ عالم الجاهلية، الممتد إلى ما لا نهاية. هل يعني ذلك أن البادية لا تعرف مفهوم الحدود؟ إن الحدود القروية غير مبنية، معطاة، طبيعية. إن الحدود ضرورية للتشخيص، فهي تعريف بالهوية، وفي نفس الوقت، حماية مجسدة للهوية. لا يترك مفهوم المدينة شكا حول هذه النقطة، لأن إحاطتها بأسوار مستمد من وظيفة دفاعية تتجسد في "الدوّار" (القرية) أصلا. وبالتالي يتضح أن الحدود الدفاعية، المعمارية، ترتبط بالهوية القبلية قبل أن تنسحب على الهوية الحضرية. "حول الدوار، كل (الأجهزة) الدفاعية الطبيعية من خنادق ونبت الصبّار، وحول الخيمة، تضيف جرمين تيليون، حشد كلاب نصف متوحشة". من الصعب أن نتحدث هنا عن دفاع معماري بالنظر إلى "طبيعة الخنادق والصبار وإلى وحشية الكلاب. إنها دفاعات أفقية، منبطحة، لا تدل على تطلع نحو الأعلى ولا تدل على رغبة في السمو أو امتلاك الطبيعة والسيطرة عليها. خلافا لذلك، أول ميزة للسور هي العمودية، والعمودية من ميزات الإنسان (الوقوف على رجلين). كما لو أن السور يرمز في البداية إلى رغبة تجاوز الحيواني والطبيعي. وبالفعل، لابد من القول أن الحد العمودي الذي يجسده السور بين العرف والشرع هو، في نهاية المطاف، حد عمودي بين الأدنى والأسمى. فالشرع أسمى من العرف. إن العمودية بذاتها وفي ذاتها ترمز إلى التراتب وتعبر عن أفضلية جهد التسامي والارتفاع.

تتجلى إذن أفضلية المدينة، وعبرها أفضلية الإسلام، من خلال الأسوار المحيطة بها، مثل قضيب منتصب على الدوام، يسهر على إحصانها. فالسور، بفضل عموديته (ارتفاع / انتصاب)، يكتب معماريا ذكورة المدينة، أمام انبطاح البادية الطبيعي، مثل ما يكتب الذكر المنتصب عمودية الرجل أمام أفقية المرأة وانبطاحها (في المنطق الأبيسي). فمهام السور والذكر واحدة، تتلخص في إحصان الشريعة والمرأة، بل وفي حماية كل واحد منهما بالآخر. وهكذا، وبفضل السور، تتحدد المدينة كذكر منتصب ينطلق نحو غزو البادية، إلى إخصاب تلك الأنثى "الطبيعية"، إلى تحويل الشعر شرعا. فالشعر المبدع يعوض، عند الرجل، الحمل المستحيل. إنه شكل من أشكال تحول المذكر إلى أنثوي، أو قل أن الأنثوي الكامن في جنسانية الرجل هو المسؤول عن الشعر وعن الإبداع.

إن الإبداع إنجاب رمزي ليست له حدود وأسوار، خلافا للشرع وحدوده. فحدود الشرع بالأسوار تنتصب وتقوم لتجعل من الشعراء أناسا "يتبعهم الغاوون"، أناسا " في كلواد يهيمون".

في تحليلنا لخرافة "عائشة بنت النجار" (في كتابنا "نسائية صوفية" 1991، بالفرنسية)، صادفنا مفهوم السور من خلال أول "نزهة" يقوم بها الأمير. وقد أوضحنا أن "سور" – مكان تلك النزهة – رمز متعدد المعاني، يحيل إلى حقول المعمار والجنس على الأقل. ذلك أن الأمير يضطر إلى الذهاب إلى "سور" من أجل بداية رحلة نحو المعرفة والحب، الشيء الذي يستوجب تجاوز "سور" "المدينة، أي تجاوز الإسلام في ظاهره الشرعي، وتجاوز سور شخصيته، أي قضيبه وسيفه، وهما اللذان بانتصابهما ينصبان كبرياءه. إن البحث عن الحق يقوم إذن في البداية على تجاوز السور، في شكله المعماري الظاهر من جهة، وفي شكله النفسي الباطني من جهة ثانية. صحيح أن المدينة تعبر عن كبريائها بفضل أسوارها المتعالية، إلا أن تلك الأسوار أسوار مثقوبة، تضطر للانفتاح (انفتاح الأبواب) على البادية / الأنثى/الأم من أجل تغذيتها وتزودها بالمواد الأولية. نفس الشيء بالنسبة للأمير (الرجل) الذي يكثف كبرياءه في انتصاب ذكره – والذي يضطر إلى السيلان في الأنثى من أجل تحققه، أي عن حتمية رجوعه إلى حالة الارتخاء (الأنثوي). في أبواب السور، كما في ثقب الذكر، تكتب الأنوثة وجودها في صلب المدينة/القضيب. في أبواب السور التي تنفتح وتنغلق، في السور نفسه وبه، تكتب المدينة خوفها وكبرياءها في آن واحد. إن السور يعبر عن قطيعة في التواصل ولا يعبر أبدا عن تواصل في القطيعة. فهو ينظم علاقات التبادل بين مدينة سيدة (مركز القضيب والسلطة) وبين بادية متعددة وتابعة، أنثى.

الصوامع المنتصبـة:

إلى جانب السور، يوجد داخل المدينة العربية الإسلامية، موضوع معماري آخر يؤكد، في رأينا، ذكورية المدينة. نقصد بذلك الموضوع المنارة / الصومعة، فهي بتحولها إلى مئذنة تجعل من المدينة القطب الفاعل داخل التاريخ الإسلامي. إن اعتبار المنارة مؤشرا على ذكورية المدينة قول يستوجب التمييز بين مستويين من التحليل: مستوى أول يعني بموضوع المنارة في الإسلام، نصا وتاريخا، ومستوى ثان يهتم بسيميائية المنارة من خلال شكلها المعماري ومن خلال تنظيمها زمن المسلم اليومي، الحضري بالأساس، بالنظر إلى غياب المنارة في الكثير من المساجد القروية.

يحتم المستوى الأول في مقاربتنا تشخيص موقع المنارة في النص الإسلامي الأساسي، المزدوج (القرآن والحديث)، وهو تشخيص يهدف إلى ربط ظهور المنارة بمنطق التحضر، أي بتطور الإسلام بالمدينة وفيها. بتعبير آخر، نود التدليل على أن وجود المنارة في المدينة الإسلامية ليس ناتجا عن ضرورة شرعية بقدر ما هو مرتبط بالعمران (لن نفصل القول في هذه النقطة، إنه موضوع ورقة أخرى).

إلى جانب هذا المستوى الذي يحدد وضعية المنارة في الإسلام، والذي يبرز عدم قدسيتها الشرعية، يتوجب التفكير في مستوى ثان يحاول قرائتها السيميائية، قصد تشخيص جنسيانتها. فإلى أي درجة يمكن اعتبار المنارة قضيبا لجسد المدينة، يكتب ذكورتها بالمقارنة مع بادية/ جاهلية منبطحة؟ وهل يمكن الوقوف عند القضبيبة في مقاربة المنارة؟ كيف يمكن تشخيص الأنوثة أيضا في جسد المنارة؟ كيف ينبغي قراءة جنسانية المنارة كتوتر بين المذكر والمؤنث، وهو التوتر الذي تحجبه هيمنة العمودية لأول وهلة؟ وهو التوتر الذي تدل عليه علامات الأنوثة المرصعة في جسد العمودية نفسها؟

القضيب المعراجي:

اتخذت الديانة اليهودية موقفا سلبيا وتنديديا بالمنارة باعتبارها تشخيصا متعددا لآلهة متعددة، مما يتناقض بالطبع مع فكرتي التوحيد والتجريد (التنزيه).

أكثر من ذلك، تنقلب الأبراج التشخيصية إلى ضد ما ترمز إليه. فبرج بابل مثلا من صنع كبرياء الإنسان الذي أراد بلوغ الألوهية، إنه رمز تمرد المدينة ضد الخالق، وهو تمرد يخلط بين الخالق الواحد والمخلوق المتعدد. فهذا الأخير مهما ارتقى، لن يلج السماء ولن يتجاوز نقصه وتشتته. يعبر البرج إذن عن فكرة القوة، ويعكس روح الكبرياء، وتلك السمات من سمات المبدأ المذكر الذي يتجسد في المعمار العمودي، وفي البرج بامتياز. لكن يبدو أن العقاب الذي أنزله الإله بأهل بابل (التفرقة والتشتيت) لم يفقد مفهوم البرج سوى تمرديته، إذ أن الديانة المسيحية احتفظت به كأداة وصل بين الإنسان والله (صومعة الراهب)، وبين المدينة والغيب.

إن حياة الفرد شبيهة بالمنارة من حيث أنها مسيرة معراجية ارتقائية، تنتظم بين قطبين متصارعين، السفح والقمة، الأسفل والأعلى. وهما قطبان يتصارعان داخل حياة كل إنسان. وتلعب المنارة هنا دور الرمز الذي يبين الطريق الأمثل، وهو الطريق الجهادي نحو الأعلى، نحو الأسمى، ضد الذات وضد جاذبية الحيوانية. لا جدال إذن في إيجابية المدلول المعراجي للمنارة، وهو المدلول الذي يتجلى في اعتكاف العابد في أعلى بيت من المنارة، بعيدا عن هواجس الدنيا، في مقام يسمح بالمعرفة، وبالحب. صحيح أن عمودية المنارة ترمز إلى القوة في أول قراءة، لكنها ترمز بالأساس إلى عدم الاكتمال، إلى حتمية تجاوز الذات، وإلى ما وراء القوة البشرية، العابرة. إن المنارة دليل على تبعية الإنسان للآخرة، للمطلق، لله. إنها أداة وصال تقود إلى الطهر وتقوم عليه.

في حقل الجنس، يقر أبو بكر الوراق أن "كل شهوة تقسي القلب إلا شهوة الجماع فإنها تصفيه"، أي تطهره من الحقد وتؤهله إلى الحب. ومن هنا نفهم لماذا تحدث الرسول (ص) عن النساء والصلاة في نفس الحديث، وجعل منهما أكثر الأمور المحببة إليه: "حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة". إن الاتحاد يتم من خلال الوصال (الجنسي) ومن خلال الصلاة، إنهما معا يحققان السكينة. والواقع أن الاتحاد الجنسي ما هو إلا لذة صغرى بالمقارنة مع اللذة الكبرى، لذة الاتحاد بالله، لذة الفناء في الله. استمرارية عميقة في المقدس بين النكاح والصلاة نجد تعبيرا واضحا عنها في "فصوص الحكم" لابن عربي: "ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصل أي غاية الوصل التي تكون في المحبة فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ولذلك أمر بالاغتسال منه فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة. فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره فطهره بالغسل ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا ذلك".

عند الأذان، كما عند الذروة الجنسية، دعوة مثلثة: دعوة إلى الوصال، دعوة إلى التطهير، ودعوة إلى الارتقاء. في الحالتين معا، يخرج المؤمن من وحدته ليندمج مع الآخر، وفي الآخر، في صلة نكاحية و-أو في صلاة جماعية (تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد). في الحالتين معا، ينتقل المؤمن من حالة التوتر إلى حالة الانشراح، ومن حالة اللاطهارة إلى حالة الطهارة. فالحالتان معا، الوصال والصلاة، مقرونتان بالطيب في الحديث الذي يقرن بينهما. إن الاقتران بين الصلة (الفرجية) والصلاة اقتران في الطيب وبه. فكلاهما تفريغ وترويح عن النفس، وكلاهما وقاية ضد القلق. في الحالتين معا، يصعد المؤمن درجة ليقترب أكثر من المجتمع ومن الطبيعة، متجاوزا أنانيته، طالبا وجه الحق من أجل الحق. وفي الحالتين معا ذكر يتلذذ ومنارة تؤذن، وهي قضيب ينظم إيقاع الزمن المقدس فيفرض سيرورة روحية معراجية على جسد المدينة بأكملها، وعلى قضيب الجسد. خلال الصلاة وخلال النكاح، يتقلص وعي الذات بذاتها، بمعنى أن كل وعي ثنائي تقابلي وانفصامي لا يجد مكانا في تلك اللحظات الأساسية والمؤسسة. إنها لحظات التوحد : اتحاد الإنسان بنفسه من خلال ملء الفراغ والتعبير عن النقصان (الفرج فراغ ونقصان وهو تشخيص ممتاز للإنسان الناقص الضعيف الذي يطلب المعونة والرعاية الربانية)، اتحاد الإنسان بالإنسان من خلال النكاح وصلاة الجماعة، واتحاد الإنسان بالله (فناء الوعي في المطلق).

في أنثوية الصومعة:

إن التركيز على عمودية المنارة – والعمودية محمول جوهري في موضوع المنارة – يفضي إلى إهمال خصائص معمارية أخرى لا تخلو من أهمية. وهي خصائص تمكن من التمييز بين الحضارات، وتمكن كذلك من إدخال الأنوثة في جسد العمودية نفسها. فالمنارات تكون فعلا إما دائرية/أسطوانية وإما متعددة الأضلاع، وتنقسم المنارة المضلعة بدورها إلى مربعة ومثمنة. إن استحضار مثل هذه التمييزات المعمارية يقود إلى البحث عن الشكل الذي ساد في الحضارة العربية الإسلامية. فهل عرفت تلك الحضارة المنارة الدائرية؟ كيف تم التعايش بين المضلع والدائري؟ وأكيد أن التقابل بين الدائري والمضلع لن يخلو من التأثير على مقاربة جنسانية المنارة، بالنظر لما لتلك الأشكال من دلالات رمزية، ذات علاقة وطيدة بميتافيزيقا الجنس. إن التقابل بين المضلع والدائري تجسد من تجسدات التقابل الجنساني بين المذكر والمؤنث. كيف يمكن قراءة الدائري الذي تكتب به المنارة عموديتها في بعض الحضارات؟ ألا تتحقق العمودية بشكل مكتمل إلا عند اقترانها بالتضليع؟

يقول ابن الحاج: " وكان المنار عند السلف الصالح رضوان الله عليهم بناء يبنونه على سطح المسجد كهيئته اليوم، لكن هؤلاء أحدثوا فيه أنهم عملوه مربعا على أركان أربعة، وكان في عهد السلف الصالح رضوان الله عليهم مدورا..". وطبعا لا يعطي ابن الحاج (القرن الثامن الهجري) حججا تاريخية على وجود المنار عند السلف الصالح من جهة، وعلى شكله الدائري من جهة ثانية. فلا مسجد الرسول (ص) في المدينة، ولا مسجد قباء يتوفران على منارة. نفس الغياب يلاحظ في مساجد البصرة (عقبة بن نافع، 16هـ)، والكوفة (سعد بن أبي وقاص، 16هـ)، والفسطاط (عمرو بن العاص، 21هـ). فالدرس التاريخي يقود إلى اعتبار الوليد بن عبد الملك (86 – 96هـ) أول خليفة أدخل المنارة إلى الحجاز عندما أمر بهدم وإعادة بناء مسجد الرسول (ص) بالمدينة سنة 90 هـجرية كما أمر بتزويده بمنارة. ووارد أن تلك المنارة كانت في الأصل مربعة الأضلاع قبل إعادة ترميمها من طرف المماليك في نهاية القرن التاسع الهجري (888هـ / 1483م)، أي قبل إعطائها أشكالا مثمنة ودائرية.

إن ما يفرض الاعتقاد بأن أولى منارات الحجاز كانت مربعة هو تعميم الشكل المربع الذي أعطاه الوليد إلى أول منارة وهي المنارة التي أضافها الوليد إلى جامع أمية الكبير. إنها منارة مربعة بالنظر إلى تربع المنارتين الأصليتين من كنيسة القديس يوحنا. من ثم، يبدو أن الشكل المربع كان هو السائد في الشام قبل الإسلام، ويبدو كذلك أن الوليد أبقى على سيادة ذلك الشكل في الإسلام (العربي على الأقل). فالمنارة المربعة، ذات الطوابق والغرف، كانت تشكل صوامع للرهبان، خلافا للمنارة الأسطوانية، في الهند القديمة مثلا، الرامزة إلى فكرة الألوهية في إطلاقيتها، وعلوها. من هنا يمكن أن نرى في الحفاظ على أولوية الشكل المربع في الإسلام العربي بصفة عامة استمرارا مباشرا للتأثير المعماري المسيحي.

لكن رغم ذلك، ينبغي النظر إلى المربع كرمز يتجاوز المسيحية، والإسلام معا، كرمز يحيل على لغة أولية ميتافيزيقية تكشف عن مكبوت الخطاب الشرعي السائد. صحيح أنه يمكن إرجاع هيمنة المربع إلى تربيع الكعبة وإلى تربيع مسجد الرسول، وهما التربيعان اللذان يستعملهما الخطاب من أجل تحويل المربع إلى نموذج. لكن السؤال الأعمق الذي ينبغي طرحه في هذه اللحظة من التأمل هو: لماذا للكعبة شكل مربع؟ ولماذا لمسجد الرسول شكل مربع؟ وهو سؤال يقود إلى إضفاء قيمة رمزية قبل-إسلامية على المربع، وهي قيمة تبناها الإسلام بدوره.

إن تربيع المنارة يسمح للمؤذن أن "يلتفت بالتتابع نحو الجهات الأربع للعالم، معلنا أن الله أكبر، وأن لا إله إلا الله" (أسد الله شيرفاني). إن المربع يرمز إلى المادة وإلى انتظامها، فهي دائما أربعة (من حيث العناصر، من حيث الجهات). فالعدد "أربعة يرمز إلى الاستقرار، وهو الاستقرار الذي يتصلب ويتقوى في نظام الحتمية القاهرة. لا شك في أن صفات الاستقرار والنظام والتصلب من تجسدات قوة المادة (المجال) عكس سيولة الزمن وعودته الأبدية (على ذاته).

بناء على ذلك يجوز أن نرى في التربيع ترجمة معمارية (إضافية) لسيادة القضيب وسلطانه، أو على الأقل، تعبيرا معماريا عن مبدأ المذكر. فمن الصدف، اللاغريبة في منطق التراث الرمزي المتعدد، أن نجد نفس الكلمة تدل على المذكر والمربع في آن واحد، والكلمة هي كلمة يانغ الصينية (yang ). فكل الأشياء تتوزع بين مبدئين مجنسنين، اليانغ المذكر واليين yin المؤنث. لكن "تلك الكلمة، (اليانغ) تعني المربع كذلك". إن الربط بين المربع والمذكر يمتلك إذن أساسا أسطوريا في اللاوعي الجمعي، الحاضر كلاوعي في كل فعل معماري ينفي الصدفة ليؤسس نظاما يعجز الخطاب عن احتواء نسقيته الكاملة، الميتا– شرعية، والميتا– مؤسساتية. ومن هنا يمكن القول بتكامل بين العمودية والتربيع في ترسيخ ذكورة المنارة، وهي ذكورة تتعزز سيادتها بسيادة نظام الشرع.

لكن رغم تواجد العمودية والتربيع في معظم منارات العالم العربي – الإسلامي، هناك علامات أخرى، مرصعة في جسد المنارة، توحي بحضور الأنوثة، وهو حضور يمكّن من العبور إلى ما هو أعلى، إلى المطلق. فإذا أخذنا مثلا وصف الإدريسي (548هـ/1154) لمنارة قرطبة، نجد فيه مجموعة من العناصر التي تلطف المبدأ الذكري، بل والتي تدل على اعتلاء الأنوثة كلا من العمودية والتربيع. فالمنارة، حسب الإدريسي، كانت تتكون من طابقين مربعين، أما الأول فكانت تتوجه شرف كاملة التقوس، وأما الثاني فتتوجه قبة، وفوق القبة تلمع ثلاث كرات ذهبية، وكرتان فضيتان. كما لو أن العمودي المربع يخدم إعلاء الدائري في أشكاله المتدرجة نحو الاكتمال (الكرة) انطلاقا من القوس، بعد توسط القبة. في الهلال أيضا تجسد للدائري، وفي تتويج الهلال للكثير من القباب والمآذن دليل آخر على تجاوز المبدأ الذكوري. كيف ذلك؟ هناك شبه إجماع في التراث الديني والفلسفي على السواء حول تمثيل الدائرة/الكرة لفكرة الكمال والمطلق. فالدائرة رمز للعالم العلوي الروحي بالمقارنة مع المربع الذي يحيل على المادة (المتصلبة).

ذلك أن كمال الدائرة يأتي من استحالة تحديد بدايتها ونهايتها، بمعنى أنه ليس للدائرة بداية أو نهاية كما أن ليس لله (سبحانه) بداية أو نهاية. من جهة أخرى، تشكل الدائرة كلية حاوية لكل الموجودات، إذ لا شيء يوجد خارج دائرة الكون. ولا شك في أن هذه الصفة من صفات الألوهية.

إن الله دائرة يوجد مركزها في كل مكان، حسب أفلوطين، الشيء الذي يدل على احتواء الألوهية للكون من جهة، وعلى مركزية الخالق من جهة ثانية. "ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه"، يقول محمد بن واسع. من الصفات الأخرى الدالة على كمالية الدائرة، الرامزة بدورها إلى كمالية الله، تواجد كل النقط المشكلة للدائرة على نفس المسافة من المركز وفي ذلك تعبير عن مساواة أنطولوجية بين المخلوقات أمام الخالق، وهي مساواة مطلقة تتجسد في لحظة السجود. "إن صورة علاقة الله بخليقته تشبه علاقة نقطة الوسط في الدائرة بالنقاط التي تشكل محيط هذه الدائرة : لا تكون نقط الدائرة إلا متى دارت حول نقطة الوسط ولا يكون الإنسان إلا متى سجد" (الزيباوي)، وإلا متى تحول إلى نقطة تدور حول النقطة.

إن النقطة تجاوز للصراع والتناقض، إنها موت التمييز بين الأعلى والأسفل، بين اليمين واليسار، بين الأنثى والمذكر، بين الخير والشر، بين الشرع والحقيقة. "ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه"، قول يعنى أن كل طرف في التناقض يعبر على نقصه الخاص ويرمز في اللحظة ذاتها إلى الفاعل، إلى الدائرة الحاوية، إلى النقطة الجامعة. قبل الانشطار إذن وحدة أصلية، غير مجنسنة، لا هي بمذكرة، ولا هي بمؤنثة، إنها وحدة الدائرة الكروية". إن هذا الربط بين الأصل والجنسانية المزدوجة والكرة يوجد في "مأدبة" أفلاطون. ليس صعبا بعد ذلك أن ترمز لاجنسانية الكرة إلى لاجنسانية الخالق نفسه، أي إلى عدم تأسسه على مبدأ الصراع والتوتر بين المذكر والمؤنث.

لاشك في أن تأويل الدائرة بهذا الشكل يفضي إلى اعتبار جسد المنارة قضيبا رامزا إلى الكمال، داعيا الإنسان إلى فعل معراجي نحو الحق. والأمر كذلك في اعتقادنا، إلا أن التأويل الصوفي لا يسكت عن الأنثوي ولا يقفز عليه. وبالتالي يتوجب استخراج فناءات ذلك الأنثوي في جسد المنارة.

وهنا يبرز الإشكال: إن العلامات المعمارية الرامزة إلى المطلق هي نفسها العلامات الرامزة إلى الأنوثة. وفعلا يشير "قاموس الرموز" إلى أن الهلال أخذ الأشكال المميزة لحركة القمر، من حيث أنه يرمز في الوقت ذاته إلى التغير وإلى عودة الأشكال، وهي الحركة المميزة لزمنية الأنثى بالضبط. إن مفهوم "الدورة الشهرية" كاف للتدليل على عود دائم حتمي، وهو العود الذي يحدد زمنية الأنوثة بشكل عام: حيض – حمل – وضع – حيض. إنها دائرة يصعب تحديد بدايتها. لكن رمزية الهلال توحي بزمن البداية، وهي لحظة الطهارة والولادة معا. فالمرأة هلال في لحظة ما، وقمر مكتمل في جماله الدائري لحظة أخرى، والتجاوز دائم نحو نفس المقامات، مرورا باستدارة أخرى، أساسية، استدارة الرحم، وانتفاخه ليلعب دور القبة بالنسبة للجنين. ومن ثم، يبدو كيف تلتصق الأشكال الدائرية والكروية بالأمومة، أي بفعل الحمل. فكما لو أن الرحم يشكل المركز الذي تدور حوله نقط الدائرة، وهو دوران يتحايل عليه العقل القضيبي باستمرار، حين بدأ يذكر شيئا فشيئا كل تجسدات فكرة الألوهية. إن الآلهة الأولى إناث، وهي المقولة التي قضت عليها بشكل كامل كل الديانات التوحيدية.

كيف يمكن الخروج، على مستوى المنارة، من ازدواج رمزية الدائري؟ هل يدل تواجد الدائري في جسد المنارة على استمرار لاشعوري لمعتقدات ما قبل توحيدية؟ هل يعني ذلك أن المعمار ضرب من الكتابة أقل خضوعا للرقابة؟ لرقابة الخطاب الشرعي بالخصوص. إن ما يدفع لهذه التساؤلات المقلقة هو وجود منارات دائرية، لا تعلوها قباب أو كرات. كما لو أن مبدأ الأنوثة والروحانية يسجل نفسه في دائرية العمودية نفسها.

وبالفعل نجد أن بعض المآذن الإسلامية لها شكل أسطواني أو حلزوني مثل مئذنة سامراء في العراق، ومئذنة ابن طولون في القاهرة، والمآذن الإيرانية، والمنارة العباسية (جنوب قيروان في 184هـ/800م). لكن الأهم من ذلك في إطار إشكاليتنا هو التراتب بين المربع والدائري على مستوى المنارة الواحدة. فالكثير من المآذن ذات طوابق متعددة. لكن هناك قانون يتم احترامه في كل الحالات يكمن في اعتلاء الطوابق الدائرية للطوابق المربعة. فلا وجود لمنارة ذات طابق سفلي دائري وذات طابق علوي مربع، ترميزا لاعتلاء الروحاني للمادي، ولأفضيلة المؤنث على المذكر. إنها أفضلية تتناقض مع الخطاب الفقهي، مما يحتم عدم اختزال صورة المرأة في الإسلام في صورة المرأة في الفقه. ونعتقد أن الخروج من ازدواجية رمزية الدائري – رغم أن ذلك الخروج يتنافى وطبيعة الرمز المتعدد الدلالة- يجد حلا نسبيا في إيجاد المعمار الإسلامي للشكل المثمن.

فهل يمكن اعتبار المثمن تجاوزا تركيبيا لكل من المربع والدائري؟ وهو الشيء الذي يميل إليه أسعد عرابي حين يقول: "وما الشكل المثمن إلا ثمرة لقاح الأشكال الثابتة والمتحولة، وفق المعادلة الرمزية التالية: الشكل السالب (المربع) + الشكل الموجب (الدائرة) = المثمن". في هذه الحالة، يمكن القول أن الدائري يرمز إلى إيجابية الأنثى، باعتبارها وسيطا بين المادي المربع والمذكر، وبين الإلهي المثمن.

ويمكن مشاهدة هذا الترتيب اليوم في منارة جامع ابن طولون: فالطابق الأول مربع، أما الثاني فأسطواني، في حين للطابقين الثالث والرابع شكل مثمن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الطوابق المثمنة ليست أصيلة، إذ أضيفت فيما بعد لجسد المنارة من طرف السلطان المملوكي لادجين.

صحيح أن علامة اللامتناهي في الرياضيات هي الرقم ثمانية متمددا، وصحيح أيضا أن نفس العدد يدل على الاكتمال في التراث المسيحي، مما يعزز تأويل عرابي للمثمن كتركيب تجاوزي للمربع والدائري. إلا أن المثمن يعتبر كذلك في الكثير من الحالات وسيطا بين المربع والدائرة، بين الأرض والسماء. للمثمن علاقة بالعالم الوسطي، الانتقالي. وبالتالي يطرح مشكل اعتلاءه للدائري ويطرح من جديد مشكل ازدواجية الدائري، المتأرجح بين الأنوثة واللاجنس.إن هذه الازدواجية، بالإضافة إلى ثنائية المربع والدائرة، تعكس رؤية مانوية للوجود، وهي رؤية يظل العقل داخلها سجين التباس، غير قادر على الحسم. ومن هنا، يتبين كيف يعيش المرء تجربة صوفية دون أن يشعر، حين يتردد بين الشك واليقين في مواجهته العملية، اليومية، لكل علامات المعمار، الرافضة للصمت


.



Exterior, Darb al-Ahmar street view of Amir Khayerbak; 1818-1826.
[/URL]
http://www.swalflail.net/akroon.pdf
 
أعلى