حامد كعيد الجبوري - التمرد على المألوف في القصائد الشعبية ( النهد انموذجا)

واهماً يتصور البعض ان النصوص الشعبية قد لا تحتاج لاكثر من قراءة سطحية واحدة ،لاعتقادهم ان شاعر تلك القصيدة لا يمتلك الثقافة التي تدعو الباحثين والنقاد لتناول موضوعاتهم الشعرية، اعتداداً بانفسهم اولاً ، وزعمهم بعدم وجود نص شعري يستحق عنائهم ثانياً، والمتتبع الثاقب يخالف ذلك الوهم الذي وقع به الكثير ، ومابين الطرح هذا ونقيضه كان المتضرر الوحيد هو الادب الشعبي عموماً ، وبالرغم مما قيل ويقال بخصوص الادب الشعبي ، وتشريع قوانين جائرة( قانون سلامة اللغة) لمحاربة هذا الفن الجميل ، وأجمل ما فيه اشتقاقه من الشعب / فيقال ادب وشعر وشاعر شعبي ، ورغم ذلك فقد انبرى اكثر من باحث وناقد وراع لهذا الادب السامي- اليعقوبي ، الخاقاني، الدكتور مصطفى جواد ، هاشم الرجب ، عادل العرداوي ، حسين سرمك ، كاظم غيلان واخرين) وللصباح وثقافتها الشعبية يد بيضاء لتسليط اكثر من ضوء على رموز شعرية واقلام نقدية كانت منكفئة او مهمشة حد الموت ، ولا اريد ان اعد متزلفاً ان خصصت بالذكر اسماء العاملين بثقافتنا الشعبية في صباحنا الغراء او في صحيفة طريق الشعب.
استقصيت كثيراً قصائد غزل لشعراء شعبيين كبار رحلوا وتركو لنا ارثاً شعرياً غير قليل ، وكلهم من شعراء القصائد العمودية(الكلاسيكية ) مليئة بالعواطف الرقيقة وجزالة المفردات ، قصائد لا تزال تردد وتحفظ من الشعراء وتؤدي في اغلب مناسبات الافراح ( اجلبنك يليلي اثنعش تجليبه ، بحشاشتي سهمك مضه ، يهواي دمشي ابهونك ، ذبيت روحي اعله الجرش ، وغيرها) ، الشاعر في اغلب هذه القصائد يتحرج كثيراً لاسباب اجتماعية ولربما دينية من ان يصف محبوبته وان حصل هذا فلا يتعدى وصف العين والجبين وبياض الوجه وحسن الطلعة والقوام الرشيق والسير الوئيد، ولم تكن نساء العقود الماضية من القرن المنصرم يخرجن سافرات ، والقلة القليلة منهن تكشف عن وجهها ، وتتحدث عجائزنا بانهن يرتدين تحت العباءة ما يسمى (المشلح) وهو عبارة عن ثوب اسود يصنع من الصوف اقصر من العباءة واسعاً نوعاً ما كي لا يبرز مفاتن النسوة من نهود وارداف ، فأن تطايرت اطراف العباءة فالمشلح يستر عما تطاير من اطراف العباءة، مما حدا ببعض الشعراء التغزل بالمذكر مستعيضاً عما يريد قوله لحبيبته ( يعيني عاين اركاب ، وشوف اصدور الاحباب)، ورغم ذلك وصلت الينا نصوص خرجت عن هذا المألوف قليلاً وبقيت دائرته محدودة جداً ، كما في هذا النص من التجليبه للشاعر القدير الملا منفي الملا عبد العباس الحلي ، (يكاظم مهجتي ) والتي اداها الراحل داخل حسن
حي حلو المعاصم والنهد فنجان
الوجه دورة كمر ومشذر ابمرجان
مله قرطاس صدره ابصورة الرحمن
وبختم التبر سلمان خاتمها
قرطاس صدره ، النهد فنجان ، ولربما اكثر من ذلك بتورية جميلة وسباكة شعرية اجود وايحاء على التمرد اعنف يأتي على لسان فتاة تخاطب امها بهذا (النايل ) متبرمة من واقع تعيشه
يايمه خبري الابو انه استحي منه
كبرن نهود الصدر للزيج شكنه
وستجد لاحقاً في هذه الموضوعه كيف استطاع الشعراء المحدثين من ترسيخ هذه الصورة في البيت الثاني ( كبرن نهود الصدر، للزيج شكنه) ، تأطيرا وتعميقا ورقة.
ولوعدنا للشاعر الحلي محمد ابن اسماعيل الملقب بابن الخلفه” صاحب البند المشهور” والمتوفى عام 1877م وقرأنا بتمعن مواله الجميل:
يا عين ريم ربت برياض نجد وحي
يامرحبه ياهلا بك حين تجبل وحي
كصدي ازورك واطوف كباب نهدك وحي
واروي ضمه مهجتي من مبسمك وسنان
يا لدوم عيناك ترمينه ابسهم وسنان
اتبات ريان طرفك بالكره وسنان
ونام منك شبه ملسوع عكرب وحي
وعودة لقصيدة “ يكاظم مهجتي” والمكتوبة عام 1940 م وموال ابن الخلفه المتوفى عام 1877 م لوجدنا الفارق الزمني بين النصين قرن كامل تقريبا ولتلمسنا بطئ الانتقاله وتوضيح الصورة اي انهما لايزالان غير بعيدين عن المألوف ولو تمعنا بهذا البيت من الابوذيه المكتوب عام 40-1950 للشاعر محمد علي بنيان الجبوري لوجدنا الشاعر بدأ يتململ داخل مألوفه محاولا تخطيه وتعليل ذلك ظهور اكثر من شاعر يدعوا للسفور وكسر قيود الماضي “ اسفري فالحجاب يبنة فهر” وافتتاح اكثر من مدرسة للبنين والبنات رغم قلة الدارسون والدارسات فيها وافتتاح الجامعات بمعنى ان كل الحياة المجتمعية بدأت تخطو صوب التطور والانفتاح والشعر الشعبي جزء غير مهمش فيها.
اطوف ابين ذرعانك والنهود
واشمك مية الف شمه ولا انهود
اهد الدنية لودادك ولا انهود
ابحبل مجتوف والعكده خفية
بعد الرابع عشر من تموز الخالدة 1958 م بقيادة الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم رحمة الله وحصول التمرد على كل تخلف وتقوقع وتأطير ونمطية ، وانفتاح العراق بكافة اطيافه واعراقه ومذاهبه صوب التحضر والرقي وردة فعل طبيعية ان يتمرد الشعر الشعبي على مألوفه فكانت الثورة العارمة على نمطية القصيدة الشعبية الكلاسيكية وكسوتها لبوسها الجديد الجميل قبل ثورة 1958 م على يد المتمرد الكبير مظفر النواب مواكبة للتمرد الذي حصل من الشاعر الرائد بدر شاكر السياب ولست بصدد الثورة الثقافية الشعبية فالنواب الكبير اخرج القصيدة الشعبية من عموديتها صوب قصيدة التفعيلة اولا وتوضيح الصورة المرمزة او المشفرة التي يرسمها شعريا ثانيا بمعنى انه اسس للوحات وصور شعرية يمكن للاخرين اتباع اثرها بريشة جديدة والوان زاهية أخرى وأنى لهم ذلك :
كضبة دفو يا نهد
لملمك برد الصبح
ويرجفنك مراجيح الهوة يا سرح
يا ريل لا لاتفززهن تهيج الجرح
خليهن ايهودرن حدر السنابل كطه
وفي قصيدة نهران اهلنه المنشورة في جريدة الراصد عام 1971م للنواب تقول:
ينهران اهلنه
ذيج الليلة ختلنه دفو الكمره
مثل كل ليلة يحبيب ولاندريش
ولن بالظلمة ما مكصودة يبنادم
لكينه الدفو توه يريد يدفع
والصدر توه فرش دوشكه للعرس
ومن ليلتها وما مش في يكفينه
ومبكرا اقتفى اثر النواب الكبير الشاعر الرقيق المغيب ابو سرحان فيقول: في قصيدة شوك الحمام
حفنه غوه بكل رمش والنظره حداري
وانهود زوم امتلن مشحوف عشاري
ويجذ ّر ابو سرحان صورته بتمرد اجمل في قصيدة سولفتلي
ويسمر اول هيل اكش كشه برد
ويسمر اول هيل يبرد لي النهد
ويسمر اول هيل جنت انه استحي
واوصل ورد
عند قراءة قصيدة كام اعلى حيلة الكلب للشاعر موفق محمد نجد انه قد اضفى على النهد سمة جديدة فالنهد يتحدث والشاعر يستمع لحديث النهد بانامله:
وبسكوت شرب العسل
اشكد طيب البسكوت
ولوز الشفايف غنه
وعاللوز روحي تموت
يحجيلي كل النهد
وانه اسمع ابإيدي
ولتبطلين اللعب
يرويحتي هيدي
ولو تمعنا جيدا بقصيدة الشاعر الكبير عريان السيد خلف (واضح) الذي يحاول جاهدا الخروج عن مألوفيته ولكنه يصطدم ببيئته وافرازاتها العقائدية والعشائرية فيرفضها ويرمز باجمل ما تكون الصورة المتعطشه الداله بوضوح عن ثورية الجملة وروعة التصوير:
واضح بعد ما يحتاج تتعذر
من يبست الشفه ولونها اتغير
من ثلج البديك ايصل صليل وداع
والحجي السلس بلسانك اتعثر
من تدلع غنج عندك عذر مقبول
رمانك لحك والزيج ما ينزر
وذروة الخروج عن مألوفية الواقع ترميزا للنهد نجدها عند الشاعر رياض النعماني وبمقارنة بسيطة بين نتاجه قبل الغربة وبعدها لوجدنا ان للبيئة التي عاشها متنقلا بين منافي الدنيا وصولا لمحطته الاخيرة “ دمشق” بون كبير ولتلمسنا تمرده متوجا لنصوص اقرب للبيئة التي عاشها مغتربا فيخرج النهد من جسده محيطا به صورا اجمل لبيئةٍ عراقية وغربية ، بمعنى تلمسه جمالية المكان والصورة مسبغا للنهد اكثر من حيز جميل فيقول في مقطوعته (قصيدة)
بستان طيب وورد
تكعد ابفي النهد
نور الحسن نوره
سبحان من كوره
وانطاه ريحة سعد
يا ربي هذا نهد
لو..... توه انولد
ويحاول بقصيدة “ صبح جنوبي” ان يرسم صورة بريشة مغايره ومكان اوسع، الا انه يبقى يدور بفلكها فيقول:
ارسمك جوري وتغيب
وبرتقال النوم بالنهدين يتفاوح
وغيم ايطير
غيم اينث على سواجي الكرنفل
نعس وردي
ومدري شنهي اويا
اله طعم الزبيب
اتحسر الجمار
وفي قصيدة “ يومية الدرب ياخذني للبستان” يمازج الصور الاولى بمشهد اجمل واكثر تكريسا لمشهد النهد
والنهد يردم
فحل رمان النهد
زام وتلملم
ويه فزت الكطه ايفز
عايف اصديره ويه كل غرنوك
يتبع زفة “ الحذاف”
فوك امن الصحين ايهمهم ادهم
نهد...
كل الدنيه حكمه
ومارضه
ويريد ،
بعد يريد يحكم
بقي ان نقول ان احدهم اراد الخروج عن المألوف مبكرا وتريث وارتاى ان يمزق قصيدته رغم شياعها في الاوساط الادبية النجفية وحفظها المتذوقون للادب الشعبي وكانت هوية الدخول للاذاعة العراقية للفنان ياس خضر.
الهدل..
امنين اجبيب ازرار للزيجة هدل
اشلون يتزرر الشايله جبل

.

Amrita Sher-Gil (Budapest
1913-1941)

صورة مفقودة
 
أعلى