رضوى فرغلي - القانون للبغايا “الغلابة” فقط !

كانت البداية حين قابلتهن فى مؤسسة الدفاع الاجتماعي بمنطقة عين شمس، وكل منا حذر من الآخر، ولكنى احترمت صمتهن المُحيِّر أحياناً، وثرثرتهن الساخرة و”الخارجة” أحياناً أخرى، ومهارتهن فى الكذب علىَّ كثيراً، وكنت قد اتخذت قراراً بإقامة علاقة مختلفة وقوية معهن أتعرف بشكل أعمق على بناء شخصيتهن، واستكشاف تجارب إنسانية مليئة بالتناقضات: بالخوف، بالرغبة، بالحزن، بالندم، بالأمل فى المستقبل.
تعاطفت مع هؤلاء (البغايا)، ولم أتخذ منهن موقفاً سلبياً، ولم يشغلنى كثيراً أن أصدر عليهن حُكماً أخلاقياً، كنتُ ألمح فيهن بين الحين والآخر بقايا براءة الأطفال، براءة انهزمت أمام الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والأسرية القاسية.
شهور قضيتها معهن، اكتشفت خلالها عالماً جديداً، أضاف لعقلى أسئلةً أخرى كثيرة مُحيِّرة، ما الذى أدى بهؤلاء الفتيات اللاتي لم يتجاوزن من العمر السابعة عشرة إلى هذا المصير؟
بالطبع طرأ تغيير ملحوظ على مهنة البغاء، كما طرأ على جوانب كثيرة من الحياة، فلم نَعُد نلاحظ الصورة القديمة للبغي إلا في “البغايا الغلابة”، اللاتي لا يمتلكن إلا وسائل ضعيفة لاصطياد “الزبون” نظراً لانخفاض المستوى التعليمي والثقافي، والاجتماعي، والمادي لديهن؛ يتسكعن في الشوارع، أو يقفن أمام دور السينما، أو يذهبن للملاهي الرخيصة، بحثاً عن شخص يمارسن معه مقابل مبلغٍ زهيد، أو هدية، أو ملابس، أو مشاعر وهمية بالحب، أو حتى وجبة شهية، يكون ذلك أقصى أحلامهن، إلا إذا وقعن في أيدي القوَّادات، والقوَّادين، فربما يتغير الحال قليلاً. وهذه الفئة من البغايا هى التى يسهُل الإمساك بهن، وتطبيق القانون الجائر عليهن، ويدفعن وحدهن فاتورة انخفاض مستوى المعيشة، وتخلى الوالدين عنهن ودفعهن للبغاء غالباً، ليخرج القوَّاد، سواء كان من الأسرة أم خارجها، سالماً، ويُفرَج دائماً عن الشريك.
أما بغايا العصر الحديث، فإننى أرى أنهن ينحصرن فى فئتين: الفئة الأولى، فتيات أنيقات من طبقات اجتماعية مرتفعة غالباً، يملكن من الوسائل والأدوات ما يجعلهن يمارسن البغاء دون خوفٍ كبير من السقوط فى يد القانون، فلا يعملن غالباً بمفردهن، وإنما ضمن شبكة منظمة وقوية، يقودها غالباً “ناس كبيرة”، تضمن للعاملين بها حقوقاً كثيرة، ويستخدمن الوسائل التكنولوجية فى اصطياد زبائنهن، مما يجعلهن لا يقعن بسهولة كما أنهن يعملن غالباً فى مهن أخرى يتخذنها كستار يحول دون انكشاف أمرهن لمدة طويلة. ويمكن أن نطلق عليهن “البغايا الأرستقراطيات”.
أما الفئة الثانية فهي، في تصوري، تختلف اختلافاً نوعياً من حيث ترويجها لمفاهيم جديدة عن البغاء، ساعدها على ذلك، حدوث تشوه كبير فى المفاهيم الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، وتراجُع دور المؤسسات المختلفة. الأمر الذى أدى فى نهاية المطاف إلى الاعتقاد أن الدعارة هي ممارسة الجنس مقابل أجر وبدون تمييز (وهذا ما ينُص عليه القانون)، وبالتالي غضُّ البصر عن سلوكيات، وممارسات، ومهـن أخرى، هي عينُ البغاء، بداية من مهن كثيرة أصبحت تعتمد بالدرجة الأولى على عرض الجسد مقابل المال، أو الحصول على وظيفة أرقى، أو وضع اجتماعي مميز، يدخل ضمن ذلك الإعلانات الفاضحة، والفيديو كليب، والأغاني غير الهادفة، والتي لا تحمل إلا الرسائل الجنسية ضمنًا أو مباشرة. وعلى المتصل نفسه، وبدرجات متفاوتة، نرى مهناً أخرى يدخل ضمن آلياتها الترفيه عن العملاء، والتنازل عن بعض القيم التي أصبح يُنظر إليها باعتبارها قيماً رجعية تعوق التقدم والحصول على فرص كبيرة.
وبوجه عام، أصبح المناخ السائد مليئاً بالقيم “البغائية”، ولا يجد كثير من الأشخاص أزمة أخلاقية حقيقية في أن يبيعوا أنفسهم، ليس فقط بالمعنى الجسدي المحدود، وإنما بالمعنى الأشمل للكلمة. ولا أقول أن ذلك لم يكن موجوداً من قبل، وإنما كان هناك نوعُ من التوازن لا يجعل الأمر فجاً كما هو الأن.
جانب آخر مهم، لابد أن نكف عن محاولة تأنيث مهنة البغاء، فمن غير المنطقي أن يُعاقب طرف واحد على جريمة اقترفها أشخاص كثيرون. ففي كل القضايا التي سُجلت في البغاء، وتم الحكم فيها، لم يُعاقب الرجل “البغي”، رغم أن القانون الوضعي، ومن قبله القانون الإلهي، يؤكدان على ضرورة العقاب للطرفين، باعتبار الرجل شريكاً أساسياً فى الجريمة، فلصالح منّْ يتم هذا الظلم الفادح المنافي لكل الشرائع السماوية، وكل القوانين المنطقية؟ إضافة إلى ضرورة إعادة النظر فى العقوبة الموقعة على القوَّاد خاصة إن كان ممن يُفترض فيهم رعاية وحماية الأبناء، مثل الآباء والأمهات، وأولى الأمر.
______________
رضوى فرغلي / دكتوراه علم نفس / اختصاصية علاج نفسي
من كتاب “بغاء القاصرات”، القاهرة، دار المحروسة، 2007




صورة مفقودة

EMMANUEL GARANT
 
أعلى