عبدالله محمد الناصر - الرواية العربية ومعجزة الجنس!!

بعث لي أحد الأصدقاء منذ فترة برواية عربية جديدة لواحد من الروائيين العرب وقال إن هذه الرواية تحدث الآن ضجة وانتشاراً واسعاً في الوسط الثقافي، ونصحني بقراءتها.. وما كدت أقرأ صفحاتها الأولى حتى أصبت بالملل والكآبة والإحباط.. فلم أجد فيها شيئاً يستحق القراءة ولم أجد فيها ما يمتع العقل والقلب، والوجدان، فلا لغة راقية، ولا صور رائعة، ولا حبكة روائية متقنة وكل ما فيها عبارة عن جرعات وخبطات جنسية فضائحية من العيار الثقيل، أي أن هذه الرواية قائمة على الفجاج ة والمسخرة وهكذا فإننا أصبحنا نضع العمل الفني والدرامي الراقي جانباً، ونبحث عن حركة ومعركة الأعضاء التناسلية.. وكأننا أمة لم يعد لها في هذا الوجود هم إلا تحريك وتحريض أطرافها وذيولها.

ولقد هالني منذ أيام أن إحدى جرائدنا العربية العتيدة نشرت تحقيقاً طويلاً على صفحتين كاملتين عن أسباب الخفض والنصب، والقيام والقعود.. واليقظة والنوم.. والأسباب الخافية والظاهرة، والباطنة وراء هذه المعضلة «الجنسية» التي أصبحت تؤرق مجتمعنا خوفاً من عطل عام يصيب الأمة في أهم ما تمتلك وهو أطرافها الحسية.

يبدو أنه مع تعاطي مخدرات الهزائم وموت العزائم وكردة فعل لانكساراتنا، فقد جردنا سيوف الفحولة لمواجهة عجزنا عن صناعة المعرفة والانتصار لنغمدها في التفاهة والابتذال.

أذكر أنه عندما خرجت رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري والتي من المفترض أن يكون اسمها «الخبز الحاف» لأن عنوانها، فضلاً عن مادتها، شبه ترجمة عن رواية «الغذاء الحاف» (The Naked Lunch) للروائي الأمريكي وليم بروز الذي عاش في طنجة وكان معروفاً بشذوذه وتعاطيه المخدرات.. أقول إن رواية شكري فجرت صيحات وآهات وعواصف من التصفيق ممزوجة بشيء يشبه الهياج عند الثيران، لا لشيء إلا لأنها جنسية فاضحة.. تتحدث عن ممارسة الشذوذ في حقول الزرع والأحراش والخرائب والمقابر.. كما تتحدث عن العهر والخيانات، ومخادعة القصر والقاصرات.. ومضاجعة البهائم.. وكأن الإنسان قد تحول إلى مجرد دودة ضخمة لا غاية لها إلا البحث عن الجحور.

وراح النقاد يمتدحونها على طريقتهم وكيفما اتفق بل ويعتبرون ذلك فتحاً عظيماً، وفتكاً بالتزمت، والأخلاق.. وهكذا فكأننا نختزن بواليع ملأى بالكبت الجنسي، فلما انفجرت أخذنا نعوم فيها ونسبح، كما نعوم في بحيرة من اللذة والرغبة. بل لقد صار مثل هذا النص تستضيفه وتستضحره ذاكرة الشذوذ والشذاذ بشكل غير عفوي في لحظات صحوها، واغفائها.

بعد هذه الرواية ظهر علينا روائيون بقوة قانون الانفلات، والتفسخ، وفرضوا علينا أن يكونوا روائيين بقوة سلاح الصداقات والعلاقات بأصحاب الصحف التي أخذت تروج تجارتهم التافهة، وبحكم العلاقات، وبحكم أمور كثيرة يخفى على البعض بعضها، ويصعب علينا ذكرها، فأصبحت رواياتهم روايات عظيمة «قسراً»، حيث تراها مغلفة بورق السولفان، لتحميها من أعين اللصوص الذين ربما تصفحوا ورقة منها وهي على رفوف العرض، فتسطو أعينهم على آيات الفن العظمى التي لا يمسها إلا الملهمون.. فذلك يعتبر اختلاساً من هذه المكنونات العظيمة.. والروائع النادرة..!! فأصبح العمل الأدبي الجنسي نوعاً مقدساً وكأن الأدب العربي كان محروماً منه طيلة عشرين قرناً.. مع أن هذا النوع موجود بغزارة ووفرة يمكن أن تغطي مساحة هائلة من أرض الجنس العربي كله.. ففي أدبنا الجاهلي الكثير والوافر من هذا الصنف. فمعلقة امرئ القيس وهودج صاحبته، وتلك التي بكى طفلها من خلفها أكبر دليل على ما أقول.. بل إن في خاتمة قصيدة النابغة الذبياني في المتجردة زوجة النعمان.. وصفاً يعجز عن الاتيان بمثله حتى أطباء المسالك.

أما في الأدب الإسلامي فهناك مجلدات بل قناطير مقنطرة من القصائد والحكايات الفاضحة منذ عهد الفرزدق، مروراً بأبي نواس، ورسائل الجاحظ، وكتاب الأغاني إلى كتاب «عودة الشيخ إلى صباه» الذي ألفه أحد قضاة الأندلس، بل إن الباحثين عن هذا النوع سيجدون أفلاماً جنسية صارخة من النوع الهابط جداً في بعض قصائد بن سكرة وابن الحجاج.. ذلك الشاعر الذي وقف منشداً كالواعظ ناهياً عن العفة لأنها مفسدة:

إياك والعفة إياكا
إياك تُفسَد مَعنْاكَا
والأبيات التي بعد هذا شر مستطير.

وابن الحجاج هذا هو صاحب الحاجات «السبع».. أو الموبقات التي أعدها للشتاء:

جاءَ الشتَّاءُ وعندي منْ حوائجه..
كما أنه الذي بال الخمرة هو والقس في الجحيم:
اسقني الراح التَّي نَزلَت
فيها على القوم آيةُ التحريم
أسقنيها فإني أنا والقسُّ جميعاً نَبُولُها في الجحيم

هذه المكتبة الثمينة وهذه الذخائر النفيسة موجودة في يتيمة الدهر للثعالبي والتي من المؤكد أن بعض نقادنا لا يعرفونها مع أن عمرها ألف سنة أو يزيد.. فليذهبوا إليها ليجدوا أننا بحمد الله متفوقون على الغرب والشرق في هذا الجانب الذي يعتبرونه جانباً ممنوعاً ومحرماً ومهاناً ومنقوصاً في تاريخنا الأدبي، وما ذاك إلا جهلاً منهم، وغفلة ونقص ثقافة.. فهاأنذا أدلهم وأرجو أن لا ينالني أجر ذلك - من باب الدال على الخير كفاعله - فليس فيما اشرت إليه خير سوى التسلية والترويح عن النفس والأحماض الأدبي لمن أراد ذلك.. وما فعلت ذلك إلا لتطمئن قلوب وأنفس بعض أولئك الذين تطمئن قلوبهم بذكر مثل هذه الفضائح والعورات الأدبية.. فأفخروا وأبشروا وأفرحوا فقد كنا سابقين وفاتحين منذ عهد قديم.. والغرب يعترف بريادتكم. فعندما ترجمت حكاية «ألف ليلة وليلة» إلى أوروبا قامت ضجة هائلة لمنعها لأنها تخدش الحياء.. ومن ثمَّ فإنه يجب ألا تقع هذه «المسخرة» في أيدي العامة لكي لا تفسد أخلاقهم ودينهم.

ومن مغريات ورومانسية الحروب الصليبية حكاية الجنس، والجمال والعذارى والنساء الرائعات في الشرق والتي تتحرق لذكرها قلوب الجنود الصليبيين.. فهن حوريات ملفوفات في اردية السحر والغموض.

إن دخول الجنس في العمل الإبداعي موجود لدى جميع الأمم.. ولكنه كان مستقلاً بذاته أي أنه شريحة وجزء من ثقافة الأمة له قراؤه وله محبوه كما أن له منكريه. وهذا أمر طبيعي.. ففي الغرب: أدب جنسي ولكنه جزء من أدب شامل، له طقوسه وله خلواته. فلم أر في حياتي في الغرب راكباً في القطار أو الباص أو الطائرة يقرأ كتاباً عن الجنس بل لم أر أحداً يقرأ مجلة جنسية مع وفرتها وانتشارها. إن للحياة الراقية أدبا راقيا، إذ لا يمكن أن تتحول ساحة الثقافة إلى حمام عام ولا إلى مبولة عامة.

إذاً لماذا نحن مهووسون بهذا الضرب أو بهذا اللون من الأدب..؟ فالرواية لدينا كي تكون ناجحة فلابد أن تبدأ بالتعري أمامك منذ صفحاتها الأولى، فتدخلها فصلاً فصلاً وهي تتعرى قطعة قطعة.. وعند آخر فصل تكون قد ألقت آخر قطعة تغطي بدنها وكأنك أمام راقصة ستربيتز..؟ حتى أصبح هدف الكاتب ليس العمل الإبداعي وإنما استجداء وصرف نظر مراهقي الثقافة في عالمنا العربي وربما بحثاً عن الترجمة.. إلى لغة أخرى بهذه الوسيلة.. تماماً كما يحدث لبعض أفلامنا العربية حينما يحاول بعض المخرجين العرب، ترويج بضاعتهم في الغرب للحصول على أوسمة وجوائز حتى ولو كان عمله هابطاً إلى درجة التقزز.. فالجسد العربي الذي يظهر أسمر، طرياً، بضاً، أصبح يباع رخيصاً في سوق نخاسة السينما الغربية، كما حصل لفيلم: عصفور السطح لفريد أبو غدير الذي حصل على جوائز أوروبية بسبب مشاهد الأجساد العربية السمراء العارية المثيرة.

٭ عيب هذا الفن.. وعيب هذا النقد.. دعوا الأشياء تأخذ حجمها الطبيعي، ولا تضيفوا عليها هذا التبجيل، ولا ترقصوا كالدراويش والمصابين بالزار على ضوء فتيلة بائسة، لا شيء فيها إلا انها تضيء مساحة لممارسة ما هو محرم.. إن مقومات إبداع هؤلاء تكمن في ثلاثة: النيل من الدين، النيل من الأخلاق، الحديث الفاضح عن الجنس.. هذا التلوث المقدس في جراية أهل هذا الفن أو العفن، هو وسيلة البروز والنجاح، والتهليل والزغردة والردح.

لقد أصبحت الخسة، والرقاعة، والهبوط إلى أقبية الرذيلة، الطرق الناجحة نحو الشهرة ودخول عالم حمير الثقافة.. بل صارت هذه الروايات الساقطة إحدى معجزات زماننا الثقافي المهين..!! وما أكثر معجزاتنا الثقافية التي تذكرني بمعجزة الليف التي قال عنها ذلك الشاعر العبقري الذي يؤمن بالمعجزات الضخمة «من بحر الرجز»:

الليّفُ في تَنْظيف جسْم المستحم مُعجزه
فلا يكونُ دَرَنٌ في الجسم إلاّ أَبُرَزَه

ألم أقل لكم انها إحدى المعجزات الكبيرة التي لا تبقى ولا تذر..؟

٭ أيها السادة الفن العظيم والخالد، هو الذي يقوم بفكرته بذاته، ولا يستند على عكازات الإغراء والشهوة، كبعض إعلانات بيع المتعة السريعة.. فجميع مشاهير وعمالقة الفن العالمي، كانوا ولا يزالون ينطلقون من أفكار إنسانية سامية: شعراً، وقصة، ورواية، ورسماً، ونحتاً، وجميع الذين نالوا الشهرة العالمية إنما نالوها عن طريق الإبداع والعبقرية التي تخدم الإنسانية ولا تحطمها، وتُعَظَّم المشاعر ولا تهيجها، وتسكن الروح والعقل ولا تستثير العواطف البليدة.. هؤلاء بكل تأكيد لم يكونوا سماسرة فكر منحط.

ولم يكونوا بكل تأكيد أيضاً يعانون من عقد «العنّة» كي ينسوا عن كبتهم وعجزهم ببطولات وهمية تجعلهم وحوشاً قادرين على ممارسات المتع حتى مع الجدران.

يا سادتي نحن في مرحلة تاريخية دامية، كل شيء فيها ينزف ، دمنا ينزف، اقتصادنا ينزف، وأخطر شيء هذه الجراحات التي تنزف من ثقافتنا.

أنا لست ناسكاً ولا زاهداً ولا أدعي أنني من فلاسفة الأخلاق غير أن الناس سيقولون عنا في يوم من الأيام أن هذه المرحلة أو الفترة كانت فترة العاهات والدمامل والخراجات الثقافية في جسد هذه الأمة.

انها مسؤولية النقاد.. فالناقد الحق هو الذي لا يذعن للمجاملة، وإنما تتلبسه روح المقاومة من أجل الفن والإبداع، الناقد الحق هو الذي لا يغضي على الفساد والتفسخ، ولا يغضي على السوس الأسود وهو ينخر الثقافة فيقف موقفاً خائراً أو حائراً.

مشكلة الناقد لدينا أنه يخاف على نفسه، لا يريد أن يثير أحداً، ولا يستفز أحداً.. وربما انها روح الأنانية.. وضعف الجسارة، وحب السلامة. فالناقد من المفترض فيه أن يكون حاملا منجل الفن للتشذيب، والتهذيب، وقص الزوائد، وقطع الحشائش الشيطانية، وقتل جميع أنواع الخشاش الذي يعلق بجذع شجرة الإبداع، أصبح اليوم يخاف على نفسه.. وهمه الوحيد أن يجمع عدداً لا بأس به من الراضين عنه، والمريدين، أو من الشاكرين له، وهو بهذا قد انحرف عن أمانة الناقد وأخلاقه، وتحول إلى مهنة المستعطي والشحاذ الذي يكثر لك الدعاء والرجاء كي تكثر له في العطاء.

أيها النقاد امتلكوا شيئاً من الشجاعة، وجربوا خوض المعركة، ولذة المغامرة، ولذة الصدق.. الصدق في القول، والرأي، ببسالة من لا يخاف في نقد الفن نقداً حقيقياً لومة لائم.

لا أريد أن تدخلوا معارج حروب الدجاج أو معارك التسلط على الصغار.. ولا أريد أن أرى زبد التخويف يسقط من أفواهكم كما يسقط من أفواه فحول الجمال في مواسم الهيجان.. لا الذي أريده هو نقد عاقل واع وغير مجامل ولا خائف.

لو فعلتم لاختفت كثير من ظواهر الخشاش والحشف الثقافي، ولكم إن فعلتم ذلك، الأجر والشكر، مني ومن الثقافة ومن الباحث عن الإبداع الخلاق.


.
صورة مفقودة
 
أعلى