عقيل عبد الحسين - الشاكية والغافلة

هذا كتاب آخر أود أن أعرف القارئ عليه، وموضوعه الحب والعشق. والكتاب هو (نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان). وعنوانه، إذا أخذنا طريقة صياغة العناوين، يوحي بأنه كتاب قديم، ولكنه ليس كذلك تماما، فمؤلفه محمد صديق حسن خان (1832-1890) عاش في القرن التاسع عشر.

وإذا كان من جديد في كتاب نشوة السكران فهو التركيز في أثر العشق والحب في سلوك الإنسان وتفكيره وكلامه. وما يمكن أن يشكّل شخصية فارقة له، تجعله قسما من أقسام العشاق، نساءً ورجالا.

ومن أقسام النساء العاشقات الغافلة التي يظهر فيها أثر الشباب ولكن لا تعرفه ولا تدري ما العشق. والمترقبة التي تدري ما العشق ولكنها لا تبادر حياء. والنافرة التي يظهر فيها أثر الشباب وتدري ما العشق ولكنها ترفضه. والخبيرة التي يظهر فيها أثر الشباب وتعرفه وتبادر إليه ولا ترفضه. والمتوسطة التي يظهر فيها أثر الشباب وتدركه ولكنها تكتمه حياء.

ومن التقسيمات الطريفة، والتسميات الطريفة أيضا للنساء العاشقات، الشاكية التي يبيت محبها مع أخرى فتتفرس في العلامات التي يخلفها اللقاء على جسده، وتشكو إليه. وهي قسمان الرامزة تظهر الشكاية برمز، وهي نوعان الرامزة قولا، أي باستخدام ما يوحي بأنها علمت بخيانة المحبوب، كأن تقول له في شعر: إني أعلم الكحل للطرف، ولم أعلمه قبل اليوم للشفة. والرامزة فعلا هي التي تنقل في شعر صريح ما فعله محبوبها مع معشوقته، فتقول: سقته من خمر ريقها، وباتا إلى الصباح في رغيد العيش. والثانية، من الشاكية، المصرحة وتظهر الشكاية صراحة.

وتقابل الشاكية الغافلة التي لا تشكو من فعل محبها لأنها لا تشعر به ولا تحس حتى أن إحداهن بات زوجها مع أخرى، وهذه جرحت صدره بالظفر في حالة التدلل والامتناع، فلما جاء إلى الغافلة، وهي لم تدر أن في الصدر جرح الظفر بل حسبته هلالا لصغر سنها، فطلبته من الزوج لأجل اللعب.

ومن أقسام النساء العاشقات الأخرى المضطربة، التي تجيء إلى المحب في كمال الشوق، وهي أقسام منها المنهرة التي تجيء نهارا، ومنها الطارقة التي تجيء ليلا.

وهناك تقسيم آخر يعتمد على قدرات المرأة العقلية، وتسمى صاحبته الفاطنة. وتقسم قسمين الفاطنة قولا، أي التي تحسن الإجابة والرد على الرجل، والفاطنة فعلا، أي التي ترد بالفعل. ومن الأولى عائشة التي قال لها النبي يوما: إنني أستطيع أن أعرف غضبك من رضاك عليّ، فأنت إذا غضبت قلت: لا ورب إبراهيم! وإذا رضيت قلت: لا ورب محمد! فقالت له: والله يا رسول الله ما أهجر إلا الاسم.

ومن الثانية - أي الفاطنة فعلا - قوله تعالى: فلما سمعت بمكرهن، أرسلت إليهن، واعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت: أخرج عليهن، فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن.

ومن أقسام النساء المستكبرة بحسنها، والمستكبرة بمودة المحب. والحاصرة التي تمنع محبها عن السفر. والمترجية التي ترجو قدوم الزوج والمحب وتستعد له بالزينة. والنادمة التي تصد عن الحبيب ثم ترجع عن الصدود. والمغترة وهي التي ترسل سفيرة إلى حبيبها فتخونها السفيرة، ثم ترجع فتعرف ذلك من علامات كتمزق القميص وانفصام القلادة. وهناك النافرة عن الشيب في رأس الرجال. والعائدة التي تعود محبها المريض مرحمة به.

وأقسام الرجال العشاق أقل، وأكثر أقسام النساء لا مقابل له في الرجال لأن الرجال أكثر اتزانا وحكمة حتى مع تسلط العشق عليهم، هذا ما يضمره الكتاب. ومن أقسامهم عموما المستفرد الذي لا ينكح إلا زوجة واحدة. وعكسه المستكثر. وهناك الفاطن قولا وفعلا. والواصل الذي يصل من يحب. والمهجور الذي تهجره النساء. والعائد الذي يزور المرأة التي تعشقه رحمة بها. والمترجي الذي يرجو عودة المحبوبة، ويتهيأ لها. والمسؤول عن حاله. والمبتلى بالوشاة. والمائل إلى أشباه الحبيب. والناذر وهو الذي يوجب على نفسه عملا يؤديه على مذهب العشق بشرط أن يحصل له ما يتمناه. والموصي هو الذي يأمر شخصا أن يفعل ما يتمناه على مذهب العشق بعد موته.

ومعظم أقسام الرجال العشاق يعود إلى العقل وإلى المروءة وإلى الابتلاء بالرقيب، في حين تعود أقسام النساء إلى طبائعهن النفسية كالتعارض بين الرغبة في الرجال والحياء، أو زوال ذلك التعارض ليظهر اختلال السلوك الذي ينجم عنه أقسام لاحصر لها.

ولكن، وفي الحالتين، يقدم لنا الكتاب تصورا عن الحب والعشق في بعده الاجتماعي. وهو تصور لا يخلو من بعد رقابي، أو تصحيحي تحرص عليه كتب الأدب التقليدية، في المجالات المختلفة، والعشق منها، فلا بد من أن ينتبه القارئ إلى أن العشق في ذاته عاطفة إنسانية جميلة، وقد لا يستطيع أحد أن يقاومها، لأنها موجودة في الطبع، ولكن هناك بعدا عاما لهذه العاطفة، يظهر فيما تتركه من أثر في السوك يجعل صاحبه عرضة للذم أحيانا. وهذا الجانب هو ما تحسن مراقبته وما ينبغي تجنب الانزلاق إليه.


.

صورة مفقودة


الملهِمـات للفنان الفرنسي موريـس دونيـه، 1893
 
أعلى