علي مقلد - خدش حياء الإمام

بعيدا عن الحكم الصادر بسجن الروائي أحمد ناجي، بسبب نشره فصلا من روايته "استخدام الحياة " في جريدة أخبار الأدب، لفت نظري جملة وردت في قرار الإحالة، الصادر من النيابة العامة، وهي " أن المتهم نشر مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة وأجر عقله وقلمه لتوجه خبيث حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجًا على عاطفة الحياء"، هذه العبارة المطاطة ذات المحسنات البديعية المقحمة في غير موضعها، والمجلوبة من عصور غابرة، أدت إلى سجن شخص كل جرمه أنه كتب رواية خيالية، لم يحرض فيها على الطائفية أو العنصرية أو الإرهاب أو سرقة المال العام، ولم يفش فيها أسرارا تخص أمن وسلامة المجتمع، كل ما في الأمر أنه كتب رواية، وإن كانت خادشة للحياء، كما قالت النيابة، فهي أيضا ساهمت في نشرها وانتشارها وشهرتها على الملأ، ولولا هذه القضية ربما لم يتعدى من يسمعون عن تلك الرواية وصاحبها العشرات، وربما توارت في طي النسيان مثل آلاف من الكتب والروايات لا أحد يعرف عنها شيئا.
لكن لندخل إلى لب الموضوع بصراحة ، بعيدا عن اللف والدوران والحديث القانوني والحقوقي والسياسي، حول حرية الرأي والتعبير والإبداع، فقد سبقني إلى ذلك الكثيرون من الكتاب والحقوقيين والسياسيين والمبدعين، حول تلك القضية وقانونيتها ودستوريتها وتأثيرها على الشكل العام لمصر، ومدى تأثير "قضايا الحسبة" على صورة مصر في الخارج، ولتسمح لي عزيزي القارئ لنتناقش سويا حول موضوع الرواية، وهل الحديث عن الجنس شيء مؤثم ومجرم في الثقافة الإسلامية والعربية، والإجابة بالطبع لا، فالمطلع على الثقافة الإسلامية والعربية منذ عصورها الأولى، يجد أن هناك مئات المؤلفات، تتحدث عن الجنس بشكل صريح لدرجة أن غالبية دور النشر حاليا ترفض إعادة طباعة بعض الكتب التراثية، حتى لا تقع تحت مقصلة "دعاة الحسبة"، فالإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، صاحب الباع الطويل في الفقه والشريعة والحديث والتفسير واللغة، له عدة كتب في الجنس منها "نواضر الأيك في معرفة...." وبالطبع، أنا حذفت الكلمة الأخيرة من عنوان الكتاب حتى لا أجد نفسي والصديق العزيز رئيس التحرير، أمام المحكمة بتهمة خدش الحياء ، لهذه الدرجة تراجعنا، مع أن كتاب السيوطي مؤلف منذ خمسمائة عام من عالم دين وفقيه لا يجرؤ من اتهموا ناجي بخدش الحياء أن يقللوا من قيمة وأهمية السيوطي في الفكر الإسلامي، ولم يقف الإمام السيوطي عند هذا الكتاب بل ألف أكثر من عشرة مؤلفات حول النكاح، منها "الإفصاح في أسماء النكاح"، و" ضوء الصباح في لغات النكاح"، و"نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر".. ربما لو كان السيوطي بينا الآن لكان قابعا في غياهب السجن بتهمة "خدش الحياء"، وربما اتهمنا الإمام بأننا خدشنا حياءه من فرط تخلفنا ورجعيتنا.
السيوطي لم يكن استثناءا في علماء الإسلام، فهناك كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه " للإمام أحمد بن سليمان بن كمال باشا، وقد قام بتأليفه بإشارة من السلطان العثماني سليم الأول وأتم طباعته في سنة 903 هـ، وكتاب "روض العاطر في نزهة الخاطر " هو من تأليف أبو عبد الله محمد بن محمد النفراوي حوالي عام 1410 م وكتاب " نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لأحمد التيفاشي، وكتاب "مفاخرة الجواري والغلمان" وهو كتاب من تأليف أبو عثمان عمرو بن بحر أحد أبرز علماء اللغة في العصر العباسي، فضلا عن عشرات الكتب الأدبية التي وردت فيها ألفاظ جنسية صريحة مثل "الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني" وكتاب "عيون الأخبار لإبن قتيبة الدينوري" إلى جانب أن كتب الفقه في المذاهب الإسلامية السنية والشيعية لم تخل من الحديث عن الأعضاء الجنسية عند الرجل والمرأة خاصة فيما يتعلق بالطهارة والحدود، كما أن كتب الأحاديث المروية عن النبي عليه الصلاة والسلام، مثل البخاري وسنن أبو دوواد فيها بعض الألفاظ التي ربما لو كتبتها هنا كنوع من الاستدلال لاتهمت بخدش الحياء .
إذن فالموضوع برمته لم يخرج عن المألوف، حيث لم يشنع على أحد من هؤلاء العلماء ولم يتهمهم أحد بخدش الحياء أو التحريض على الرذيلة، لكن ما يحدث الآن هو أننا نشهد ردة حضارية وازدواجية مقيتة، فالمجتمع الذي تخشى النيابة على خدش حيائه يعد ضمن الأعلى نسبة في التحرش الجنسي على مستوى العالم، لدرجة أن الأعياد التي يفترض أنها ذات طابع ديني روحاني، تتحول إلى مناسبة للتحرش، كما أن المجتمع نفسه يقع ضمن أكثر المجتمعات بحثا على مواقع البحث الاليكتروني عن المواد الإباحية بكل تصانيفها ،مكتوبة ومسموعة ومرئية.
ربما يكون القاضي الذي يحكم في قضايا الرأي والتعبير مقيدا هو الآخر بترسانة القوانين السالبة للحريات، والتي أصبحت عبئا على الدولة والمجتمع، والتي يتوجب على برلمان يفترض أنه جاء بعد ثورة على دولة "الفاشية الدينية" أن يعدل هذه القوانين، ويكون محاكمة الإبداع بالإبداع وتوعية المجتمع عبر نشر أفكار أخرى، تفند وتدحض الكتابات الرديئة، وإن كانت هناك كتب وروايات خادشة، ليكن مقابلها كتابات أخرى تحض على القيم والمثل العليا والعمل وكتب أخرى تواجه الرجعية العنصرية والطائفية والتطرف والإرهاب ،بدلا من سجن الناس بتهمة الكتابة، وبذلك نفوت الفرصة عن "هواة الشهرة" الذين يحاولون تصدر المشهد باعتبارهم حماة القيم والمبادئ، رغم أن كل غنيمتهم هي الشهرة والظهور الإعلامي.

.


.


صورة مفقودة

millais_ophelia
 
أعلى