عصمت نصار - حكاية أمنا حواء بين اجتهادات العلماء وإخبار الأنبياء

على الرغم من التطور العلمي في المعارف البيولوجية والجيولوجية والوراثة إلا أن أباحثها الحديثة والمعاصرة لم تستطع الوقوف بدقة عن علة وجود الإنسان وتاريخه على الأرض، كما أن الدراسات التاريخية والأنثروبيلوجية المعنية بدراسة الأطوار الاجتماعية والعقدية والبيئية لم تقدم لنا سوى القليل عن الأطوار الاجتماعية والثقافية التي مر بها.

الأمر الذي يجعلنا عاجزين تماما عن الإجابة عن العديد من التساؤلات أهمها هل (آدم وحواء) مخلوقان متفردان في النوع والجنس؟ أم متطوران عن أجناس أخرى؟ وهل وجودهما الإنساني بكل ما يحمله من صفات قد خضع لسنة التطور؟ وهل ثقافة المجتمعات البدائية مما في ذلك العلاقات الجنسية والقيم والضوابط الأخلاقية كانت تحكمها العادة والتجربة والممارسة أم شرائع سماوية حملها (آدم وحواء) معهما عند هبوطهما من الجنة؟ وهل الحقبة الظلماء التي نطلق عليها عصر ما قبل التاريخ مازالت راغبة عن الإفصاح عما تحمله من أخبار؟

ونتسائل من جديد ما علة ذلك التشابه الكبير بين قصة (آدم وحواء) التي وردت في الأساطير وما ورد في الكتب المقدسة؟ وهل تهافُت بعض الأقاصيص الموروثة يؤدي إلى جحود المعتقدات الإيمانية المرتبطة بها. وهل (حواء) هي التي دفعت (آدم) إلى الأكل من الشجرة التي جعلتهما يمارسان الجماع ويفعلان الدنس في الجنة؟ أو الشيطان الذي غرس فيهما الشهوة الجنسية أم هوالقدر وحكمة الله ومشيئته.

الحق ان السياق الذي نطرح فيه هذه التساؤلات لا يتسع للاستفاضة في الإجابة عنها جميعًا فلم تتعرض فلسفة الجنس لكل النظريات العلمية التي تناولت الوجود الإنساني مثل نظرية التولد الذاتي ونظرية التطور ونظرية النشوء والارتقاء والحديث عن سلالة إنسان القرد - الذي ظهر في غابات إفريقيا منذ 45 مليون سنة- ، وإنسان العصر الجليدي - منتصب القامة الذي يرد إلى مليون و600 ألف سنة في آسيا- ، وإنسان الجينوم الذي أكتشف في سيبيريا – ويرجع تاريخه إلى 45 ألف عام- وثقافة الإنسان البشري - الذي يرجع تاريخ ظهوره للعصرالحجري منذ 25 ألف سنة- ، فجميع تلك النظريات كما أشرنا لم يقدم لنا فصل الخطاب بل أن معظمها جاء مضطرب البنية ومتعارض في نتائجه مع الأبحاث الجينية المعاصرة.

لذا سوف ننحاز في هذا السياق إلى إجابة الكتب المقدسة التي تقطع بأن الإنسان (آدم وحواء) مخلوقان وقد هبطا إلى الأرض على نحو سوي مكتمل يكفل لهما الحياة عليها بعد أن مهدها الله لعيشهما، أما عن علة التشابه الموجود بين الأساطير التليدة في شتى الثقافات العريقة والكتب المقدسة فيبرره الفلاسفة والعلماء الوضعيون بأن الكتب المقدسة ما هي إلا مصنفات بشرية شاركت في كتابتها عشرات الأقلام اعتمادًا على المرويات الشفهية التي اختلطت بطبيعة الحال بالتراث الشعبي والحكايات والأساطير بالإضافة إلى العقل الجمعي والثقافة السائدة وقت كتابتها.

أما الرأي الديني ولاسيما الدراسات الإسلامية المقارنة بين الملل والنِحل قد بينت أن أسفار الكتاب المقدس لم تحص أسماء جميع الأنبياء والرسل الذين خلفوا (آدم)، ولم تحدد كذلك الحقبة التاريخية ولا المكان الذي هبط فيه إلى الأرض برفقة زوجته (حواء) الأمر الذي يجعلنا نسلم بصحة التبرير القرآني الذي يشير إلى وجود أنبياء ورسل قد قاموا برواية قصة خلق (آدم وحواء) على أقوامهم وبمرور الزمن تحولت هذه القصص إلى موروث شعبي تعرض بطبيعة الحال للحذف والإضافة والتحريف، وعندما ذكرت القصة ثانية في التوراة ثم في القرآن كان بمثابة تقويم أو تصحيح أو تحقيق لأصل القصة، وما يصدق على الموروث العقدي عبر الثقافات يصدق كذلك على كل المرويات الشفهية غير المدونة أو المحفوظة.

ولما كان القرآن عندنا هو المصدر المصدّق – دون غيره- فسوف نناقش القضايا المطروحة ونحاول الإجابة عن الأسئلة السابقة استنادًا إلى ذلك الثابت الذي لا ريب فيه، أضف إلى ذلك أن كل ما ورد في آيات القرآن حيال قصة (آدم وحواء) يخلو من الاضطراب والتناقض من جهة، ويتفق مع العقل الإيماني من جهة ثانية، ويخلو من مواطن الخرافة التي اتسمت بها الأساطير من جهة ثالثة، ذلك فضلا عن اتفاق بنيتها المعرفية مع المضمون العام للعقيدة الإسلامية والكثير من المعطيات العلمية المؤكدة.

فقد ذهب القرآن إلى أن الله خلق (آدم) من تراب (طين أو صلصال) ولم ترد أي آية مخالفة او متعارضة مع هذا السياق، في حين وردت بعض الأقاصيص الأسطورية تحكي أن الآلهة قد اجتمعت وصنعت (آدم) من طين ودم، بيد أن معظمها ذكر أن (آدم وحواء) قد صنعا من طين أو فخار.

ولا تتعارض هذه الروايات مع ما ورد في أسفار العهد القديم التي ذكرت أن الله نفخ في حفنة من التراب فأوجد (آدم). ويتضح من هذه المقابلات أن النسيج الأسطوري كان يحوي بين طياته فكرة تعدد الآلهة، في حين اتفق النص التوراتي والقرآني في التوحيد والإرادة الإلهية الخالقة دون شريك.

ويؤكد النص القرآني وحدة المادة أو الأصل الذي خلق منه الله (آدم وحواء) دون ذكر أي فارق زمني أو نوعي بينهما، في حين تختلف الأساطير فيما بينها حول طبيعة صنع (حواء) وزمن وجودها اللاحق على وجود (آدم)، وتنحاز القصة التوراتية إلى أسبقية (آدم) في الخلق عن (حواء) وقد تابع المؤرخون من كُتاب قصص الأنبياء هذا الافتراض دون تبرير قاطع منهم.

وقد اتفق القرآن والتوراه على مقصد الباري من خلقه (لآدم) وكذا تزويد ذهنه بالمعارف التي تمكنه من العيش على الأرض وأن المقصود بالأمانة هو العقل والقدرة على الاستيعاب وأن الله عندما أمر (آدم وزوجته) بعدم الاقتراب من إحدى الشجرات كان ذلك بمثابة اختبار لمدى انصياعهما لأوامره، الأمر الذي يختلف عن النسيج الأسطوري في معظم الوقائع باستثناء الفلسفة الغنوصية التي تشير إلى أن الإنسان النوراني الذي كان يعيش بين نظرائه في الجيل الذهبي كان مستنيرًا وعالمًا غير أن معارفه قد انحطت بنزوله للأرض. وتتفق الرواية القرآنية مع الرواية التوراتية في أن المعرفة التي تلقاها (آدم) قد اختصه بها الله دون (حواء)، وعندي أن قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) لا يعني التخصيص بل الإجمال وذلك لأن النسيج السردي للقرآن لم يفرق بين (آدم وحواء) بداية من الخلق ومرورا بأمرهما بالانطلاق للتنعم من الجنة ونهيهما عن الأكل من الشجرة وأخيرًا معاقبتهما على مخالفتهما لأمره.

أما التوراه فقد ذكرت أن الله اختص (آدم) لوحده بالمعرفة وحرمه من الأكل من الشجرة التي تمكنه من إدراك الخير والشر، فلو كان الأمر كذلك فلا تسريب على (حواء) لأنها لم تتعلم كما أنها لم تقصد فعل العصيان عندما أصغت للشيطان. والأقرب للحقيقة أن تكون القصة التوراتية قد تأثرت بأسطورة "برميثيوس و بنادورا" اليونانية. كما أن القرآن لم يذكر صراحة بأن (آدم) كان له السبق في الوجود (خلقناكم من نفس واحدة) ، (ونفس وما سواها)، (أسكن أنت وزوجك الجنة) ولم يذكر القرآن آيضًا أن (حواء) خلقت من ضلع (آدم) والثابت أن هذه الرواية خلافية بين المفسرين وتستند إلى بضع أحاديث ظنية الدلالة في سياقها وعليه يمكننا أن نأكد أن النص القرآني هو الأحكم في سياقه والأكثر اتساقًا في نسقه.

كما أن القرآن لم يلق بتبعة العصيان والأكل من الشجرة المنهي عنها على كاهل (حواء) بل ذكر أن كليهما قد أكل من الشجرة بموجب وسوسة الشيطان إليهما، في حين نزعت التوراة إلى أن (حواء) هي التي بادرت بالأكل من الشجرة بإيعاز من حية أو ثعبان ثم أعطت (آدم) فظهرت عوراتهما ومن ثم حدثت الخطيئة الأولى التي صرح (آدم) بأن (حواء) هي التي دفعته إلى المعصية.

وتخالف بذلك القصص القرآنية معظم الروايات الأسطورية والتوراتية الأمر الذي يؤكد عدم تؤثرها بها.

كما تشير التوراة إلى أن الخطيئة الأولى تتمثل في أمرين أولهما أكل (حواء وآدم) من شجرة المعرفة التي تمكنهما من التمييز بين الخير والشر، وثانيهما اعتزامهما الأكل من شجرة الخلد التي تجعل من يأكل منها ملكًا خالدًا لا تؤثر فيه السنون ولا يلحق به الوهن ولا يتجرع كأس الموت فيشاركا الله في صفة الخلود، في حين أن القرآن لم يعتبر أكلهما من الشجرة كفرًا أو جحودًا أو خروجًا على الله، بل معصية ومخالفة لأمر إلاهي كان قد كتبه وقدره بعلمه وترك الاختيار الزمني (لآدم وحواء) بموجب الأمانة التي حملاها، ومن ثم كان خروجهما من الجنة ليس لظهور سوئاتهما التي سوف تدفعهما للجماع وممارسة الجنس، بل أن خروجهما كان قدرًا أيضا وذلك لأن كل من يسكن الجنة لا إرادة له فكل ما فيها مسخر، لذا يذكر القرآن أن (آدم) استغفر ربه على ما بدر منه فقبل الله توبته وذلك لأن كل شيء حدث وسوف يحدث بقدره وعلمه. وعليه فإن اللقاء الجنسي الأول بين (آدم وحواء) كان خارج الجنة.

أما الرواية التوراتية فذكرت أن (آدم) كان يجادل الله ويدفع عن نفسه تهمة العصيان ويلقي بها على تبعة (حواء) وحدها تلك التي أخبرت الرب بأن الحية هي التي أغوتها فعاقب (حواء) بالشهوة الجنسية أي رغبتها المستمرة في الجماع وخضوعها (لآدم) بالإضافة إلى الآلام التي سوف تلحق بها أثناء الحمل وعند الولادة وعاقب الحية باللعنة من كل المخلوقات. وهذه الرواية لا تتفق مع ماهية الله من جهة (العليم الخبير) ولا ما جاء في القرآن حيال المرأة في كل أحوالها ولا تتسق مع السياق القصصي بل تضعفه وتفكك أجزائه من جهة أخرى.

كما أن القرآن لم يحدد طبيعة الجنة التي أخرج منها (آدم وحواء) وقد اختلف المفسرون في تأوليها (جنة أرضية أو جنة سماوية)، في حين ذكرت التوراة أنها جنة أرضية وتقع في بلاد الشام والعراق، الأمر الذي يجعلنا نقرر أن خروج (آدم وحواء) من الجنة لم يكن عقابًا فلا يستقيم قبول الله توبتهما ومعاقبتهما في آن واحد فلو أراد الله لهما الخلود في الجنة ما مكن الشيطان من أن يوسوس لهما ولو شاء سبحانه غير ما حدث لأضحت الغاية من خلقهما معدومة (إني جاعل في الأرض خليفة).

أما التوراة فتأكد أن خروجهما عقابًا شديدًا لذا تروي أن الله جعل حراسًا من الملائكة والجن حول هذه الجنة حتى لا يعود كل المطرودين إليها، وتضيف العقيدة المسيحية أن الله لم يتب على (آدم وزوجه) ومن ثم أورثا الخطئية لذريتهما، ثم أراد الله تخليص بني البشر فأرسل إليهما كلمته أو ابنه ليموت على الصليب قربانًا حتى تتحقق التوبة ويكتب لبني البشر الخلاص والسعادة الأبدية. ويضيف شراح الكتاب المقدس من الآباء المسيحيين المتأخرين إن (حواء وآدم) لم يرتكبا خطيئة العصيان فحسب بل هناك خطايا أخرى أكسبتهم عشرات الرذائل والصفات المزمومة تتمثل في: (ارتياب حواء في كلام الله وانصياعها لحديث الأفعى، وقد أورثها ذلك العديد من الخصال منها الشك، والانقياد للآخر، وضعف الإيمان، والاجتراء والتهور، والنهم والطمع، وحب اللذات الحسية، والزهو بالنفس، والكبرياء، والفضول والجرأة، والحيرة والقلق، والتردد والفصل بين النظر والعمل وسماع النصيحة وعدم تطبيقها، والشراهة في الاستمتاع باللذة الجنسية، وعدم القناعة، والإغواء وتجميل القبح، والهروب من الله، والخروج من محبة الرب، وضعف الضمير والتلكأ في طلب الخلاص).

والسياق لا يتسع للمقابلة بين عقيدة "المسيا" المخلص في التوراة و"المسيح" في العهد الجديد وما يعنينا هنا هو توضيح علة احتقار اليهودية والمسيحية للجنس باعتباره خطيئة، في حين ينظر إليه الإسلام على أنه آلية لإعمار الأرض وتكاثر بني البشر لتفعيل ناموس الله وشرائعه (وما خلقناكم إلا لتعبدون)، (... لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، (وجعل بينكم مودة ورحمة).

وعليه يصبح فعل الجماع سنة إلهية بين البشر محمودة إذا ما طبقت ضوابتها التي تميز بين الزواج والزنا وإتيان الحلال واغتصاب المحارم.

وللحديث بقية.




















* د. عصمت نصار - حكاية أمنا حواء بين اجتهادات العلماء وإخبار الأنبياء


.




صورة مفقودة

godward_mischief
 
أعلى