علي الطنطاوي - من غَزل الفقهاء

1
قال لي شيخ من المشايخ المتزمِّتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب:

مالك وللحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزَّه الله نبيه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرَّح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك لكان أشعر من لبيد...

فضحكت، وقلت له:

أما قمت مرة في السَحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟

أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغن حاذق قد خرجت من قلبه، فهزت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟

أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهداً كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغاً في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟

أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟

أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤساءك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس. . . فمن هم أهل القلوب؟

إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!

إن البشر يكدون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدى وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وأن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال يعدُ أس الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدّمنة المقفرة، على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟

فكيف يكون فيها من يكره الشعر، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضياً، ولم يرجُ مستقبلاً، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألماً، فليس بإنسان.

ومن قال لك يا سيدي إن الله نزّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعراً كمن عرف العرب من الشعراء، ورد عليهم قولهم: (إنه شاعر). لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه الوحي من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردّها الله عليهم!

وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعوراً نبيلاً؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.

ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم في الحب والغزل ووصف النساء؟

أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد. . . ويصفها بما لو ألقى عليك مثله لتورعت عن سماعه... وتصاممت عنه، وحسبت أن ذلك يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عنه قائلة. . .

وما سعاد غداة البين إذ برزت = إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظَلم إذ اابتسمت .= كأنها منهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرةً = لا يشتكي قصر منها ولا طول

وأن عمر كان يتمثل بمثل ما تكره أنت... من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغَزِلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:

اليوم عندك دَلها وحديثها = وغداً لغيرك كفها والمعصم

وأن سعيد بن المسبب سمع مغنياً يغني:

تضوّع مسكاً بطن نعمان إن مشت = به زينب في نسوة خفوات

فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها = وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلّت بنان المسك وحْفاً = على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت ترائي يوم جمع فافتنت = برؤيتها من راح من عرفات

فكانوا يرَون هذا الشعر لسعيد بن المسبب!

ومالي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذ اسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من مال الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.

هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:

إن التي زعمت فؤادك ملها = خُلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما = يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها = لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها .= يوماً وقد ضَحيَت إذن لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة = شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها = بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي = ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا، فقال لعلها معذورة = من أجل رقبتها، فقلت: لعلها!

هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل!

وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليداً، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين: قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به):
.................................... = قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: = غطى هواك وما ألقى على بصري

هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه ناراً لا يطفئها إلا الوصال:

إذا وجدت أوار الحر في كبدي = عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره = فمن لحر على الأحشاء يتقد؟!

وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لَمجلس بن عبيد الله لو كان حياً أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئاً كثيراً، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا ليس في يدي شيء!

وهو مع ذلك الشاعر الغزِل الذي يقول:

شققت القلب ثم ذررت فيه = هواك فليم فالتام الفُطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي = فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب = ولا حزن ولم يبلغ سرور

أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذ القيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: (لا بد للمصدور من أن ينفث) فلا ينكر عليه ابن المسيب. هو القائل:

كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم = ولامك أقوام ولومهم ظلم
نم عليك الكاشحون وقبلهم = عليك الهوى وقد نم لو نفع النم
وزادك إغراء بها طول بخلها = عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدى إذ مات حسرة = على أثر هند أو كمن سقى السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضي = شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما = ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها إن كنت تزعم أنه = رشاد ألا يا ربما كذب الزعم

ألا إن هذا هو الشعر!

***


2
واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره.

هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 622 هـ فاسمع من شعره ما ترقص له القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له:

ومن هواك ما خطر السلو بباله = ولأنت أعلم في الغرام بحاله
ومتى وشى واش إليك بأنه = سال هواك فذاك من عذاله
أو ليس للكلِف المعنى شاهد = من حاله يغنيك عن تسآله
جددت ثوب سقامه، وهتكت ستر = غرامه، وصرمت حبل وصاله
أفزلة سبقت له أم خلة = مألوف من تيهه ودلاله

وهذا الإمام الصوفي عبد الله بن القاسم الشهرزوري الملقب بالمرتضى أفما قرأت قصيدته:

لمعت نارهم وقد عسس الليل = ومل الحادي وحار الدليل

التي لم يقل في معاني أهل الطريق مثلها، والتي نطاول بها أعلى شعراء (الرمزية) منكباً، ونسابق بها أوسعهم خطوة؟

أو ما سمعت شعره؟ هاك منه قوله:

فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفه = عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
وغابت شموس الوصل عني وأظلمت = مسالكه حتى تحيرت في أمري

وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي إسحاق الشيرازي:

وإني لأبدي في هواك تجلدا = وفي القلب مني لوعة وغليل
فلا تحسبن أني سلوت فربما = ترى صحة بالمرء وهو عليل

وقول آبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم:

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا... ورأيت كيف نكرر التوديعا
لعلمت أن من الدموع محدثا = وعلمت أن من الحديث دموعا

والبيت الثاني من مراقصات الشعر.

وكان مع ذلك علامة من الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحويين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:

ومن كان في طول الهوى ذاق لذة = فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصلها = أماني لم تصدق كخطفة بارق

ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور المتوفى سنه 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفاً كل يوم ما فارقتكم. ويقول:

سلام على بغداد في كل موطن = وحق لها مني سلام مضاعف
فو الله ما فارقتها عن قلي لها = وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها = ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه = وأخلاقه تنأى به وتخالف

ويقول فيها:

بغداد دار لأهل المال طيبة = وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها = كأنني مصحف في بيت زنديق

وهو معنى جيد وتشبيه عجيب.

وهو القائل:

متى يصل العطاش إلى ارتواء = إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد = وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما = على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي = فقد طابت منادمة المنايا

ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله:

ونائمة قبلتها فتنبهت = وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
فقلت لها أني (فديتك) غاصب = وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفا عن أثيم ظلامة = وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنه = على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يميني وهيِ هميان خصرها! = وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت ألمك تخبر بأنك زاهد؟ = فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد

وهاك القاضي الجرجاني مؤلف (الوساطة) علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء، صاحب الأبيات المعلمة المشهورة:

يقولون: لي فيك انقباض، وإنما = رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من دانهم هان عندهم = ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني = ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت = أقلب طرفي إثره متذمما
ولكنه أن جاء عفواً قبلته = وإن لم أتبعه لولا وربما
وأقبض خطوي عن أمور كثيرة = إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
وأكرم نفسي أن أضحك عابساً = وأن أتلقى بالمديح مذمما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم = ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا = محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة؟ = إذن فاتباع الجهل قد كان احزما

ويا ليت كل عام ينقش هذه الأبيات في صدر محرابه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!.

والأبيات الأخرى:

وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى = وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال شيئان حرما = عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهر
ذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه = مواقف خير من وقفي بها العسر

وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غزله فسهل حلو منه قوله:

مالي ومالك يا فراق = أبداً رحيل وانطلاق
يا نفس موتي بعدهم = فكذا يكون الاشتياق

وقوله:

قد برح الحب بمشتاقك = فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه = فإنه آخر عشاقك

وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من القرن الثالث الذي يقول:

سلبت عظامي لحمها فتركتها = عوارى في أجلادها تتكسر
وأخيلة منها مخها فكأنها = أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق ترعدت = مفاصلها من هول ما تتحذر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري = بلى جسدي لكنني أتستر!
وليس الذي يجري من العين ماءها = ولكنها روح تذوب فتقطر

وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيمه حبه، قال القاضي التبرزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت هاهنا. وألقى علي فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما:

أنا والله هالك = آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي = قد أقامت قيامتي

ولما فشا أمره، منع الملك انه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال:

أن لم تجودوا بالوصال تعطفاً = ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى = يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي = ألقاه من كمد إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة = لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البلية والرزية أنني = أقضي ولا تدري الذي قد حل بي
قسما بوجهك وهو بدر طالع = وبليل طرتك التي كالغيهب
لو لم أكن في رتبة أرعى لها = العهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هزاك ولذ لي = خلع العذار ولو ألح مؤني
لكني خشيت بأن يقول عواذلي = قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
فارحم فديتك حرقة قد قاربت = كشف القناع بحق ذياك النبي
لا تفضحن بحبك الصب الذي = جرعته في الحب أكدر مشرب

وله فيه شعر كثير جدا.

ومن شعر محمد بن داود الظاهري، وكان فقيهاً على مذهب أبيه داود وكان شاعراً:

أنزه في روض المحاسن مقتلي = وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو انه = يصب على الصخر الأصم تهدما

ومن شعر أبي الفضل الحصكفي الفقيه الشافعي:

أشكو إلى الله من نارين: واحدة = في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين: سقم قد أحل دمي = من الجفون وسقم حل في جسدي
ومن نمومين: دمعي حين أذكره .= يذيع سري وواش منه بالرصد
ومن ضعيفين صبري حين أبصره = ووده ويراه الناس طوع يدي

لو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين بعد هذا يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟

أما إنها لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر... فهل لعلمائنا العودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟!


علي الطنطاوي


.


صورة مفقودة
 
أعلى