علي الاسكندري - حاكمية الجسد الأول

عرفنا آدم وهو هائم في أراجيح حلمه الفردوسي الطوباوي وفي هذا المنحى يكون له قصب السبق في التواجد الرمزي فـي ربوع فردوسه الحلمي , وعرفنا تشارلز دارون وهو يفتح النار من ماسورة برهانه على كل الغزليات الناقصة والمبتورة التي تقدمت بها الغيـبـيات خاطبة ًود البشر لإثبات نسب الجسد الإنساني وبنــوّتـــه إلى أسطورة الخلق الاعجازي الآدمي , وهو اخطر ملف بـحثـي مؤجل في أصل النوع يفتحه دارون مذ بدأ الإنسان مادته البحثية حول فيزيائــيــته مـنـتـبـذا بـذلك شرف القمة في ميدان الكشوفات والفتوحات المعــرفية ..

أجـل لقد فعلها دارون في القرن الثامن عشر وفـاجـأ تاريخ البشرية حين أعلن غروب حاكمية الجـسد الأول وأن ذلك الجسد ما هــو إلا محض سراب وما تلك المخلـــوقات المحبـوسة في حدائق الحيوان والمحميات الطبيعية التي تشبهنا في الخلقة والهيئة والتي نقصدها للتـنـزّهِ والـتنـدّر ِ والترويح عن ذواتنا ما هي إلا الخطوة الأقرب إلى جسد الحقيقة التي بقيت ناقصة لآلاف السنين رغم محاولات حكماء بابل وآشور ومصر واليونان وإخوان الصفا ولامـارك لتـرســيـخ أصـل الجسد ومحاولة كشف المستور عن تاريخه الغامض هذا الجسد الذي أُعــدتْ له الفراديس والجنات والجحيمات ليكون هو الرهان والضمان لإدامة الطاعة التامة وفق مبدأ الثواب والعقاب من خلال تدليله وإغـوائه بالحسان والغلمان وانهار الخمر والعسل تارة وتارة أخرى من خلال شـيّـهِ وتبديل جلده وإذلاله حتى ليأكـلَ ويشربَ من صـديــد دمامـله وفضلاته وهو المكرّم الحائز على نفحة من روح خالقه أيامَ كانَ حفنة من تراب, وهــو ذات الجــسد الـذي جعلته الرسالات المتعاقبة وعاء فانيا لمـقـتـربات الروح مسكونا بالرغبات والنزوات والعذابات والغرائز هذه القيم الغرائزية التي صارت بمثابة المواد الحافظة للنوع فانـفـطـرت في قارورة الجسد لكي يقاوم التحلـّـل والنفاذيـة والفناء ورغـم ذلـك فلقد وجدناه محكوما بالعزلة والعــسف والاهانة متى ما غضب الحاكم واعـتلّ مزاجه واختلط الأمر عليه ورأى ان صوت الجسد أمضى وأنــجـع من أصوات أبواقه المثقوبة .......

انه جسدي الذي تناثرت اجزاؤه واكلته الاسماك ووحوش البحر وضواري اليابسة في(معارك المصيروالتحرير) بدءا من فلسطين والضفة الغربية والجولان والاهوار والفاو والمــحمرة وسانـوبة والحصاد الاكبر والانفال وام المعارك وليس انتهاء بالحواسم والذبح على الطريقة الايمانية ، هو جسدي العراقي الاعزل المحفوف بالمصائر والمنائر والعشائر وهو مركـّب النقص الناتج عن التشوّهات الخلقية وعوق الحروب والالغام والوشم والبـتـور والبـثـور وقطع الاذن وبراميل البارود والبترول والاعوام المفخخة... هو جسد محارب بلاجدوى وبالنيابة (أنا منذ فجر الارض البس خوذتي ووصية الفقراء فوق نطاقي )هكذا تخــبرنا أحدى الاناشيد العراقية على لسان الفنان "جعفر الخفاف"في تسعينيات القرن الماضي .وهو جسد مرتعب من رائحة الموت والفناء ((يا اول الرحيل يا تفاحة الخراب مقبرة تمشي معي وسورها ثيابي)) من قصيدة ثمانينية للشاعرالعراقي سلام كاظم ، وهو بذرة معطوبة تضمر سورة الغضب وتختزن صوت الاحتجاج ( افتـتـحُ الفجر بشتائــم النصر ...

واشيد صياما مسلحا بماعون الخديعة ... انا البذرة المعطوبة لم اتزوج كي لا اترك اخطائي تبـلّط الشوارع بالحسرة وتمجد الملك , لم ابـنِ لي بيتا كي لا تدمره حرب جديدة ) نـص شعري تسعيني لكاتب هذه الورقة ، جسدي هذا الذي ادمن على الرقص المغزلي الدوراني تـشــّبها برقصة الطير وهو يسـتشيط ألما امام همجية السكين في ملكوت الدم ، جسدي العراقي في رقصته الذبيحة يجسد فلسفة الالم ويحاول ..يحاول فقط ان يحــجّم جرثومة الموت ويتشبــّث بشعرة الحياة وهو اجترار واعادة انتاج للمآتم المنصوبة على امتداد تاريخ الجسد العراقي في سباياه وضحاياه في حين ان زوربا يرسخ في رقصته العبقرية المجنونة قداسة الحياة عند كازنـتـزاكي وتمـجـيدها والاحــتـفـاء بها عند اليونان كما ان لغة الجسد تتفوق تماما عند راقص البالية الشهير نـجنسكي بــحسب ( كولن ولسن في كتابه اللامنتمي ) على لغات الاغريق والآراميين واهل الجنة والبادية ، نجنسكي كان يدوّن بجسده مــساحـات الـضـوء والاشــراق والشمــوس ضد عـتمة النفس الباحثة عن دودة الخراب والحروب لذلك فنحن ازاء مكاتيب ونصوص جسدية خارجة ومُـنـْعـتِـقـة من سلطــة الكيمياء وفعلها التحللي الباهظ لكننا جميعا ننتمي الى الجسد الاول المعزول في فردوسه الافتراضي الاثير ذلك الجسد الذي اتخمه السأم ومـلّ من الايقاع الرتيب المكرر ورغم ذلك فقد بقي معطلا قليل الحيلة لم يعثر على لغته التي تنقذه من ورطته الآسنة .بقي منكمشا يتثاءب ولم يجد في شراكته مع انثاه العتــيــدة غير خطيئة ساذجة جاهزة رحـّـلته من متاهات السماء الى عذابات الارض واشكالية الجسد السرابي .


علي الاسكندري

.


صورة مفقودة

tornai gyula - gesa
 
أعلى