عمار بن طوبال - تجليات الشبق

الشبق كما يرى "العلماء" هو جوع يتعدى مرحلة الاتصال الجنسي بمعنى أن الشبق الجنسي ليس جوعا عضويا كالجوع إلى الطعام, بل يشبعه شيء آخر غير مجرد الإفراغ بعد انتهاء التواشج التوالج.
وهو نفس المعنى اللغوي لكلمة شبق في اللغة العربية حيث نجد في معنى كلمة شبق لدى ابن منظور بأن الشبق هو شدة شهوة الجماع، قال ابن منظور في لسان العرب: الشبق شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال رجل شبق وامرأة شبقة وشبق الرجل بالكسر شبقا فهو شبق: اشتدت غلمته، وكذلك المرأة، وقد يكون الشبق في غير الإنسان.
والشبق في التحليل النفسي الفرويدي هو إحدى تجليات الليبيدو حيث يؤكد فرويد على أن الإنسان يولد ولديه طاقه غريزة أساسيه هي الشبق الذي يشكل قوة حيويه دافعه وطاقه نفسيه مشوبة برغبة جنسيه تلتقي بتعبيراتها الأكمل من خلال العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة.
ولهذا فهو يحدث فقط عن طريق التواصل المباشر، عكس الإثارة التي قد تحدث من نظرة أو مهاتفة أو حتى تخيل لذوي الخيال الواسع القادر على النفاذ إلى ما تحت الثياب.
ولكن الاستعمال العربي العام للكلمة يختلف، فأهل عمان يستعملون كلمة شبق بنفس المعنى الذي استخدمه "يسوع" وهو اللصق على الشيء، ومنه الصلب، فالذي يلصق على الصليب يقال له شبقت يداه على اللوح.وفي منطقة ميلة بالجزائر تستعمل كلمة شبق للدلالة على النظرات ذات التعبير الجنسي فيقال لمن يحدق بشراهة في امرأة : شبقت عيناه "، فالنظرة لغة ولهذا يتحدث المبدعون عن شبق اللغة كدلالة على التوصيل الذي يحيل على التواصل في الحالة الإنسانية الحميمية.
وشبق اللغة يقودنا لمحي الدين بن عربي الذي يقول:
نَكَحْـتُ نَفْسِي بِنَفْـسِي
فَكُنْـتُ بَعْـلِي وعِـرْسِي
كتعبير عن حنين الأصل لفرعه الشارد، فالبيت الشعري يبدو محيلا على الشذوذ، ولكنه يحمل نظرة أعمق من هذه القراءة السطحية، حيث أن أصل المرأة هو الرجل لأنها خلقت من ضلعه، لهذا يلح الشيخ الأكبر عن الشبقية التي يكثر من إيراد مرادفاتها وتوابعها في نصوصه الشعرية سواء في فصوص الحكم أو في ترجمان الأشواق، بغية استدعاء التوحد بين الرجل والمرأة عن طريق التواصل الشبقي الذي يعيد الفرع الشارد إلى أصله كحالة من التماهي الصوفي، " فصورة اللقاء الجنسي بين الرجل والمرأة عودة الجزء إلى الكل، فيكمل الأصل، فتتماهى الصورة بالمثال المطلق، وهذا مظهر من مظاهر التجلي الكوني الأعظم للوحدة الكلية كما يراها الشيخ الأكبر في الفصوص." بنظرته الصوفية العميقة
وابن عربي يعتبر مبدعا في موضوع شبقية اللغة حيث انه قد بحث حتى في علاقة الحروف المشكلة للكلمة من منظور شبقي، وكيف أن طريقة التركيب والتوليف بين الحروف يمكن تشبيهها بوضعيات مطارحة الرجل للمرأة أثناء التواصل الجنسي.
وبالعودة للهجة أهل ميلة بالشرق الجزائري حين يستعملون كلمة شبق للدلالة على النظرة الجنسية أي الشبقة، وهو استعمال له أصله في لغة العرب، ولكن أهل ميلة يحرفون الكلمة فينطقونها " شبك " وهذا يوصلنا لكلمة قريبة من الشبق وهي الشبكة ولكن نأخذها هنا بمعناها المشرقي والمصري تحديدا والتي تعني ما يقدمه الرجل للمرأة قبل الزواج، أي قبل التواصل الشرعي، فبالشبكة يحل الشبق الذي سوف يسيل العرق في الليالي الملتهبة بعد أن يوصد الباب والشباك.
والشباك هنا دائم الحضور ومحايث للشبق حيث لازمت الشبابيك الحريم لحجبهن عن الرجال حتى لا يثرن فيهم رغبة، مع أن نساء الحريم دائما تستعملن الشباك للتجسس وللمواعدة الخفية التي تتم بإشارة يد أو نظرة عين تكون وعدا لعاشق يسير تحت النافذة ( الشباك ) ليقتحم خلوة الحريم في غياب السيد أو المحرم وغالبا ما يتم الاقتحام عن طريق الشباك( النافذة )، والطريق إلى اشتعال الشبق في ذلك الاقتحام الليلي الذي ينفذه عاشق مغامر يمر عبر تشابك الأيادي بمنتهي اللين ( كما يفعل العشاق الظرفاء في الأماكن العامة ) قبل اشتباك الشفاه عبر قبلات حارة (كما يفعل نفس العشاق الظرفاء في لحظات الخلوة الشرعية وغير الشرعية ).
سنعود للحريم ومخادعهن المحاطة بشبابيك لاحقا ولكن لنعد للشبكة ولكن بمعناها العربي الأصيل أي شبكة الصيد التي تلتقي مع الشبكة المصرية ومع الشبق، حيث أن الشبكة المستعملة للصيد تتيح للصياد امتلاك ما يصطاده وهو نفس ما يحدث مع العريس بعد أن يقدم شبكة لعروسه، ولكن الفرق أن الصياد يوظف شبكته لامتلاك صيد ما بصفة مطلقة، في حين أن الشبكة بعد أن تقدم للعروس تجعل الامتلاك متبادلا بين الرجل والمرأة وهو امتلاك شبقي يشبع ما يصفه العلماء بالجوع العضوي والنفسي الذي يحسه كل طرف اتجاه الآخر، مع أن الصياد البدائي كان يستعل شبكته لإسكات جوعه هو الآخر، ولكن إنشاء المدن والمراكز الحضارية وما فرضته من مبادلات تجارية حّول وظيفة الشبكة من إشباع البطن إلى ملء الجيب، حيث أن الصيد صار يتم بهدف المبادلة التجارية، مع بقاء الشبكة وفية لدورها الأول وهو إشباع الشبق. ولكن وبما أن التطور لا ينتهي فقد أتى من يستفيد من الشبق ويوظفه في التجارة ولو بإدعاءات فنية، حيث ازدهرت منذ عصر النهضة الأوروبية لوحات العري وصارت تباع بالشي الفلاني، من طرف صيادي النور كما يسميهم أحمد راشدي أي الفنانين الغربيين الذين وظفوا العري بشكل مكثف في لوحاتهم مبرزين شبقية الأجساد العارية ومسبغين عليها كثيرا من النورانية حتى يرتفع ثمنها في بورصة اللوحات الفنية، وهذه النظرة التجارية التي استفادت من شبكة الصيد وتحول دورها من إشباع الجوع إلى ملء الجيب هي التي جعلت يوجين دولاكروا يرسم " نساء الجزائر " وتحقق تلك اللوحة شهرة خارقة حملت دولاكرا في حياته وبعد مماته إلى المجد، وقد وظف هذا الفنان الفرنسي كل قدراته الفنية( وبحسابات تجارية ) لإبراز شبقية أجساد ثلاث نساء حسناوات من حريم الجزائر، وبما أن الأمر له علاقة بتحول وظيفة الشبكة عن طريق توظيف الشبق فقد أتى الفنان العظيم بيكاسو ( وبحسابات تجارية أيضا ) ليركز على نساء دولاكروا الجزائريات ويستنسخ من تلك اللوحة التحفة أكثر من خمسة عشرة لوحة كلها تحمل اسم " نساء الجزائر " محاولا تحرير حسناوات دولاكروا من وضعية الحريم التي تفقد الشبق معناه الإنساني الحميمي والخاص جدا الذي يحيل على الرغبة المتبادلة وليس على التملك والرغبة المفردة من طرف السيد بالنسبة للجواري مثلا، رغم أن بيكاسو الهاجس بشبق أولئك النسوة لم يستطع سترهن، بل ركز على إبراز إثارة أجسادهن البضة التي يغمرها نور يأتي من الشباك المفتوح كناية ربما عن رغبته الجامحة في تحريرهن عن طريق الفن من وضعية الحريم.
وإذا كان بيكاسو قد سعى لتحرير المرأة ( موضع الشبق ) عن طريق الفن، فنحن نقرأ في ملحمة جلجاميش كيف أن أنكيدو ذلك الآدمي المتوحش الذي تربي بين الحيوانات واكتسب صفاتها، يسترد إنسانيته الضائعة من خلال إفراغ شحنة الشبق التي سكنت روحه وجسده من لحظة الميلاد الأولى، حيث نقرأ في الملحمة: " ستة أيام وسبعة ليال ضاجع المرأة، تنور ذهنه وقلبه".
وهذه النظرة إلى الشبق لدى البابليين ومثلهم بقية الشعوب والحضارات القديمة خصوصا الشرقية منها التي كان للشبكة والصيد دور كبير في نشوءها وارتقاءها لأنها قامت على ضفاف الأنهار والبحار والبحيرات، هي التي جعلت الشبق يرتبط بالتقديس والتأليه، فنجد " عشتار" آلهة الخصب لدى البابليين تحضى بتقديس كبير لكونها مانحة الخصب للأرض من خلال تواصلها الشبقي مع إله الخصب " دموزي "، وعشتار ما هي "الأخت غير الشقيقة" لفينوس آلهة الحب والرغبة عند اليونانيين التي تحضى بنفس درجة التقديس ويشهد لها بقدرتها الخارقة على الإغواء والإغراء الذي تمارسه ضد بقية الآلهة الذي حضوا بمكانة كبيرة في الحضارة الهيلينية.
وربطا بين قدسية الشبق في الاعتقادات القديمة لمعظم حضارات الشرق والغرب وبين شبقية اللغة، نصل إلى الملاحم الجنسية التي تركتها البشرية وأشهرها كتاب الكاماسوترا الذي " يعتبر على نحو واسع عملا قياسيا للحب في الأدب السنسكريتي. وضع النص الفيلسوف الهندي فاتسيايانا كخلاصة قصيرة للكثير من مؤلفات سابقة قديمة مختلفة تعود إلى تقليد يعرف باسم كاما شاسترا. كلمة كاما تعني الرغبة . بينما كلمة سوترا فتدلل على سلسلة من الحِكَمِ "، ونتيجة للحكم الجليلة التي احتواها كتاب الكاماسوترا فقد حضي بالتقديس لدى الهنود، كما حضي بتقدير وانبهار بقية العالم، على غرار كتاب الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزواوي ذائع الصيت، وغيره من كتب التراث الجنسي العربي المجهول في معظمه نتيجة المنع والقمع الذي مورس عليه، حيث تحولت الثقافة العربية بعد قرون الانفتاح الأولى إلى ثقافة قمعية خائفة على هويتها نتيجة الضعف الذي لحق بالحضارة العربية الإسلامية، وهذا ما جعل إبراهيم محمود يستحضر المغيب وينطق المقموع في خطاب الشبق العربي من خلال كتاب " الشبق المحرم : انطولوجيا النصوص الممنوعة "، وهذا الشبق الإبداعي في استنطاق الممنوع هو نفسه ما دفع آسيا جبار إلى كتابة " نساء الجزائر في مخدعهن "، مستلهمة تجربة دولاكرا في اصطياد النور الذي يشع من الأجساد الشبقة، وهذه رؤية فنية وليست علمية توظف شبكية العين (وليس شبكة الصيد ) في اقتناص و تصوير جو مشحون بالشبق يمر كلحظات خاطفة بحياتنا يستطيع الفنانون الإمساك بها ببراعة، ولهذا نقرأ في العدد الثاني من مجلة جسد التي تصدرها الإعلامية والشاعرة اللبنانية جمانة حداد مقالا طريفا بعنوان: " فنانو البين أب صيادو الشبق ".



* عن مدونة عمار بن طوبال



.


صورة مفقودة
 
أعلى