عمر يوسف سليمان - المرأة والسلوك الجنسي في النثر العباسي

لا تتضح معالم الجنس في النثر العباسي كفن ناضج ليُطلق عليه اسم الفن الأيروتيكي، بل يأخذ صفة الشمول والعشوائية شأنه شأن أي نوع من الفنون النثرية في هذا العصر، حيث لم تكن فكرة الأدب المنثور متبلورة بعد، بل كانت محاولات متفرقة دون ملامح واضحة، وهو من جهة أخرى يعكس بصورة مباشرة كيفية التفكير الجنسي المتداول بين أبناء هذا العصر ابتداءً من الخلفاء وانتهاء بالسوقة، وسوف نتناول هنا جانباً من جوانب التفكير الجنسي عن طريق ما وصلنا من النثر العباسي وهو طريقة تعبير المرأة عن أفكارها وميولها الجنسية، وكيف كانت تتعامل رغبات الرجال بجسدها، وقد اخترنا النثر لأنه الطريقة الأوسع والأكثر خصوبة، فهو كما نعلم لم يكن قد أخذ صفة التصنيف بل الجمع والشمولية.
تبدو أهمية دراسة السلوك الجنسي عند المرأة في العصر العباسي من عدة جوانب، فهذا العصر لم ينتج نساء كاتبات لذلك لم يصلنا إلا القليل في ظل السلطة الذكورية بالنسبة إلى الكتابة، كما أن السلوك الجنسي هو الأكثر غموضاً وإبهاماً في كافة العصور العربية باستثناء العصر العباسي الذي كان الأكثر وضوحاً، فعندما نجد المرأة في العصر العباسي تتجاوز التابو الجنسي فإن في ذلك إشارات إلى أمور أبعد.
الجنس في العلن: المرأة ومن يعاكسها
ذكر أبو حيان التوحيدي في الجزء الرابع من كتابه (البصائر والذخائر)، والذي خصصه (لثلبِ الثالب وعتب العاتب والحجج الدامغة والألفاظ الحرة...)، ما يلي: (وجاء بعض الخلعاء إلى باب الجوهري فدق فقالت امرأته: من هذا؟ قال: أنا فلان، قالت: ما تريد؟ قال: افتحي حتى أدخل وأنظر أنت أطيب في النيك أم امرأتي؟ قالت: وما أحوجك إلى ذلك؟ سل عمراً عن ذلك فإنه قد ناكني وناكها، فخجل الرجل وانصرف).
وفي البصائر والذخائر أيضاً نقرأ (نظر الفرزدق إلى جارية مليحة بالمدينة فقال لها: أيري في أستك، فقالت له: يا بغيض، مايضرك أن تضعه في يدي فأضعه حيث أشتهي، فقال: قد وضعته في يدك، قالت: فإني قد وضعته في حر أمك).
لا تأخذ الحادثتان الآنفتان مكانتهما من حيث ذكر أسماء الأشخاص ورد المرأة اللاذع في العلن ليصبح قولُها نادرة سائرة فحسب، بل حين يذكر هاتين الحادثتين عالم صوفي معتزلي كالتوحيدي في كتاب عالج فيه علاقة الإنسان بالله!، كما عرض لآلاف من أهم القطع والنوادر الأدبية في عصره، لنفهم أن المرأة بردِّها الجنسي لا تلقى توبيخاً وتصبح موضع فضيحة بين الناس بل تستحوذ على اهتمام العالِم.
أما تشخيص نوادر الجنس على لسان النساء بجرأة مترافقة مع توظيفٍ يحمل في طياته الثورة على التكتم والخوف من التعبير عن الرغبة، فأكثر ما ظهرت معالمه عند الجاحظ الذي كانَ يهزأ في كثير من الأحيان مِن مَن يستَخْفُون ويستحون عند تسمية الأعضاء الجنسية بشكل صريح في العلن ويصفهم بأنهم الأكثر إشانة وإحاطة بالأفعال الجنسية الشاذة...
في كتابَي (الحيوان) و(الرسائل) نجد مكاناً خصباً لنوادر أقوال النساء في الجنس، وحينَ يتَّبع الجاحظ في هذين الكتابين طريقته المعتادة بذكر بعض الأخبار المتعلقة بالعقيدة بشكل عابر دون تعقيب عليها أو سبب واضح لذكرها، بما يشبه التلميح إلى شيء ما، فيضمِّن بهذه الطريقة آراءه الخارجة عن السائد وتابو السلطة دون أن يستطيع أحد إدانته، ثمَّ عند ذكره لخبر متعلق بسلوك المرأة الجنسي لا يفعل ذلك، نستنتج أن الأمر عادي في ذلك العصر، ويشفع لرأينا هذا أننا نجد أخباراً شبيهة عند كتَّاب غير الجاحظ دون تحفظ.
(وزعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم، فراوغَتْه فلم ينقطع عنها، فحثّتْ في المشي فلم ينقطع عنها، فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت: يا هؤلاء، لي طريقٌ ولهذا طريق، ومولاي ينيكني؛ فسَلوا هذا ما يريدُ مني؟).(الحيوان-الجزء السادس: الخطوط ومرافقها).
في هذا الخبر وعشرات أخرى تشبهه من كتاب الحيوان نجد المرأة-الجارية- تعبر عن استغرابها ممن يريد معاشرتها -على الرغم من صدها له- وتقوم بذلك أمام الناس: (وزَعَمَ أيضاً أن سيَّاراً البرقيّ قال: مرّت بنا جاريةٌ، فرأينا فيها الكِبْرَ والتجبُّر، فقال بعضنا: ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيكها قالت: كما يكون) (الحيوان- الجزء السادس: الخطوط ومرافقها).
نجد مثل هذه الأخبار أيضاً في كتاب (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء) للراغب الأصفهاني، الذي ذكر كثيراً من حوادث المعاكسات في ذلك الزمان مما يتم تداوله في أيامنا هذه على لسان البعض في المجالس الخاصة ضمن النكت الشعبية، في حين أدرجها الأصفهاني في كتاب هام، وحين نسحب هذا التكتم في الكلام عن الحادثة إلى الكلام ضمن الحادثة، أي إلى تعبير المرأة عن شعورها إزاء مَن يعترضها سواء بالقبول أو الرفض سنجد المرأة في أيامنا أيضاً متكتمة وحائرة، ففي مشاهد المعاكسات اليومية عند مواقف الباصات والأرصفة والأسواق العامة لا تحرك المرأة المُرهقة والمثقلة بالماكياج والزينة والتمظهر بكل ما يخص الإثارة وهي تعيش الحياة الازدواجية المليئة بالصراع بين العبء اليومي وعبء البريستيج لتلحق بركب المُعترف بهن في عالم الرجال، لا تحرك المرأة أمام هذا الواقع لسانها أمام من يعاكسها، بل تكتفي بالذهاب كاتمة احتقانها وخوفها واشمئزازها الداخلي.
(ونظر رجل إلى امرأة فقالت له: يا سيدي تريد النيك؟ قال: نعم، قالت: اقعد حتى يجيء مولاي لعله ينيكك)، (وراود النظَّام جارية وتبعها فقالت: إن لي صاحباً ينيكني، ولي زوج لا يتركني عشرة، ولي صديق أنا أعشقه، ولي حبة لا تفتر عن النساء. فإن وجدت في حري فضلة فافعل). (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء).
الميول الجنسية عند النساء:
لا نجد في مصنفات العصر العباسي معالم واضحة للهويات الجنسية أو ما يُعرف في عصرنا بمصطلح (الجندر) ((gender فيما يخص الدراسات حول حياة النساء الجنسية، بل نجد إشارات نستشف منها النزعات الجنسية في الحياة العامة، علماً أن هذه المصنفات أثارت صراعاً بين الكتاب التنويريين في العصر العباسي وفقهائه، كما استخدم البعض الهوية الجنسية التي تُعد لدى المتزمتين الدينيين انحرافاً كسلاح لمهاجمة بعض الفرق الإسلامية مثل القرامطة الذين اتهمهم مؤرخ كبير كابن الجوزي بالانحلال في موسوعته عن تاريخ الملوك والأمم، وذلك في سياق التعصب المذهبي والسياسي.
من هذه الإشارات حول الميول الجنسية عند المرأة والتي كان يتم تداولها في العلن ما نجده في كتاب (الرسائل)، الذي ذكر فيه الجاحظ كثيراً من الحوادث المعبرة عن واقع الحياة الجنسية، كتبادل الزوجات والمثلية الجنسية بين النساء أو حتى ممارسة الجنس بين رجل يقوم بدور المرأة وامرأة تقوم بدور الرجل، (كانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلاَّمة الخضراء، فأُخذت مع مخنَّثٍ وهي تنيكه بكيرنْج، فرُفعت إلى الوالي فأوجعها ضرباً وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجلٌ يعرفها فقال: ما هذا يا سلاَّمة؟ فقالت: بالله اسكُتْ، ما في الدُّنيا أظلمُ من الرجال، أنتم تنيكونا الدَّهر كلَّه فلمَّا نكناكم مرَّة واحدة قتلتمونا) (الرسائل).
كما لم يغفِلِ الجاحظ في هذا الكتاب مقاييس الرغبة الجنسية والإثارة التي ترغب بها المرأة كضخامة القضيب ومحاولتها لتضخيم عجيزتها، نقرأ في (رسالة مفاخرة الجواري والغلمان): (نظر رجلٌ إلى امرأةٍ جميلة سريّة، ورجلٌ في دارها دميم مشوّهٌ يأمر وينهي، فظنَّ أنّه عبدها، فسألها عنه فقالت: زوجي. قال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوَّجين مثل هذا؟ فقالت: لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثم كشفتْ عن فخذها فإذا فيه بُقع خُضْر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته)، وفي موضع آخر من هذه الرسالة : (تزوّج رجلٌ امرأةً وكان معه أيرٌ عظيم جداً، فلمَّا ناكها أدخله كلَّه في حرها، ولم تكن تقوى عليه امرأة، فلم تتكلَّم، فقال لها: أيُّ شيءٍ حالك خرج من خلفك بعد؟ قالت: بأبي أنت وهل أدخلته؟).
وقد تصل هذه الأخبار حوادث مرت بالجاحظ نفسه ( مررت بامرأة قائمة كبيرة العجيزة، فقلت لبعض من معي: ما أعظم عجيزتها إذا لم تكن عليها معظمة. فكشفت عن عجيزتها وقالت: انظر إلى الحق ولا تكن من الممترين).
السلوك الجنسي لم يكن سرياً في مجتمع العصر العباسي لذلك لم يكن سرياً في مصنفاته!، ومع أن تدوين هذه المصنفات كان بدائياً لا يرتقي إلى الفن بحكم المرحلة، إلا أنه وصل إلى ما لم يصل إليه كتَّاب الألفية الثالثة، ففي عصر ما بعد الحداثة الراهن الذي تلعب فيه الصورة قبل الكلمة دور المؤثر يقتصر الأمر في أقصى تجاوزاته على نكت جنسية تطلقها بعض النساء مع الحرص على التصريح بأسماء الأعضاء التناسلية، لكن كل هذا يضم تحت خانة (الادعاء)، لأن النكتة لا تصنع فناً، وعلاوة على ذلك فإن المخرج يقوم بمسح الصوت عندما تتلفظ المرأة باسم عضو تناسلي، أما ميول المرأة العربية الجنسية والمقاييس التي تثيرها عند الرجل والتي تنم عما هو أبعد: تفكير المرأة وتكوينها السيكولوجي فما زالت متداولة في السر أو يُكتَّم عليها بشكل تام حتى بين المرأة وزوجها للحفاظ على المظهر الذي يرسمه المجتمع المحكوم بالتزمت، شأنها في ذلك شأن كتمان المرأة لصوتها أمام من يعاكسها أو يدعوها صراحة.


.

arton395.jpg
 
أعلى