زكريا محمد علي - الأيروسية في الخطاب الصوفي

“أيهما الأصل: حب الله أم حب النساء؟ هل حب الله هو رمز لحب النساء أو بديل عن عشقهن الضائع؟ أم هو في الحقيقة تعويض عما فات من لذة محبتهن والاستمتاع بهن؟” أورد الدكتور علي حرب هذه التساؤلات في كتابه (الحب والفناء) في سياق حديثه عن الشوق الذي يتملك الإنسان، ذلك الشوق الذي يتركز على المرأة لكنه يستهدف الله سبحانه وتعالى.

بادئ ذي بدء ينبغي التنبه إلى أنه ليس المتصوفة وحدهم من حذر من شهوات الجسد وناصبها العداء، فالفلاسفة أيضًا أظهروا عداوة صريحة تجاه الشهوة والرغبة تأثرًا بفكرة ترى استقلالية النفس عن الجسد، فالشيخ الرئيس ابن سينا كان يروج دائما لنموذج “الزاهد العارف” ويحلو له أن يصور غرائز الإنسان الطبيعية بالخسة والحقارة، لكنه ما انفك طيلة حياته عن ممارسة كل اللذائذ، والإقبال على مباهج الحياة ومتعها خصوصًا “الجماع”، تلك المتعة التي لم يتوقف عنها حتى بعد إصابته بالمرض الذي أودى به في آخر حياته.

حاجة الرجل إلى المرأة هي حاجة حقيقية وملحة، والخطاب – أي خطاب – لا يمكن الوعي بمضامينه بالنظر إلى ما ينطق به فحسب وإنما بالتركيز أيضًا على “ما يسكت عنه” وما يومئ إليه، والمفردات التي يستعملها الخطاب الصوفي حينما يتحدث عن الحب الإلهي جعلت نصوصه طافحة “بالميول العهرية والشحنات الأيروسية والمزج بين الورع والإباحية، أو بين الحكمة الشهوية والصلاة التقوية”، وسأستعرض هنا ثلاثة نماذج بارزة في هذا السياق هي على النحو التالي:

الحارث المحاسبي وكتاب “التوهم”

الحارث بن أسد بن عبدالله المحاسبي (170 – 243 هـ) أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، في كتابه “التوهم” أورد نصًا يتخيل فيه أنه في الجنة فيصف لذائذها وطيباتها، وعندما أتى على وصف نساء الجنة كتب الحارث ما نصه: “فتوهم تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة ]أي: الممتلئة[ الناعمة يتوثبن بالتهادي والتبختر، فتوهم كل واحدة منهن حين وثبت في حسن حللها وحليتها، بصباحة وجهها، وتثني بدنها بنعمته، فتوهم انحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عن سريرها إلى صحن قبتها وقرار خيمتها”.

وعندما تخيل الحارث لذة الاشتباك مع أجساد نساء الجنة كتب ما نصه: “فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها، وكاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه. فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها ولذة معانقتها، فبينا أنت كذلك، إذ تمايعن عليك فانكببن عليك يلثمنك ويعانقنك، فملأن وجهك بأفواههن ملتثمات، وملأن صدرك بنهودهن، فأحدقن بك بحسن وجوههن، وغطين بدنك وجللنه بذوائبهن، واستجمعت في مشامك أراييح طيب عوارضهن”. دلالات هذا النص تكشف عن الرغبات المكبوتة لدى المتصوفة التي أفصحت عن حضورها في المواعظ والرقائق.

التغييب القسري لفكرة معينة غالبًا ما يولد شكلاً من أشكال الحضور لها، ونفي الأفكار وإقصاؤها لن يوقف تسللها بطريقة تضمن لها صورة من صور الوجود، ولذا فحظر جسد المرأة كموضوع للذة لدى المتصوفة – نظرًا لكثرة التشريعات التي تمنع حضورها في الفضاء العام – جعلهم يستعيدونها في خطابهم الديني، “فالمتصوف هو حقًا زاهد في السلوك، معرض عن طيبات الدنيا، منصرف إلى حب الله، ولكنه فاحش في الكلام، إباحي في النص، أيروسي في الخطاب”.

رابعة العدوية والعشق الإلهي

يشير المفكر والفيلسوف المصري الدكتور عبدالرحمن بدوي (1917 – 2002) في كتابه (شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدوية) أن التحولات الروحية الكبرى هي نتيجة طبيعية للمبالغة والإفراط، فعنف إيمان القديس بولس كان نتيجة لعنف إنكاره للمسيحية، والتزمت الديني السلوكي لدى القديس أوغسطين كان لازمًا طبيعيًا لإفراطه في الملذات قبل تحوله لمسار العبادة والتنسك.

تطرف رابعة في تدينها وتقواها – كما يقول الدكتور – ليس إلا نتيجة حتمية لإيغالها السابق في حياة المجون والشهوة، فـ”من أعماق الشهوة العنيفة تنبثق الشرارة المقدسة للطهارة، ومن عمائق الإنكار والتجديف تنطلق الموجة التي تنشر الإيمان في الدنيا بأسرها”.

تحولت رابعة من عشق الرجال إلى عشق الله، ومن محبة الخلق إلى محبة الحق، لكن الصلة الخفية بين نمطي حياتها لم يتلاشى تمامًا، “فالجوهر الإنساني كينونة تنشطر على ذاتها، وعقل يستبطن نفيه، وسوية بنيت على التعارض”، والتأمل في شعر رابعة يكشف عن العلائق المستترة بين فجورها ومجونها وبين صلاحها وتقواها، لنأخذ مثلاً هذه الأبيات وتعليق د. عبدالرحمن بدوي بخصوصها في كتابه المذكور أعلاه:

يا سروري ومنيتي وعمادي = وأنيسي وعدتي ومرادي
أنت روح الفؤاد أنت رجائي = أنت لي مؤنس وشوقك زادي
أنت لولاك يا حياتي وأنسي = ما تشتتُ في فسيح البلاد

يؤكد د. بدوي أن الطابع الحسي للأبيات تجسد في مخاطبتها لله وكأنه حبيب يكثر من السفر والترحل فاضطرت – تحت ضغط ملاحقته في الأماكن التي يتنقل فيها – إلى التشتت في أنحاء البلاد، حدثت هنا ظاهرة القلب للموضوع؛ حيث انقلب خطابها من المحسوس الإنساني إلى الكائن الأعلى الإلهي.

الإطار الغرامي للكثير من أدعية رابعة العدوية (هدوء الليل وضياء النجوم ونوم العيون) جعل حديثها عن حب الله لا يمكن أن يصدر إلا عن تجربة حية عاشتها، تجربة “لياليها الحمر بين مخارف النخيل على ضفاف الأبُلَة”.

عندما تخاطب رابعة ربها عزوجل قائلة: “غفل الغافلون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه” فالنص هنا يشي بحنين باطني إلى الخلوات المحرمة فيما مضى من حياتها في غفلة الرقباء من الناس، ويمكننا استشفاف قشعريرة قلب على شوق متحسر طالما استمتع بهذه اللحظات المثيرة!

واستشعار رابعة لحبها وعشقها المتعاظم في أعماقها لله جعلها تعلن خطبتها إليه، وفكرة الاقتران الروحي بالله موجودة أيضًا لدى الراهبات المسيحيات مثل القديسة تريزا الآبلية التي عاشت في القرن السادس عشر الميلادي.

يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي: “في الروح تسكن طبيعتان متعارضتان: إحداهما تتلمس غذاءها من قوت الحواس والأخرى تستشرف إلى قوت القلوب، ولن تستطيع إحداهما القضاء على الأخرى بل سيظل التعارض قويًا عنيفًا، وفي عنفه يقوم ذلك التوتر الحي الذي يجعل من حيواتهم مصدرًا للتشويق لا يقل قيمة عن مذاهبهم”.

ابن عربي وجسد المرأة

يعتبر الشيخ الأكبر وسلطان العارفين محي الدين بن عربي (1164 – 1240م) من أبرز من كتبوا عن المرأة في التراث العربي، فالمرأة هي المحور الثالث من المحاور الثلاثة التي تدور حولها أفكار ابن عربي الوجودية وهي: الحقيقة المحمدية والإنسان الكامل والأنوثة.

ويرى الباحث هشام علوي في كتابه (الجسد بين الشرق والغرب: نماذج وتصورات) أن المرأة في فكر ابن عربي هو “معبر للتسامي”، وتجربة الفناء في الذات الإلهية تستلزم التواصل مع جسد الأنثى عبر النكاح، فالمرأة – حسب هذا التصور – هي أداة يستثمرها العارف للوصول إلى موضوع القيمة الحقيقي: أي الله، ووصال المرأة “هو ذروة عشقه لها الذي يعادل رمزيًا حنينه الأبدي للتوحد بالجسد السرمدي والفناء في حضرة الألوهية”!

يلح ابن عربي على أن حب المرأة محطة مهمة في الطريق إلى الحب الإلهي، والكمال الإنساني لا يتحقق إلا بحب النساء مستشهدًا بحديث منسوب للرسول الكريم (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب)، يقول ابن عربي في (فصوص الحكم): “فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله، وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته”، وعليه فإن مجامعة الرجل للمرأة ليست سطوة ذكورية على الأنثى، بل الجماع يسمو بالجسد الأنثوي إلى أعلى مرتبة في الوجود: مرتبة الكمال الوجودي، يقول ابن عربي في (الفتوحات المكية): “من عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن فإنه ميراث نبوي وحب إلهي”.

يرى ابن عربي أن حب الرجل للمرأة لمجرد ذاتها وجمالها هو حب لصورة بلا روح، فمن المفترض – لدى ابن عربي – أن يكون حب المرأة شاهدًا على حب الحق أي: الله عزوجل، “فالعارف يفنى في الحق ويتوحد به، ومن لم يصل إلى هذا الطور فلن يحصد سوى الشكوى والاغتراب”، في إشارة ضمنية لما حدث لمجنون ليلى: قيس بن الملوح.

يعتبر المتصوفة أن جمال الجسد ليس نابعًا من تناسق تكوينه المادي لأنه مجرد لحم وعظم وجلد، وإنما نابع من حلاوة الروح التي تحتل ذلك الجسد، فحقيقة الجمال تلتمس ” في المعاني اللطيفة التي تـُجتلى من وراء الصورة الجميلة المحسوسة”، وعشاق المرأة يعشقون في الحقيقة ذات الحق الذي جمَل وأبدع جسدها الجميل لا أجسام عشيقاتهم، ولذا كانت محبة الجسد مجازًا لا حقيقة كما صرح بذلك ابن الفارض:

فكل مليح حسنه من جمالها = مــعار له، بل حسن كل مليحة

يقول د. علي حرب: “بالنسبة للرجل ما أن تغيب المرأة حتى يبحث لها عن بديل، فهي تحضر من حيث تغيب، إنها تقيم حقًا في الرجل وتستحوذ عليه، إذ هي هاجسه وهمه، فإما أن يستمتع بها واقعًا ويجتمع بها فعلاً، وإما أن يرمز إليها بواسطة الخطاب ويستبدلها بحب الغائب المفارق”.

.

صورة مفقودة
 
أعلى