معتز حجاج - بين هاني وناجي.. الجنس في واقعنا البائس

(1)
“واللي تقولك إيه.. غاب القمر يابن عمي يالا روحني.. طاب يا مقصوفة الرقبة إنتي قاعدة مع إبن عمك ليه؟ بتعملوا إيه لغاية القمر ما يغيب؟!”
الشيخ كشك في إحدى خطبه عن أغاني الحب والغرام.
يبدو الأمر صعبا عندما تحاول معرفة، هل القطار أسرع أم النخلة أطول؟
تعامل الشيخ كشك، نجم شرائط الكاسيت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بهذا المنطق مع الأعمال الفنية بكل سهولة، وخفة دم يفتقرها خطباء اليوم، لا ننكرها عليه مهما كرهنا قيمه وأفكاره.. فحاكم الكلمات والشخصيات والأحداث المتخيلة، حاكم خيال الفنان كما يحاكم أحد أبنائه على خطأ اقترفه.
أعلن فرمانه على الخيال بأنه ليس من الأدب والدين معا، أن تسهر شادية مع ابن عمها حتى يغيب القمر.. مع أن شادية بريئة أيما الله، فهي لم تفارق المسرح عام 1970 حينما تغنت لأول مرة بكلمات مجدي نجيب وألحان الموجي حتى غاب القمر، ولم تر يومها إبن عمها على الإطلاق، والجمهور شهود على ذلك، بل قد لا يكون لها ابن عم من الأساس.
إن أردت أن تخاطب منطق المجاذيب فارتفع بسقف الجنون إلى أقصاه!
(2)
“ويقعد الرجل على فخذيها، متحفزا على أطرافه، ولا يهتز على بطنها؛ بل يضمها ضما شديداً، ويقبلها، ويشخر، وينخر، ويمص لسانها، ويعض شفتيها، ويولج فيها، ويسله حتى تبين رأسه، ويدفعه فيها، ولا تزال في رهز، وحك، وزعزعة، ورفع، وخفض، إلى أن يفرغ”
ليس كل خطوة للخلف تدفعك دائما للأمام، ربما تعثرت قدماك في الماضي، وربما تصل إلى خط النهاية قبل الآخرين، يتوقف ذلك على فهمك للماضي وإستيعابه.
ماذا لو وقع نظرك وأنت تعبث بين عناوين الكتب في مكتبة عامة على كتاب يحمل أحد ألفاظ عنوانه لفظ “النيك”؟
لا ليس كما ذهب ذهنك لشركة الملابس الرياضية “نَيك” بفتح النون، بل بالشدة عليها، نعم ذلك الفعل الحميم إحدى نشاطات الكائنات الحية.. قد تثور دفاعاً عن الأخلاق كما فعل المواطن “هاني صالح توفيق” حينما قرأ فصلا منشورا من رواية “استخدام الحياة” للروائي والصحفي أحمد ناجي بجريدة أخبار الأدب، وقد تقتنصه بسرعة قبل غيرك، لتستفيد بما يحمله من مضمون.. أما إذا سولت لك نفسك بأن تستخدم ألفاظه الجنسية الصريحة الدارجة على لسان عوام الناس في إشارته للأعضاء التناسلية، وشرحه للأوضاع الحميمية بشكل تفصيلي، في إثارة خيالاتك الجنسية، فعليك أن تعرف أولاُ أنه كتاب علمي وليس رواية عمادها الخيال، كتبها عالم ديني وليس روائي.
إن كنت تقرأ مقالي هذا يا هاني ويا كل هاني، قبل أن تقدم بلاغا ضد الإمام “جلال الدين السيوطي” صاحب كتاب “نواضر الأيك في معرفة النيك”، والذي إقتبسنا منه بعض السطور أعلى الفقرة، وجب علي إخبارك بأنه صاحب تفسير “الجلالين”، أهم كتب تفسير القرآن الكريم، ومغفور له منذ خمسة قرون كاملة.. لكن هذا لا يعني ألا تقدم البلاغ، فالكتاب لايزال ينشر ويتلقاه العامة دون تخصيص للكبار، كل ما كنت أرمي إليه هو لفت نظرك كي لا تقدم بلاغا بوقف نشر هذا الكتاب فقط، بل ضع أيضا أعمال أبونواس, وأبوالعتاهية, والحسين بن الضحاك، وأضف أيضا معظم ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، وألف ليلة وليلة، والقصائد المفتتحة بالغزل ووصف الخمر، باعتبار أن الخمر حرام شرعا، ولا تقف فقط عند روايات ومجموعات قصصية ودواوين حديثة.
لا أرى أن هذا الأمر عملي، لأنه لو قررت كتابة عناوين كل رواية أو كتاب أو قصيدة تحمل وصفا أو لفظا جنسيا دارجا، فلن تنتهي قبل قيام الساعة وانتهاء تلك المشاجرة الطويلة عن ماهية الفضيلة، والأخلاق المرتبطة بالفطرة والتي هي بنت زمانها وثقافة مكانها.
باختصار.. سارع ببلاغك، فالأخلاق تنهار تحت وقع الكلمات، افتح قوس، واكتب معظم الأدب العربي، وبعض الكتب العربية قديمها وحديثها، ولا تغلق القوس أبدا، فما نراه الآن شيئا عاديا لم يكن كذلك فيما قبل، والذي نعتبره اليوم عيبا قد يبيحه القادمون أو يضيفوا عليه محاذيرهم.
(3)
في ناس بتلعب كورة
في الشارع
وناس بتمشي تغني
تاخد صورة في الشارع
في ناس بتشتم بعض
تضرب بعض
تقتل بعض في الشارع
في ناس تنام ع الأرض في الشارع
وناس تبيع العرض في الشارع
وفي الشارع
أخطاء كتير صبحت صحيحة
لكن صحيح هتكون فضيحة
لو يوم نسينا وبوسنا بعض في الشارع

أمينة جاهين
(4)

تذكرت؛ أثناء عملي بإحدى شركات التسويق والإستثمار العقاري، كان ما يلفت نظري دائما واجهات الأبراج، مداخلها، توزيع الإضاءة، كان ذلك أثناء تواجدي بالشارع حال مروري بها.. لكن الوضع يصبح أسوأ خلال الزيارات العائلية، كل لحظة صمت تكتنف المجلس، أو وقتما يتغافلون عني، أسترق النظر للديكور، لدهانات الحوائط، للخامات التي غطت بها الأرضيات.. قبل أن يصيبني الجنون تركت العمل، التحقت بوظيفة أخرى، تكرر الأمر، احتلت ذهني، وإنصب عليها كل تركيزي.
في مراهقتي، كنت أدخل السينما بصحبة أصدقائي، بحثاً عن فخذ أو صدر ممثلة في ركن دقيق من “الكادر” ربما لم يلحظه صناع العمل أنفسهم، أدفع لموظف تذاكر السينما مبلغا إضافيا على سبيل الإكرامية، وأمر مع الكبار، الذين كان وضعهم أسوأ مني في ظلام القاعة.. أو أشاهد فضلا عن كل هذا العناء “كليب” غنائي لمغنية كل شيء بها حسن عدا الصوت.. انتقلنا مع الوقت إلى طفرة تكنولوجية، ظهر موبايل 6600.
تأخر وصول الكمبيوتر إلى منزلنا “عشان الواد في سن مراهقة”، مما جعلني أتنازل لصديقي، سندعوه هنا بأحد ألقابه القديمة “عبد المجيد بتاع كل جديد”، عن دوري مرتين في لعبة “البلاي ستيشن”، التي كنا نلعبها بعد انتهاء اليوم الدراسي، كي يسمح لي بمشاهدة الأفلام الإباحية.
كان هاتف “عبد المجيد” بحق سينما متنقلة، عشرات الطلاب متراصين حول هاتف صغير، مشهد مهيب، يذكرنا بإحتضان الشعب في ربوع مصر للراديو أثناء إذاعة إحدى خطب الزعيم عبد الناصر.
لم يدركوا أن لغة السمع والطاعة التي قامت عليها مؤسسات التنشئة الإجتماعية، الأسرة، المدرسة، والإعلام، لا تجدي نفعا في وقتنا هذا.. عتموا، وحجبوا، فتعلمناها، كل شيء مباح خلف عيون المراقبين، إن طالته يداك، في الإمتحانات، وأثناء اللهو أحيانا، ووقت الجد أغلب الأحيان.. رُغّبنا في الممنوع، وخسرنا بهذا الإسلوب التربوي أهم حاسة للإنسان الناضج، تذوق الجمال.
لا أدري لأي جيلٍ ينتمي أستاذ هاني، ووكيل النيابة الذي نعت الصحيفة التي أسسها الأديب الراحل “جمال الغيطاني” بالصفراء؟ أو كيف قضيا طفولتهما ومراهقتهما في وادينا الطيب؟ ولا أعلم إن كان قد وصل إلى مسامعهما ألفاظ أقسى مما طرحها ناجي في روايته، على التليفزيون، وفي الطرقات، ومن ألسنة الساسة أم لا؟
كل ما أدركه أنهما قرر أن يُسائلوا الرواية لا الواقع، الخيال لا الحقيقة.. لذا يحسن بي تقديم قراءتي لـ “استخدام الحياة”، التي أزعم أنها أنضج قليلا على حسب ما فهمت منها، والأمر في النهاية متروك لذائقة القارئ الأدبية.
(5)
هذا الإضطراب في نبضات القلب التي إنتابت أستاذ “هاني”، حولت بصره عن ذلك الوصف الذي سرده “ناجي” في سطور قلائل عن حياة الفتور والرتابة في العاصمة بفصله المنشور، ذلك أثناء وصفه لحفلة ماجنة -في نظر النيابة وهاني- يجتمع فيها الجنسين لتعاطي المخدرات.
“إلى متى سوف يظل أي فعل من تلك الأفعال الفيتشية مثيرا ومجدداً، مُنشطا للحيَاةِ؟ الجالسون الآن في هذه الغرفة، جربوا الكثير من المخدرات في شبابهم في المرحلةِ الْجَامعية وبعدها، لكن ها هم جزر مُنفصلة في الوقت ذاته لا يجدون معنى لأيامهم غير الاجتماع سوياً، نعيش هنا على امتصاص البهجة من بعضنا البعض.“

لن نتحدث عن تلك العبارة الكليشيه المتداولة في مثل هذه القضايا “الأدب يحاسب على مجمل العمل وليس على جملة أو فقرة أو حتى فصلا.. يحاسب بيد متخصصيه، بيد نقاد الأدب”.. لكن الشيء الذي دفعني للإندهاش هذه المرة، أن الفصل سبب الأزمة كان يستغل من خلال سرد الممارسة الجنسية بين البطل وصديقته، السيدة “ملعقة”، وتعاطي المخدرات، في رسم صورة لجو العاصمة الخانق الممل، الذي لا يقوى فيه فاقدي الحيوية عن فعل أي شيء غير إمتصاص البهجة من بعضهم البعض، من المخدرات، من الجنس.. سطور قليلة تفصل التلميح عن التصريح.
“لكن مع الوقت بدا واضحاً كم هى مُملة المخدرات. أو للدقة لا تكفي. وإذا ترك الواحد منّا نفسه يقع حتي النخاع في حب المخدرات، فحياته ستنتهي في أشهر معدودة. هذا ما يقوله العلم والتجربة. نحن الباقين في هذه الغرفة أجبن من أن ننهى حياتنا بهذه الطريقة أو بأى طريقة أخري، ربما لأننا معلقون بالأمل، مربوطون بالمحبة، بالصداقة.”

تجاهل الأستاذ هاني كل ذلك، وتوقف عند ألفاظ تصف الأعضاء التناسلية بالعامية.. هذا ما يهم، لا شيء آخر يلتفت له سوى المخدرات والجنس، ولا حتى تلك الجُمل الختامية للفصل، التي تتلاحق فيها صورا سريعة للنساء، والبيرة، وغروب شمس القاهرة الذي يمنح البطل لحظات قليلة يشعر فيها بما يشبه السعادة، وليس السعادة حقاً.
“سميرة تعبث في الموبيل، مونى تمسك زُجَاجتها، نضرب الزجاجتين في بعضهما البعض. بسمتها. خصلة من شعرها يطيرها الهواء. القاهرة في الخلفيةِ وقت الغروب. للحظات قليلة أشعر بما يشبه السعادة.“
أظن أن هاني لم يصل إلى هذه الفقرة، فالأعراض المرضية التي أصابته كان لا بد لها من مهدئ سريع، يعقبه بلاغ إلى النيابة أسرع، لذا فلن نعتب عليه تجاهله لـ “بما يشبه السعادة”، وسرعة الظن.
(6)
إذن كان مطلوب من بطل ناجي المتخيل في الرواية، الوقوف على منضدة البار في ختام الفصل، ثم البدء في إلقاء خطبة دينية وأخلاقية، يعقبه تصفيق حار من العائدون إلى طريق الهداية على يديه، مثلما كان مطلوب من شادية فعله قبل ما يقرب من نصف قرن، فيتحول الفن والأدب لخطب وعظية واضحة ومباشرة لا مساحة فيها للجمال، تنافس في سخافتها ما أنتجه التيار الإسلامي وهيئة الشؤون المعنوية ومحمد صبحي في أواخر أعماله مجتمعين!
يمشي الإنسان عادة مع الركاب، وسرعان ما تكتسب أفعاله حكم التقليد والعرف، ثم يغلفها بالقداسة الدينية، حتى يجد نفسه مدفوعا بالدفاع عنها، ويحمل على عاتقه إلزام المجتمع كله بها، ولا يكتفي بمناصريه.. ويصحب دفاعه في الغالب ضجيج الذي يريد أن يثبت للمجموع، أنه أكثرهم إستبسالا على ما ألفوه.
القلة المتبقية ستصبح في مرمى النيران، التفكير النقدي الإبداعي سيحاصر، أما الكتابة الأدبية التي تغوص في أغوار النفس البشرية، تؤرخ حاضره بكل مساوئه وحسناته، وتعرض ماضيه، مشاعر من مروا يوما ما هنا، وتطرق مستقبله مستشرفة، تكون الأكثر عرضة للإغتيال.. وهل تغتال الأفكار والكلمات؟!
التجربة البشرية تقول لم يحدث ذلك في الماضي، ولا أعتقد حدوثه مستقبلا.. فعندما كان بإمكان الشيخ “كشك” وتيار الأسلمة الصاعدة في سبعينيات القرن الماضي، أن تهشم شرائط شادية في المحال التي توزعها، لم يكن أمام شادية موقع الوسائط الصوتية “ساوند كلاود”، كي تجد لها متنفسا من خلاله، ومع ذلك فشلوا.. أما الآن فمن الممكن بكل سهولة، إذا ما حُجبت رواية ناجي -لا قدر الله- أن يطرح منها نسخة إلكترونية، سيكتب الناشر معلقا أعلاها “الرواية الممنوعة في مصر”، يكفي ذلك بأن تشتعل الرواية كالنار في الهشيم، على حد تعبير وكيل النيابة، أو تشعل مواقع التواصل على حد تعبيرنا.
(7)
لم يغفر الشيخ كشك لشادية إقترافها ذلك الفعل المشين، احتفائها بإجتماع الجنسين حتى يغيب القمر، رغم ما بذلته من جهود بصوتها الرقيق لإعلاء قيمة العادات والتقاليد في أغنية أخرى من كلمات حسين السيد وألحان الموجي أيضا.
حينما لم ترضخ لإشارات جارها المقيم حديثاً في “حتتها”، ولم تنزل للقائه كما طلب، بل أنذرته بكوبليه شديد اللهجة ورادع لكل شباب الحي “يا تشوفلك حل في حكايتنا يا تعزل وتسيب حتتنا”.. ومن المعلوم أن الحل الوحيد في مثل هذه الحالات في بلادنا، هو دخول البيت من بابه ومقابلة الوالد، وهذا ما أكدت عليه شادية في أغنية “مين قالك تسكن في حارتنا”.

ولا ينتقص من موقفها الخلوق هذا إعترافها بإرتباكها بادئ الأمر بفعل الحب، وما وصلت له من حالة يرثى لها، حتى إنها تقول في كوبليه آخر معبرة عن توترها “ييجي أبويا يعوز فنجان قهوة.. أعمله شاي وأسقيه لأمي.. وخيالك ييجي على سهوة.. ما أفرقش ما بين خالتي وعمي”، بل يدفعنا ذلك لمزيد من الشكر لحسن تصرفها، وإلتزامها بالعرف والتقاليد رغم تمكن حب جارها منها.
حسناً؛ اعتزلت شادية وأعمالها إستمرت، لأن الذين حاولوا إرغامها وإرغامنا على المضي قدما في مسارات لم نخترها، أن نحيا بقيم لم نختبرها، من قالوا لها “يا مقصوفة الرقبة” من أعلى منبر مسجد طهور، فشلوا.. وثبت أن القمر حينما غاب في أغنية شادية، شرقت شموس أغانيها في حاضرنا، ولم ولن تغيب.
 
أعلى