فرح جبر - الجنس في السيرة الذاتية العربية.. أدب الاعتراف كوسيلة للمعرفة

هل يهرب الادباء من أدب البوح والاعتراف ويخافون نتائجه؟ يطرح المقال هذه المسألة لأن كتابة السيرة الذاتية لا تزال بعيدة عن اهتمامات العديد من الادباء العرب، فلم يقبل عليها الا القلائل من الرواد والادباء المعاصرين. وفي حين يرى بعضهم ان أدب الاعتراف يحتاج الى شجاعة وان يكون كاتبه جديراً بتاريخ نفسه، يرى آخرون الاكتفاء بلمحات من سيرهم في اعمالهم الادبية من دون الانزلاق الى اعترافات كاملة، ذلك ان "الأنا" العربية تظل تفضل الاختباء خلف ضمائر الجماعة أو خلف ضمير مجهول.

أدب السيرة الذاتية في العالم العربي، باب فتحه محمد حسين هيكل في روايته "زينب" واقتدى به طه حسين في "الايام" وابرهيم المازني في "ابراهيم الكاتب" وتوفيق الحكيم في "زهرة العمر" والعقاد في "سارة" ومحمد شكري في "الخبز الحافي" وفدوى طوقان في "رحلة جبلية" وميخائيل نعيمة في "سبعون" وعبد الفتاح بومدين في "حكاية الفتى مصباح" واحسان عباس في "غربة الراعي" وجبرا ابرهيم جبرا في "شارع الاميرات" وسيرة عبد الرحمن بدوي... هل السيرة الذاتية العربية اقنعة أم اعترافات؟

الغرب نفسه لم يعرف ولادة السيرة الذاتية، بالمعنى الذي نفهمه اليوم، قبل نهاية القرن الثامن عشر وصدور "اعترافات" جان جاك روسو، وإن كان البعض يحب اعتبار "اعترافات" القديس اوغسطينوس اقدم سيرة ذاتية باقية لنا اليوم. وحين كتب روسو اعترافاته اعلن رفضه لكل قناع، قال: "هذا أنا وهذه حياتي". اما جورج ماي فأطلق جملته الشهيرة: "اننا ننحني على كتف نرسيس، لنرى وجهنا، لا وجهه منعكساً على صفحة الماء". في رأي فيليب لوغون "ان كتابة السير الذاتية هي اولاً ممارسة فردية واجتماعية لا تقتصر على الكتّاب وحدهم"، في حين ان غبريال غارثيا ماركيز يميز بين السيرة الذاتية التي "تحكي ما كنته" والرواية التي "تقول انت ما تتخيل". بعضهم يهرب من المواجهة ويلجأ الى أقنعة روائية شأن نجيب محفوظ في ثلاثيته التي اجمع النقاد على ان كمال عبد الجواد هو محفوظ نفسه. يقول: "لم افكر في كتابة سيرتي الذاتية ووضعها في كتاب مستقل، لأنني كتبت سيرتي في رواياتي وقصصي". محفوظ محق في هذا، فمتتبع اعماله منذ الثلاثينات يجدها تعبّر بالفعل عن افكاره واحداث حياته، التي ينطق بها في روايته: "أنا كمال عبد الجواد. ابن السيد عبد الجواد بطل الثلاثية". اذاً شخصيات نجيب محفوظ هي نتاج حياته نفسها. واذ يهرب من المواجهة، يلجأ الى ما يمكن تسميته "جنساً أدبياً مراوغاً" بين التأمل والسيرة والرواية.



عبد القدوس ومحفوظ في حيّز المراوغة

لم تلامس غالبية السير العربية فضاء المكاشفات فبقيت في حيز المراوغة والتلميح لا الايضاح، ولم تتجاوز السائد المألوف الا بلمحات قليلة، ولم تصل مرحلة الاعتراف وبسط صورة الذات بما لها او عليها، كما فعل كتّاب اوروبا بسبب ظروف موضوعية.

يجب القول ان عشاق القراءة يحبون "أدب الاعتراف" ويجدون فيه اللحظة الجميلة فيتسللون الى الحميمي في حياة الادباء.

هل كتب الادباء العرب اعترافاتهم عن النساء والجنس وصولاً الى الأب؟ الجواب شائك ومعقد. فحين كتب طه حسين سيرته في "الايام" اتجه الى الترميز وبيّن صورة الأب التقليدية. وعندما نشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني اليها، لم "تتجرأ" في نشر رسائلها اليه. وحين اصدرت ديزي الامير الرسائل التي تبادلتها مع خليل حاوي قيل انها "منتجتها" وحذفت الكثير من مقاطعها التي تدل على خصوصية ما. والمعروف ان خليل حاوي انتحر في عام .1982 بعضهم قال انه اطلق النار على نفسه احتجاجاً على الغزو الاسرائيلي، ولكن هناك حقائق عن فشله في علاقته الغرامية. وحين كتب احسان عبد القدوس سيرته لم يعترف الا بعلاقته النسائية الاولى. يقول: "الحب الاول في حياتي كان لبنت الجيران، كانت صديقة لابنة عمتي، وكان حباً اعتبره من ارقى انواع الحب وانظفها وأعمقها والذي يجمع بين صبي وصبية، كان عمري وقتها 14 عاماً، وهي 13 عاماً، كان حباً قوياً بالنسبة لي شخصياً، وكان لا يتجاوز انها تزور ابنة عمتي واجلس معها كما كانت التقاليد، كان شيئاً راقياً في معناه، وكنت انتظرها على محطة الترام واركب معها لاوصلها الى مدرستها. ثم اعود على قدمي بعد ذلك الى مدرستي، وكل الذي كان يجمع بيني وبينها لا يعدو اكثر من ان امسك يديها وكان ذلك منتهى الرومانسية".

لم يعترف عبد القدوس بأسراره رغم ان المرأة كانت محور اهتمامه وتفكيره. وقد علل ذلك بأن سلوك المرأة اكثر تعقيداً بسبب اختلاف ظروفها الاجتماعية عن سلوك الرجل.

يردد بعضهم ان البيئة التي تربّى فيها عبد القدوس جعلت منه انساناً صعباً للغاية، فقد كان ملتزماً في المعنى الاجتماعي، ولم يكن يسمح لزوجته بأن تخرج من البيت بمفردها، وعندما يكون مسافراً يطلب منها الا تخرج، بل ان ترفض الدعوات التي توجه اليها. وكان متشدداً معها في موضوع الملابس، الى درجة انه كان يشترط عليها ان تكون ملابسها محتشمة. بلغ من محافظة احسان والتزامه ان أمه روز اليوسف ارسلت اخته اليه ليعاقبها بنفسه وتعيش معه في العباسية، اذ كانت تركب الدراجة الهوائية مع ابن الجيران. ما يلفتنا ان الناس يظنون احسان عبد القدوس كاتباً متحرراً من التقاليد والاعراف الاجتماعية، في حين انه ملكي اكثر من الملك، وتتناقض حياته مع كتاباته. واذا كان الاصوليون يصفون أدبه بـ"المارق" فهو نفسه يهاجم الادب الذي يعتمد على اثارة الغرائز ويعتبره "رخيصاً".

وكلاء السماء على الارض يتهمون عبد القدوس بأنه "استبعد الدين تماماً من قصصه"، وكأن القصص وجدت للتبشير والدعوة، ولا يدركون ان سند الرواية الاول هو المعرفة والبحث عما نجهله. لم يكن عبد القدوس يعمل انطلاقاً من هذه المقولة بل كان يستند الى امور مغايرة. ويأخذ بعضهم عليه ان البطلات والابطال في قصصه تسيّرهم الغريزة الجنسية، ويتهمه بأنه برر الخيانة الزوجية، وجعل علاجها في احدى قصصه بأن تقوم الزوجة بالخيانة ايضاً وان تكون لها علاقات برجال آخرين، وبذلك تتساوى شخصيتها مع شخصه. وعندما رفضت الزوجة فكرة الخيانة، اتهمها طبيبها بأنها تسير وفق تقاليد متحفظة، مهملاً الجانب الديني.

ويروّج منتقدوه انه جعل "الحب فوق الحلال والحرام، وهاجم الحجاب والفصل بين الجنسين"، وقال: "إن شرف البنت وعذريتها من التقاليد التي يجب التمرد عليها".

نجد في ما اوردناه فصامية في اقصاها، من حيث دعوته الى الحرية ونظرته الرجعية حيال المرأة، وفصامية الذين يحاكمونه من خلال شخصياته الادبية وليس شخصه.

تختلف اعترافات نجيب محفوظ عن اعترافات عبد القدوس. نشر احد مواقع الانترنت ان نجيب محفوظ عاش في الفترة التي سبقت زواجه ،"حياة عربدة كاملة، كنت من رواد دور البغاء الرسمية والسرية، ومن رواد الصالات والكباريهات، ومن يراني في ذلك الوقت لا يمكن ان يتصور ابداً ان شخصاً يعيش مثل هذه الحياة المضطربة وتستطيع ان تصفه بأنه حيوان جنسي، يمكن ان يعرف الحب والزواج، كانت نظرتي للمرأة في ذلك الحين جنسية بحتة، ليس فيها اي دور للعواطف او المشاعر، وإن كان يشوبها احياناً شيء من الاحترام، ثم تطورت هذه النظرة وأخذت في الاعتدال بعدما فكرت في الزواج والاستقرار".

اعتراف محفوظ بعلاقاته النسائية وذكرياته الجنسية يبدو مثيراً وصاخباً. يقول: "عشت في العباسية اول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت اشعر بالدهشة لغرابتها، كنت ايامها على اعتاب فترة المراهقة، وقبل ان ادخل هذه التجربة كانت علاقتي بالبنات لا تزيد على مداعبات تتجاوز الحد احياناً وكانت هذه التجاوزات البريئة تصطدم بالاحساس الديني، لدرجة انني كنت اتوجه الى الله يومياً، واعيش في عذاب مستمر من تأنيب الضمير". كانت الفتاة التي احبها نجيب محفوظ تكبره سناً، هي في العشرين من عمرها وهو في الثالثة عشرة، جذبه اليها بالاضافة الى جمالها انها مختلفة عن كل البنات اللواتي عرفهن قبلها، فلم تكن تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل الى الطابع الاوروبي في مظهرها وحركاتها.

ولم تكن المرأة هي العنصر الوحيد بل صاحبتها اشياء اخرى اعترف بها محفوظ في رسالته الى احد اصدقائه أوردها الكاتب احمد فرج في كتابه "ادب نجيب محفوظ" وقال فيها: "لقد عرفت هذا الصيف اديباً شاباً موهوباً ولطيفاً معاً، ولهذا الاديب عوامة نقضي فيها نصف الليل ما بين الحشيش والاوانس. انقلب اخوك شيئاً آخر، لقد علّمني البوكر - سامحه الله - فغدوت مقامراً، وليس بيني وبين دكتور الامراض التناسلية الا خطوة، فانظر كيف يتدهور الاديب على آخر الزمن. وفي هذه اللحظة التي أكاتبك فيها يعثرون على القنابل في القاهرة كالتراب. وخصوصاً بعد حادث سينما مترو. بل تصور انه انفجرت منذ اسبوعين قنبلة في شارعنا، وعلى بعد عشرين متراً من بيتنا، وكان من نتائج ذلك اني بطلت حفظ الحشيش في البيت خوفاً من التفتيش".

هذه الاعترافات تظل مهذبة، مقارنة بغيرها، تفضح لكن من دون تفاصيل. على ان صورة المرأة في أدب محفوظ، بدت باهتة مثل امينة في "الثلاثية" التي صارت الزوجة المطيعة على الدوام لـ"فرامانات" زوجها احمد عبد الجواد، عنواناً لكل زوجة اتخذت الهوان والضعف والخنوع سبيلاً للبقاء على قيد الحياة. لم تخرج الانماط التي وضع محفوظ نساء اعماله في اطارها، كثيراً عن هذا السياق.

المرأة المحفوظة اما سلبية مثل امينة، واما فتاة ليل شأن زبيدة وزنوبة في الثلاثية ايضاً، فضلاً عن ريري في "السمان والخريف" ونور في "اللص والكلاب".

وحين أراد محفوظ ان يقدم نماذج المرأة الجديدة المتحررة اتاح لنا ان نقرأ سوسن حماد في "السكرية" وهي تناقش شاباً جاء خاطباً ودها، اذ طلبت منه ان يتخلص من كل رواسب البورجوازية فيه، وفي "خان الخليلي" يقدم نجـيـب محـفوظ عليات الثائرة معشوقة للازواج، وقد تزوجت زواجاً صورياً، زواج مهنة وارتزاق.






شكري... في الماخور

ليست اعترافات نجيب محفوظ سوى نقطة في بحر اعترافات محمد شكري. هذا الروائي الذي كتب سيرته بلغته السهلة التي تقلص المسافة بين الادب الشفوي والادب المكتوب، شكل صدمة في الوعي الثقافي العربي، وقد جاءت سيرته مثل بيان ساهم في تغيير النمط السائد في الثقافة العربية التي تميل الى الحجاب لا الكشف. كتب على غلاف سيرته: "هناك من يأتي الى الكتابة عن طريق اجترار الكتابة، وهناك من يأتي اليها عن طريق الحس والتجربة". لا يخفي محمد شكري انه انتهك عبر "الخبز الحافي" العرف الموروث الذي يرى في وصف التجربة الذاتية قضية اعتبارية تتصل بفعل رمزي هو استرجاع تكوّن الذات. كتب شكري عن شخصيات عرفها في طنجة، المدينة ذات البنية الاجتماعية والثقافية الفسيفسائية المعقدة والاندرغراوندية. ويصف لقاءاته الجنسية الاولى وصفا كاملاً، يحكي عن المرأة الاولى التي اختبر معها رجولته يقول: "انتقلنا الى حي "الطرانكات"، اعين امي في بيع الخضر والفواكه، انادي بصوت صاخب على المشترين بالاسبانية، كل مساء آخذ لنفسي دون علم امي النقود لشراء معجون الحشيش والكيف والجلوس في المقهى، والدخول الى السينما، التقيت صديقي واتفقنا ان نذهب الى الماخور".

وفي الماخور يقول شكري: "اكدت للمرأة اننا لم نشرب كثيرا، فقط نحن مرحان ونريد ان ننعس معها كما فعل رفاقنا في الحي، ظلت تفحصنا بنظرات باسمة ونحن نخاف ان ترفضنا قالت لنا: طيب من سيبدأ الاول: نظرت الى رفيقي قال: ارجوك ادخل معها انت الاول، طلبت مني ان ادفع لها المال مقدما. لم اتردد، هي تبيع جسدها ونحن نشتريه، اخذت تتعرى والسيكارة في فمها، دخانها يجعل عينيها ناعستين. شفتاها شهوانيتان حمراوان قالت لي: "افتح فمك"! وضعت سيجارتها في فمه المفتوح، ادارت له ظهرها، فك لها رافعة صدرها متأملا بشهوة الزغب الخفيف عند منبت ظهرها، استدارت وواجهته باسمة رافعة نهديها بيديها، استعادت سيجارتها الى فمها، وابتسم لها خوفا من جسدها. وسط هذا الجو المتوتر يقول شكري: "افك ازرار بنطالي باضطراب، قلبي يخفق بعنف، هذه المرأة ستتركني ادخل في لحمها كما تدخل السكين في اللحم، سأجرح لها فرجها".

ما كتبه شكري هو رسالة، نتورط في حبها واسطرتها، وفجورها دالّ على التدهور الاجتماعي والسياسي في طنجة. بعضهم من دعاة الادب الصالوني، قد يستغرب ادب محمد شكري ويمنعه لأنه يصب في مصاف السوقية، ذلك ان عالم السوقية يكمن في الاسفل، حيث يتأرجح الجسد وحاجاته. و"السوقية خضوع الروح المذل لقانون الاسفل"، على تعبير احد الكتّاب.

قد يخترع احد الكتّاب سيرة لنفسه، من الوهم والخيال والافتراض، فهل كل ما يكتب عن الذات حقيقي ويجب ان يلفت الآخرين الى فضائحيته؟ ما المعطيات التي تجعل من المكتوب في السيرة الذاتية خارجا من الانا لا من "فن الكذب" الذي توصف به الرواية عادة؟

ادب شكري فيه قدر من الحقيقة لأن رواياته تتقاطع مع الكثير من الادباء الذين عاشوا في طنجة.

اللافت ان سهيل ادريس كان رفض نشر رواية "الخبز الحافي" لشكري لأنها سوقية وتحتاج الى فلسفة، وربما لأنها جريئة. وعندما كتب سيرته اعترف بشذوذ والده الجنسي، قال: "لقد اخذ عليّ البعض ما ذكرته عن سلوك ابي من شذوذ جنسي، ولكنهم لا يستطيعون ان يشعروا بما كنت اشعر به. شخصيا، حين كتبت ما كتبته، لم يكونوا ليشعروا بالخجل الذي عانيته من سلوك ابي، وهذا شيء انساني وطبيعي، ومن المفروض ان اتحدث عنه كما اشعر بالخجل من اي سلوك يكون فيه الكذب هو الطاغي والتزوير والتضليل".

"اخترق" ادريس التابو متأخرا ولم يكن لسيرته الصخب المعتاد بل كانت عابرة باستثناء علاقة والده بالشذوذ. كان على سهيل ادريس ان يكشف المستور في علاقاته بالايديولوجيات التي اتبعها وناضل من اجلها، ربما يبين ادوات قمعها للأدب والجسد والروح.



بيضة" رؤوف مسعد

على ان رؤوف مسعد، الخارج من الاحزاب اليسارية في مصر، هو اكثر الروائيين العرب ميلاً لاختراق التابوات. رغم كونه ابنا لقسيس بروتستانتي، فقد تمرد على التعاليم الدينية، وقاطع الكنيسة نهائيا وصار يبحث عن كل ما هو غريب. ففي وقت كانت مكتبة الكلية الاميركية في اسيوط ممتلئة بالكتب الدينية، كان رؤوف مسعد يبحث عن القصص والروايات الروسية والكتب الماركسية التي تنسجم مع ذائقته الادبية.

في سيرته الذاتية التي اعطاها اسم "بيضة النعامة"، كتب مقاطع من ذكرياته الجنسية. في حكايته الاولى يقول: "اسند الخادم مكنسته المصنوعة من زعف النخيل على الكرسي، ووقف خلف الولد الذي كان منحنيا، لم يحس به الولد، التصق الخادم زنقه بين فخذيه واضعا يده على فمه يسده والاخرى ترفع جلابية الولد، هكذا حسم الخادم الموقف الذي كان يتنامى بينهما خلال اسبوع طويل من المطاردة، الخادم لا يتجاوز عمره السابعة عشرة، يعمل في البيت من حوالى اسبوعين، ام الولد مشغولة في ارجاء البيت الواسع وهي تحاول ان تضع الولد دائما تحت مراقبتها، ولكنه كان يهرب منها، تنادي عليه فلا يجيبها، كانت احيانا ترسل الخادم للبحث عنه، حينما يجده يتسلل اليه من الخلف ويحتضنه، احيانا كان الولد يرفضه ويخمش وجهه، احيانا اخرى كان يتجاهله فيظل الخادم يحتضنه ساحبا اياه ببطء باتجاه صوت الام المنادي، حينئذ يتركه ويراقب الموقف عن كثب هل سيشتكيه الولد الآن؟ لكن الولد لم يشكه ابدا". وفي مقطع آخر يقول: "هل يمكن السير في مظاهرة بدون ملاحظة ارداف من امامك من البنات؟ يقول: ثمة مظاهرة للاحتجاج على اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها انور السادات، سرنا جميعا باتجاه السفارة المصرية، المصريون الذين يعملون في العراق والطلاب الذين يدرسون هناك. رأيتها. رأيت اولا الردفين وقد تكورا خلف البنطال الرمادي، كنت على بعد خطوات من مؤخرتها، فاقتربت اكثر لأرى وجه صاحبة الردفين، انها يمامة التي تدرس في كلية الطب، اعرف والدها على الخفيف، سألت نفسي مؤنبا لماذا لم اهتم بها من قبل، الردفان يقبلان ويدبران يتلاطمان ويتراعشان، قلت لنفسي لو لم تكن تمتلك يمامة شيئا سواهما لشفعا لها".

وفي مقطع آخر: "في حي غاردن سيتي في القاهرة، و في سنتي الجامعية الاولى وفي الشقة التي يسكن فيها اصدقائي الطلاب السودانيون، سألت المرأة التي قصدناها من شارع قصر العيني والتي كانت في منتصف العمر: خلاص؟ فأجابت: طبعا هي شغلانة. ارتدي ثيابي وكنت ما ازال مشغولا بالسؤال الابدي الذكوري: هل انا رجل بما فيه الكفاية؟ وما هو التكنيك الصحيح الذي يسعد المرأة؟ وهل للحجم علاقة بكل ذلك؟ اجلس في الصالة ادخن سيجارة بينما يلغط الآخرون ويضحكون بتوتر، اسير الى ميدان التحرير، استقل الباص الى شقتنا في الضاهر، اختي الكبرى تسألني مستريبة كنت فين، فأتلعثم، تقول دون ان تنظر اليّ، ريحتك غريبة اذهب الى الحمام".

حين صدرت "بيضة النعامة" عام 1994 لم يكن احد يعرف رؤوف مسعد كروائي، بل كان معروفا في اوساط النخبة الثقافية والادبية انه صحافي. ظهوره المفاجىء برواية "تكشف المستور"، فرضه على الواقع الثقافي. فقد كتب روايته بالجسد وليس بالايديولوجيا التي كانت سائدة. الجسد يتحدث عن الرغبة والعاطفة بلغة البوح، اما الايديولوجيا فتتحدث عن المؤسسة والتمجيد والشعار. الجسد مطرود من شروط العمل الادبي، بحسب احد الكتّاب العراقيين. فأهل الايديولوجيا كانوا يعلموننا ان القضية هي التي تستحق الكتابة عنها لا الجسد. وعلى هذا، فسيرة رؤوف مسعد تمرد الجسد البشري على الجسد الايديولوجي.



العبث بالجسد... ممنوع

في سيرته، "خارج المكان"، يقدم ادوارد سعيد نوازعه مع اهله وكيف اكتشف الجنس وهو في الخامسة عشرة. يقول: "لم تكن توجد مجلات جنسية او افلام فيديو اباحية متوافرة علنا بالنسبة لي، ثم ان المدارس التي ارتدتها في مصر والولايات المتحدة الى حين بلوغي السابعة عشرة والنصف كانت تولدن كل شيء وتنزع عنه كل صفة جنسية". كان الجنس ممنوعا لادوارد سعيد لكنه تمكن من قراءة وصف يتضمن التفاصيل الوافية عن العملية الجنسية في مذكرات ويلفرد ده سانت ماندي اذ صار ويلفرد واحدا من رفقاء مراهقته الصامتين السريين، لكن اهله كانوا قد ابعدوا عنه كل ما من شأنه اثارة الغريزة الجنسية لديه، الا أن حاجته العارمة الى المعرفة والاختبار هي التي خرقت قيود الاهل، الى ان حدثت مواجهة علنية.

ففي اواخر تشرين الثاني عام ،1949 فتّش ابوه في ملابسه وقال: "انا وامك لاحظنا انك لم تستحلم وهذا يعني انك تعبث بجسدك". وكان الوالدان قد حدّثا ابنهما عن اخطار العبث بالجسد، رغم ان اباه لم يكلمه ابدا عن ممارسة الحب الذي هو الجنس، وكان ادوارد قد طرح سؤالا على ابيه عن كيفية ولادة الطفل، فكان الجواب غامضا، يقول سعيد: "ان حمل امي المتكرر وخصوصا انتفاخ بطنها بطريقة تنذر بالخطر خلاله، لم يساهم في الاجابة عن السؤال عن الحمل والوضع، كانت الاجابة كل مرة هي" كتبنا رسالة الى يسوع فبعث الينا بطفل"، اما ما قاله ابي بعد تحذيره الصارم من العبث بالجسد فكلمات شحيحة عن كيفية وضع الرجل "اعضاءه الحميمة" في "الاعضاء الحميمة الخاصة بالمرأة"، فلا شيء عن النشوة او القذف او عن موضع تلك الاعضاء الحميمة من الجسم".

لم يتعرف سعيد الى الاستمناء بنفسه لكنه شاهده بالصورة عندما كان يتسكع في غرفة تبديل الثياب في المسبح. يعترف: "كنت بخجلي المعهود ادخل الغرفة لارتداء المايوه، اقتحمت الغرفة عصبة من الفتيان يكبرونني سنا، يرشحون ماء من السباحة، يتقدمهم ايهاب، كان ثريا مطمئنا ومستقرا في مكانه، طلب منه اصدقاؤه، قالوا له افعلها يا ايهاب، انزل الشاب سرواله واعتلى المقعد، وفيما هو يتلصص من فوق الجدار على منطقة التشمس حول حوض السباحة، بدأ يستمني، فالجميع كان يراقب ايهاب. كان مضحكا". يمكن القول ان الاعتراف عند ادوارد سعيد اقرب الى توجيهات اخلاقية.


الاستمناء هو ما عرف في وصفه منظومة من الحركات يقال انها مرضية او مذنبة تخص الاطفال والمراهقين. لكن جاك ديريدا يعتبر من العسير الفصل بين الكتابة والاستمناء. فهذان المكملان يشتركان على الاقل في تسمية الخطورة. يخترقان المحظور وتتم معايشتهما في اطار الشعور بالذنب. ولكنهما في الوقت نفسه ووفقا لقاعدة الارجاء يؤكدان المحظور الذي ينتهكانه ويتفاديان خطرا ويدخران جهدا. في الكتابة والاستمناء، يتجلى حب الذات، ويتركان اثرا للذات في العالم.

يجب القول ان الكتّاب حين يثيرون علاقتهم بالجنس في الكتابة، يدلون على ذلك كنوع من حب الذات، لكن الكتابة حين تبدأ اشتغالها، تعرض المنظور للموت حين تجعله مكتوبا. هل العرب يحبون ذاتهم؟ في كتابه المهم "ازمة الجنس في القصة العربية"، يتتبع غالي شكري تاريخ كتابة الجنس في الادب ومدى الكشف او التستر والترميز الذي يستخدم فيه الجنس وفقا لظروف العصر ووضع المرأة فيه. فكلما قل وضع المرأة، قل التعبير عن الجنس، على ما حدث في القرن الثامن عشر. فبهذه النظرة الرومنسية رأى الانسان الجديد حاجته الملحة تتحول رويدا رويدا حاجة ثانوية، بعدما احاط المرأة بهالة نورانية من ضوء سماوي خالد، وانزوى الجنس من صفحات الادب الرومنسي الى الهوامش، لأنه لم يصدق ان المرأة - هذه القديسة الملائكية - يستطيع جسدها ان يحتوي هذه الحاجة الملحة. حتى ظهر بالزاك وفلوبير فساهما في اعادة الربط بين الحب والرغبة والجنس.

اختلف الامر بظهور رواية "عشيق الليدي تشاترلي" لـ د.هـ. لورنس والتي اثارت ضجة كبيرة لأن لورنس كانت لديه نظرية محورها ان الجنس مظهر لنشاط الانسان بل هو اصل هذا النشاط.

البنية الاجتماعية والدينية العربية لا تسمح بأي خروج على الرؤية السائدة بل تحاربها. وتظهر هذه القسوة اكثر في موضوع السيرة الروائية الذاتية. لا احد يجرؤ على كتابة سيرة ذاتية "جريئة"، ولا تزال الانا غائبة عن النصوص. يميل غالبية الكتّاب الى الغموض والحجب ولا يعيرون الجسد اهمية. يكتبون عن الجنس، يتحول الجنس عندهم كليشيه بائسا لا جدوى منه.

تحتاج الثقافة العربية الى ادب الاعتراف ليس كموضة ادبية بل كوسيلة للمعرفة .


.


صورة مفقودة

Alain Bonnefoit




.
 
أعلى