فوزي بوخريص - الاختلاف الجنسي من منظور فلسفة الاختلاف


"L'humanité n'est traversée que par une seule différence objective, la différence des sexes, et partout, cette différence si claire, cette distinction dans la perception et les désirs élémentaires, est recouverte de polypes multiples qui l obscurcissent sans cesse . "

Alain et chegoyen" éloge de la féminité" éd arléa-paris 1997 –p11 .

مقدمة:

إن خطاب التحرر الذي يتخذ من المرأة موضوعا له، مطالب على الدوام بالاشتغال على ذاته، وخصوصا بتدقيق المفاهيم المركزية التي يتشكل منها. إذ لا يمكن التأثير في الواقع وتغييره دون فهم عميق لواقع المرأة، لهويتها ولعلاقتها بالرجل، ولحقيقة الاختلاف الجنسي القائم بينهما . لأنه من دون ذلك، سيكون مآل هذا الخطاب السقوط في دائرة الاستهلاك الخطابي، وإفراز ما يناقضه تماما، أي بدل التحرر الذي يبشر به، سينتهي إلى تكريس المحافظة، والى إعادة إنتاج الهيمنة .

من هنا الحاجة في نظرنا إلى تناول "مفهوم الاختلاف الجنسي"، باعتباره واحدا من المفاهيم الأساسية التي أخذت تفرض نفسها في السنوات الأخيرة، خاصة في الثقافة والمجتمع الغربيين. والواقع أن الاهتمام المتزايد بمسألة الاختلاف الجنسي، لا ينفصل عن الأهمية المتزايدة التي تحظى بها مسألة الاختلاف بشكل عام . فزمننا كما تقول أحد الباحثات المتخصصات في موضوع الاختلاف الجنسي، هو" زمن الاختلاف"الاختلاف الجنسي من منظور فلسفة الاختلاف

[1]. وكما لاحظ أيضا باحث آخر[2]، فان مسألة الاختلاف أضحت تخترق عصرنا الحالي، خاصة بعد ثورة 68، حيث ظهر نوع من النزوع نحو التباين والاختلاف: اختلاف جنسي، اختلاف الثقافة والطبيعة، واختلاف الثقافات عن بعضها البعض الخ .

لكن وكما نبه إلى ذلك عبد السلام بنعبد العالي[3]، فما أن تتصدى الايدولوجيا لمفهوم معين حتى تفرغه من "روحه"، وتقضي على الحياة فيه، فترديه كائنا محنطا. لعل هذا هو المصير الذي أخذ يعرفه مفهوم الاختلاف اليوم. فهو قد "اهلك" استعمالا حتى إنه لم يعد يعني شيئا. حيث تحول استعماله في أغلب الأحيان إلى مجرد مجاراة لعادة أو موجة ثقافية، هذا إذا لم يتحول إلى نقيضه ويدل على عكس ما كان يعنيه...

ونفس الكلام ينطبق أيضا على مفهوم الهوية، الذي هو وثيق الارتباط بمفهوم الاختلاف . مادام أن الحديث عن مسألة الاختلاف يفضي بالضرورة إلى الحديث عن الهوية . فالهوس الذي يدفع أفرادا أو جماعات إلى أن يكونوا مختلفين عن الآخرين، يدفعهم إلى البحث عما يصنع اختلافهم وتمايزهم، أي البحث عن هويتهم الخاصة .

ولا شك أن هناك وعي متزايد اليوم بأزمة الهوية، في مستواها الجماعي أو الفردي الشخصي . لكن هذا لا يلغي حقيقة انشغال الإنسان بالهوية منذ القديم، فالسؤال "من أكون؟" يكاد يخترق تاريخ البشرية منذ بداياته والى حدود الآن . وبالتأكيد فمسألة الهوية تأخذ دلالات وأبعادا مختلفة ،وحضورها يشمل الوجود والثقافة والمجتمع والفرد . ومن المجالات التي تشهد حضورا نوعيا لمسألة الهوية، مجال العلاقات بين الجنسين، حيث يجري الحديث عن الهوية الجنسية للرجل مثلما للمرأة .

من هنا هذا البحث الذي يروم مقاربة إشكالية الهوية والاختلاف فلسفيا، وذلك من خلال التركيز على امتدادات هذه الإشكالية داخل مجال العلاقات بين الجنسين. ومعلوم أن الهدف الأسمى للفلسفة هو معرفة الذات، فكما يقول ارنست كاسيرر "فالإنسان هو هذا المخلوق الذي هو دائما في بحث عن ذاته، والذي هو في كل لحظة مطالب بالفحص الدقيق لشروط وجوده. ولعل هذا النوع من الفحص، هذا الموقف النقدي تجاه الحياة الإنسانية هو الذي يمنحه قيمته"[4]. وكما أكد سقراط في محاورة الدفاع: "فحياة بدون فحص لا تستحق أن تعاش". بيد أن هذا البحث المتواصل عن/وفي الذات، ليست مجرد ترف فكري. بل إنه منطلق أساسي لتحقيق الذات .

ثم من جانب آخر، إذا كانت العلاقة مع الغير (سواء كان بلدا آخر أو عرقا آخر أو جنسا آخر...)، قد تغيرت عما كانت عليه في الماضي، حيث لم تعد ثمة مواجهة تدميرية مباشرة تتأسس على منطق انه "بما انك لست مثلي، فاني سوف أقصيك أو اقضي عليك"[5]، إلا أن ذلك لا يعني أن العلاقة مع هذا الآخر، الجنسي أو غيره، صارت مثالية، فالإحصائيات تكشف عن استشراء ظاهرة العنف ضد الغير .

ونعتقد أن مظاهر العنف التي نعاينها، مثلا، على مستوى العلاقات بين الجنسين، والتي تستهدف المرأة في الغالب، مردها بالأساس إلى جهل بحقيقة الذات والغير، وبطبيعة العلاقات القائمة بينهما. فمعنى العنف الأساسي هو عدم الاعتراف بالآخر. أي جهل بطبيعة الآخر، أو هو معرفة معينة به، قائمة على موروث ذهني جاهز. وليس هناك أفضل من الفلسفة لتحريرنا من سلطة الموروث الذهني ومن بادئ الرأي .

من هنا الحاجة للانفتاح على تجربة الأخر (الغرب المختلف ثقافيا)، خاصة ما يتعلق بالتفكير الفلسفي في إشكالية الهوية والاختلاف، وبشكل أخص من خلال ما تبلور في إطار فكر الاختلاف بصدد هذه الإشكالية. فلا يمكن أن نقارب قضايا الهوية والاختلاف، في مجال العلاقات بين الجنسين، دون استيعاب عميق لأهم الأطروحات التي أبدعها فلاسفة الاختلاف حول هذا الموضوع . لا سيما وأن النسوية أو النزعة النسائية بدأت تتحدد اليوم، في المجتمعات الغربية، باعتبارها تمثل في ذاتها فكرا للاختلاف، وذلك بالنظر إلى تشبعها بقيم الاختلاف والنقد، وأساسا من خلال تصورها للاختلاف، الذي هو ليس اختلافا متعديا: أي ليس اختلافا يتحدد بالقياس إلى، وبالتعارض مع هوية ما[6] .

وكما قال عبد الكبير الخطيبي "فعندما نحاور فكر الاختلاف (سواء مع فكر نيتشه أو هايدغر أو بلانشو أو جاك دريدا) فإننا لا نأخذ في اعتبارنا أسلوب التفكير فحسب، وإنما كذلك الإستراتيجية المتبعة كي نجعلها في خدمة نضالنا"[7]. خصوصا وأن الفلسفة بعد هيغل، تخلت، كما يقول فوكو، عن وظيفتها التقليدية المتمثلة في بناء التجريدات والعموميات وأخذت تحتك بما ليس فلسفة، حتى إنه يمكن اعتبار "العمل على إبقاء الفلسفة منفتحة على ما يوجد خارجها، أحد ثوابت المسعى الجنيالوجي في الفلسفة"[8]، والذي انطلق مع نيشته، والذي تكرس مع فلاسفة الاختلاف، الذين حاولوا تحرير الفلسفة من هيمنة تاريخها، وذلك "بجعلها تنفتح على ما يوجد خارجها وعلى هامشها"[9].

ولعل من أشكال هذا الاحتكاك انخراط مفكري الاختلاف في التفكير في قضايا الهوية والاختلاف بمختلف أبعادها (الاجتماعية والسياسية)، و في هذا الإطار يأتي اهتمام فلاسفة الاختلاف بمسألة الاختلاف الجنسي، حيث يعتبر دريدا [10] مثلا أن تناوله لهذا الموضوع هو نوع من الالتزام السياسي .

ويمكن القول إنه مع فلسفة الاختلاف، لم يعد يتحدد الاختلاف بالقياس إلى آخر، يقبع في الخارج، خارج الذات، بل كما يقول علي حرب"يتسلل الاختلاف إلى مملكة الذات وتصبح المغايرة والاختلاف مقوما من مقومات الهوية"[11]، بحيث يقبع الآخر في صميم الذات. فالأمر يتعلق إذن بتجاوز لمنطق التناقض، الذي ينظر إلى السلب على أنه ذلك الذي يجيء من خارج الذات ليتعارض معها، إلى منطق الاختلاف الذي ينظر إلى السلب باعتباره ذلك الذي ينخر الذات من الداخل، أي النظر إليه بوصفه حركة تباعد الذات عن نفسها، حركة تصدع الداخل[12] .

ولعل أهمية الانفتاح على فلسفة الاختلاف ومنظورها المغاير للاختلاف، يجعلنا نتجاوز ما يسميه عبد الكبير الخطيبي بالاختلاف الوحشي أو الساذج، القائم على نوع من "الانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى آخر مطلق."[13]، والذي يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهوية العمياء أو الهويات المجنونة ...

من المجالات التي تشهد، إذن، استثمارا مكثفا لإسهامات فلاسفة الاختلاف نجد مجالات العلاقات بين الجنسين، حيث أسهم فلاسفة الاختلاف بشكل مباشر في نحت مفهوم الاختلاف الجنسي، وفي التأسيس لفلسفة للاختلاف الجنسي. فبفضل العمل الجبار الذي بدأه نيتشه في مجال مجاوزة الميتافيزيقا، والذي تواصل مع هايدغر ودولوز ودريدا، أمكن تقويض مركزية القضيب، بعد أن تم تقويض مركزية العقل والذات والصوت وغيرها من المركزيات المؤسسة لصرح الميتافيزيقا. فالمشروع الفلسفي لفلاسفة الاختلاف، والذي يستهدف تقويض الميتافيزيقا، يتوخى في العمق تفكيك الأسس الفلسفية لمركزية أو سلطة القضيب. كما أن تأثير فلاسفة الاختلاف، لاسيما دولوز ودريدا في الحركة النسوية بالولايات المتحدة الأمريكية وايطاليا (وفرنسا في وقت لاحق)، جعل هذه الحركة تتجاوز التصور الميتافيزيقي للهوية الجنسية، والذي يحصرها في تلك الثنائية الميتافيزيقية. فالحركات النسائية في المجتمعات الغربية تتخذ من فلاسفة الاختلاف مرجعية فكرية ونظرية للتفكير في واقع المرأة، وفي إشكالية الاختلاف الجنسي، بل وتعتبر نفسها كفكر اختلاف أو فلسفة للاختلاف الجنسي ...

وتعود أهمية التفكير الفلسفي في مسألة الاختلاف الجنسي، إلى كونه يمثل مدخلا ضروريا لأي تغيير سياسي منشود لوضعية المرأة داخل المجتمع. وكما يقول دريدا دائما "فقبل أي تسييس نسوي politisation féministeيجدر بنا أولا التعرف على طبيعة نزعة مركزية العقل والقضيب phallogocentrisme التي تشرط تقريبا كل تراثنا الثقافي"[14]. وذلك لن يتأتى إلا بتفكيك منطق الميتافيزيقا الثاوي خلف كل مستويات فكرنا ووجودنا، بما في ذلك التصور السائد حول مسألة الاختلاف الجنسي، التي تهمنا في هذا المقام. وهذا ما يفسر أن التفكير الفعلي والعميق في مسألة الاختلاف الجنسي تزامن مع نقد الميتافيزيقا، وتبلور بشكل واضح في أحضان فكر الاختلاف[15] ...

وما يبرر كذلك إقدامنا على إصدار هذا العمل، ما لمسناه من غياب للأبحاث والدراسات التي تتناول موضوع الاختلاف الجنسي(خاصة من منظور فكر الاختلاف)، في الحقل الثقافي ببلادنا. وحسب إطلاعنا المتواضع، فباستثناء ما تشير إليه بعض إسهامات الباحثين عبد الكبير الخطيبي وعبد السلام بنعبد العالي، وباستثناء محاضرات أستاذنا محمد الأندلسي حول ابستومولوجيا الاختلاف الجنسي، في إطار وحدة المرأة والتنمية[16]، لا نكاد نعثر على أدبيات حول موضوع الاختلاف الجنسي[17].

وبالجملة، يتوخى هذا العمل البحث في امتدادات إشكالية الهوية والاختلاف، داخل مجال العلاقات بين الجنسين، وتعميق التفكير في مسألة الاختلاف الجنسي، كما تحضر مباشرة عند فلاسفة الاختلاف خاصة نيتشه، هايدغر،دريدا ودولوز، وكما يتردد صداها عند بعض الباحثات في قضايا المرأة المهتمات بموضوع الاختلاف الجنسي، ونخص بالذكر:

Geneviève, fraisse s . agacinski Françoise collin, Luce irigaray isabelle, krier ,Luisa muraro ...

فإذا كان الاختلاف الجنسي قد شكل تاريخيا لا مفكر فيه في الفلسفة: فكيف عالجت فلسفة الاختلاف، باعتبارها الفلسفة التي تعلي من شأن الاختلاف، هذا النمط من الاختلاف؟ هل تعتبر الاختلاف الجنسي موضوعا هامشيا مقارنة مع الموضوعات التقليدية للفلسفة (الانطولوجيا،السياسة الخ) أم أنها على العكس من ذلك تجعله ضمن مركز اهتماماتها؟

ثم ما أهمية ما قاله أو ما صمت عنه فلاسفة الاختلاف بخصوص الاختلاف الجنسي؟

أولا تحديدات مفاهيمية :

حول مفهوم الاختلاف:

- في اللغة:

إذا كانت العودة إلى التحديدات اللغوية للمفاهيم، تتحول في الغالب إلى تمرين الهدف منه إثبات حقيقة -هي أشبه بتحصيل الحاصل- "تخلف" اللغة العربية القديمة، لغة العصر الوسيط عن مسايرة، مستجدات العصر الحالي، على مستوى الفكر، والحضارة بشكل عام، فالأمر يبدو مختلفا مع مفهوم الاختلاف، ومع مادة (خ ل ف) بشكل عام، حيث يسجل الباحث سالم يفوت أن مضمون هذه المادة، يتماشى إلى حد كبير مع ما نجده لدى الفلاسفة المعاصرين، بمن فيهم فلاسفة الاختلاف، الذي منحوا لهذا المفهوم، الذي هو في ذات الوقت عنوان فلسفتهم، مضمونا مغايرا عما كان سائدا في الفلسفات السابقة عليهم . حيث يقول يفوت: "لا يبتعد مضمون مادة خ ل ف في اللسان العربي، كثيرا، عن انشغالات وهواجس تيار من أكثر تيارات الفلسفة المعاصرة انتشارا، ألا وهو تيار الاختلاف" [18].

فإذا استشرنا ما تقوله المراجع العربية القديمة (لسان العرب-الكليات-أساس البلاغة ...) بخصوص مادة خ ل ف، سنلاحظ أنها تتميز بغنى دلالي، لا ندعي في هذا المقام القدرة على حصر كل دلالاته،لكن يمكن أن نشير على سبيل المثال إلى بعض الدلالات التي ترد في لسان العرب لابن منظور[19]:

الخلف ضد قدام، وخلفه يخلفه:صار خلفه. واختلفه:أخذه من خلفه، واختلفه وخلفه واخلفه:جعله خلفه، وجلست خلف فلان أي بعده. والخلف:الظهر، والتخلف:التأخر، ورجلان خلفة (بكسر الخاء): يخلف احدهما الآخر. والخلفة: اختلاف الليل والنهار، والخلف: ما جاء من بعد،الخلاف المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافا، وتخالف الأمران واختلفا:لم يتفقا . وكل ما لم يتساو، فقد تخالف واختلف ... ويقال:القوم خلفة أي مختلفون، وهما خلفان أي مختلفان ... قال اللحياني:يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان، وولدت الناقة خلفين أي عاما ذكرا وعاما أنثى . ويقال بنو فلان خلفة أي شطرة نصف ذكور ونصف إناث، والتخاليف:الألوان المختلفة، واخلف: تغير . . . الخ

وبذلك يمكن أن نستنتج أن الاختلاف في اللغة العربية يحيل على معاني متعددة، أهمها: التغير، التأخر، اللامساواة، ما يأتي من بعد الخ. وكما أكد سالم يفوت، تلتقي دلالات كلمة اختلاف في المعجم العربي القديم بشكل عام، "في افتراض وجود مسافة في المكان أو الزمان أو بين الأفكار لدى طرفين أو أكثر، افتراض تباعد بين الأشياء والأطراف يجعل التطابق والائتلاف مستحيلا"[20].

أما إذا استشرنا المعاجم الفرنسية[21]، فسنجد أن لفظة اختلاف différence مشتقة من الأصل الإغريقي ديافورا، وكما يقول جاك بوفري "فهي نقل يكاد يكون حرفيا للكلمة الإغريقية ديافورا"[22] . وهي أيضا مشتقة من الأصل اللاتينيdifférentia. و يعني الاختلاف خاصية شخص أو شيء، تجعل من غير الممكن بالنسبة له التطابق مع شخص آخر (أو شيء آخر)، فهو يشير إلى الفارق الذي يفصل بينهما ... بيد أن هذا لا ينفي كون لفظ اختلاف يأخذ دلالات متعددة، بحسب تنوع المجالات التي ينتمي إليها: المنطق،الرياضيات،البحرية،الأبناك والبورصة، المحاسبة، الالكترونيك، اللعب ...

وهكذا نجد أن الاختلاف هو نقيض الهوية، وهو مرادف للتباين وعدم التشابهdissemblance ، التضارب أو التعارض divergence، التمييز distinction ...

- في الفلسفة:

يحدد لالاند دلالة مفهوم الاختلاف كما وردت في تاريخ الفلسفة، مركزا بشكل أساسي على المرحلتين القديمة والحديثة، حيث يعني الاختلاف عند أرسطو، من خلال ما ورد في مؤلفه "ما بعد الطبيعة" علاقة مغايرة بين شيئين متماثلين. والمقصود بالمغايرة في نظر لالاند، خاصية ما هو آخر، أي ذلك الذي يتحدد كمقابل للمماثلle même ، بالنظر إلى أن كل شيء، كما يقول أرسطو، هو بالنسبة لكل شيء إما مماثل له (هوهو) وإما مخالف أو مختلف. وبذلك تتعارض المغايرة في هذا المعنى مع الهوية. من هنا التمييز بين الأشياء المختلفة عددي اnumériquement différentes والتي لا تختلف اختلافا جوهريا، وإنما تختلف فقط لمجرد أنها متعددة، والأشياء المختلفة اختلافا نوعياspécifiquement différentes ، أي التي تختلف من حيث ماهيتها ذاتها أو من حيث تعريفها. وفي هذا المعنى الأخير يجري الحديث، في مجال المنطق، عن الاختلاف بما هو خاصية جوهرية تميز نوعا عن باقي الأنواع داخل نفس الجنس. ويتحدد مفهوم الاختلاف في الفلسفة الحديثة بوصفه"الخاصية التي تميز مفهوما عن مفهوم آخر، أو شيئا عن شيء آخر" .

ويخلص لالاند إلى أن للاختلاف معنيين أساسيين: فهو من جهة يشير إلى علاقة بين طرفين أو أطراف مختلفة. ومن جهة أخرى يعني الخاصية أو الخصائص التي تشكل هذا الاختلاف. بحيث نميز بين المعنيين بالصيغتين التاليين:

1- الاختلاف بين ...

2- الاختلاف الخاص بـ ... أو المميز لـ ....

ونجد في معجم "المفاهيم الفلسفية"[23] أن الاختلاف يتحدد أيضا داخل كل كائن، باعتباره الخاصية التي تحدده، والتي تجعل منه كيانا فريدا، مميزا عن ما عداه. إذ أن الاختلاف بين طرفين، يندرج داخل كل واحد منهما كهوية سلبية بالقياس إلى ذاتها، وذلك لأن غنى الوحدة هو في اختلاف الذات بالنسبة لذاتها.

لكن الملاحظ أن لالاند، لا ينفتح في معجمه الفلسفي، على الأقل في الطبعة التي اعتمدنا عليها، على التحديدات الفلسفية المعاصرة لمفهوم الاختلاف، ولا سيما في فكر الاختلاف .

وفي هذا الصدد، يأخذ مفهوم الاختلاف عند هايدغر، بعدا انطولوجيا، يحدد جان بوفري معناه قائلا:"لنتأمل كلمة اختلاف différence هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفيا للكلمة الإغريقية ديافورا. فورا آتية من الفعل فيريferi الذي يعني في الإغريقية، ثم في اللاتينية حمل ونقل(...). الاختلاف ينقل إذن، فماذا ينقل؟ انه ينقل ما يسبق في الكلمة ديافورا، أي الحرف أو السابقة" ديا" الذي تعني ابتعادا وفجوة ... الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعدا أحداهما عن الأخرى. إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاما. إنه على العكس من ذلك، يقرب بين الطرفين اللذين يبعد بينهما"[24].

ولا يأخذ مفهوم الاختلاف معنى جديدا فحسب، في فلسفة الاختلاف، وإنما تتم كتابته بشكل مغاير، كما هو الحال عند جاك دريدا، الذي يرى أن كلمة اختلاف différence "تحيل إلى الاختلاف بمعنى التمايز لا إلى الاختلاف بمعنى الإرجاء، لأنها تحيل إلى الفعل différencier لا إلى الفعل différer. لهذا فهو يقترح تعديلا في كتابة تلك الكلمة بحيث تفيد في الوقت ذاته الخلاف والإرجاء، وهو يضع حرفa بدل حرف e، فيكتبها على النحو التالي: [25]Différance". وتعني هذه العبارة، التي "ليست لا كلمة ولا مفهوما"[26]:"أولا: الإرجاء الذي يأخذ بعين الاعتبار"الزمان والقوى في عملية تقتضي حسابا اقتصاديا ولفا ودورانا وتأخرا". ثانيا: الخلاف واللاتطابق الذي "يقتضي مسافة وبونا وابتعادا"[27].

- فلسفة الاختلاف:

أول ملاحظة يمكن تسجيلها عند الحديث عن فلسفة الاختلاف، تتعلق بالتسمية: هل الأمر يتعلق بفلسفة للاختلاف أم بفكر للاختلاف؟

ربما يتعلق الأمر بفكر للاختلاف أكثر منه بفلسفة للاختلاف. ويؤكد عبد السلام بنعبد العالي هذه الحقيقة،عندما يعتبر أن فكر الاختلاف ليس مدرسة فلسفية أو مذهبا فلسفيا، بقدر ما هو حركة فكرية[28]. ولو أننا لا نتفق مع هذا الباحث عندما يحسم بأن أصحاب فكر الاختلاف، يرفضون استخدام عبارة "فلسفة الاختلاف"، إذ نجد أن هذه التسمية حاضرة في بعض نصوصهم، ونشير على سبيل المثال إلى مؤلف جيل دولوز "الاختلاف والتكرار"، حيث يتحدث هذا الفيلسوف عن فلسفة الاختلاف عند هايدغر وعن فلسفة الاختلاف بشكل عام[29]. بيد أن القول إن الأمر يتعلق بفكر للاختلاف، لا يعني بأي حال من الأحوال أننا بصدد مفاضلة بين الفكر والفلسفة، تنتهي بتفوق مطلق للواحد منهما على الآخر. فكما يقول هايدغر إن التفكير هو أسهل بالمقارنة مع التفلسف أو التفكير الميتافيزيقي، ولكنه بسبب سهولته بالضبط هو أصعب بكثير عند الإنجاز "لأنه يتطلب عناية باللغة، لا ابتكارا لمفاهيم جديدة، بل عودة إلى المضمون الأصلي للغتنا الخاصة، الآخذة في الاضمحلال"[30].

والحديث عن فكر للاختلاف لا يعني إعلان نهاية ما للفلسفة، فالأمر أبعد ما يكون عن ذلك، إذ ما يفتأ يردد أصحاب هذا الفكر أنهم لا يشغلون بالهم بمسألة نهاية الفلسفة[31] . آي أن المقصود هنا هو فلسفة للاختلاف، لكن بمضمون مغاير، أو بتعبير آخر معنى الفلسفة في هذا السياق الخاص، مغاير لما كان سائدا في تاريخ الفلسفة. ذلك أن فلاسفة الاختلاف، من نيتشه إلى دريدا، مرورا بهايدغر، باطاي، كلوفسكي ودولوز الخ، يندرجون ضمن أفق مجاوزة الميتافيزيقا. فأهم ما يميز العصر الجديد الذي يفتتحه هؤلاء الفلاسفة، هو محاولة الإفلات من قبضة هيغل الذي اكتملت عنده الميتافيزيقا، والإعلان عن برنامج لمجاوزة الميتافيزيقا[32] .

لكن على عكس تلك المحاولات الرامية إلى مجاوزة الميتافيزيقا من خلال التموقع في الخارج (اوغست كونت، ماركس) . ستمثل الفلسفة مع نيتشه بحق بداية المجاوزة الفعلية للميتافيزيقا، مجاوزة من الداخل. فإذا كان نيتشه أول من انتبه إلى أن قهر الميتافيزيقا "يقتضي بالضرورة الرجوع إلى الوراء، لإدراك التبريرات التاريخية والنفسانية للتأملات الميتافيزيقية ولإدراك كيف أن الإنسانية قد أفادت كبير إفادة من الميتافيزيقا، وكيف أن هذا الرجوع إلى الوراء هو الكفيل وحده بان يصون أسمى ما حصلت عليه الإنسانية حتى اليوم"[33]، فان هذا الرجوع إلى الوراء هو ما يمكن أن نسميه العودة إلى الأصول والوقوف عند الأسس، وهو ما اتخذ عند نيتشه ذاته اسم الجنيالوجيا، وهو ما سيتخذ عند الفلاسفة الذين حذوا حذوه، ولا سيما فلاسفة الاختلاف، أسماء مختلفة، لكنها لنفس المسمى، أو لنفس الإستراتيجية الهادفة إلى تقويض الميتافيزيقا: فسواء تعلق الأمر بالاستذكار عند هايدغر أو التفكيك عند دريدا أو الحفريات عند فوكو،"كلها محاولات لإقامة مجاوزة فعلية لخلخلة وتقويض منطقها"[34]، القائم على مجموعة من الثنائيات. ومن هنا فمجاوزة الميتافيزيقا تعني بالأساس، إقامة عالم تتخلخل فيه الأزواج الميتافيزيقية، بدلا من تقابلها أو تعارضها أو كما يقول بنعبد العالي، بناء عالم يسكن فيه الآخر الذات والمشتق الأصل والعمق السطح والباطن الظاهر والاختلاف الهوية[35]. وإجمالا يمكن القول إن نقد نيتشه للميتافيزيقا يروم "تجاوز منطق الهوية والتطابق الذي يأسر العقل في تعارضات قاتلة، باتجاه منطق مختلف، يقر بالتعدد والاختلاف"[36] والصيرورة، أي يستهدف تجاوز منطق الهوية نحو منطق الاختلاف. ولا يتحقق هذا التجاوز، إلا إذا تم التخلي عن تصور الهوية كماهية متحققة بصورة نهائية، واعتبارها بدلا من ذلك كصيرورة ونتاج أو خلق متواصل، مادام أن الكائن، بشكل عام، هو حاصل علاقاته مع غيره من الكائنات "وهو مفتوح باستمرار على المفاجئ والمجهول واللامتوقع، وحقيقته لا تكمن في حالة أولية، أو مبدأ أول أو أصل ينبغي للبحث والتفكير أن يقف عليه"[37] .

بل الأكثر من ذلك فان قراءة نيتشه الجينيالوجية لمنطق الميتافيزيقا، بما هو منطق للهوية والتطابق، لا تكشف عن أسسه أو بنيته التحتية، التي تتشكل من مجموعة من المفاهيم المترابطة والمتراصة، والمتفاوتة الأهمية (مثل مفاهيم: الذات، العقل، الجوهر،الحقيقة الخ) فحسب، وإنما تستهدف كذلك الكشف عن مراميه، والتي تتحدد أساسا في حجب حقيقة الاختلاف، والتعدد والصيرورة، التي تطبع الحياة والوجود[38]، في أفق الحفاظ على مركزية وتعالي الذات .

والحديث عن فكر أو فلسفة للاختلاف بصيغة المفرد، لا يعني أننا أمام فكر يطبعه الانسجام، فمثلما توحي بذلك تسميتهم، فأهم ما يوحد بين فلاسفة الاختلاف، إضافة إلى انتسابهم أو علاقتهم الخاصة مع فلسفة نيتشه، هو الاختلاف ذاته، حيث تتعدد مسارات فكرهم وتتغاير، وتصل إلى حد التعارض، وان كان هناك من يرى أن بين فلاسفة الاختلاف علاقة صداقة فكرية [39].

كما انه من الأشياء التي تميز فلاسفة الاختلاف، نظرتهم إلى الاختلاف كرهان استراتيجي للفكر، وليس كمجرد موضوع أو سؤال فلسفي من بين أسئلة أخرى: و ذلك أولا، لأن الفلسفة ذاتها بعد هيجل، أضحت بلا موضوع أو أنها أصبحت أشبه بإستراتيجية، فكما يقول دريدا :"إننا نتسلل إلى فكر الاختلاف عن طريق موضوعة الإستراتيجية"[40]، لكنها إستراتيجية بدون غاية، أي أنها تنشغل بنفسها أساسا. وثانيا،لأن الهدف من ممارسة الفلسفة كما يوضح دولوز، لم يعد هو الإجابة عن الأسئلة، وإنما الخروج منها[41]. وكما يوضح دولوز، فقد تحددت مهمة الفلسفة المعاصرة مع نيتشه في قلب الأفلاطونية، إذ يستقي هذا القلب مشروعيته من كون الأفلاطونية، تقوم على تفوق الواحد، والمماثل والشبيه، بل والسلبي على الاختلاف[42]. من هنا فقلب الأفلاطونية يتخذ في فلسفة الاختلاف ، إعلاء من شأن الاختلاف، درجة أن "فلسفة الاختلاف ترى الاختلاف في كل مكان"، كما يقول دولوز[43].

وتعود الأهمية الإستراتيجية التي يحظى بها مفهوم الاختلاف في فكر الاختلاف، إلى أنه "انطلاقا من الاختلاف ومن "تاريخه" يمكننا –يقول دريدا- معرفة من وأين نحن، وما يمكن أن تكون عليه حدود عصرنا"[44] . .

- حول مفهوم الاختلاف الجنسي:

شكلت عبارة "الاختلاف الجنسي" موضوع نقاش اصطلاحي. فهناك من يفضل استعمال عبارة "اختلاف الجنسين"، لأنها مجردة من كل تحديد أو مضمون مسبق، بينما اصطلاح "الاختلاف الجنسي" يشير بشكل مسبق لفكرة خصائص الاختلاف وصفاته، حتى وان ظلت حقيقته غير مؤكدة[45]. وهناك من يرفضها لإيحائها الطبيعويnaturaliste والانطولوجي ويستبدلها بعبارة "البناء الاجتماعي للجنسين"، التي تحيل على مفهوم النوع الاجتماعي، من منطلق أن الاختلاف بين الجنسين هو نتاج للمجتمع، تتحكم فيه قيم وضوابط المجتمع، وتختلف طبيعته باختلاف المجتمع[46] .

وتشير الباحثة جنفييف فريس[47] Geneviève fraisse إلى أن اختلاف الجنسين ليست لفظا أو مفهوما فلسفيا خالصا philosophème، حيث لا نكاد نعثر على هذا اللفظ في النصوص الفلسفية، وربما من السابق لأوانه، في نظر هذه الباحثة، الحديث عن هذا المفهوم الفلسفي[48]. لكن لا يعني ذلك غياب أي حديث عن المرأة والرجل، وعن الكائنات الجنسية أو عن الواقع الجنسي، في النتاجات الفلسفية، بل المقصود هو أن الاختلاف الجنسي لم يكن يشكل موضوعا للتساؤل الفلسفي. فالنصوص الفلسفية لم تصمت عن مسألة الجنسين، بل تحدثت عنها إلى حد الثرثرة أحيانا، غير انه نظرا لافتقار الاختلاف الجنسي لوضع يؤهله ليصير موضوعا فلسفيا، ظل يظهر ويختفي تبعا للمنطق المتحكم في الخطاب الفلسفي. غير أن هذا لا يسمح في نظر هذه الباحثة بالقول ان الاختلاف الجنسي يشكل اللامفكر فيه في الفلسفة، فكما يقول فوكو "إذا كان الحديث عن الجنس خاضعا للرقابة، ففي خارج الخطاب وليس بداخله"[49].

من هنا: فإذا كان "اختلاف الجنسين" ليس مفهوما ولا موضوعا فلسفيا، فهناك مع ذلك مجالات للتفكير أو ظروف نصية حيث يظهر ويختفي، وحيث يمكن لنا بالتالي تناوله، والكشف عن آليات اشتغاله. وغالبا ما يرتبط الحديث عن هذا الاختلاف الجنسي بأشياء أخرى لها علاقة بمشكل فلسفي معين، سواء كان سياسيا أو انطولوجيا. لهذا فتناول موضوع الاختلاف الجنسي عند فيلسوف بعينه، لا يجب ان يتم بمعزل عن ارتباطاته وتداخلاته مع الموضوعات الأخرى، ولا بمعزل عن رهاناته الاجتماعية والتاريخية[50] .

وبالمقابل شكل موضوع الاختلاف الجنسي موضوعا أثيرا للأدباء، حيث يحضر بقوة في النصوص الروائية والشعرية. فأمام عجز الفكر الفلسفي العقلاني على التعرف على ذاته في صورة اختلاف جنسي، اخذ هذا الاختلاف يعبر عن ذاته في شكل انفعال passion، من خلال الأعمال الفنية والأدبية، ولاسيما في الأعمال النسائية الكبرى (فرجينيا وولف على سبيل المثال)[51]. كما أن التحليل النفسي شكل واحدا من المجالات المعرفية التي أثارت موضوع الاختلاف الجنسي، خاصة من خلال رموزه (فرويد ولاكان ). وفي هذا الصدد ترى جنيفييف فريس انه "إذا أدرجنا التحليل النفسي ضمن تاريخ الفلسفة، أي في سياق كرونولوجيا "الأنساق" الفلسفية، يحق لنا اعتبار الفلسفة مجال انبثاق مفهوم اختلاف الجنسين"[52].

ثانيا: الإرهاصات الأولى لفلسفة الاختلاف الجنسي

I- الاختلاف الجنسي قبل فلسفة الاختلاف:

إذا أخذنا الاختلاف الجنسي بمفهومه العام، يمكن القول أن التفكير الفلسفي في مسألة الاختلاف الجنسي أو اختلاف الجنسين، بدأ مع بداية الفلسفة ذاتها، إلا أن هذا التفكير ظل حبيس نزعة مركزية القضيب، إذ انصب في الواقع تفكير الفلاسفة على المرأة بوصفها "آخر" الذات المتحدثة والمفكرة، وأيضا باعتبارها موضوع رغبة وضمانة لاستمرارية النوع البشري[53].

ومنذ المرحلة الإغريقية، تبلور تصورين بصدد مسألة اختلاف المرأة عن الرجل: تصور يمثله أفلاطون، ويؤمن بوحدة الطبيعة الإنسانية، طبيعة الرجل والمرأة، ووحدة أدوارهما. وتصور آخر يمثله أرسطو، ويؤكد بالمقابل على ازدواجية الطبيعة الإنسانية، وعلى تفوق الرجل بالطبيعة على المرأة. ومع ذلك فرغم الاختلاف الظاهر بين التصورين، فهما معا يؤكدان على تراتبية الجنسين، فسواء تعلق الأمر بوحدة أو ثنائية الطبيعة، فهناك الأعلى والأدنى، الأكثر والأقل، والأدنى والأقل ظلا دائما إلى جانب المرأة[54].

إن الثابت الذي ساد عبر تاريخ الفلسفة، هو حضور الحديث عن المرأة، لكن إلى جانب الصمت عن مسألة الاختلاف الجنسي، إذ أن القاعدة التي تحكمت في هذا الحضور/الغياب هو "لا حديث عن الأنثى-المرأة حيث الحديث عن العقل وقسمته"[55] ، حيث اعتبرت المرأة آخر الرجل، الذي هو عين ذاته، والذي جعل نظام المحايد (الذي هو لا مذكر ولا مؤنث) يسود، وجعل الوجود والمفهوم والفكرة حراسا عليه يضمنون استمرارية اختزال جميع الكائنات وردها إليه .

وبذلك تم تقليص الوجود الأنثوي انطولوجيا إلى مجرد سلب خالص، يكاد لا يمت إلى الوجود سوى بصلة التحديد السلبي لذكورية المذكر الموجبة و الممتلئة، بحيث أضحت الذكورة تشكل مرجعا، لا تتعرف المرأة على ذاتها وجنسها وهويتها إلا من خلاله، أي أن المرأة لا تتعرف على هويتها الجنسية إلا سلبا، كما لو أن في وجود المرأة نقص أصلي، خواء، ثقب، جرح[56] . وبشكل عام، وكما ترى الباحثة s. agacinski[57] ، فقد تم التفكير في ماهية الإنسان والجنس البشري انطلاقا من معيار المذكر، وبذلك اعتبرت الأنوثة كنوع من الانحطاط مقارنة مع ما هو إنساني.

وإذا كانت الفلسفة تتحدد تاريخيا بوصفها خطاب العقل، فالعقل المقصود هو العقل المذكر الذي بتنصيبه لنفسه معيارا مطلقا وكونيا، أنتج قيما تستمد منه صفة الاطلاقية والشمولية والثبات[58]، "فالخطاب الفلسفي، عمل [تاريخيا] على فرض سيطرة العقل لتبرير سلطة المذكر"[59] .

والمثير أن "الاختلاف الجنسي"، في هذه الحقبة الحالية المميزة من تاريخ الفلسفة، حيث لم تعد المرأة موضوعا للتفكير الفلسفي فحسب، بل ذاتا منتجة للفكر الفلسفي، مع كل من سيمون دو بفوار وحنة ارندت وغيرهما، لا يمثل المسكوت عنه بالنسبة للفلاسفة الذكور فقط، بل حتى بالنسبة للإناث على قلتهن، أو على الأقل بالنسبة لبعضهن، فإذا أخذنا حنة ارندت كمثال "فلا يعني شيئا بالنسبة لها أن تكون امرأة، ونادرا ما نرى مثقفة لا تأبه بالقضية النسائية مثلها[60]، فهي تسم الاختلاف الجنسي ب"الاختلاف الصغير"، الذي لا يستحق أدنى اهتمام .

بيد أنه من المجحف في حق الفلسفة المعاصرة إدراجها بأكملها، ضمن التراث الفلسفي الميتافيزيقي القائم على مركزية العقل والقضيب، خاصة مع بعض رموزها مثل نيتشه و هايدغر، فهي على الأقل شكلت لحظة انعطاف وتحول في رؤية المرأة، ومهدت لرؤية مغايرة للمرأة، قائمة على مفهوم الاختلاف الجنسي، خاصة مع فلاسفة الاختلاف، وبشكل خاص مع جاك دريدا. وكما تؤكد الباحثة f. collin[61]، فبفضل إسهامات فلاسفة الاختلاف منذ نيتشه، إلى دولوز ودريدا، مرورا بهايدغر، أمكن على الأقل طرح مسألة الاختلاف الجنسي كموضوع أو برنامج للتفكير والمساءلة، وهو ما تضطلع بإنجازه الحركة النسائية الحديثة، إن على مستوى الفكر أو على مستوى الواقع، على اعتبار أن التفكير في مسألة الاختلاف الجنسي ومساءلة مركزية العقل والقضيب هي كما أوضح دريدا بمثابة عمل سياسي معارض، خصوصا وأن الحديث عن النزعة النسائية لم يعد حديثا عن حركة اجتماعية وسياسية فحسب، بل هو حديث أيضا عن اتجاه فكري، يمتح من معين الفكر الفلسفي المعاصر، وخاصة إسهامات دريدا ودولوز.

II- الاختلاف الجنسي في فلسفة الاختلاف:

1- الاختلاف الجنسي في فلسفة نيتشه:

إن الاهتمام بمسألة الاختلاف الجنسي في الفلسفة المعاصرة، سيبدأ مع نيتشه، وسيتواصل مع فلاسفة الاختلاف. ولو أنه غالبا ما يتم اعتبار نيتشه من ابرز أعداء المرأة، بالنظر إلى أن خطابه الفلسفي رسم صورة قاتمة عن المرأة، و كرس بالتالي إقصاءها التاريخي. بل هناك من يعتبر[62] أن نظرة نيتشه الدونية للمرأة، وتأبيده للإقصاء الفلسفي المفروض عليها، يشكل شهادة محزنة على قوة تأثير النظام الأبوي، حتى على فيلسوف مثله كان يملك كل المؤهلات لتقويض دعائم هذا النظام.

وفي الواقع ليس من السهل الكشف عن حقيقة موقف نيتشه من المرأة، أمام طابعي التشظي واللاتجانس L'hétérogénéité المميزين لمتنه الفلسفي[63] . فالمؤكد بالنسبة لدريدا هو أنه ليست هناك حقيقة في ذاتها، ولا حقيقة للمرأة في ذاتها بالنسبة لنيتشه، وصور المرأة المختلفة والمتناقضة، التي تحضر على مستوى خطابه الفلسفي، تعكس هذه الحقيقة. وكما لا حظ دريدا[64]، فهذا ينسجم مع حقيقة نيشته ذاته ومع طبيعة فلسفته، حيث ليست هناك حقيقة لنيتشه أو لنص نيتشه. وحتى عندما يقول نيتشه "هذه حقائقي"، يقول ذلك في فقرة حول المرأة، ليؤكد على أنها ليست حقائق بالنظر إلى أنها متعددة ومتناقضة[65].

ينظر نيتشه إلى المرأة باعتبارها مجازا، مجازا للحياة والحقيقة والفن. ويشير هذا الاستعمال البلاغي للمرأة إلى عدم استقرار المعني والقيم التي تنسب إلى المرأة والرجل، والتي يعتبرها دريدا رموزا لعدم استقرار ناتج عن" أساليب" خطاب نيتشه ذاته[66]. لكن يمكن القول إن نقد نيتشه للعقل والثنائيات الميتافيزيقية وتأكيده بالمقابل للجسد، الاختلاف، الصيرورة والعود الأبدي، هو ذاته تأكيد للأشياء التي ارتبطت تاريخيا بالمرأة ومقتت من طرف اللاهوت والفلسفة القائمين على النظام الأبوي.

ولعل المفارقة التي تكشف عنها فلسفة نيتشه في نظر المهتمين بفلسفته، تتمثل في "عجزه عن إزاحة الرجل عن مكانته المتميزة بعد نجاحه في إزاحة أغلب الدعامات الفلسفية واللاهوتية واللغوية التي ظل الرجل محافظا بواسطتها على ذلك الامتياز"[67]، أي أن نقده لمركزية اللوغوس logocentrisme، بلغة دريدا، لم يمتد ليشمل نقد مركزية القضيب phalocentrisme. هذا على الرغم من أن المشروع الفلسفي لنيتشه الذي يستهدف تقويض الميتافيزيقا، يتوخى في العمق تفكيك الأسس الفلسفية لمركزية أو سلطة القضيب. فالنقد الجنيالوجي الذي يوجهه نيتشه إلى "القيم المضادة" للحياة، نقد ضمني للميتافيزيقا واللاهوت الأبويين، أو على الأقل أإ هذا النقد الجينيالوجي يمكن أن يوظف بسهولة لتعرية الموضوعية المزعومة في الأحكام والادعاءات، التي تؤسس سلطة الذكر، أو مركزية القضيب[68].

كما أن نقد نيتشه للنزعة النسوية، هو في العمق نقد للمبدأ الذي تنطلق منه، والقائم على تنكر تام للاختلاف الجنسي أو إلغاء تام للفوارق الجنسية بين الرجل والمرأة، والذي يجعل المرأة تنزع إلى التخلي عن خصائصها الأنثوية سعيا إلى التشبه بالرجل، ويدفع الرجل بدوره إلى التماهي مع المرأة بحثا عن المساواة معها. وكما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد أندلسي[69]، فان التنكر للخصوصيات الفردية والجنسية والتشبه بالنموذج المهيمن والمسيطر، يفسر اكتساح العلاقات المثلية لمجال العشق .

وقد بين دريدا، بأن هناك "أطروحات ذات نزعة نسوية ظاهرة، في ثنايا مجموع الكنايات التي يعبر من خلالها نيتشه عن عدائه للنزعة النسوية"[70]. حيث أن فلسفة نيتشه تلتقي ضمنيا مع انشغالات الحركة النسائية، وذلك من خلال تأكيده على التغير والاختلاف والصيرورة، في مقابل الهوية والتطابق[71] .

ويبقى أن مشروع نيتشه الفلسفي، كما تجسد في فكره وفي أسلوب كتابته و في منهجه الجنيالوجي، يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة لفكر الاختلاف الجنسي كما بدأ يتجسد لدى الحركات النسائية، في بعض المجتمعات الغربية "الولايات المتحدة الأمريكية، ايطاليا، وفرنسا في وقت متأخر"[72]، وهذا الذي يفسر كون هذه الحركات النسائية تتخذ من فلاسفة الاختلاف مرجعية فكرية ونظرية للتفكير في واقع المرأة، وفي إشكالية الاختلاف الجنسي، بل وتعتبر نفسها كفكر اختلاف أو فلسفة للاختلاف الجنسي .

والخلاصة انه عندما يتحدث دريدا عن الاختلاف الجنسي عند نيتشه، في مؤلفه[73] الذي خصصه لبحث مسألة الأسلوب والمرأة عند هذا الفيلسوف، فهو يتحدث عنه باعتباره ممكنا أكثر منه كائنا أو متحققا في ثنايا المتن النيتشوي، فهو لا يتوانى عن ترديد حقيقة أنه "ليس هناك من وجود أو ماهية للمرأة أو للاختلاف الجنسي"[74] عند نيتشه .

2 - الاختلاف الجنسي في فلسفة هايدغر:

إن الحديث عن الاختلاف الجنسي عند هايدغر هو بمعنى من المعاني حديث عن اللامفكر فيه، هو استنطاق لصمت هايدغر، وبحث في أثر trace هذا الصمت، الذي ليس مسألة اعتباطية. هو أيضا دفع لنص هايدغر ليقول ما لم يقله صراحة، أو ما قاله بشكل ضمني. وهو أخيرا دفع لهذا النص إلى أبعد من ذاته، أي هو، بلغة دريدا نفسه، مساهمة في مسيرة النص عبر البحث في ما صمت عنه هذا النص، واعتبره مجرد هامش .

فصمت هايدغر عن الاختلاف الجنسي هو كما يقول دريدا أيضا،صمت متعد transitif (هو صمت عن...) ، لكنه صمت معبر ودال، لأنه لا يعدو أن يكون محطة من محطات طريق ممتد، طريق الكلام الذي يبدو انه انقطع[75] . من هنا فقد يكون" للصمت بلاغة وقوة تعبير تفوق بكثير بلاغة الكلام"[76] .

ويندرج تناول دريدا لموضوع الاختلاف الجنسي عند هايدغر، ضمن مجال اهتمامه بفكر صاحب "الوجود والزمان' بشكل عام، و ضمن مجال بحثه في مفهوم Geschlecht[77] عنده بشكل خاص[78] . هذا البحث الذي أثمر نصين أساسيين هما:

- "الاختلاف الجنسي، الاختلاف الأنطولوجي (1 Geschlecht) "(1983) .

- "يد هايدغر ( 2Geschlecht )"(1985) .

وإذا كان الاختلاف الجنسي هو الموضوع الأساسي للنص الأول، كما يتأكد من خلال العنوان ، فان هذا الاختلاف يحضر في النص الثاني، في معرض مساءلة دريدا للأهمية التي يعطيها هايدغر لليد في تحديد مفهوم الإنسان، من أجل استكناه حقيقة مفهوم Geschlecht باعتباره يشير إلى الجنس أو الاختلاف الجنسي، ودائما انطلاقا من مبدأ البحث في ما قاله هايدغر أو ما صمت عنه بخصوص هذا العضو الجسدي[79] ، لاسيما وأن دريدا يلاحظ أيضا في هذا النص أن هايدغر يقول كل شيء عن اليد. يتحدث عنها باعتبارها تمنح وتأخذ الخ، لكنه لا يأبه باليد كموضوع للرغبة الجنسية، وبالتالي فهو يلوذ بنوع من الحياد الجنسي ضدا على القول بالاختلاف الجنسي[80] .

بينما حاول دريدا، في النص الأول، الذي يهمنا أكثر في هذا المقام، تتبع أثر حضور" مسألة الاختلاف الجنسي"، عبر ثنايا المتن الهايدغري، وإن كان يركز على نص درسه في ماربورغMarbourg . وأول ملاحظة يشير إليها دريدا في هذه المحاضرة، هي صمت هايدغر، عن هذا النمط من الاختلاف، أو بتعبير دريدا نفسه، "ربما لم يقل شيئا مطلقا عن الجنس أو العلاقة الجنسية، الاختلاف الجنسي ، المرأة والرجل"[81]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قراءة دريدا تعي خصوصية المتن الهايدغري، فهو عندما يشير إلى صمت هايدغر عن الاختلاف الجنسي، لا يقصد صمتا مطلقا، بل نجده يستعمل في مناسبات عدة صيغة الاحتمال"ربما..." .

وصمت هايدغر عن الاختلاف الجنسي، يوحي في نظر دريدا بأن هذا الاختلاف لا يرقى إلى مستوى الاختلاف الانطولوجي[82]، الذي حظي باهتمام هايدغر أو بالأصح بكل اهتمامه، مادامت فلسفته تتمحور حول سؤال الاختلاف الانطولوحي. والأكثر من ذلك أن هذا الصمت يعطي الانطباع بأن الاختلاف الجنسي، الذي حظي في السابق باهتمام الفلاسفة أمثال كانط، هيغل، نيتشه وهوسرل-رغم ما يقال عن طبيعة هذا الاهتمام -لم يعد مع هايدغر شأنا فلسفيا[83]، بل أضحى يدخل ضمن مجال اهتمام حقول معرفية أخرى كالانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والبيولوجيا، وطبعا الدين والأخلاق.

فالأمر يتعلق إذن بمفارقة: صمت هايدغر عن موضوع الاختلاف الجنسي والجنسانية sexualité بشكل عام، في زمن الحداثة حيث "كل شيء هو جنسي، وكل شيء هو سياسي، والعكس"[84]، وحيث صار كل ما ما يمت للجنسانية بصلة، هو موضوع ثرثرة وعملة رائجة في حقل المعرفة . ويسجل دريدا بأن صاحب "الوجود والزمن" لا يثير الاختلاف الجنسي حتى عندما يتناول"الوجود-في العالم بوصفه وجودا-مع- الغير"[85]، فالمفهوم يغيب حيث كان يلزم أن يظهر. وهو ما يجعل دريدا يستنتج أن الاختلاف الجنسي لا يمثل بأي حال من الأحوال خاصية أساسية للوجود أو للدازين Dasein عند هايدغر. ويؤكد هذه الحقيقة هو نفسه ، عندما يعتبر في مؤلفه "الوجود والزمن" الدازين بمثابة الموجود المثالي[86]، أي أن البنية الوجودية للدازين لا تحمل في نظره أي علامة جنسية، تفيد انتماءه لجنس معين .

لكن بشكل مفارق، ينطلق دريدا من مفهوم الدازين نفسه، كما أبدعه هايدغر، ليثير مسألة الاختلاف الجنسي . ويشير إلى أن أول خاصية، يؤكد عليها هايدغر، باعتبارها مميزة للدازين هي الحياد. فهو لا يستعمل كلمة "رجل" للحديث عن هذا النمط من الموجود، بل نجده قد فضل الكلمة المحايدة الـ"دازاين"dasein[87]. ورغم التعدد الدلالي الذي يسم كلمة حياد، يرى دريدا أن ما يقصده هايدغر ليس شيئا آخر غير الحياد الجنسي. فإذا كان التأكيد على حياد الدازين، كموجود مثالي، يروم تضييق الحقل الدلالي لهذا المفهوم . فان هذا النوع من التضييق،لا يستقيم دون الإشارة إلى الحياد الجنسي، الذي ينتهي إلى نوع من لاجنسانية الوجود –هناl'asexualité l'être –là وبتعبير آخر فالقول بالحياد الجنسي يعني أن الدازين لا يشير لا إلى هذا الجنس ولا إلى ذاك. وبلغة هايدغر"يعني الحياد أيضا أن الدازين ليس أي واحد من الجنسين"[88] .

ويوضح دريدا في هذا السياق المخصوص، كيف أن لفظة "أيضا" الواردة في كلام هايدغر، تكشف أهمية الحياد الجنسي عنده في تحديد طبيعة الدازين، حيث يؤكد عليه مباشرة بعد إشارته إلى الخاصية العامة لهذا الموجود، والمتمثلة في طابعه الإنساني، فمن بين كل خصائص إنسانية الإنسان التي عمل هايدغر على تحييدهاneutraliser ، نجد الجنسانية. ولهذا يستنتج دريدا أن "الانتقال من "رجل"Mensch ، بل من إنسان Mannإلى دازين Dasein، معناه الانتقال من المذكر إلى المحايد"[89].

أما لماذا تتبادر إلى الذهن مباشرة خاصية اللاجنسانية بمجرد الحديث عن حياد الدازين؟ فمرد ذلك أولا إلى أن كلمة حياد الألمانية تحيل على ثنائيةbinarité. فإذا كان الدازين محايدا، وإذا لم يكن يمثل "الرجل"، فالنتيجة الأولى التي يمكن استخلاصها هي انه لا يخضع للقسمة الثنائية، أي أن أول ما نفكر فيه، في مثل هذه الحالة، هو أنه لا يخضع لمنطق الاختلاف الجنسي. وبالتالي فإذا كان الوجود-هنا لا يدل على "رجل"، فهو لا يشير بالأحرى لا إلى "رجل" ولا إلى "امرأة" [90].

إن القول "إن الدازين لا يختزل لا في الوجود البشري، ولا في الأنا ولا في الشعور أو اللاشعور، ولا في الذات ولا في الفرد، ولا حتى في الحيوان العاقل"[91]، يعطي الانطباع بأن مسألة الاختلاف الجنسي لا ترقى إلى مستوى المسألة التي تبحث في معنى الوجود، مسألة الاختلاف الانطولوجي، ومن ثمة فهي مسألة لا تستحق أي معالجة فلسفية مميزة والحال، يقول دريدا، أن العكس هو الصحيح، لإن تأكيد هايدغر على حياد الدازين الذي هو حياد جنسي في العمق، هو استحضار ضمنى للاختلاف الجنسي، وذلك بالنظر إلى أن الحياد اللا-جنسيa-sexuelle ، لا ينزع الطابع الجنسي عن الدازين، بقدر ما يكشف عن علامات الاختلاف التي تطبعه أو بتعبير أدق الثنائية الجنسية التي تخترقه ضمنيا[92]. إذ لا تتحدد اللاجنسانية بما هي كذلك إلا لأن الجنسانية ترتبط بثنائية أو تقسيم جنسي. "فإذا كان الدازين لا ينتمي إلى أي من الجنسين فهذا لا يعني انه كموجود مجرد أو محروم مما هو جنسي. على العكس يمكن أن نفكر هنا في جنسانية قبل اختلافية prédifférencielle، أو بالأحرى قبل ثنائية préduelle"[93] .

ويقترح دريدا التفكير في ما يمكن أن يشكل مصدر هذه الجنسانية الأكثر أصالة من الاثنينية الإغريقيةla dyade ، أي في هذا" المصدر الايجابي والقوي لكل جنسانية ممكنة"، والذي يحتاط هايدغر من وسمه بسمة "الجنسي"، خوفا بلا شك من السقوط في منطق الثنائيات الذي تقرنه دائما الانثروبولوجيا والميتافيزيقا بالجنسانية .

من هذا المنطلق يرى دريدا أنه من الصعب التغاضي عن حضور موضوع الاختلاف الجنسي عند هايدغر. فقد يبدو الحديث عن اللاجنسانية والحياد، أثناء تحليل الدازين، متعارضا مع مضمون الاختلاف الجنسي، على مستوى الظاهر على الأقل، بيد أنه كما يوضح دريدا، يشير في العمق إلى ذات الحقيقة، فالحياد أو اللاجنسانية "هي في الحقيقة من ذات الجانب، جانب هذا الاختلاف الجنسي"[94](ص157) . هذا رغم ما قد يوحي به هذا الكلام من عنف في التأويل .

ويشير دريدا أيضا إلى أن الدازين عموما يخفي أو "يتضمن في ذاته الإمكانية الداخلية للانتشار أو التوزع [الموضوعي والواقعي] في الجسم الخاص، ومن "ثمة في الجنسانية". فكل جسم خاص هو جنسي، وليس هناك دازين بدون جسم خاص"[95]. وبالتالي فالنتيجة، هي استحالة تصور الدازين بعيدا عن ما هو جنسي. فهو يرتبط بالضرورة بجنس معين، هذا الجنس الذي يتحدد بدوره كمقابل لجنس آخر .

وينبغي، في نظر دريدا، توضيح الاختلاف الجنسي أو الانتماء إلى جنس انطلاقا من الوجود-معL'être –avec ، وليس العكس. فهذا الوجود-مع لا ينبثق انطلاقا من رابطة اصطناعية" فهو لا يفسر ذاته انطلاقا من وجود جنسي Générique يفترض أنه أصلي، ة"ذلك أنه لكل وجود جنسي جسمه الخاص، الذي يخضع للتجزيء تبعا للاختلاف الجنسي. وعلى العكس فنزوع معين إلى التجميع، إلى وحدة الجنسين وتقاربهما، كل ذلك يتأسس "كافتراض قبلي ميتافيزيقي" على تشتت الدازين باعتباره كذلك[96].

والمؤكد بالنسبة لدريدا هو أن مسألة الاختلاف الجنسي تبقى مطروحة للتفكير[97]. ويبقى من الضروري العودة إلى "الوجود والزمان"، من أجل طرح مسألة الجنسانية عند هايدغر، حتى وإن كان لم يستعمل كلمة جنسانية صراحة واستعاض عنها بمفاهيم الحياد،السلبية، التشتت الخ . وما يبرر هذه العودة، هو أن التحييد المشار إليه في درس ماربورغ،" يرتبط مع ما قيل في "الوجود والزمان" عن "التأويل السالب privative""[98] . لدرجة أنه يمكن في نظر دريدا أن نتحدث عن بداية تأسيس هايدغر لانطولوجيا للحياة، تبحث في البنية الانطولوجية للكائن الحي، وذلك انطلاقا من أو عبر "طريق" هذا التأويل السالب privative ذاته. وهو ما يعني أن الطريق سالكة بين الاختلاف الجنسي ونظيره الانطولوجي.

بحيث ينبغي التذكير باستمرار، بحقيقة أن موضوع الاختلاف الجنسي لا ينفصل في النهاية عن موضوع الوجود، أو عن التحليل الوجودي للدازين[99]. والواقع أن العودة إلى "الوجود والزمان" تمكن في نظر دريدا، من فهم أفضل لحقيقة خطاب هايدغر حول الاختلاف الجنسي، وتكشف كيف أن هذا الخطاب ينزع نحو فكر للاختلاف الجنسي، فقط هذا الاختلاف ما يزال لم يتخذ صيغة ثنائية جنسية، أو اختلاف جنسي في صيغة ثنائية. وبالتالي يظهر بأن "ما تم تحييده على مستوى درس مالبورغ يتعلق بالعلامة "الجنسية" للاختلاف الجنسي، وبالانتماء إلى أحد الجنسين، أكثر منه بالجنسانية ذاتها"[100] . وينتهي دريدا إلى أن كلمةGeschlecht ، في درس مالبورغ تشير إلى الجنسانية، مع ما تفترضه أو تحيل عليه هذه الجنسانية من ثنائية واختلاف جنسي[101]. إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن دريدا عندما يعتبر أن هايدغر "لم يطرح المسألة الجنسية أو على الأقل أخضعها لمسألة عامة، هي مسألة حقيقة الوجود"[102]، فهو لا يفترض وجود اختلاف جنسي في ذاته . ذلك أنه "ليست هناك حقيقة في ذاتها للاختلاف الجنسي في ذاته"[103].

والخلاصة إذن هي أن مشروع هايدغر الفلسفي الذي يتأسس على نقد الميتافيزيقا، لم ينجز بلغة جنسية ،sexués تنفتح على بعد الاختلاف الجنسي[104]، بل ظل حبيس سؤال الوجود. ولم يتحقق الانشغال الفعلي بإشكالية الاختلاف الجنسي إلا في السبعينيات من القرن العشرين، في إطار الأفق الفكري الذي انطلق مع النزعة النسوية الجديدةnéo féminisme ، بتأثير من بعض فلاسفة الاختلاف، وخاصة دريدا ونقده العنيف لنزعة مركزية القضيبphallocentrisme أو مركزية العقل والقضيب phallogocentrisme .


ثالثا: التأسيس النظري لفلسفة الاختلاف الجنسي

بدأت مسألة الاختلاف الجنسي تشكل موضوعا أساسيا للنقاش في المجتمع الفرنسي، منذ حوالي ثلاثين سنة فقط[105]. ويعود الفضل في طرح موضوع الاختلاف الجنسي للتفكير إلى فلاسفة الاختلاف (دريدا ودولوز بشكل خاص)، والى إسهامات الباحثين في مجال التحليل النفسي (خاصة جاك لاكان)، والى الدينامية الاجتماعية التي خلقتها الحركات النسائية، في المجتمعات الغربية، خلال سنوات السبعينيات [106].

والواقع أن ما يلاحظه دريدا على هايدغر، ينطبق على كل تاريخ الفلسفة، أو تاريخ الميتافيزيقا الغربية، على اعتبار أن إعادة النظر في مركزية القضيب لا تنفصل عن نقد الميتافيزيقا بشكل عام بتمركزاتها المختلفة (العقل،الصوت...). غير أن الباحثة فرانسواز كولان Françoise collin ترى مع ذلك "أن هايدغر قد هيأ بشكل مباشرة لهذا التحول، عندما حدد الكائن البشري باعتباره دا-زين da-sein "وجود- هنا""être-la"، والذي يتم تعريفه ليس بالتحكم الأداتي في الوجود، وإنما بالإصغاء له" [107].

يعتبر دريدا أن "الفلسفة هي إيديولوجيا المجموعة الإثنية الغربية"[108]. ويوضح فانسان ديكومب بأن مفهوم "إيديولوجيا"، هنا يعني أن خطابا معينا، أو نسبيا، يقدم نفسه على أنه كوني ومطلق، أي أن الايدولوجيا هنا تأخذ معنى القناع الذي يقدم "حقيقة ما"، لكنه يحجب حقيقته الفعلية.

ونقد دريدا للفلسفة أو للميتافيزيقا الغربية، ليس نقدا عدميا، بل هو نقد يضع نصب عينيه فلسفة أكثر كونية و عقلانية أكثر اتساعا وشمولية[109]. أو بتعبير ديكومب "يفترض هذا البرنامج دائما أن أمام العقل مستقبل"[110] يتعين بناؤه، بمعول النقد والتفكيك .

فبعد سجالات طويلة خاضها دريدا مع أبرز رموز الفكر الغربي(أفلاطون، روسو، سوسير، ستراوس، هوسرل ...)، ينتهي إلى الإقرار بحقيقة تمركز الغرب عرقيا[111]. ويظهر دريدا "أن هذا التمركز العرقي" يستند على تمركزات أخرى، تمركز عقلاني أو تمركز اللوغوس، تمركز صوتي ، وتمركز القضيب . وتدخل فلسفة دريدا التفكيكية ضمن أفق فكر ما بعد الحداثة. فهي تستهدف تجاوز أشكال الحداثة الغربية-ذات الجذور الغربية-التي تقوم على فكرة التحكم: تحكم الذات في الموضوع، ولكن أيضا تحكم الرجل في المرأة. فمركزية العقلlogocentrisme هي الوجه الآخر لمركزية القضيبphallocentrisme من هنا حديث دريدا عن مركزية العقل والقضيب [112]phallogocentrisme. فبالتضاد مع مفاهيم "الأصل" و"الهوية" و"الكلية " الخ،المفاهيم التي شكلت نسيج الميتافيزيقا الغربية، يحرف دريدا كل شيء باتجاه "الاختلاف" الذي يعدل من أجله المفردة الفرنسية نفسها التي تدل عليه من différence إلى différance ... أي أنه بالتضاد مع "الأزواج" المفاهيمية المزدوجة التي يتمحور حولها الفكر الغربي، والتي تحيل إلى "طوابق" وعلاقات تراتبية محكومة بالتوزع إلى طرفين متناقضين، يقترح دريدا ويدفع إلى العمل سلسلة من الكلمات مزدوجة المعاني تحمل داخلها قوة الخلخلة والتفكيك، عملت الميتافيزيقا الغربية على الحط من أحد معانيها دائما"[113]. كما هو الحال مثلا مع ثنائية" الذكر / الأنثى"، التي تحكمها علاقة التناقض من جهة ( تناقض طبيعة الذكر مع طبيعة الأنثى) وعلاقة التراتبية من جهة أخرى (تفوق وهيمنة الذكر على الأنثى)، والتي تم الحط تاريخيا من دلالة الطرف الثاني، والإعلاء من قيمة ودلالة الطرف الأول.

فعمل دريدا إذن يقوم على "بعث طاقة التعبير الحية في المعنى الآخر(المهمش) لكل من هذه المفهومات، والتأكيد عليه، بقوة، بحيث يعود يواجهنا كلما ورد ذكر الكلمة التي تضمنه"[114]. من هنا لا يصبح أمرا بديهيا الحديث عن الجنس الثاني، كجنس يتحدد بالقياس إلى جنس آخر يضع نفسه بوصفه جنسا أولا وأصليا، آو الحديث عن الجنس الآخر، كمقابل لجنس يتحدد بوصفه ذاتا ومركزا، أو الحديث كذلك عن الجنس اللطيف أو الضعيف sexe faible ، من منطلق أن هناك جنس خشن يجسد القوةsexe fort. وكما لاحظ فانسان ديكومب، في معرض تحليله لمفهوم الاختلاف عند دريداdifférance "فالثاني ليس ما يأتي بعد الأول فحسب، وإنما هو ما يسمح للأول بان يكون أولا. وهكذا فالأول لا يصير أولا بقواه وبامكاناته وحدها، بل ينبغي على الثاني أن يساعده بكل قوة تأخره، فبفضل الثاني يكون الأول أولا"[115]،وهذا ما يجعلنا نستنتج أن الأول هو في الحقيقة "ثالثا". فمقاربة دريدا التفكيكية، تعمل على تقويض الزوج الميتافيزيقي مذكر/مؤنث، وتقطع بذلك مع التمثل الثنائي للجنسين، وبالتالي مع مبدئه التراتبي[116] فهو عندما يعيد الاعتبار لطرف الثنائية المقصي والمهمش أي للمؤنث، لا يستهدف تأسيس مركزية أنثوية مضادة لمركزية القضيب. بل هو يروم تقويض دعائم كل ثنائية، كيفما كانت، باعتبارها تمثل لبنة في صرح الميتافيزيقا. فبرنامج تفكيك دريدا للميتافيزيقا، هو ذاته برنامج نسف دعائم كل مركزية .

وفي هذا السياق نفهم نقد دريدا للنزعة النسوية التي تزعم النضال ضد الهيمنة الذكورية أو الفالوقراطية "phallocratie"، لكنها تؤكد في العمق، و بشكل مفارق، على ثنائية الذكر/الأنثى الميتافيزيقية، فتحصر الاختلاف في دائرة التعارض، مجسدة بذلك صورة النموذج الارتكاسي بلغة نيتشه[117]. فهذه النزعة عندما تطرح، في نضالها من أجل تحرر المرأة، "نحن النساء" في مقابل"هم الرجال" فهي تفترض تصورا ميتافيزيقيا للهوية الجنسية. ومع ذلك فنقد دريدا للنزعة النسوية لا يصل إلى أقصى مداه، بل نجده يقر بأهميتها المرحلية . فهي تشكل، في نظره، لحظة تاريخية مؤقتة في اتجاه التحرر من التحرر نفسه[118].

وبشكل عام يمكن القول إن تأثر دريدا بموقف نيتشه، يفسر نزوعه إلى الحديث عن الاختلاف الجنسي بصيغة الجمع، أي عن اختلافات جنسية، بدلا من الحديث عن اختلاف جنسي بحصر المعنى، يأخذ صبغة ثنائية وتقابلية، ويبقى حبيس مركزية القضيب[119].

وفي ذات منحى فلسفة الاختلاف، طرح جيل دولوز[120] منطق الأغلبية والأقلية، باعتباره يمثل آلية من الآليات التي تدعم مركزية وهيمنة الغرب، للمساءلة والنقد. فالأغلبية تفترض معيارا أو نموذجا تتحدد بالقياس إليه، هذا المعيار هو الرجل أو الذكر، الأبيض، الغربي، العاقل، الذي يقطن المدينة، ويتحدث اللغة الرسمية الخ. وتبعا لهذا المعيار، تتحدد الأقلية باعتبارها تمثل تلك الفئة من الناس، المختلفة في الجنس واللون واللغة والانتماء الجغرافي والثقافي الخ. وتبعا لهذا المعيار أيضا فالأقلية يمكن أن تكون أغلبية على مستوى الواقع. فالنساء مثلا هن أقلية دائما، مهما كان عددهن، حتى ولو شكلن أغلبية مقارنة مع الرجال .

ويعيد دولوز الاعتبار للأقلية، عندما يكشف حقيقة "أن الأغلبية بالنظر إلى أنها تحليليا متضمنة في المعيار، فهي دائما لا أحد، بينما الأقلية هي صيرورة كل الناس، صيرورة بالقوة، بحكم أنها تحرف أو تحيد عن النموذج"[121]، فالأغلبية لا تمثل أبدا صيرورة، ليست هناك من صيرورة إلا وهي أقلية، ولذلك فهي مبدعة. ولهذا، فعلى مستوى الاختلاف الجنسي بين الرجال والنساء مثلا، يرى دولوز "أن النساء يشكلن أقلية مهما كان عددهن مساويا أو متجاوزا لعدد الرجال، ويتحددن غالبا باعتبارهن كحالة أو مجموعة أدنى، لكنهن لا يبدعن إلا بجعل صيرورة ما ممكنة، صيرورة لا يتحكمن في خاصيتها، بل ينبغي أن يندرجن هم أيضا ضمنها. المقصود طبعا، صيرورة –امرأةdevenir-femme تهم الإنسان ككل، بما في ذلك اللا-نساءles non-femmes "[122]. لهذا الاعتبار يتحدد فكر ما بعد الحداثة بوصفه "صيرورة امرأة""devenir femme" ، أو هو" صيرورة مؤنث""devenir féminin للفكر والفعل[123].
خاتمــــة

وفي الأخير نقول مع Luce irigarayإن الاختلاف الجنسي، يبقى رغم كل ما قيل، في حكم الممكن أكثر منه كائنا أو متحققا، في الفكر أو في الواقع، وهو لذلك يظل أحد أهم المسائل التي يتعين علينا طرحها للتفكير في عصرنا هذا[124]. فقد أضحى من اللازم فتح أشكال التعبير والمعرفة، من أجل احتضان الإنتاجات الرمزية التي تعبر عن التجربة الأنثوية، لأن تجارب النساء ظلت تاريخيا محرومة من الوسائط الضرورية من أجل أن تعرف ذاتها وتعبر عنها، أو ظلت خاضعة في أحسن الحالات لوساطة الفكر الذكوري.

لهذا فأهم ما يميز فكر الاختلاف الجنسي إذن هو أنه مبدع الوساطات الأنثوية، فهو فكر سياسي يناضل من أجل فك عزلة المرأة. فالمهمة المركزية لهذا الفكر هي تجريد الاختلاف الجنسي من سطوة الهيمنة الجنسية.

ولعل ما يثير الاستغراب في نظر[125]Luce irigaray، هو هذا الاهتمام الباهت والمتأخر بموضوع الاختلاف الجنسي في فرنسا، التي شهدت التجسيد الفعلي لفلسفة الاختلاف، مع دولوز ليوطار ودريدا. فظهور فلسفة الاختلاف الجنسي، تم خارج فرنسا، في الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا بشكل خاص. وكما تشير إلى ذلك هذه الباحثة الإيطالية "يشهد فكر الاختلاف الجنسي تطورا متزايدا في إيطاليا مقارنة مع فرنسا، فهو يشكل رهانا للنقاشات العمومية والسياسية"[126]. أما ببلادنا فمازال لم يحظ هذا الجانب المهم من الواقع الإنساني بما يستحق من اهتمام،هذا في الوقت الذي لم يعد يمثل الاختلاف الجنسي مجرد موضوع للتأمل والتفكير الفلسفي، بل صار يرتبط بما هو عملي، حيث أصبح الحديث اليوم عن ثقافة الاختلاف الجنسي، وعن سياسة الاختلاف الجنسي.

[1] Luce irigaray "le temps de la différence" éd -librairie générale française –paris 1989

[2] Benoist .j.m et autres « l identité » -éd grasset- frasquelle-paris 1977-p13-14

ذكره عند علي حرب:"التاويل والحقيقة"منشورات دار التنوير للطباعة والنشر- بيروت 1985-ص237.

[3] عبد السلام بنعبد العالي"ثقافة الأذن وثقافة العين " دار توبقال للنشر 1994 ص30

[4] Ernst cassirer « Essai sur l homme » éd minuit- tr.norbert massa- paris -1975-p19.

[5] M. guillaume et j.baudrillard "figures d altérité" – éd Descartes –Paris-1994-p49

[6] Valeska wallertein « le féminisme comme pensée de la différence » tr.marie-France dépeche-in labrys études féministes juillet 2004

[7] A.khatibi « Maghreb pluriel » éd denoel –paris 1982-p20

[8] محمد أندلسي:"نحو سياسة جديدة للكتابة في الفلسفة" مجلة عالم الفكر –العدد 4 المجلد 33- ابريل/يونيو 2005ص67.

[9] نفس المرجع

[10] Entretien avec Jacque Derrida –in le monde de l éducation - n 284 septembre 2000.

[11] - علي حرب" نقد الحقيقة" المركز العربي –بيروت- البيضاء 1993-ص29.

[12] - عبد السلام بنعبد العالي "ثقافة الاذن وثقافة العين" مرجع مذكور ص30.

[13] - عبد الكبير الخطيبي" النقد المزدوج" ترجمة ادونيس واخرين-منشورات عكاظ-الرباط-1990-ص8.

[14] Ibid

[15] les notions philosophiques tome 1,volume dirigé par sylvain Auroux éd Puf.Paris 1990 p2368

[16] بكلية الآداب والعلوم الانسانية-جامعة مولاي اسماعيل بمكناس.

[17] نستثني كذلك الملف الذي خصصته مجلة الحكمة للموضوع(العدد الثالث- شتاء 1993) والكتاب الجماعي الذي نشر خلال هذه السنة(2005)، والذي يتضمن محورا حول الاختلاف بين الجنسين في الفكر الفلسفي :

- « le féminin en miroir :entre orient et occident » -sous la direction de :isabelle krier et Jamal eddine el hani-éd le fennec 2005.

لكن مع ذلك، لابد من الإشارة إلى أنه حتى على مستوى الدول الغربية، لم يبدأ الاهتمام الفعلي بموضوع الاختلاف الجنسي إلا في وقت متأخر من القرن الماضي.

[18] سالم يفوت"مفهوم الاختلاف في لسان العرب" مجلة مدارات فلسفية عدد 3 فبراير 2000 –ص65-68.

[19] ابن منظور" لسان العرب" المجلد التاسع- دار صادر –بيروت 1300 للهجرة-ص91...

[20] نفس المرجع السابق.

[21] انظر على سبيل المثال لا روس الكبير:

Grande larousse encyclopédique tome4 éd librairie larousse-paris 1961 .

[22] Jean beaufret : « Dialogue avec Heidegger » T3 éd Minuit 1974 p 186.

[23] les notions philosophiques tome 2,volume dirigé par sylvain Auroux éd Puf.Paris 1990 p 656.

[24] Jean beaufret : « dialogue avec Heidegger » T3 - op,cit p 186.

[25] عبد السلام بنعبد العالي"أسس الفكر الفلسفي المعاصر:مجاوزة الميتافزيقا" دار توبقال للنشر-الطبعة الثانية2000-ص78.

[26] notions philosophiques tome 2 op,cit p 656

[27] عبد السلام بنعبد العالي- مرجع سابق-ص78.

[28] عبد السلام بنعبد العالي"ثقافة الأذن وثقافة العين " –مرجع سابق ص30.

[29] G.Deleuze « Différence et répétition »éd PUF 7 édition 1993 P 74 et 89.

[30] حوار مع مارتن هايدغر-ترجمة إسماعيل المصدق- مجلة فكر ونقد عدد23- 1999ص132.

[31] عبد السلام بنعبد العالي" دولوز مؤرخا للفلسفة" مجلة فكر ونقد عدد 1 -7199 ص56.

[32] بنعبد العالي" أسس الفكر الفلسفي المعاصر" مرجع مذكور ص9

[33] F.Nietzsche « humain trop humain »ورد عند بنعبد العالي-المرجع السابق ص19.

[34] بنعبد العالي-نفس المرجع السابق

[35] نفس المرجع ص20.

[36] محمد أندلسي » الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي« منشورات جامعة مولاي إسماعيل –مكناس 2003 ص56

[37] محمد أندلسي –نفس المرجع السابق ص57.

[38] محمد أندلسي-نفس المرجع ص30.

[39] Ch.De Lacompagne « Histoire de la philosophie au 20 siècle » éd seuil 2edition 2000 p378

[40] J.Derrida « Marges de la philosophie »éd minuit -1972 - p7

[41] عبد السلام بنعبد العالي"دولوز مؤرخا للفلسفة" مجلة فكر ونقد عدد1-ص56.

[42] G.Deleuze « Différence et répétition » op,cit p82.

[43] ibid p 74.

[44] J.Derrida« Marges de la philosophie » op,cit p7.

[45] - Geneviève fraisse "la controverse des sexes" éd quadrige/puf –paris -2001 p39.

[46] - Françoise collin " différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme éd puf 2000-p27

[47] - Geneviève fraisse "la controverse des sexes" op,cit p14.

[48] - Geneviève fraisse"la femme,un objet pour la philosiphie" in le féminin en miroir: entre orient et occident –oeuvrage collectif sous la direction de isabelle krier et autres- éd le fennec –casablanca-2005-p277

[49] - ورد عند :Geneviève fraisse "la controverse des sexes"op,cit p16.

[50] - Ibid p36

[51] - Luisa muraro et groupe "diotima" "la différence des sexes" in l univers philosophique –tome 1 éd puf 2 édition 1991- p1373.

[52] - ibid p15.

[53] - Françoise collin " différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme op,cit.p27

[54] - ibid p28

[55] - الحسين سحبان"العقل المذكر والعقل المؤنث" مجلة الحكمة –العدد الثالث –شتاء 1993-ص7

[56] - المرجع السابق- ص10

[57]- Françoise collin"différences des sexes" in Notions philosophiques op,cit p2366.

[58] - الحسين سحبان"العقل المذكلر والعقل المؤنث" مرجع سابق- ص 14

[59] - محمد نور الدين افاية "الهوية والاختلاف "افريقيا الشرق-الدار البيضاء 199 ص53.

[60] - Catherine clément "Hannah Arendt: être citoyen du monde" –magazine littéraire n380 oct 1999 –p46.

[61] - f.collin"différences des sexes" in Notions philosophiques op,cit p2366

[62] - دافيد بوث مثلا انظر مقال:"نيتشه وبلاغته "النسوية" ترجمة حسن حلمي – مجلة الحكمة –العدد الثالث –شتاء 1993 ص 65.

[63] - J Derrida « éperons : les styles de Nietzsche » éd Flammarion –paris 1978p77

[64] - ibid p83

[65] - ibid p83

[66] - دافيد بوث David Booth"نيتشه وبلاغته "النسوية" –مرجع سابق ص55.

[67] - نفس المرجع ص54.

[68] - نفس المرجع-ص53.

[69] - محمد اندلسي » الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي« -مرجع سابق-ص 54.

- [70] دافيد بوث "نيتشه وبلاغته "النسوية"-مرجع سابق ص63

[71] - نفس المرجع ص 63.

[72] - نفس المرجع –ص66.

[73] المقصود كتابه السالف الذكر:

J Derrida « éperons : les styles de Nietzsche » op,cit.

[74] - ibid. p100.

[75] - J.Derrida « Heidegger et la question :de l esprit et autres essais » –éd Flammarion 1990- p149

[76] - عبد السلام بنعبد العالي" بين-بين" دار توبقال للنشر-البيضاء1996-ص 83.

[77] - يحتفظ دريدا بهذه الكلمة في صيغتها الألمانية، فهو يصرح بأنه لن يترجمها، وسيتركها تأخذ دلالاتها تبعا للسياقات التي ترد فيها، ومن الدلالات التي لهذه الكلمة نجد: جنس، عرق، نوع، عائلة، سلالة، امة.

انظر: J.Derrida J.Derrida « Heidegger et la question :de l esprit et autres essais »,op cit p145 et 176

[78] - انظر J.Derrida « Heidegger et la question :de l esprit et autres essais »op,cit

[79] - ibid P189-190

[80] - ibid p185

[81] - ibid p147.

[82] - ibid

[83] - ibid p148

[84] - ibid p149

[85] - ibid p150

[86] - ibid p150

[87] - ibid p152

[88] - ibid p156

[89] - ibid p153

[90] - ibid p154

[91] - ibid p155

[92] - ibid p155

[93] - ibid p156

[94] - ibid p157

[95] - ibid p161

[96] - ibid p166

[97] - ibid p167

[98] - ibid p167

[99] - ibid p 168

[100] - ibid p171

[101] - ibid p172

[102] - J.derrida"éperons: les styles de Nietzsche "éd Flammarion- paris 1978 p89

[103] - ibid. p84

[104] - notions philosophiques op,cit p2368.

[105] - Isabel krier "présentation" in le féminin en miroir: entre orient et occident -op,citp9

[106] - Ibid p16

[107] - Françoise collin "le féminin dans la pensée postmétaphysique: autour de j.derrida" in le féminin en miroir: entre orient et occident -op,cit p340.

[108] - V.descombe "le même et l autre"op,cit ..p161

[109] - ibid

[110] - ibid..p162

[111] - عبد الله إبراهيم"التفكيك :الأصول والمقولات"منشورات عيون المقالات-الدارالبيضاء-1990- ص26

[112] - Françoise collin "différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme op,cit p33.

[113] - نفس المرجع ص27.

[114] نفس المرجع.

[115] - V.descombe "le même et l autre"op,cit ..p170

[116] - Françoise collin "le féminin dans la pensée postmétaphysique: autour de j.derrida"op,cit p 341.

[117] - Ibid p344

[118] - ibid p346-347

[119] - Entretien avec J.Derrida in le monde de l éducation - n 284 septembre 2000

[120] - Gille Deleuze « philosophie et minorité » in critique n 369 février 1978 –p144

[121] - Gille Deleuze « pourparlers » les éditions de minuit 1990 pp134-135

ورد عند محمد اندلسي» الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي« -مرجع سابق - ص154.

[122] - Gille Deleuze « philosophie et minorité » op,cit –p145.

[123] - Françoise collin "différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme op,cit p33.

[124]- Luisa muraro et groupe "diotima" "la différence des sexes" in l univers philosophique –tome 1 éd puf 2 édition 1991- p1372

[125] - Luce irigaray "le temps de la différence"op,cit p9.


ص1

الاختلاف الجنسي

من منظور فلسفة الاختلاف


فوزي بوخريص


"L'humanité n'est traversée que par une seule différence objective, la différence des sexes, et partout, cette différence si claire, cette distinction dans la perception et les désirs élémentaires, est recouverte de polypes multiples qui l obscurcissent sans cesse . "

Alain et chegoyen" éloge de la féminité" éd arléa-paris 1997 –p11 .


مقدمة:

إن خطاب التحرر الذي يتخذ من المرأة موضوعا له، مطالب على الدوام بالاشتغال على ذاته، وخصوصا بتدقيق المفاهيم المركزية التي يتشكل منها. إذ لا يمكن التأثير في الواقع وتغييره دون فهم عميق لواقع المرأة، لهويتها ولعلاقتها بالرجل، ولحقيقة الاختلاف الجنسي القائم بينهما . لأنه من دون ذلك، سيكون مآل هذا الخطاب السقوط في دائرة الاستهلاك الخطابي، وإفراز ما يناقضه تماما، أي بدل التحرر الذي يبشر به، سينتهي إلى تكريس المحافظة، والى إعادة إنتاج الهيمنة .

من هنا الحاجة في نظرنا إلى تناول "مفهوم الاختلاف الجنسي"، باعتباره واحدا من المفاهيم الأساسية التي أخذت تفرض نفسها في السنوات الأخيرة، خاصة في الثقافة والمجتمع الغربيين. والواقع أن الاهتمام المتزايد بمسألة الاختلاف الجنسي، لا ينفصل عن الأهمية المتزايدة التي تحظى بها مسألة الاختلاف بشكل عام . فزمننا كما تقول أحد الباحثات المتخصصات في موضوع الاختلاف الجنسي، هو" زمن الاختلاف"الاختلاف الجنسي من منظور فلسفة الاختلاف

[1]. وكما لاحظ أيضا باحث آخر[2]، فان مسألة الاختلاف أضحت تخترق عصرنا الحالي، خاصة بعد ثورة 68، حيث ظهر نوع من النزوع نحو التباين والاختلاف: اختلاف جنسي، اختلاف الثقافة والطبيعة، واختلاف الثقافات عن بعضها البعض الخ .

لكن وكما نبه إلى ذلك عبد السلام بنعبد العالي[3]، فما أن تتصدى الايدولوجيا لمفهوم معين حتى تفرغه من "روحه"، وتقضي على الحياة فيه، فترديه كائنا محنطا. لعل هذا هو المصير الذي أخذ يعرفه مفهوم الاختلاف اليوم. فهو قد "اهلك" استعمالا حتى إنه لم يعد يعني شيئا. حيث تحول استعماله في أغلب الأحيان إلى مجرد مجاراة لعادة أو موجة ثقافية، هذا إذا لم يتحول إلى نقيضه ويدل على عكس ما كان يعنيه...

ونفس الكلام ينطبق أيضا على مفهوم الهوية، الذي هو وثيق الارتباط بمفهوم الاختلاف . مادام أن الحديث عن مسألة الاختلاف يفضي بالضرورة إلى الحديث عن الهوية . فالهوس الذي يدفع أفرادا أو جماعات إلى أن يكونوا مختلفين عن الآخرين، يدفعهم إلى البحث عما يصنع اختلافهم وتمايزهم، أي البحث عن هويتهم الخاصة .

ولا شك أن هناك وعي متزايد اليوم بأزمة الهوية، في مستواها الجماعي أو الفردي الشخصي . لكن هذا لا يلغي حقيقة انشغال الإنسان بالهوية منذ القديم، فالسؤال "من أكون؟" يكاد يخترق تاريخ البشرية منذ بداياته والى حدود الآن . وبالتأكيد فمسألة الهوية تأخذ دلالات وأبعادا مختلفة ،وحضورها يشمل الوجود والثقافة والمجتمع والفرد . ومن المجالات التي تشهد حضورا نوعيا لمسألة الهوية، مجال العلاقات بين الجنسين، حيث يجري الحديث عن الهوية الجنسية للرجل مثلما للمرأة .

من هنا هذا البحث الذي يروم مقاربة إشكالية الهوية والاختلاف فلسفيا، وذلك من خلال التركيز على امتدادات هذه الإشكالية داخل مجال العلاقات بين الجنسين. ومعلوم أن الهدف الأسمى للفلسفة هو معرفة الذات، فكما يقول ارنست كاسيرر "فالإنسان هو هذا المخلوق الذي هو دائما في بحث عن ذاته، والذي هو في كل لحظة مطالب بالفحص الدقيق لشروط وجوده. ولعل هذا النوع من الفحص، هذا الموقف النقدي تجاه الحياة الإنسانية هو الذي يمنحه قيمته"[4]. وكما أكد سقراط في محاورة الدفاع: "فحياة بدون فحص لا تستحق أن تعاش". بيد أن هذا البحث المتواصل عن/وفي الذات، ليست مجرد ترف فكري. بل إنه منطلق أساسي لتحقيق الذات .

ثم من جانب آخر، إذا كانت العلاقة مع الغير (سواء كان بلدا آخر أو عرقا آخر أو جنسا آخر...)، قد تغيرت عما كانت عليه في الماضي، حيث لم تعد ثمة مواجهة تدميرية مباشرة تتأسس على منطق انه "بما انك لست مثلي، فاني سوف أقصيك أو اقضي عليك"[5]، إلا أن ذلك لا يعني أن العلاقة مع هذا الآخر، الجنسي أو غيره، صارت مثالية، فالإحصائيات تكشف عن استشراء ظاهرة العنف ضد الغير .

ونعتقد أن مظاهر العنف التي نعاينها، مثلا، على مستوى العلاقات بين الجنسين، والتي تستهدف المرأة في الغالب، مردها بالأساس إلى جهل بحقيقة الذات والغير، وبطبيعة العلاقات القائمة بينهما. فمعنى العنف الأساسي هو عدم الاعتراف بالآخر. أي جهل بطبيعة الآخر، أو هو معرفة معينة به، قائمة على موروث ذهني جاهز. وليس هناك أفضل من الفلسفة لتحريرنا من سلطة الموروث الذهني ومن بادئ الرأي .

من هنا الحاجة للانفتاح على تجربة الأخر (الغرب المختلف ثقافيا)، خاصة ما يتعلق بالتفكير الفلسفي في إشكالية الهوية والاختلاف، وبشكل أخص من خلال ما تبلور في إطار فكر الاختلاف بصدد هذه الإشكالية. فلا يمكن أن نقارب قضايا الهوية والاختلاف، في مجال العلاقات بين الجنسين، دون استيعاب عميق لأهم الأطروحات التي أبدعها فلاسفة الاختلاف حول هذا الموضوع . لا سيما وأن النسوية أو النزعة النسائية بدأت تتحدد اليوم، في المجتمعات الغربية، باعتبارها تمثل في ذاتها فكرا للاختلاف، وذلك بالنظر إلى تشبعها بقيم الاختلاف والنقد، وأساسا من خلال تصورها للاختلاف، الذي هو ليس اختلافا متعديا: أي ليس اختلافا يتحدد بالقياس إلى، وبالتعارض مع هوية ما[6] .

وكما قال عبد الكبير الخطيبي "فعندما نحاور فكر الاختلاف (سواء مع فكر نيتشه أو هايدغر أو بلانشو أو جاك دريدا) فإننا لا نأخذ في اعتبارنا أسلوب التفكير فحسب، وإنما كذلك الإستراتيجية المتبعة كي نجعلها في خدمة نضالنا"[7]. خصوصا وأن الفلسفة بعد هيغل، تخلت، كما يقول فوكو، عن وظيفتها التقليدية المتمثلة في بناء التجريدات والعموميات وأخذت تحتك بما ليس فلسفة، حتى إنه يمكن اعتبار "العمل على إبقاء الفلسفة منفتحة على ما يوجد خارجها، أحد ثوابت المسعى الجنيالوجي في الفلسفة"[8]، والذي انطلق مع نيشته، والذي تكرس مع فلاسفة الاختلاف، الذين حاولوا تحرير الفلسفة من هيمنة تاريخها، وذلك "بجعلها تنفتح على ما يوجد خارجها وعلى هامشها"[9].

ولعل من أشكال هذا الاحتكاك انخراط مفكري الاختلاف في التفكير في قضايا الهوية والاختلاف بمختلف أبعادها (الاجتماعية والسياسية)، و في هذا الإطار يأتي اهتمام فلاسفة الاختلاف بمسألة الاختلاف الجنسي، حيث يعتبر دريدا [10] مثلا أن تناوله لهذا الموضوع هو نوع من الالتزام السياسي .

ويمكن القول إنه مع فلسفة الاختلاف، لم يعد يتحدد الاختلاف بالقياس إلى آخر، يقبع في الخارج، خارج الذات، بل كما يقول علي حرب"يتسلل الاختلاف إلى مملكة الذات وتصبح المغايرة والاختلاف مقوما من مقومات الهوية"[11]، بحيث يقبع الآخر في صميم الذات. فالأمر يتعلق إذن بتجاوز لمنطق التناقض، الذي ينظر إلى السلب على أنه ذلك الذي يجيء من خارج الذات ليتعارض معها، إلى منطق الاختلاف الذي ينظر إلى السلب باعتباره ذلك الذي ينخر الذات من الداخل، أي النظر إليه بوصفه حركة تباعد الذات عن نفسها، حركة تصدع الداخل[12] .

ولعل أهمية الانفتاح على فلسفة الاختلاف ومنظورها المغاير للاختلاف، يجعلنا نتجاوز ما يسميه عبد الكبير الخطيبي بالاختلاف الوحشي أو الساذج، القائم على نوع من "الانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى آخر مطلق."[13]، والذي يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهوية العمياء أو الهويات المجنونة ...

من المجالات التي تشهد، إذن، استثمارا مكثفا لإسهامات فلاسفة الاختلاف نجد مجالات العلاقات بين الجنسين، حيث أسهم فلاسفة الاختلاف بشكل مباشر في نحت مفهوم الاختلاف الجنسي، وفي التأسيس لفلسفة للاختلاف الجنسي. فبفضل العمل الجبار الذي بدأه نيتشه في مجال مجاوزة الميتافيزيقا، والذي تواصل مع هايدغر ودولوز ودريدا، أمكن تقويض مركزية القضيب، بعد أن تم تقويض مركزية العقل والذات والصوت وغيرها من المركزيات المؤسسة لصرح الميتافيزيقا. فالمشروع الفلسفي لفلاسفة الاختلاف، والذي يستهدف تقويض الميتافيزيقا، يتوخى في العمق تفكيك الأسس الفلسفية لمركزية أو سلطة القضيب. كما أن تأثير فلاسفة الاختلاف، لاسيما دولوز ودريدا في الحركة النسوية بالولايات المتحدة الأمريكية وايطاليا (وفرنسا في وقت لاحق)، جعل هذه الحركة تتجاوز التصور الميتافيزيقي للهوية الجنسية، والذي يحصرها في تلك الثنائية الميتافيزيقية. فالحركات النسائية في المجتمعات الغربية تتخذ من فلاسفة الاختلاف مرجعية فكرية ونظرية للتفكير في واقع المرأة، وفي إشكالية الاختلاف الجنسي، بل وتعتبر نفسها كفكر اختلاف أو فلسفة للاختلاف الجنسي ...

وتعود أهمية التفكير الفلسفي في مسألة الاختلاف الجنسي، إلى كونه يمثل مدخلا ضروريا لأي تغيير سياسي منشود لوضعية المرأة داخل المجتمع. وكما يقول دريدا دائما "فقبل أي تسييس نسوي politisation féministeيجدر بنا أولا التعرف على طبيعة نزعة مركزية العقل والقضيب phallogocentrisme التي تشرط تقريبا كل تراثنا الثقافي"[14]. وذلك لن يتأتى إلا بتفكيك منطق الميتافيزيقا الثاوي خلف كل مستويات فكرنا ووجودنا، بما في ذلك التصور السائد حول مسألة الاختلاف الجنسي، التي تهمنا في هذا المقام. وهذا ما يفسر أن التفكير الفعلي والعميق في مسألة الاختلاف الجنسي تزامن مع نقد الميتافيزيقا، وتبلور بشكل واضح في أحضان فكر الاختلاف[15] ...

وما يبرر كذلك إقدامنا على إصدار هذا العمل، ما لمسناه من غياب للأبحاث والدراسات التي تتناول موضوع الاختلاف الجنسي(خاصة من منظور فكر الاختلاف)، في الحقل الثقافي ببلادنا. وحسب إطلاعنا المتواضع، فباستثناء ما تشير إليه بعض إسهامات الباحثين عبد الكبير الخطيبي وعبد السلام بنعبد العالي، وباستثناء محاضرات أستاذنا محمد الأندلسي حول ابستومولوجيا الاختلاف الجنسي، في إطار وحدة المرأة والتنمية[16]، لا نكاد نعثر على أدبيات حول موضوع الاختلاف الجنسي[17].

وبالجملة، يتوخى هذا العمل البحث في امتدادات إشكالية الهوية والاختلاف، داخل مجال العلاقات بين الجنسين، وتعميق التفكير في مسألة الاختلاف الجنسي، كما تحضر مباشرة عند فلاسفة الاختلاف خاصة نيتشه، هايدغر،دريدا ودولوز، وكما يتردد صداها عند بعض الباحثات في قضايا المرأة المهتمات بموضوع الاختلاف الجنسي، ونخص بالذكر:

Geneviève, fraisse s . agacinski Françoise collin, Luce irigaray isabelle, krier ,Luisa muraro ...

فإذا كان الاختلاف الجنسي قد شكل تاريخيا لا مفكر فيه في الفلسفة: فكيف عالجت فلسفة الاختلاف، باعتبارها الفلسفة التي تعلي من شأن الاختلاف، هذا النمط من الاختلاف؟ هل تعتبر الاختلاف الجنسي موضوعا هامشيا مقارنة مع الموضوعات التقليدية للفلسفة (الانطولوجيا،السياسة الخ) أم أنها على العكس من ذلك تجعله ضمن مركز اهتماماتها؟

ثم ما أهمية ما قاله أو ما صمت عنه فلاسفة الاختلاف بخصوص الاختلاف الجنسي؟

أولا تحديدات مفاهيمية :

حول مفهوم الاختلاف:

- في اللغة:

إذا كانت العودة إلى التحديدات اللغوية للمفاهيم، تتحول في الغالب إلى تمرين الهدف منه إثبات حقيقة -هي أشبه بتحصيل الحاصل- "تخلف" اللغة العربية القديمة، لغة العصر الوسيط عن مسايرة، مستجدات العصر الحالي، على مستوى الفكر، والحضارة بشكل عام، فالأمر يبدو مختلفا مع مفهوم الاختلاف، ومع مادة (خ ل ف) بشكل عام، حيث يسجل الباحث سالم يفوت أن مضمون هذه المادة، يتماشى إلى حد كبير مع ما نجده لدى الفلاسفة المعاصرين، بمن فيهم فلاسفة الاختلاف، الذي منحوا لهذا المفهوم، الذي هو في ذات الوقت عنوان فلسفتهم، مضمونا مغايرا عما كان سائدا في الفلسفات السابقة عليهم . حيث يقول يفوت: "لا يبتعد مضمون مادة خ ل ف في اللسان العربي، كثيرا، عن انشغالات وهواجس تيار من أكثر تيارات الفلسفة المعاصرة انتشارا، ألا وهو تيار الاختلاف" [18].

فإذا استشرنا ما تقوله المراجع العربية القديمة (لسان العرب-الكليات-أساس البلاغة ...) بخصوص مادة خ ل ف، سنلاحظ أنها تتميز بغنى دلالي، لا ندعي في هذا المقام القدرة على حصر كل دلالاته،لكن يمكن أن نشير على سبيل المثال إلى بعض الدلالات التي ترد في لسان العرب لابن منظور[19]:

الخلف ضد قدام، وخلفه يخلفه:صار خلفه. واختلفه:أخذه من خلفه، واختلفه وخلفه واخلفه:جعله خلفه، وجلست خلف فلان أي بعده. والخلف:الظهر، والتخلف:التأخر، ورجلان خلفة (بكسر الخاء): يخلف احدهما الآخر. والخلفة: اختلاف الليل والنهار، والخلف: ما جاء من بعد،الخلاف المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافا، وتخالف الأمران واختلفا:لم يتفقا . وكل ما لم يتساو، فقد تخالف واختلف ... ويقال:القوم خلفة أي مختلفون، وهما خلفان أي مختلفان ... قال اللحياني:يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان، وولدت الناقة خلفين أي عاما ذكرا وعاما أنثى . ويقال بنو فلان خلفة أي شطرة نصف ذكور ونصف إناث، والتخاليف:الألوان المختلفة، واخلف: تغير . . . الخ

وبذلك يمكن أن نستنتج أن الاختلاف في اللغة العربية يحيل على معاني متعددة، أهمها: التغير، التأخر، اللامساواة، ما يأتي من بعد الخ. وكما أكد سالم يفوت، تلتقي دلالات كلمة اختلاف في المعجم العربي القديم بشكل عام، "في افتراض وجود مسافة في المكان أو الزمان أو بين الأفكار لدى طرفين أو أكثر، افتراض تباعد بين الأشياء والأطراف يجعل التطابق والائتلاف مستحيلا"[20].

أما إذا استشرنا المعاجم الفرنسية[21]، فسنجد أن لفظة اختلاف différence مشتقة من الأصل الإغريقي ديافورا، وكما يقول جاك بوفري "فهي نقل يكاد يكون حرفيا للكلمة الإغريقية ديافورا"[22] . وهي أيضا مشتقة من الأصل اللاتينيdifférentia. و يعني الاختلاف خاصية شخص أو شيء، تجعل من غير الممكن بالنسبة له التطابق مع شخص آخر (أو شيء آخر)، فهو يشير إلى الفارق الذي يفصل بينهما ... بيد أن هذا لا ينفي كون لفظ اختلاف يأخذ دلالات متعددة، بحسب تنوع المجالات التي ينتمي إليها: المنطق،الرياضيات،البحرية،الأبناك والبورصة، المحاسبة، الالكترونيك، اللعب ...

وهكذا نجد أن الاختلاف هو نقيض الهوية، وهو مرادف للتباين وعدم التشابهdissemblance ، التضارب أو التعارض divergence، التمييز distinction ...

- في الفلسفة:

يحدد لالاند دلالة مفهوم الاختلاف كما وردت في تاريخ الفلسفة، مركزا بشكل أساسي على المرحلتين القديمة والحديثة، حيث يعني الاختلاف عند أرسطو، من خلال ما ورد في مؤلفه "ما بعد الطبيعة" علاقة مغايرة بين شيئين متماثلين. والمقصود بالمغايرة في نظر لالاند، خاصية ما هو آخر، أي ذلك الذي يتحدد كمقابل للمماثلle même ، بالنظر إلى أن كل شيء، كما يقول أرسطو، هو بالنسبة لكل شيء إما مماثل له (هوهو) وإما مخالف أو مختلف. وبذلك تتعارض المغايرة في هذا المعنى مع الهوية. من هنا التمييز بين الأشياء المختلفة عددي اnumériquement différentes والتي لا تختلف اختلافا جوهريا، وإنما تختلف فقط لمجرد أنها متعددة، والأشياء المختلفة اختلافا نوعياspécifiquement différentes ، أي التي تختلف من حيث ماهيتها ذاتها أو من حيث تعريفها. وفي هذا المعنى الأخير يجري الحديث، في مجال المنطق، عن الاختلاف بما هو خاصية جوهرية تميز نوعا عن باقي الأنواع داخل نفس الجنس. ويتحدد مفهوم الاختلاف في الفلسفة الحديثة بوصفه"الخاصية التي تميز مفهوما عن مفهوم آخر، أو شيئا عن شيء آخر" .

ويخلص لالاند إلى أن للاختلاف معنيين أساسيين: فهو من جهة يشير إلى علاقة بين طرفين أو أطراف مختلفة. ومن جهة أخرى يعني الخاصية أو الخصائص التي تشكل هذا الاختلاف. بحيث نميز بين المعنيين بالصيغتين التاليين:

1- الاختلاف بين ...

2- الاختلاف الخاص بـ ... أو المميز لـ ....

ونجد في معجم "المفاهيم الفلسفية"[23] أن الاختلاف يتحدد أيضا داخل كل كائن، باعتباره الخاصية التي تحدده، والتي تجعل منه كيانا فريدا، مميزا عن ما عداه. إذ أن الاختلاف بين طرفين، يندرج داخل كل واحد منهما كهوية سلبية بالقياس إلى ذاتها، وذلك لأن غنى الوحدة هو في اختلاف الذات بالنسبة لذاتها.

لكن الملاحظ أن لالاند، لا ينفتح في معجمه الفلسفي، على الأقل في الطبعة التي اعتمدنا عليها، على التحديدات الفلسفية المعاصرة لمفهوم الاختلاف، ولا سيما في فكر الاختلاف .

وفي هذا الصدد، يأخذ مفهوم الاختلاف عند هايدغر، بعدا انطولوجيا، يحدد جان بوفري معناه قائلا:"لنتأمل كلمة اختلاف différence هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفيا للكلمة الإغريقية ديافورا. فورا آتية من الفعل فيريferi الذي يعني في الإغريقية، ثم في اللاتينية حمل ونقل(...). الاختلاف ينقل إذن، فماذا ينقل؟ انه ينقل ما يسبق في الكلمة ديافورا، أي الحرف أو السابقة" ديا" الذي تعني ابتعادا وفجوة ... الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعدا أحداهما عن الأخرى. إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاما. إنه على العكس من ذلك، يقرب بين الطرفين اللذين يبعد بينهما"[24].

ولا يأخذ مفهوم الاختلاف معنى جديدا فحسب، في فلسفة الاختلاف، وإنما تتم كتابته بشكل مغاير، كما هو الحال عند جاك دريدا، الذي يرى أن كلمة اختلاف différence "تحيل إلى الاختلاف بمعنى التمايز لا إلى الاختلاف بمعنى الإرجاء، لأنها تحيل إلى الفعل différencier لا إلى الفعل différer. لهذا فهو يقترح تعديلا في كتابة تلك الكلمة بحيث تفيد في الوقت ذاته الخلاف والإرجاء، وهو يضع حرفa بدل حرف e، فيكتبها على النحو التالي: [25]Différance". وتعني هذه العبارة، التي "ليست لا كلمة ولا مفهوما"[26]:"أولا: الإرجاء الذي يأخذ بعين الاعتبار"الزمان والقوى في عملية تقتضي حسابا اقتصاديا ولفا ودورانا وتأخرا". ثانيا: الخلاف واللاتطابق الذي "يقتضي مسافة وبونا وابتعادا"[27].

- فلسفة الاختلاف:

أول ملاحظة يمكن تسجيلها عند الحديث عن فلسفة الاختلاف، تتعلق بالتسمية: هل الأمر يتعلق بفلسفة للاختلاف أم بفكر للاختلاف؟

ربما يتعلق الأمر بفكر للاختلاف أكثر منه بفلسفة للاختلاف. ويؤكد عبد السلام بنعبد العالي هذه الحقيقة،عندما يعتبر أن فكر الاختلاف ليس مدرسة فلسفية أو مذهبا فلسفيا، بقدر ما هو حركة فكرية[28]. ولو أننا لا نتفق مع هذا الباحث عندما يحسم بأن أصحاب فكر الاختلاف، يرفضون استخدام عبارة "فلسفة الاختلاف"، إذ نجد أن هذه التسمية حاضرة في بعض نصوصهم، ونشير على سبيل المثال إلى مؤلف جيل دولوز "الاختلاف والتكرار"، حيث يتحدث هذا الفيلسوف عن فلسفة الاختلاف عند هايدغر وعن فلسفة الاختلاف بشكل عام[29]. بيد أن القول إن الأمر يتعلق بفكر للاختلاف، لا يعني بأي حال من الأحوال أننا بصدد مفاضلة بين الفكر والفلسفة، تنتهي بتفوق مطلق للواحد منهما على الآخر. فكما يقول هايدغر إن التفكير هو أسهل بالمقارنة مع التفلسف أو التفكير الميتافيزيقي، ولكنه بسبب سهولته بالضبط هو أصعب بكثير عند الإنجاز "لأنه يتطلب عناية باللغة، لا ابتكارا لمفاهيم جديدة، بل عودة إلى المضمون الأصلي للغتنا الخاصة، الآخذة في الاضمحلال"[30].

والحديث عن فكر للاختلاف لا يعني إعلان نهاية ما للفلسفة، فالأمر أبعد ما يكون عن ذلك، إذ ما يفتأ يردد أصحاب هذا الفكر أنهم لا يشغلون بالهم بمسألة نهاية الفلسفة[31] . آي أن المقصود هنا هو فلسفة للاختلاف، لكن بمضمون مغاير، أو بتعبير آخر معنى الفلسفة في هذا السياق الخاص، مغاير لما كان سائدا في تاريخ الفلسفة. ذلك أن فلاسفة الاختلاف، من نيتشه إلى دريدا، مرورا بهايدغر، باطاي، كلوفسكي ودولوز الخ، يندرجون ضمن أفق مجاوزة الميتافيزيقا. فأهم ما يميز العصر الجديد الذي يفتتحه هؤلاء الفلاسفة، هو محاولة الإفلات من قبضة هيغل الذي اكتملت عنده الميتافيزيقا، والإعلان عن برنامج لمجاوزة الميتافيزيقا[32] .

لكن على عكس تلك المحاولات الرامية إلى مجاوزة الميتافيزيقا من خلال التموقع في الخارج (اوغست كونت، ماركس) . ستمثل الفلسفة مع نيتشه بحق بداية المجاوزة الفعلية للميتافيزيقا، مجاوزة من الداخل. فإذا كان نيتشه أول من انتبه إلى أن قهر الميتافيزيقا "يقتضي بالضرورة الرجوع إلى الوراء، لإدراك التبريرات التاريخية والنفسانية للتأملات الميتافيزيقية ولإدراك كيف أن الإنسانية قد أفادت كبير إفادة من الميتافيزيقا، وكيف أن هذا الرجوع إلى الوراء هو الكفيل وحده بان يصون أسمى ما حصلت عليه الإنسانية حتى اليوم"[33]، فان هذا الرجوع إلى الوراء هو ما يمكن أن نسميه العودة إلى الأصول والوقوف عند الأسس، وهو ما اتخذ عند نيتشه ذاته اسم الجنيالوجيا، وهو ما سيتخذ عند الفلاسفة الذين حذوا حذوه، ولا سيما فلاسفة الاختلاف، أسماء مختلفة، لكنها لنفس المسمى، أو لنفس الإستراتيجية الهادفة إلى تقويض الميتافيزيقا: فسواء تعلق الأمر بالاستذكار عند هايدغر أو التفكيك عند دريدا أو الحفريات عند فوكو،"كلها محاولات لإقامة مجاوزة فعلية لخلخلة وتقويض منطقها"[34]، القائم على مجموعة من الثنائيات. ومن هنا فمجاوزة الميتافيزيقا تعني بالأساس، إقامة عالم تتخلخل فيه الأزواج الميتافيزيقية، بدلا من تقابلها أو تعارضها أو كما يقول بنعبد العالي، بناء عالم يسكن فيه الآخر الذات والمشتق الأصل والعمق السطح والباطن الظاهر والاختلاف الهوية[35]. وإجمالا يمكن القول إن نقد نيتشه للميتافيزيقا يروم "تجاوز منطق الهوية والتطابق الذي يأسر العقل في تعارضات قاتلة، باتجاه منطق مختلف، يقر بالتعدد والاختلاف"[36] والصيرورة، أي يستهدف تجاوز منطق الهوية نحو منطق الاختلاف. ولا يتحقق هذا التجاوز، إلا إذا تم التخلي عن تصور الهوية كماهية متحققة بصورة نهائية، واعتبارها بدلا من ذلك كصيرورة ونتاج أو خلق متواصل، مادام أن الكائن، بشكل عام، هو حاصل علاقاته مع غيره من الكائنات "وهو مفتوح باستمرار على المفاجئ والمجهول واللامتوقع، وحقيقته لا تكمن في حالة أولية، أو مبدأ أول أو أصل ينبغي للبحث والتفكير أن يقف عليه"[37] .

بل الأكثر من ذلك فان قراءة نيتشه الجينيالوجية لمنطق الميتافيزيقا، بما هو منطق للهوية والتطابق، لا تكشف عن أسسه أو بنيته التحتية، التي تتشكل من مجموعة من المفاهيم المترابطة والمتراصة، والمتفاوتة الأهمية (مثل مفاهيم: الذات، العقل، الجوهر،الحقيقة الخ) فحسب، وإنما تستهدف كذلك الكشف عن مراميه، والتي تتحدد أساسا في حجب حقيقة الاختلاف، والتعدد والصيرورة، التي تطبع الحياة والوجود[38]، في أفق الحفاظ على مركزية وتعالي الذات .

والحديث عن فكر أو فلسفة للاختلاف بصيغة المفرد، لا يعني أننا أمام فكر يطبعه الانسجام، فمثلما توحي بذلك تسميتهم، فأهم ما يوحد بين فلاسفة الاختلاف، إضافة إلى انتسابهم أو علاقتهم الخاصة مع فلسفة نيتشه، هو الاختلاف ذاته، حيث تتعدد مسارات فكرهم وتتغاير، وتصل إلى حد التعارض، وان كان هناك من يرى أن بين فلاسفة الاختلاف علاقة صداقة فكرية [39].

كما انه من الأشياء التي تميز فلاسفة الاختلاف، نظرتهم إلى الاختلاف كرهان استراتيجي للفكر، وليس كمجرد موضوع أو سؤال فلسفي من بين أسئلة أخرى: و ذلك أولا، لأن الفلسفة ذاتها بعد هيجل، أضحت بلا موضوع أو أنها أصبحت أشبه بإستراتيجية، فكما يقول دريدا :"إننا نتسلل إلى فكر الاختلاف عن طريق موضوعة الإستراتيجية"[40]، لكنها إستراتيجية بدون غاية، أي أنها تنشغل بنفسها أساسا. وثانيا،لأن الهدف من ممارسة الفلسفة كما يوضح دولوز، لم يعد هو الإجابة عن الأسئلة، وإنما الخروج منها[41]. وكما يوضح دولوز، فقد تحددت مهمة الفلسفة المعاصرة مع نيتشه في قلب الأفلاطونية، إذ يستقي هذا القلب مشروعيته من كون الأفلاطونية، تقوم على تفوق الواحد، والمماثل والشبيه، بل والسلبي على الاختلاف[42]. من هنا فقلب الأفلاطونية يتخذ في فلسفة الاختلاف ، إعلاء من شأن الاختلاف، درجة أن "فلسفة الاختلاف ترى الاختلاف في كل مكان"، كما يقول دولوز[43].

وتعود الأهمية الإستراتيجية التي يحظى بها مفهوم الاختلاف في فكر الاختلاف، إلى أنه "انطلاقا من الاختلاف ومن "تاريخه" يمكننا –يقول دريدا- معرفة من وأين نحن، وما يمكن أن تكون عليه حدود عصرنا"[44] . .

- حول مفهوم الاختلاف الجنسي:

شكلت عبارة "الاختلاف الجنسي" موضوع نقاش اصطلاحي. فهناك من يفضل استعمال عبارة "اختلاف الجنسين"، لأنها مجردة من كل تحديد أو مضمون مسبق، بينما اصطلاح "الاختلاف الجنسي" يشير بشكل مسبق لفكرة خصائص الاختلاف وصفاته، حتى وان ظلت حقيقته غير مؤكدة[45]. وهناك من يرفضها لإيحائها الطبيعويnaturaliste والانطولوجي ويستبدلها بعبارة "البناء الاجتماعي للجنسين"، التي تحيل على مفهوم النوع الاجتماعي، من منطلق أن الاختلاف بين الجنسين هو نتاج للمجتمع، تتحكم فيه قيم وضوابط المجتمع، وتختلف طبيعته باختلاف المجتمع[46] .

وتشير الباحثة جنفييف فريس[47] Geneviève fraisse إلى أن اختلاف الجنسين ليست لفظا أو مفهوما فلسفيا خالصا philosophème، حيث لا نكاد نعثر على هذا اللفظ في النصوص الفلسفية، وربما من السابق لأوانه، في نظر هذه الباحثة، الحديث عن هذا المفهوم الفلسفي[48]. لكن لا يعني ذلك غياب أي حديث عن المرأة والرجل، وعن الكائنات الجنسية أو عن الواقع الجنسي، في النتاجات الفلسفية، بل المقصود هو أن الاختلاف الجنسي لم يكن يشكل موضوعا للتساؤل الفلسفي. فالنصوص الفلسفية لم تصمت عن مسألة الجنسين، بل تحدثت عنها إلى حد الثرثرة أحيانا، غير انه نظرا لافتقار الاختلاف الجنسي لوضع يؤهله ليصير موضوعا فلسفيا، ظل يظهر ويختفي تبعا للمنطق المتحكم في الخطاب الفلسفي. غير أن هذا لا يسمح في نظر هذه الباحثة بالقول ان الاختلاف الجنسي يشكل اللامفكر فيه في الفلسفة، فكما يقول فوكو "إذا كان الحديث عن الجنس خاضعا للرقابة، ففي خارج الخطاب وليس بداخله"[49].

من هنا: فإذا كان "اختلاف الجنسين" ليس مفهوما ولا موضوعا فلسفيا، فهناك مع ذلك مجالات للتفكير أو ظروف نصية حيث يظهر ويختفي، وحيث يمكن لنا بالتالي تناوله، والكشف عن آليات اشتغاله. وغالبا ما يرتبط الحديث عن هذا الاختلاف الجنسي بأشياء أخرى لها علاقة بمشكل فلسفي معين، سواء كان سياسيا أو انطولوجيا. لهذا فتناول موضوع الاختلاف الجنسي عند فيلسوف بعينه، لا يجب ان يتم بمعزل عن ارتباطاته وتداخلاته مع الموضوعات الأخرى، ولا بمعزل عن رهاناته الاجتماعية والتاريخية[50] .

وبالمقابل شكل موضوع الاختلاف الجنسي موضوعا أثيرا للأدباء، حيث يحضر بقوة في النصوص الروائية والشعرية. فأمام عجز الفكر الفلسفي العقلاني على التعرف على ذاته في صورة اختلاف جنسي، اخذ هذا الاختلاف يعبر عن ذاته في شكل انفعال passion، من خلال الأعمال الفنية والأدبية، ولاسيما في الأعمال النسائية الكبرى (فرجينيا وولف على سبيل المثال)[51]. كما أن التحليل النفسي شكل واحدا من المجالات المعرفية التي أثارت موضوع الاختلاف الجنسي، خاصة من خلال رموزه (فرويد ولاكان ). وفي هذا الصدد ترى جنيفييف فريس انه "إذا أدرجنا التحليل النفسي ضمن تاريخ الفلسفة، أي في سياق كرونولوجيا "الأنساق" الفلسفية، يحق لنا اعتبار الفلسفة مجال انبثاق مفهوم اختلاف الجنسين"[52].

ثانيا: الإرهاصات الأولى لفلسفة الاختلاف الجنسي

I- الاختلاف الجنسي قبل فلسفة الاختلاف:

إذا أخذنا الاختلاف الجنسي بمفهومه العام، يمكن القول أن التفكير الفلسفي في مسألة الاختلاف الجنسي أو اختلاف الجنسين، بدأ مع بداية الفلسفة ذاتها، إلا أن هذا التفكير ظل حبيس نزعة مركزية القضيب، إذ انصب في الواقع تفكير الفلاسفة على المرأة بوصفها "آخر" الذات المتحدثة والمفكرة، وأيضا باعتبارها موضوع رغبة وضمانة لاستمرارية النوع البشري[53].

ومنذ المرحلة الإغريقية، تبلور تصورين بصدد مسألة اختلاف المرأة عن الرجل: تصور يمثله أفلاطون، ويؤمن بوحدة الطبيعة الإنسانية، طبيعة الرجل والمرأة، ووحدة أدوارهما. وتصور آخر يمثله أرسطو، ويؤكد بالمقابل على ازدواجية الطبيعة الإنسانية، وعلى تفوق الرجل بالطبيعة على المرأة. ومع ذلك فرغم الاختلاف الظاهر بين التصورين، فهما معا يؤكدان على تراتبية الجنسين، فسواء تعلق الأمر بوحدة أو ثنائية الطبيعة، فهناك الأعلى والأدنى، الأكثر والأقل، والأدنى والأقل ظلا دائما إلى جانب المرأة[54].

إن الثابت الذي ساد عبر تاريخ الفلسفة، هو حضور الحديث عن المرأة، لكن إلى جانب الصمت عن مسألة الاختلاف الجنسي، إذ أن القاعدة التي تحكمت في هذا الحضور/الغياب هو "لا حديث عن الأنثى-المرأة حيث الحديث عن العقل وقسمته"[55] ، حيث اعتبرت المرأة آخر الرجل، الذي هو عين ذاته، والذي جعل نظام المحايد (الذي هو لا مذكر ولا مؤنث) يسود، وجعل الوجود والمفهوم والفكرة حراسا عليه يضمنون استمرارية اختزال جميع الكائنات وردها إليه .

وبذلك تم تقليص الوجود الأنثوي انطولوجيا إلى مجرد سلب خالص، يكاد لا يمت إلى الوجود سوى بصلة التحديد السلبي لذكورية المذكر الموجبة و الممتلئة، بحيث أضحت الذكورة تشكل مرجعا، لا تتعرف المرأة على ذاتها وجنسها وهويتها إلا من خلاله، أي أن المرأة لا تتعرف على هويتها الجنسية إلا سلبا، كما لو أن في وجود المرأة نقص أصلي، خواء، ثقب، جرح[56] . وبشكل عام، وكما ترى الباحثة s. agacinski[57] ، فقد تم التفكير في ماهية الإنسان والجنس البشري انطلاقا من معيار المذكر، وبذلك اعتبرت الأنوثة كنوع من الانحطاط مقارنة مع ما هو إنساني.

وإذا كانت الفلسفة تتحدد تاريخيا بوصفها خطاب العقل، فالعقل المقصود هو العقل المذكر الذي بتنصيبه لنفسه معيارا مطلقا وكونيا، أنتج قيما تستمد منه صفة الاطلاقية والشمولية والثبات[58]، "فالخطاب الفلسفي، عمل [تاريخيا] على فرض سيطرة العقل لتبرير سلطة المذكر"[59] .

والمثير أن "الاختلاف الجنسي"، في هذه الحقبة الحالية المميزة من تاريخ الفلسفة، حيث لم تعد المرأة موضوعا للتفكير الفلسفي فحسب، بل ذاتا منتجة للفكر الفلسفي، مع كل من سيمون دو بفوار وحنة ارندت وغيرهما، لا يمثل المسكوت عنه بالنسبة للفلاسفة الذكور فقط، بل حتى بالنسبة للإناث على قلتهن، أو على الأقل بالنسبة لبعضهن، فإذا أخذنا حنة ارندت كمثال "فلا يعني شيئا بالنسبة لها أن تكون امرأة، ونادرا ما نرى مثقفة لا تأبه بالقضية النسائية مثلها[60]، فهي تسم الاختلاف الجنسي ب"الاختلاف الصغير"، الذي لا يستحق أدنى اهتمام .

بيد أنه من المجحف في حق الفلسفة المعاصرة إدراجها بأكملها، ضمن التراث الفلسفي الميتافيزيقي القائم على مركزية العقل والقضيب، خاصة مع بعض رموزها مثل نيتشه و هايدغر، فهي على الأقل شكلت لحظة انعطاف وتحول في رؤية المرأة، ومهدت لرؤية مغايرة للمرأة، قائمة على مفهوم الاختلاف الجنسي، خاصة مع فلاسفة الاختلاف، وبشكل خاص مع جاك دريدا. وكما تؤكد الباحثة f. collin[61]، فبفضل إسهامات فلاسفة الاختلاف منذ نيتشه، إلى دولوز ودريدا، مرورا بهايدغر، أمكن على الأقل طرح مسألة الاختلاف الجنسي كموضوع أو برنامج للتفكير والمساءلة، وهو ما تضطلع بإنجازه الحركة النسائية الحديثة، إن على مستوى الفكر أو على مستوى الواقع، على اعتبار أن التفكير في مسألة الاختلاف الجنسي ومساءلة مركزية العقل والقضيب هي كما أوضح دريدا بمثابة عمل سياسي معارض، خصوصا وأن الحديث عن النزعة النسائية لم يعد حديثا عن حركة اجتماعية وسياسية فحسب، بل هو حديث أيضا عن اتجاه فكري، يمتح من معين الفكر الفلسفي المعاصر، وخاصة إسهامات دريدا ودولوز.

II- الاختلاف الجنسي في فلسفة الاختلاف:

1- الاختلاف الجنسي في فلسفة نيتشه:

إن الاهتمام بمسألة الاختلاف الجنسي في الفلسفة المعاصرة، سيبدأ مع نيتشه، وسيتواصل مع فلاسفة الاختلاف. ولو أنه غالبا ما يتم اعتبار نيتشه من ابرز أعداء المرأة، بالنظر إلى أن خطابه الفلسفي رسم صورة قاتمة عن المرأة، و كرس بالتالي إقصاءها التاريخي. بل هناك من يعتبر[62] أن نظرة نيتشه الدونية للمرأة، وتأبيده للإقصاء الفلسفي المفروض عليها، يشكل شهادة محزنة على قوة تأثير النظام الأبوي، حتى على فيلسوف مثله كان يملك كل المؤهلات لتقويض دعائم هذا النظام.

وفي الواقع ليس من السهل الكشف عن حقيقة موقف نيتشه من المرأة، أمام طابعي التشظي واللاتجانس L'hétérogénéité المميزين لمتنه الفلسفي[63] . فالمؤكد بالنسبة لدريدا هو أنه ليست هناك حقيقة في ذاتها، ولا حقيقة للمرأة في ذاتها بالنسبة لنيتشه، وصور المرأة المختلفة والمتناقضة، التي تحضر على مستوى خطابه الفلسفي، تعكس هذه الحقيقة. وكما لا حظ دريدا[64]، فهذا ينسجم مع حقيقة نيشته ذاته ومع طبيعة فلسفته، حيث ليست هناك حقيقة لنيتشه أو لنص نيتشه. وحتى عندما يقول نيتشه "هذه حقائقي"، يقول ذلك في فقرة حول المرأة، ليؤكد على أنها ليست حقائق بالنظر إلى أنها متعددة ومتناقضة[65].

ينظر نيتشه إلى المرأة باعتبارها مجازا، مجازا للحياة والحقيقة والفن. ويشير هذا الاستعمال البلاغي للمرأة إلى عدم استقرار المعني والقيم التي تنسب إلى المرأة والرجل، والتي يعتبرها دريدا رموزا لعدم استقرار ناتج عن" أساليب" خطاب نيتشه ذاته[66]. لكن يمكن القول إن نقد نيتشه للعقل والثنائيات الميتافيزيقية وتأكيده بالمقابل للجسد، الاختلاف، الصيرورة والعود الأبدي، هو ذاته تأكيد للأشياء التي ارتبطت تاريخيا بالمرأة ومقتت من طرف اللاهوت والفلسفة القائمين على النظام الأبوي.

ولعل المفارقة التي تكشف عنها فلسفة نيتشه في نظر المهتمين بفلسفته، تتمثل في "عجزه عن إزاحة الرجل عن مكانته المتميزة بعد نجاحه في إزاحة أغلب الدعامات الفلسفية واللاهوتية واللغوية التي ظل الرجل محافظا بواسطتها على ذلك الامتياز"[67]، أي أن نقده لمركزية اللوغوس logocentrisme، بلغة دريدا، لم يمتد ليشمل نقد مركزية القضيب phalocentrisme. هذا على الرغم من أن المشروع الفلسفي لنيتشه الذي يستهدف تقويض الميتافيزيقا، يتوخى في العمق تفكيك الأسس الفلسفية لمركزية أو سلطة القضيب. فالنقد الجنيالوجي الذي يوجهه نيتشه إلى "القيم المضادة" للحياة، نقد ضمني للميتافيزيقا واللاهوت الأبويين، أو على الأقل أإ هذا النقد الجينيالوجي يمكن أن يوظف بسهولة لتعرية الموضوعية المزعومة في الأحكام والادعاءات، التي تؤسس سلطة الذكر، أو مركزية القضيب[68].

كما أن نقد نيتشه للنزعة النسوية، هو في العمق نقد للمبدأ الذي تنطلق منه، والقائم على تنكر تام للاختلاف الجنسي أو إلغاء تام للفوارق الجنسية بين الرجل والمرأة، والذي يجعل المرأة تنزع إلى التخلي عن خصائصها الأنثوية سعيا إلى التشبه بالرجل، ويدفع الرجل بدوره إلى التماهي مع المرأة بحثا عن المساواة معها. وكما أشار إلى ذلك الأستاذ محمد أندلسي[69]، فان التنكر للخصوصيات الفردية والجنسية والتشبه بالنموذج المهيمن والمسيطر، يفسر اكتساح العلاقات المثلية لمجال العشق .

وقد بين دريدا، بأن هناك "أطروحات ذات نزعة نسوية ظاهرة، في ثنايا مجموع الكنايات التي يعبر من خلالها نيتشه عن عدائه للنزعة النسوية"[70]. حيث أن فلسفة نيتشه تلتقي ضمنيا مع انشغالات الحركة النسائية، وذلك من خلال تأكيده على التغير والاختلاف والصيرورة، في مقابل الهوية والتطابق[71] .

ويبقى أن مشروع نيتشه الفلسفي، كما تجسد في فكره وفي أسلوب كتابته و في منهجه الجنيالوجي، يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة لفكر الاختلاف الجنسي كما بدأ يتجسد لدى الحركات النسائية، في بعض المجتمعات الغربية "الولايات المتحدة الأمريكية، ايطاليا، وفرنسا في وقت متأخر"[72]، وهذا الذي يفسر كون هذه الحركات النسائية تتخذ من فلاسفة الاختلاف مرجعية فكرية ونظرية للتفكير في واقع المرأة، وفي إشكالية الاختلاف الجنسي، بل وتعتبر نفسها كفكر اختلاف أو فلسفة للاختلاف الجنسي .

والخلاصة انه عندما يتحدث دريدا عن الاختلاف الجنسي عند نيتشه، في مؤلفه[73] الذي خصصه لبحث مسألة الأسلوب والمرأة عند هذا الفيلسوف، فهو يتحدث عنه باعتباره ممكنا أكثر منه كائنا أو متحققا في ثنايا المتن النيتشوي، فهو لا يتوانى عن ترديد حقيقة أنه "ليس هناك من وجود أو ماهية للمرأة أو للاختلاف الجنسي"[74] عند نيتشه .

2 - الاختلاف الجنسي في فلسفة هايدغر:

إن الحديث عن الاختلاف الجنسي عند هايدغر هو بمعنى من المعاني حديث عن اللامفكر فيه، هو استنطاق لصمت هايدغر، وبحث في أثر trace هذا الصمت، الذي ليس مسألة اعتباطية. هو أيضا دفع لنص هايدغر ليقول ما لم يقله صراحة، أو ما قاله بشكل ضمني. وهو أخيرا دفع لهذا النص إلى أبعد من ذاته، أي هو، بلغة دريدا نفسه، مساهمة في مسيرة النص عبر البحث في ما صمت عنه هذا النص، واعتبره مجرد هامش .

فصمت هايدغر عن الاختلاف الجنسي هو كما يقول دريدا أيضا،صمت متعد transitif (هو صمت عن...) ، لكنه صمت معبر ودال، لأنه لا يعدو أن يكون محطة من محطات طريق ممتد، طريق الكلام الذي يبدو انه انقطع[75] . من هنا فقد يكون" للصمت بلاغة وقوة تعبير تفوق بكثير بلاغة الكلام"[76] .

ويندرج تناول دريدا لموضوع الاختلاف الجنسي عند هايدغر، ضمن مجال اهتمامه بفكر صاحب "الوجود والزمان' بشكل عام، و ضمن مجال بحثه في مفهوم Geschlecht[77] عنده بشكل خاص[78] . هذا البحث الذي أثمر نصين أساسيين هما:

- "الاختلاف الجنسي، الاختلاف الأنطولوجي (1 Geschlecht) "(1983) .

- "يد هايدغر ( 2Geschlecht )"(1985) .

وإذا كان الاختلاف الجنسي هو الموضوع الأساسي للنص الأول، كما يتأكد من خلال العنوان ، فان هذا الاختلاف يحضر في النص الثاني، في معرض مساءلة دريدا للأهمية التي يعطيها هايدغر لليد في تحديد مفهوم الإنسان، من أجل استكناه حقيقة مفهوم Geschlecht باعتباره يشير إلى الجنس أو الاختلاف الجنسي، ودائما انطلاقا من مبدأ البحث في ما قاله هايدغر أو ما صمت عنه بخصوص هذا العضو الجسدي[79] ، لاسيما وأن دريدا يلاحظ أيضا في هذا النص أن هايدغر يقول كل شيء عن اليد. يتحدث عنها باعتبارها تمنح وتأخذ الخ، لكنه لا يأبه باليد كموضوع للرغبة الجنسية، وبالتالي فهو يلوذ بنوع من الحياد الجنسي ضدا على القول بالاختلاف الجنسي[80] .

بينما حاول دريدا، في النص الأول، الذي يهمنا أكثر في هذا المقام، تتبع أثر حضور" مسألة الاختلاف الجنسي"، عبر ثنايا المتن الهايدغري، وإن كان يركز على نص درسه في ماربورغMarbourg . وأول ملاحظة يشير إليها دريدا في هذه المحاضرة، هي صمت هايدغر، عن هذا النمط من الاختلاف، أو بتعبير دريدا نفسه، "ربما لم يقل شيئا مطلقا عن الجنس أو العلاقة الجنسية، الاختلاف الجنسي ، المرأة والرجل"[81]. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قراءة دريدا تعي خصوصية المتن الهايدغري، فهو عندما يشير إلى صمت هايدغر عن الاختلاف الجنسي، لا يقصد صمتا مطلقا، بل نجده يستعمل في مناسبات عدة صيغة الاحتمال"ربما..." .

وصمت هايدغر عن الاختلاف الجنسي، يوحي في نظر دريدا بأن هذا الاختلاف لا يرقى إلى مستوى الاختلاف الانطولوجي[82]، الذي حظي باهتمام هايدغر أو بالأصح بكل اهتمامه، مادامت فلسفته تتمحور حول سؤال الاختلاف الانطولوحي. والأكثر من ذلك أن هذا الصمت يعطي الانطباع بأن الاختلاف الجنسي، الذي حظي في السابق باهتمام الفلاسفة أمثال كانط، هيغل، نيتشه وهوسرل-رغم ما يقال عن طبيعة هذا الاهتمام -لم يعد مع هايدغر شأنا فلسفيا[83]، بل أضحى يدخل ضمن مجال اهتمام حقول معرفية أخرى كالانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والبيولوجيا، وطبعا الدين والأخلاق.

فالأمر يتعلق إذن بمفارقة: صمت هايدغر عن موضوع الاختلاف الجنسي والجنسانية sexualité بشكل عام، في زمن الحداثة حيث "كل شيء هو جنسي، وكل شيء هو سياسي، والعكس"[84]، وحيث صار كل ما ما يمت للجنسانية بصلة، هو موضوع ثرثرة وعملة رائجة في حقل المعرفة . ويسجل دريدا بأن صاحب "الوجود والزمن" لا يثير الاختلاف الجنسي حتى عندما يتناول"الوجود-في العالم بوصفه وجودا-مع- الغير"[85]، فالمفهوم يغيب حيث كان يلزم أن يظهر. وهو ما يجعل دريدا يستنتج أن الاختلاف الجنسي لا يمثل بأي حال من الأحوال خاصية أساسية للوجود أو للدازين Dasein عند هايدغر. ويؤكد هذه الحقيقة هو نفسه ، عندما يعتبر في مؤلفه "الوجود والزمن" الدازين بمثابة الموجود المثالي[86]، أي أن البنية الوجودية للدازين لا تحمل في نظره أي علامة جنسية، تفيد انتماءه لجنس معين .

لكن بشكل مفارق، ينطلق دريدا من مفهوم الدازين نفسه، كما أبدعه هايدغر، ليثير مسألة الاختلاف الجنسي . ويشير إلى أن أول خاصية، يؤكد عليها هايدغر، باعتبارها مميزة للدازين هي الحياد. فهو لا يستعمل كلمة "رجل" للحديث عن هذا النمط من الموجود، بل نجده قد فضل الكلمة المحايدة الـ"دازاين"dasein[87]. ورغم التعدد الدلالي الذي يسم كلمة حياد، يرى دريدا أن ما يقصده هايدغر ليس شيئا آخر غير الحياد الجنسي. فإذا كان التأكيد على حياد الدازين، كموجود مثالي، يروم تضييق الحقل الدلالي لهذا المفهوم . فان هذا النوع من التضييق،لا يستقيم دون الإشارة إلى الحياد الجنسي، الذي ينتهي إلى نوع من لاجنسانية الوجود –هناl'asexualité l'être –là وبتعبير آخر فالقول بالحياد الجنسي يعني أن الدازين لا يشير لا إلى هذا الجنس ولا إلى ذاك. وبلغة هايدغر"يعني الحياد أيضا أن الدازين ليس أي واحد من الجنسين"[88] .

ويوضح دريدا في هذا السياق المخصوص، كيف أن لفظة "أيضا" الواردة في كلام هايدغر، تكشف أهمية الحياد الجنسي عنده في تحديد طبيعة الدازين، حيث يؤكد عليه مباشرة بعد إشارته إلى الخاصية العامة لهذا الموجود، والمتمثلة في طابعه الإنساني، فمن بين كل خصائص إنسانية الإنسان التي عمل هايدغر على تحييدهاneutraliser ، نجد الجنسانية. ولهذا يستنتج دريدا أن "الانتقال من "رجل"Mensch ، بل من إنسان Mannإلى دازين Dasein، معناه الانتقال من المذكر إلى المحايد"[89].

أما لماذا تتبادر إلى الذهن مباشرة خاصية اللاجنسانية بمجرد الحديث عن حياد الدازين؟ فمرد ذلك أولا إلى أن كلمة حياد الألمانية تحيل على ثنائيةbinarité. فإذا كان الدازين محايدا، وإذا لم يكن يمثل "الرجل"، فالنتيجة الأولى التي يمكن استخلاصها هي انه لا يخضع للقسمة الثنائية، أي أن أول ما نفكر فيه، في مثل هذه الحالة، هو أنه لا يخضع لمنطق الاختلاف الجنسي. وبالتالي فإذا كان الوجود-هنا لا يدل على "رجل"، فهو لا يشير بالأحرى لا إلى "رجل" ولا إلى "امرأة" [90].

إن القول "إن الدازين لا يختزل لا في الوجود البشري، ولا في الأنا ولا في الشعور أو اللاشعور، ولا في الذات ولا في الفرد، ولا حتى في الحيوان العاقل"[91]، يعطي الانطباع بأن مسألة الاختلاف الجنسي لا ترقى إلى مستوى المسألة التي تبحث في معنى الوجود، مسألة الاختلاف الانطولوجي، ومن ثمة فهي مسألة لا تستحق أي معالجة فلسفية مميزة والحال، يقول دريدا، أن العكس هو الصحيح، لإن تأكيد هايدغر على حياد الدازين الذي هو حياد جنسي في العمق، هو استحضار ضمنى للاختلاف الجنسي، وذلك بالنظر إلى أن الحياد اللا-جنسيa-sexuelle ، لا ينزع الطابع الجنسي عن الدازين، بقدر ما يكشف عن علامات الاختلاف التي تطبعه أو بتعبير أدق الثنائية الجنسية التي تخترقه ضمنيا[92]. إذ لا تتحدد اللاجنسانية بما هي كذلك إلا لأن الجنسانية ترتبط بثنائية أو تقسيم جنسي. "فإذا كان الدازين لا ينتمي إلى أي من الجنسين فهذا لا يعني انه كموجود مجرد أو محروم مما هو جنسي. على العكس يمكن أن نفكر هنا في جنسانية قبل اختلافية prédifférencielle، أو بالأحرى قبل ثنائية préduelle"[93] .

ويقترح دريدا التفكير في ما يمكن أن يشكل مصدر هذه الجنسانية الأكثر أصالة من الاثنينية الإغريقيةla dyade ، أي في هذا" المصدر الايجابي والقوي لكل جنسانية ممكنة"، والذي يحتاط هايدغر من وسمه بسمة "الجنسي"، خوفا بلا شك من السقوط في منطق الثنائيات الذي تقرنه دائما الانثروبولوجيا والميتافيزيقا بالجنسانية .

من هذا المنطلق يرى دريدا أنه من الصعب التغاضي عن حضور موضوع الاختلاف الجنسي عند هايدغر. فقد يبدو الحديث عن اللاجنسانية والحياد، أثناء تحليل الدازين، متعارضا مع مضمون الاختلاف الجنسي، على مستوى الظاهر على الأقل، بيد أنه كما يوضح دريدا، يشير في العمق إلى ذات الحقيقة، فالحياد أو اللاجنسانية "هي في الحقيقة من ذات الجانب، جانب هذا الاختلاف الجنسي"[94](ص157) . هذا رغم ما قد يوحي به هذا الكلام من عنف في التأويل .

ويشير دريدا أيضا إلى أن الدازين عموما يخفي أو "يتضمن في ذاته الإمكانية الداخلية للانتشار أو التوزع [الموضوعي والواقعي] في الجسم الخاص، ومن "ثمة في الجنسانية". فكل جسم خاص هو جنسي، وليس هناك دازين بدون جسم خاص"[95]. وبالتالي فالنتيجة، هي استحالة تصور الدازين بعيدا عن ما هو جنسي. فهو يرتبط بالضرورة بجنس معين، هذا الجنس الذي يتحدد بدوره كمقابل لجنس آخر .

وينبغي، في نظر دريدا، توضيح الاختلاف الجنسي أو الانتماء إلى جنس انطلاقا من الوجود-معL'être –avec ، وليس العكس. فهذا الوجود-مع لا ينبثق انطلاقا من رابطة اصطناعية" فهو لا يفسر ذاته انطلاقا من وجود جنسي Générique يفترض أنه أصلي، ة"ذلك أنه لكل وجود جنسي جسمه الخاص، الذي يخضع للتجزيء تبعا للاختلاف الجنسي. وعلى العكس فنزوع معين إلى التجميع، إلى وحدة الجنسين وتقاربهما، كل ذلك يتأسس "كافتراض قبلي ميتافيزيقي" على تشتت الدازين باعتباره كذلك[96].

والمؤكد بالنسبة لدريدا هو أن مسألة الاختلاف الجنسي تبقى مطروحة للتفكير[97]. ويبقى من الضروري العودة إلى "الوجود والزمان"، من أجل طرح مسألة الجنسانية عند هايدغر، حتى وإن كان لم يستعمل كلمة جنسانية صراحة واستعاض عنها بمفاهيم الحياد،السلبية، التشتت الخ . وما يبرر هذه العودة، هو أن التحييد المشار إليه في درس ماربورغ،" يرتبط مع ما قيل في "الوجود والزمان" عن "التأويل السالب privative""[98] . لدرجة أنه يمكن في نظر دريدا أن نتحدث عن بداية تأسيس هايدغر لانطولوجيا للحياة، تبحث في البنية الانطولوجية للكائن الحي، وذلك انطلاقا من أو عبر "طريق" هذا التأويل السالب privative ذاته. وهو ما يعني أن الطريق سالكة بين الاختلاف الجنسي ونظيره الانطولوجي.

بحيث ينبغي التذكير باستمرار، بحقيقة أن موضوع الاختلاف الجنسي لا ينفصل في النهاية عن موضوع الوجود، أو عن التحليل الوجودي للدازين[99]. والواقع أن العودة إلى "الوجود والزمان" تمكن في نظر دريدا، من فهم أفضل لحقيقة خطاب هايدغر حول الاختلاف الجنسي، وتكشف كيف أن هذا الخطاب ينزع نحو فكر للاختلاف الجنسي، فقط هذا الاختلاف ما يزال لم يتخذ صيغة ثنائية جنسية، أو اختلاف جنسي في صيغة ثنائية. وبالتالي يظهر بأن "ما تم تحييده على مستوى درس مالبورغ يتعلق بالعلامة "الجنسية" للاختلاف الجنسي، وبالانتماء إلى أحد الجنسين، أكثر منه بالجنسانية ذاتها"[100] . وينتهي دريدا إلى أن كلمةGeschlecht ، في درس مالبورغ تشير إلى الجنسانية، مع ما تفترضه أو تحيل عليه هذه الجنسانية من ثنائية واختلاف جنسي[101]. إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن دريدا عندما يعتبر أن هايدغر "لم يطرح المسألة الجنسية أو على الأقل أخضعها لمسألة عامة، هي مسألة حقيقة الوجود"[102]، فهو لا يفترض وجود اختلاف جنسي في ذاته . ذلك أنه "ليست هناك حقيقة في ذاتها للاختلاف الجنسي في ذاته"[103].

والخلاصة إذن هي أن مشروع هايدغر الفلسفي الذي يتأسس على نقد الميتافيزيقا، لم ينجز بلغة جنسية ،sexués تنفتح على بعد الاختلاف الجنسي[104]، بل ظل حبيس سؤال الوجود. ولم يتحقق الانشغال الفعلي بإشكالية الاختلاف الجنسي إلا في السبعينيات من القرن العشرين، في إطار الأفق الفكري الذي انطلق مع النزعة النسوية الجديدةnéo féminisme ، بتأثير من بعض فلاسفة الاختلاف، وخاصة دريدا ونقده العنيف لنزعة مركزية القضيبphallocentrisme أو مركزية العقل والقضيب phallogocentrisme .


ثالثا: التأسيس النظري لفلسفة الاختلاف الجنسي

بدأت مسألة الاختلاف الجنسي تشكل موضوعا أساسيا للنقاش في المجتمع الفرنسي، منذ حوالي ثلاثين سنة فقط[105]. ويعود الفضل في طرح موضوع الاختلاف الجنسي للتفكير إلى فلاسفة الاختلاف (دريدا ودولوز بشكل خاص)، والى إسهامات الباحثين في مجال التحليل النفسي (خاصة جاك لاكان)، والى الدينامية الاجتماعية التي خلقتها الحركات النسائية، في المجتمعات الغربية، خلال سنوات السبعينيات [106].

والواقع أن ما يلاحظه دريدا على هايدغر، ينطبق على كل تاريخ الفلسفة، أو تاريخ الميتافيزيقا الغربية، على اعتبار أن إعادة النظر في مركزية القضيب لا تنفصل عن نقد الميتافيزيقا بشكل عام بتمركزاتها المختلفة (العقل،الصوت...). غير أن الباحثة فرانسواز كولان Françoise collin ترى مع ذلك "أن هايدغر قد هيأ بشكل مباشرة لهذا التحول، عندما حدد الكائن البشري باعتباره دا-زين da-sein "وجود- هنا""être-la"، والذي يتم تعريفه ليس بالتحكم الأداتي في الوجود، وإنما بالإصغاء له" [107].

يعتبر دريدا أن "الفلسفة هي إيديولوجيا المجموعة الإثنية الغربية"[108]. ويوضح فانسان ديكومب بأن مفهوم "إيديولوجيا"، هنا يعني أن خطابا معينا، أو نسبيا، يقدم نفسه على أنه كوني ومطلق، أي أن الايدولوجيا هنا تأخذ معنى القناع الذي يقدم "حقيقة ما"، لكنه يحجب حقيقته الفعلية.

ونقد دريدا للفلسفة أو للميتافيزيقا الغربية، ليس نقدا عدميا، بل هو نقد يضع نصب عينيه فلسفة أكثر كونية و عقلانية أكثر اتساعا وشمولية[109]. أو بتعبير ديكومب "يفترض هذا البرنامج دائما أن أمام العقل مستقبل"[110] يتعين بناؤه، بمعول النقد والتفكيك .

فبعد سجالات طويلة خاضها دريدا مع أبرز رموز الفكر الغربي(أفلاطون، روسو، سوسير، ستراوس، هوسرل ...)، ينتهي إلى الإقرار بحقيقة تمركز الغرب عرقيا[111]. ويظهر دريدا "أن هذا التمركز العرقي" يستند على تمركزات أخرى، تمركز عقلاني أو تمركز اللوغوس، تمركز صوتي ، وتمركز القضيب . وتدخل فلسفة دريدا التفكيكية ضمن أفق فكر ما بعد الحداثة. فهي تستهدف تجاوز أشكال الحداثة الغربية-ذات الجذور الغربية-التي تقوم على فكرة التحكم: تحكم الذات في الموضوع، ولكن أيضا تحكم الرجل في المرأة. فمركزية العقلlogocentrisme هي الوجه الآخر لمركزية القضيبphallocentrisme من هنا حديث دريدا عن مركزية العقل والقضيب [112]phallogocentrisme. فبالتضاد مع مفاهيم "الأصل" و"الهوية" و"الكلية " الخ،المفاهيم التي شكلت نسيج الميتافيزيقا الغربية، يحرف دريدا كل شيء باتجاه "الاختلاف" الذي يعدل من أجله المفردة الفرنسية نفسها التي تدل عليه من différence إلى différance ... أي أنه بالتضاد مع "الأزواج" المفاهيمية المزدوجة التي يتمحور حولها الفكر الغربي، والتي تحيل إلى "طوابق" وعلاقات تراتبية محكومة بالتوزع إلى طرفين متناقضين، يقترح دريدا ويدفع إلى العمل سلسلة من الكلمات مزدوجة المعاني تحمل داخلها قوة الخلخلة والتفكيك، عملت الميتافيزيقا الغربية على الحط من أحد معانيها دائما"[113]. كما هو الحال مثلا مع ثنائية" الذكر / الأنثى"، التي تحكمها علاقة التناقض من جهة ( تناقض طبيعة الذكر مع طبيعة الأنثى) وعلاقة التراتبية من جهة أخرى (تفوق وهيمنة الذكر على الأنثى)، والتي تم الحط تاريخيا من دلالة الطرف الثاني، والإعلاء من قيمة ودلالة الطرف الأول.

فعمل دريدا إذن يقوم على "بعث طاقة التعبير الحية في المعنى الآخر(المهمش) لكل من هذه المفهومات، والتأكيد عليه، بقوة، بحيث يعود يواجهنا كلما ورد ذكر الكلمة التي تضمنه"[114]. من هنا لا يصبح أمرا بديهيا الحديث عن الجنس الثاني، كجنس يتحدد بالقياس إلى جنس آخر يضع نفسه بوصفه جنسا أولا وأصليا، آو الحديث عن الجنس الآخر، كمقابل لجنس يتحدد بوصفه ذاتا ومركزا، أو الحديث كذلك عن الجنس اللطيف أو الضعيف sexe faible ، من منطلق أن هناك جنس خشن يجسد القوةsexe fort. وكما لاحظ فانسان ديكومب، في معرض تحليله لمفهوم الاختلاف عند دريداdifférance "فالثاني ليس ما يأتي بعد الأول فحسب، وإنما هو ما يسمح للأول بان يكون أولا. وهكذا فالأول لا يصير أولا بقواه وبامكاناته وحدها، بل ينبغي على الثاني أن يساعده بكل قوة تأخره، فبفضل الثاني يكون الأول أولا"[115]،وهذا ما يجعلنا نستنتج أن الأول هو في الحقيقة "ثالثا". فمقاربة دريدا التفكيكية، تعمل على تقويض الزوج الميتافيزيقي مذكر/مؤنث، وتقطع بذلك مع التمثل الثنائي للجنسين، وبالتالي مع مبدئه التراتبي[116] فهو عندما يعيد الاعتبار لطرف الثنائية المقصي والمهمش أي للمؤنث، لا يستهدف تأسيس مركزية أنثوية مضادة لمركزية القضيب. بل هو يروم تقويض دعائم كل ثنائية، كيفما كانت، باعتبارها تمثل لبنة في صرح الميتافيزيقا. فبرنامج تفكيك دريدا للميتافيزيقا، هو ذاته برنامج نسف دعائم كل مركزية .

وفي هذا السياق نفهم نقد دريدا للنزعة النسوية التي تزعم النضال ضد الهيمنة الذكورية أو الفالوقراطية "phallocratie"، لكنها تؤكد في العمق، و بشكل مفارق، على ثنائية الذكر/الأنثى الميتافيزيقية، فتحصر الاختلاف في دائرة التعارض، مجسدة بذلك صورة النموذج الارتكاسي بلغة نيتشه[117]. فهذه النزعة عندما تطرح، في نضالها من أجل تحرر المرأة، "نحن النساء" في مقابل"هم الرجال" فهي تفترض تصورا ميتافيزيقيا للهوية الجنسية. ومع ذلك فنقد دريدا للنزعة النسوية لا يصل إلى أقصى مداه، بل نجده يقر بأهميتها المرحلية . فهي تشكل، في نظره، لحظة تاريخية مؤقتة في اتجاه التحرر من التحرر نفسه[118].

وبشكل عام يمكن القول إن تأثر دريدا بموقف نيتشه، يفسر نزوعه إلى الحديث عن الاختلاف الجنسي بصيغة الجمع، أي عن اختلافات جنسية، بدلا من الحديث عن اختلاف جنسي بحصر المعنى، يأخذ صبغة ثنائية وتقابلية، ويبقى حبيس مركزية القضيب[119].

وفي ذات منحى فلسفة الاختلاف، طرح جيل دولوز[120] منطق الأغلبية والأقلية، باعتباره يمثل آلية من الآليات التي تدعم مركزية وهيمنة الغرب، للمساءلة والنقد. فالأغلبية تفترض معيارا أو نموذجا تتحدد بالقياس إليه، هذا المعيار هو الرجل أو الذكر، الأبيض، الغربي، العاقل، الذي يقطن المدينة، ويتحدث اللغة الرسمية الخ. وتبعا لهذا المعيار، تتحدد الأقلية باعتبارها تمثل تلك الفئة من الناس، المختلفة في الجنس واللون واللغة والانتماء الجغرافي والثقافي الخ. وتبعا لهذا المعيار أيضا فالأقلية يمكن أن تكون أغلبية على مستوى الواقع. فالنساء مثلا هن أقلية دائما، مهما كان عددهن، حتى ولو شكلن أغلبية مقارنة مع الرجال .

ويعيد دولوز الاعتبار للأقلية، عندما يكشف حقيقة "أن الأغلبية بالنظر إلى أنها تحليليا متضمنة في المعيار، فهي دائما لا أحد، بينما الأقلية هي صيرورة كل الناس، صيرورة بالقوة، بحكم أنها تحرف أو تحيد عن النموذج"[121]، فالأغلبية لا تمثل أبدا صيرورة، ليست هناك من صيرورة إلا وهي أقلية، ولذلك فهي مبدعة. ولهذا، فعلى مستوى الاختلاف الجنسي بين الرجال والنساء مثلا، يرى دولوز "أن النساء يشكلن أقلية مهما كان عددهن مساويا أو متجاوزا لعدد الرجال، ويتحددن غالبا باعتبارهن كحالة أو مجموعة أدنى، لكنهن لا يبدعن إلا بجعل صيرورة ما ممكنة، صيرورة لا يتحكمن في خاصيتها، بل ينبغي أن يندرجن هم أيضا ضمنها. المقصود طبعا، صيرورة –امرأةdevenir-femme تهم الإنسان ككل، بما في ذلك اللا-نساءles non-femmes "[122]. لهذا الاعتبار يتحدد فكر ما بعد الحداثة بوصفه "صيرورة امرأة""devenir femme" ، أو هو" صيرورة مؤنث""devenir féminin للفكر والفعل[123].
خاتمــــة

وفي الأخير نقول مع Luce irigarayإن الاختلاف الجنسي، يبقى رغم كل ما قيل، في حكم الممكن أكثر منه كائنا أو متحققا، في الفكر أو في الواقع، وهو لذلك يظل أحد أهم المسائل التي يتعين علينا طرحها للتفكير في عصرنا هذا[124]. فقد أضحى من اللازم فتح أشكال التعبير والمعرفة، من أجل احتضان الإنتاجات الرمزية التي تعبر عن التجربة الأنثوية، لأن تجارب النساء ظلت تاريخيا محرومة من الوسائط الضرورية من أجل أن تعرف ذاتها وتعبر عنها، أو ظلت خاضعة في أحسن الحالات لوساطة الفكر الذكوري.

لهذا فأهم ما يميز فكر الاختلاف الجنسي إذن هو أنه مبدع الوساطات الأنثوية، فهو فكر سياسي يناضل من أجل فك عزلة المرأة. فالمهمة المركزية لهذا الفكر هي تجريد الاختلاف الجنسي من سطوة الهيمنة الجنسية.

ولعل ما يثير الاستغراب في نظر[125]Luce irigaray، هو هذا الاهتمام الباهت والمتأخر بموضوع الاختلاف الجنسي في فرنسا، التي شهدت التجسيد الفعلي لفلسفة الاختلاف، مع دولوز ليوطار ودريدا. فظهور فلسفة الاختلاف الجنسي، تم خارج فرنسا، في الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا بشكل خاص. وكما تشير إلى ذلك هذه الباحثة الإيطالية "يشهد فكر الاختلاف الجنسي تطورا متزايدا في إيطاليا مقارنة مع فرنسا، فهو يشكل رهانا للنقاشات العمومية والسياسية"[126]. أما ببلادنا فمازال لم يحظ هذا الجانب المهم من الواقع الإنساني بما يستحق من اهتمام،هذا في الوقت الذي لم يعد يمثل الاختلاف الجنسي مجرد موضوع للتأمل والتفكير الفلسفي، بل صار يرتبط بما هو عملي، حيث أصبح الحديث اليوم عن ثقافة الاختلاف الجنسي، وعن سياسة الاختلاف الجنسي.

[1] Luce irigaray "le temps de la différence" éd -librairie générale française –paris 1989

[2] Benoist .j.m et autres « l identité » -éd grasset- frasquelle-paris 1977-p13-14

ذكره عند علي حرب:"التاويل والحقيقة"منشورات دار التنوير للطباعة والنشر- بيروت 1985-ص237.

[3] عبد السلام بنعبد العالي"ثقافة الأذن وثقافة العين " دار توبقال للنشر 1994 ص30

[4] Ernst cassirer « Essai sur l homme » éd minuit- tr.norbert massa- paris -1975-p19.

[5] M. guillaume et j.baudrillard "figures d altérité" – éd Descartes –Paris-1994-p49

[6] Valeska wallertein « le féminisme comme pensée de la différence » tr.marie-France dépeche-in labrys études féministes juillet 2004

[7] A.khatibi « Maghreb pluriel » éd denoel –paris 1982-p20

[8] محمد أندلسي:"نحو سياسة جديدة للكتابة في الفلسفة" مجلة عالم الفكر –العدد 4 المجلد 33- ابريل/يونيو 2005ص67.

[9] نفس المرجع

[10] Entretien avec Jacque Derrida –in le monde de l éducation - n 284 septembre 2000.

[11] - علي حرب" نقد الحقيقة" المركز العربي –بيروت- البيضاء 1993-ص29.

[12] - عبد السلام بنعبد العالي "ثقافة الاذن وثقافة العين" مرجع مذكور ص30.

[13] - عبد الكبير الخطيبي" النقد المزدوج" ترجمة ادونيس واخرين-منشورات عكاظ-الرباط-1990-ص8.

[14] Ibid

[15] les notions philosophiques tome 1,volume dirigé par sylvain Auroux éd Puf.Paris 1990 p2368

[16] بكلية الآداب والعلوم الانسانية-جامعة مولاي اسماعيل بمكناس.

[17] نستثني كذلك الملف الذي خصصته مجلة الحكمة للموضوع(العدد الثالث- شتاء 1993) والكتاب الجماعي الذي نشر خلال هذه السنة(2005)، والذي يتضمن محورا حول الاختلاف بين الجنسين في الفكر الفلسفي :

- « le féminin en miroir :entre orient et occident » -sous la direction de :isabelle krier et Jamal eddine el hani-éd le fennec 2005.

لكن مع ذلك، لابد من الإشارة إلى أنه حتى على مستوى الدول الغربية، لم يبدأ الاهتمام الفعلي بموضوع الاختلاف الجنسي إلا في وقت متأخر من القرن الماضي.

[18] سالم يفوت"مفهوم الاختلاف في لسان العرب" مجلة مدارات فلسفية عدد 3 فبراير 2000 –ص65-68.

[19] ابن منظور" لسان العرب" المجلد التاسع- دار صادر –بيروت 1300 للهجرة-ص91...

[20] نفس المرجع السابق.

[21] انظر على سبيل المثال لا روس الكبير:

Grande larousse encyclopédique tome4 éd librairie larousse-paris 1961 .

[22] Jean beaufret : « Dialogue avec Heidegger » T3 éd Minuit 1974 p 186.

[23] les notions philosophiques tome 2,volume dirigé par sylvain Auroux éd Puf.Paris 1990 p 656.

[24] Jean beaufret : « dialogue avec Heidegger » T3 - op,cit p 186.

[25] عبد السلام بنعبد العالي"أسس الفكر الفلسفي المعاصر:مجاوزة الميتافزيقا" دار توبقال للنشر-الطبعة الثانية2000-ص78.

[26] notions philosophiques tome 2 op,cit p 656

[27] عبد السلام بنعبد العالي- مرجع سابق-ص78.

[28] عبد السلام بنعبد العالي"ثقافة الأذن وثقافة العين " –مرجع سابق ص30.

[29] G.Deleuze « Différence et répétition »éd PUF 7 édition 1993 P 74 et 89.

[30] حوار مع مارتن هايدغر-ترجمة إسماعيل المصدق- مجلة فكر ونقد عدد23- 1999ص132.

[31] عبد السلام بنعبد العالي" دولوز مؤرخا للفلسفة" مجلة فكر ونقد عدد 1 -7199 ص56.

[32] بنعبد العالي" أسس الفكر الفلسفي المعاصر" مرجع مذكور ص9

[33] F.Nietzsche « humain trop humain »ورد عند بنعبد العالي-المرجع السابق ص19.

[34] بنعبد العالي-نفس المرجع السابق

[35] نفس المرجع ص20.

[36] محمد أندلسي » الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي« منشورات جامعة مولاي إسماعيل –مكناس 2003 ص56

[37] محمد أندلسي –نفس المرجع السابق ص57.

[38] محمد أندلسي-نفس المرجع ص30.

[39] Ch.De Lacompagne « Histoire de la philosophie au 20 siècle » éd seuil 2edition 2000 p378

[40] J.Derrida « Marges de la philosophie »éd minuit -1972 - p7

[41] عبد السلام بنعبد العالي"دولوز مؤرخا للفلسفة" مجلة فكر ونقد عدد1-ص56.

[42] G.Deleuze « Différence et répétition » op,cit p82.

[43] ibid p 74.

[44] J.Derrida« Marges de la philosophie » op,cit p7.

[45] - Geneviève fraisse "la controverse des sexes" éd quadrige/puf –paris -2001 p39.

[46] - Françoise collin " différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme éd puf 2000-p27

[47] - Geneviève fraisse "la controverse des sexes" op,cit p14.

[48] - Geneviève fraisse"la femme,un objet pour la philosiphie" in le féminin en miroir: entre orient et occident –oeuvrage collectif sous la direction de isabelle krier et autres- éd le fennec –casablanca-2005-p277

[49] - ورد عند :Geneviève fraisse "la controverse des sexes"op,cit p16.

[50] - Ibid p36

[51] - Luisa muraro et groupe "diotima" "la différence des sexes" in l univers philosophique –tome 1 éd puf 2 édition 1991- p1373.

[52] - ibid p15.

[53] - Françoise collin " différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme op,cit.p27

[54] - ibid p28

[55] - الحسين سحبان"العقل المذكر والعقل المؤنث" مجلة الحكمة –العدد الثالث –شتاء 1993-ص7

[56] - المرجع السابق- ص10

[57]- Françoise collin"différences des sexes" in Notions philosophiques op,cit p2366.

[58] - الحسين سحبان"العقل المذكلر والعقل المؤنث" مرجع سابق- ص 14

[59] - محمد نور الدين افاية "الهوية والاختلاف "افريقيا الشرق-الدار البيضاء 199 ص53.

[60] - Catherine clément "Hannah Arendt: être citoyen du monde" –magazine littéraire n380 oct 1999 –p46.

[61] - f.collin"différences des sexes" in Notions philosophiques op,cit p2366

[62] - دافيد بوث مثلا انظر مقال:"نيتشه وبلاغته "النسوية" ترجمة حسن حلمي – مجلة الحكمة –العدد الثالث –شتاء 1993 ص 65.

[63] - J Derrida « éperons : les styles de Nietzsche » éd Flammarion –paris 1978p77

[64] - ibid p83

[65] - ibid p83

[66] - دافيد بوث David Booth"نيتشه وبلاغته "النسوية" –مرجع سابق ص55.

[67] - نفس المرجع ص54.

[68] - نفس المرجع-ص53.

[69] - محمد اندلسي » الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي« -مرجع سابق-ص 54.

- [70] دافيد بوث "نيتشه وبلاغته "النسوية"-مرجع سابق ص63

[71] - نفس المرجع ص 63.

[72] - نفس المرجع –ص66.

[73] المقصود كتابه السالف الذكر:

J Derrida « éperons : les styles de Nietzsche » op,cit.

[74] - ibid. p100.

[75] - J.Derrida « Heidegger et la question :de l esprit et autres essais » –éd Flammarion 1990- p149

[76] - عبد السلام بنعبد العالي" بين-بين" دار توبقال للنشر-البيضاء1996-ص 83.

[77] - يحتفظ دريدا بهذه الكلمة في صيغتها الألمانية، فهو يصرح بأنه لن يترجمها، وسيتركها تأخذ دلالاتها تبعا للسياقات التي ترد فيها، ومن الدلالات التي لهذه الكلمة نجد: جنس، عرق، نوع، عائلة، سلالة، امة.

انظر: J.Derrida J.Derrida « Heidegger et la question :de l esprit et autres essais »,op cit p145 et 176

[78] - انظر J.Derrida « Heidegger et la question :de l esprit et autres essais »op,cit

[79] - ibid P189-190

[80] - ibid p185

[81] - ibid p147.

[82] - ibid

[83] - ibid p148

[84] - ibid p149

[85] - ibid p150

[86] - ibid p150

[87] - ibid p152

[88] - ibid p156

[89] - ibid p153

[90] - ibid p154

[91] - ibid p155

[92] - ibid p155

[93] - ibid p156

[94] - ibid p157

[95] - ibid p161

[96] - ibid p166

[97] - ibid p167

[98] - ibid p167

[99] - ibid p 168

[100] - ibid p171

[101] - ibid p172

[102] - J.derrida"éperons: les styles de Nietzsche "éd Flammarion- paris 1978 p89

[103] - ibid. p84

[104] - notions philosophiques op,cit p2368.

[105] - Isabel krier "présentation" in le féminin en miroir: entre orient et occident -op,citp9

[106] - Ibid p16

[107] - Françoise collin "le féminin dans la pensée postmétaphysique: autour de j.derrida" in le féminin en miroir: entre orient et occident -op,cit p340.

[108] - V.descombe "le même et l autre"op,cit ..p161

[109] - ibid

[110] - ibid..p162

[111] - عبد الله إبراهيم"التفكيك :الأصول والمقولات"منشورات عيون المقالات-الدارالبيضاء-1990- ص26

[112] - Françoise collin "différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme op,cit p33.

[113] - نفس المرجع ص27.

[114] نفس المرجع.

[115] - V.descombe "le même et l autre"op,cit ..p170

[116] - Françoise collin "le féminin dans la pensée postmétaphysique: autour de j.derrida"op,cit p 341.

[117] - Ibid p344

[118] - ibid p346-347

[119] - Entretien avec J.Derrida in le monde de l éducation - n 284 septembre 2000

[120] - Gille Deleuze « philosophie et minorité » in critique n 369 février 1978 –p144

[121] - Gille Deleuze « pourparlers » les éditions de minuit 1990 pp134-135

ورد عند محمد اندلسي» الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد: جينيالوجيا الخطاب الميتافيزيقي« -مرجع سابق - ص154.

[122] - Gille Deleuze « philosophie et minorité » op,cit –p145.

[123] - Françoise collin "différence des sexes" in dictionnaire critique du féminisme op,cit p33.

[124]- Luisa muraro et groupe "diotima" "la différence des sexes" in l univers philosophique –tome 1 éd puf 2 édition 1991- p1372

[125] - Luce irigaray "le temps de la différence"op,cit p9.

[126] - ibid-p7


5555554.jpg
 
أعلى