قدور رحماني - الكتابة نكاح... يقول ابن عربي

إذا كانت كينونة الأشياء صادرةً عن لذّة، ومجيءُ الإنسان صادراً عن حب، كما يقول ابن عربي في «فتوحاته المكّية»، فإن الكتابة فيض إنساني متدفّق داخل فضاء من اللذّة التي تعدّ ماء الحياة والوجود بالنسبة إلى الكاتب والمكتوب على السواء. ولا يوجد في الواقع حديث عن الكتابة ولذّتها بمنأى عن الحديث عن القراءة وما تلتئم عليه من متعة، وهكذا فإنه لا وجود للنص في غياب قارئه، ومن هنا كان القارئ هو غاية الكاتب أو غاية الخطاب المكتوب.

وفي غمرة الحديث عن لذّة الكتابة ومتعة القراءة والعلاقة بينهما تواجهنا طائفة من الأسئلة: لماذا تُغوينا الكتابة فنُقبل على قراءتها؟ هل الكتابة مادة للعشق؟ هل لذة الكتابة كمتعة القراءة؟ لماذا كانت الكتابة في المنظور الصوفي شهوةً ونكاحاً، كما يشير إلى ذلك ابن عربي؟

إن الكاتب حين يُقبل على إنتاج نص ما يضع في تصوّره أن مكتوبه لا ينصرف إلى «قارئ بعينه، بل لكي يتداوله مجموعة من القرّاء، وهو يدرك أن هذا النص لن يؤوَّل وفق رغباته، بل وفق استراتيجية معقّدة من التفاعلات التي تستوعب داخلها القرّاء بمؤهّلاتهم اللسانية باعتبارها موروثا اجتماعياً» على ما يقول أمبرتو إيكو في كتاب «التأويل بين السيميائيات والتفكيكية». ولم يكن جوهر القراءة - بقطع النظر عن طبيعة التفاعلات التي تُصاحب هذه العملية - أن نقرأ ألفاظاً وتراكيبَ وجملاً، وإنما أن نقرأ وفي أنفسنا تلمع فكرة السعي إلى تحقيق نصّ كلّي كما يقول ميشال أوتان (نقلاً عن «فعل القراءة: النشأة والتحوّل» لحبيب مونسي).

هذا النص الحلم يؤدّي فيه القارئ دوراً بالغ الخطورة نظراً لما يقدِّمه من إنتاجية - خلال قراءته - قد تتجاوز مؤلف النص نفسه، لأنه لم «يعد مجرّد مستهلك للنص، بل بات مشاركاً فيه بصورة أو بأخرى» على ما يذهب فوزي عيسى في «النص الشعري وآليات القراءة». ثم إن الذي يُقبل على عملية القراءة أشبه بمن يُقبل على قطف الثمار. وهكذا فإن القراءة هي وجه آخر للكتابة باعتبارها سعياً إلى اكتشاف الخفي وسعياً إلى «إنطاق الذات بما هو مغيّب من مجاهلها» كما يقول عبد الملك مرتاض في «نظرية القراءة».

وغنيٌّ عن البيان أنه لا يمكن أن يحدث أي تفاعل حقيقي بين نص الخطاب والقارئ، إلا إذا أقبل الكاتب على الزجّ بقارئه في بحر الغواية والإغراء، على اعتبار أن الكتابة مادة للعشق والمحبّة والافتتان. وبكلمات أخرى نقول إن النص يصبح آنئذ محوراً للإثارة وجسداً طافحاً بالفتنة والدهش. ولمّا كانت الغواية هي الفضاء المؤنّث لنص الخطاب، نرى الكاتب يسعى، على الدوام، إلى تمريغ قارئه في تُربتها من أجل إحداث الاستجابة. وفي ظلّ هذا المناخ الخصيب والفضاء الحيوي المثير تتبلور القيمة الجمالية للنص؛ تلك القيمة التي لا ينطوي عليها النص وحده، بل تملك قسطاً منها ردود فعل القارئ ومعايشته الوجدانية لها. وإذا كان فعل القراءة يجسِّد صلة غرام بين عاشق ومعشوق مثير فهذا يعني، من جملة ما يعنيه، أن هذا الفعل يصبح قابلاً لإعادة إنتاجه، ويفتح على عالم التجدّد والتأويل. ومن هنا يمكن القول إن عملية «القراءة ليست عملية سكونية سلبية مغلقة بل هي عملية ديناميكية فعالة» كما تقول خالدة سعيد في «حركية الإبداع - دراسات في الأدب العربي الحديث». وغير بعيد عن ذلك نسأل: هل يمكن أن تتحقّق لذّة النص في حضور سلطة المؤلِّف؟

أعتقد أنه ليس في إمكان المتلقّي الوصول إلى ما يُعرف بلذّة النص وأن يُسهم في إنتاجيته، وأن يبني معه علاقة غرام، في ظلّ الهيمنة التي يفرضها المؤلف. لكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن تحييد المؤلف لا يعني سوى تحرير النص وتحويله من حضن المؤلف إلى حضن القارئ من أجل أن يتحقّق ذلك التجاذب الحارّ بين المتلقّي ونص الخطاب. وإذا ما تمّ ذلك تمكّن القارئ من الإحاطة بالنص وتطويقه سعياً إلى الكشف عن مفاتيحه وجواهره الأدبية المستكنة في جمله وصوره وصياغاته وذيول معانيه وكلماته.

الكتابة ليست خلقاً من عدم، وليست صياغة منقطعة الجذور عن حركية التاريخ والإرث الثقافي العام للمجتمع. من هنا لا يوجد نص يملك صفة الذاتية المطلقة، بل إن ما يحوزه من عناصر الفن والجمال لهي ألقٌ يلوح من آفاق إبداعيته. ثم إن لذّة الكتابة التي تتسلسل خلال تضاعيف نص الخطاب هي شهوة مغموسة في متعدّد إبداعي حيوي ينطلق في تكوين تفاعلاته - داخل تضاعيف النص - منذ اتقاد الشرارة الأولى لعملية الكتابة.

ولقد ألمح بارت إلى أن الكتابة ليست سوى بقايا الأشياء الفقيرة والهزيلة والجميلة في دواخلنا، لكن هذه الأشياء التي أشار إليها هي العناصر التي ينطلق منها الكاتب لتشييد عالم متجدّد يقف بديلاً عن عالم التقليد. وفي ذلك لذّة هدم، ولذّة بناء، ولذّة إضافة.

وتأتي القراءة، بعد ذلك، وهي كتابة لا نهائية يمارسها القارئ بكل حرّية تبعاً لانفجارات الوعي واللاوعي، كما يقول محمد بنيس في كتاب «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب». بيد أن قراءة الأثر لا تحقّق متعة عميقة إلا في حال ارتباطها بعنصر التفاعل وعنصر التذوّق الجمالي الذي يحقّق متعة التواصل. لكن يجب أن نحذر من قضية التذوّق الجمالي، فبالرغم من أهميته ودوره في مقاربة النص وبناء علاقة معه تمتّن جسور التواصل والإمتاع، إلا أن هذا التذوق «متى يصبح قيمة جاهزة ومن ثم مبتذلة، فإن التحرّر من وطأته كجاهز ليس ممكناً إلا بالتعامل مع النص كمتغيّرة تاريخية» بحسب يمنى العيد.

وهكذا فإن حضور عامل التذوّق الجمالي كملكة في المتلقّي هو عنصر ذو أهمية، يمكن الإفادة منه في شحن عملية التلقّي وفي دعم المعايشة الوجدانية وتنشيطها. لكنه كعامل معرفة ذي قيمة في تقوية العلاقة بين القارئ والأثر، ينبغي أن يظلّ منفتحاً على قابلية التحرّر والترقّي والإضافة المجدية. وإذا لم يتأتَّ له ذلك فإنه يغدو قيمة جاهزة مبتذلة لا طائل منها. ثم إنه من غير المعقول، بل من العسف والشطاط أن يظلّ عامل التذوّق قيمة مستقرّة ثابتة. ففي ذلك تهديد للكتابة والقراءة على السواء.

إن القراءة لا تحقّق متعة إذا كان القارئ مصمِّماً على بقائه كما هو أمام ما يقرأ، في الوقت الذي ينبغي له أن يكون مسيطراً على أدوات القراءة، عارفاً بما تلتئم عليه مسالك القراءة المنتجة، كما يقول موريس بلانشو (أسئلة الكتابة، ترجمة: نعيمه بن عبد العالي وعبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال، 2004). وعطفاً على ذلك فإن هذه القراءة المنتجة المجدية تصبح عملاً شاقاً مغموساً في العناء والعذاب، وتغدو نشاطاً فنياً ينسكب في مجرى العمل الإيجابي - بحسب مصطفى ناصف - الذي يلتئم على قدر غير يسير من الإضافة والإنتاجية. وفي سياق هذا الإيقاع تصبح القراءة والكتابة كلتاهما أرضاً للاكتشاف وعاملاً للمعرفة وينبوعاً للذة والإمتاع.

لا يمكن للنص أن يضمن حدوث الرغبة في قراءته إلا إذا كان مملوءاً بما يدفع إلى إنتاج قراءته، بحسب بلانشو، وإذا كانت الكتابة مسلكاً للعبور إلى المستحيل ومحاولة لخلق حيوات جديدة فهذا يعني أن هذه العملية هي عملية تقف نقيضاً للتراكمية ونقيضاً لإعادة بعث الأنموذج المستنزف. وعلى الضفة الأخرى لا تستطيع القراءة الإسقاطية الشرحية المستهلكة أن تدنو من خلق شيء من حميمية مع النص.

إن القراءة ليست عملية شرحية ولا استهلاكاً لغوياً للنص. وقد أشار بلانشو إلى هذا المعنى حين قال: «القراءة ليست إيصال الإنتاج الأدبي، لكنها تلك العملية التي من طريقها يبثُّ الإنتاج الأدبي نفسه». يرى بلانشو أن الذين يقولون إن الكاتب يكتب بحضور قارئ ما، بمعنى أنه عندما يكتب يعتقد أن ذاته تطوي قارئاً يكتب أو تكتم قسطاً من القراءة، لا يمكن أن ييفكّروا تفكيراً ينبع من تمعّن باعتبار أن الكتابة نزع من مستحيل، وبالتالي فمن الوهم أن يكون الكاتب قارئاً في مرحلة إنجاز العمل الأدبي، فكي يتحوّل قارئاً يجب أن ينفلت من الإنتاج الأدبي ويبتعد عنه.

نكاح الحروف

في سياق الحديث عن لذّة الكتابة لا بدّ من التوقّف عند الطرح الصوفي في هذه المسألة، وأقصد وجهة نظر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي يعتبر الكتابة نكاحاً.

لا نجد في تراثنا العربي كلاماً على لذّة النص كالذي كان ينسِّقه ابن عربي في كتاب «الفتوحات المكّية».

فإذا كانت الحروف التي أُعطيها ابن عربي في أحد مناماته فنكحها جميعاً بلذة روحانية عظيمة فتكشفت له كنوز العلم والمعرفة والإبداع كما يقول أبو العباس الغبريني... أقول إذا كانت هذه الحروف في فهم ابن عربي هي «أمّة من الأمم مخاطبون ومكلّفون وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف»، فإن النص حسب مفهوم شيخنا الأكبر يتخطّى كونه تنسيقاً نحوياً وتسويداً لمساحات بيضاء. وبكلمات أخرى فإن النص عالم يفتح على حياة خصبة وأسرار متشابكة. وأهمّ ما يُثير الانتباه في حديث ابن عربي، ذلك الربط الذي يُقيمه بين الشهوة النكاحية وشهوة الكتابة، وكلا الأمرَين يمثّلان صورة مصغّرة للنكاح الكوني. وقد دفعه اعتقاده بالوجود الواحد إلى جعله النكاح واقعة محيطة واحدة قد تهالكت فيها جميع أنواع النكاح: الطبيعي والروحاني والنكاح المعنوي المتحقّق بين المعارف والمعاني.

إن لذّة الكتابة في مفهوم ابن عربي شهوة نكاحية، وهي صورة لا يمكن فصلها عن صورة النكاح الوجودي الشامل. فحركة الوجود بكاملها، والكتابة وجه من وجوهها، أمر قائم على مبدأ النكاح الذي يعدّه ابن عربي تواصلاً مع الألوهية وتجديداً للعلاقة بشأنها.

إن ابن عربي يعتبر العالم أشبه ما يكون بكتاب مسطور قد ضُمَّ بعضه إلى بعض انضمامَ الزوجَين، فأصبح مع الإناث يلد في كل حال. وبجوار ذلك فإن الكتابة خلق وإيجاد، والنكاح مبدأ الخلق والإيجاد، وبوساطته تتحقّق الأشياء إذ تُلقى من عالم الوجود العلمي إلى عالم الوجود العيني. وهكذا فإن الكتابة تسير في مجرى هذا الإيقاع كونها إيجاداً ونزعاً من ظلام إلى نور، وفي ذلك لذّة.

وما دامت الكتابة نكاحاً يُمارَس ولذّة تُعاش - في المنظور الصوفي - فإن القراءة لا يمكن عزلها عن هذا الإيقاع الشامل. وغير بعيد عن ذلك تكون لغة التخاطب، في هذا الحال، نكاحاً، حيث يجعل ابن عربي المتكلم أباً والسامع أمّاً والكلام نكاحاً، وما تولّد من فهم لدى السامع يعدّه ولداً، على ما يذهب الروائي الجزائري رشيد بوجدرة. فلولا وجود النكاح ما تحقّق شيء في هذا العالم، ولولا وجود الكتابة والكلام، وكلاهما نكاح، لكان البشر اليوم جميعاً في عدم.

يقول ابن عربي:

«لولا وجود النكاح فيه = ما كان للعالم الظهورُ
فالكون في ليل أو نهار = على الذي قلتُه يدورُ».

ويقول:

«فنكاحٌ مستمرٌّ = وولوج وخروجْ».

وإذا كان في ثنائية الولوج والخروج التي ألمح إليها ابن عربي، ما يمكن عدّه إشارة منه ترمي إلى الحلم بالرجوع إلى الأصول البدائية ومعانقة الجوهر الأزلي، فإن الكتابة وما تلتئم عليه من لذّة، هي محاولة لمقاربة الخفي وسعي إلى القبض على جذوره الممتدّة في تربة الذات، وفي ذلك لذّة.

وقد أشار بوجدرة إلى فكرة الجنس في كتابات ابن عربي وإلى تعلّقها بمختلف صور الكون، محاولاً تبيان أن علاقة النص بصاحبه أشبه ما تكون بعلاقة جنسية، مشيراً في هذا السياق إلى أن الأدب الحق هو الذي لا يُهمل الفكرة الجنسية السارية في هذا العالم.


«الغاوون»، العدد 30، 1 آب 2010


.

صورة مفقودة

hermann max pechstein - femme nue et assise
 
أعلى