لطيفة اغبارية - الأعراض المرضية التي تصيب العاشق في التراث العربيّ

قام الأدباء العرب بدراسة وبحث موضوع العشق وماهيته، وتحديد علاماته وأعراضه وعلله؛ على مدار أكثر من ثمانية قرون متواصلة. وتوالت المؤلفات في العشق وماهيته بدءا من” أرجوزة حمدان اللاحقي في الحب” المنظومة في القرن الثالث الهجريّ/ التاسع عشر ميلاديّ، وانتهاء بتزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق للأنطاكيّ ( توفي 1008 هجريّ/ 1099 ميلاديّ).
سأتطرق من خلال هذا المقال إلى الأعراض المرضية الشائعة التي كانت تصيب العاشق في التراث العربي. إذ يوجد أعراض مرضية ثابتة كالنحول وغؤر العين، تبقى ملازمة للعاشق. وهناك أعراض أخرى متغيّرة تحصل أثناء رؤية أو تذكّر أو وداع العاشق للمعشوق، في ( الوصل والهجران) مثل: جمود العين، اصفرار اللّون، تغير نبض وخفقان القلب.
سأستعرض أهم الأعراض المرضية، وإن كنت لضيق المساحة هنا لا أستطيع تعداد جميع وجهات النظر في هذا الموضوع، للمؤلفين العرب المعروفين لنا والّذين كتبوا رسائل وكتبًا عن الحبّ الدنيوي بين القرن الثالث للهجرة/ التاسع الميلاديّ والقرن الحادي عشر الهجريّ/ السّابع عشر الميلادي، ” كانت هناك مجموعتان اثنتان. إحدى المجموعتين كانت تحرّكها الاهتمامات الأدبيّة الإنسانيّة وحتى العلميّة رغم أنّ مؤلفي هذه الكتب كانوا يكتبون انطلاقا من كونهم مسلمين ورعين أتقياء.هؤلاء الكُتّاب في موضوع الحب احتفلوا بالكنز الأدبي الكلاسيكي من الحكمة والشعر والحكايات والنّوادر الخاصّة بالحب المنقولة عن الأسلاف. أمّا المجموعة الثانية من المؤلفين، التي يمثلها أصدق تمثيل ابن الجوزيّ وابن القيّم الجوزيّة، فقد كان يقودها الاهتمام بالأسئلة الدينية والأخلاقيّة التي تتضمنها علاقات الحب”.

النحول
من أهم الأعراض المرضية التي تصيب العاشق هي النحول والهزال، وقد ارتبط النحول بالهزال من حيث المعنى. “فيقال هُزِل الرجلُ يُهزل هُزالا، ونحلَ ينحل نحولاً. وهو ذهاب الجِسم من وجعٍ أو غيره”. وقد أسهب ابن داود الأصبهاني في “الزهرة” بتعليل أسباب النّحول من الوجهة الطبيّة، كدلالة على الحزن الشّديد، في باب” نحول الجسد من دلائل الكمد”، وتبدأ هذه الأعراض نتيجة الحزن وتنتهي بقلّة الشهيّة للطعام والشّراب، وهذه الحالة تسبب الجفاف للعاشق.”فمنهم من يتمادى به الحال فيستولي عليه النحول والجفاف إلى أن تضعف أعضاؤه الرّئيسة عن حمل النفس فترهق”. وقد ذكر الوشّاء عارض النّحول كأوّل وأهم علامة أساسيّة مرضيّة تظهر على العاشق. “اعلم أنّ أول علامات الهوى ذي الأدب نحول الجسم”. ونلاحظ أنّ فئة الأدباء والكُتّاب الذين حرّكتهم الدوافع الدينية، والذين ذمّوا الهوى أكّدوا أنّ أمراض العشق وتشمل النّحول لا تزداد فقط في الهجر، بل في الوصال، فابن تيمية أكّد أنّ الوصال بين العشاق يزيد من الألم والعذاب للعاشق. أمّا الأدباء الذين كانت تحرّكهم الاهتمامات الأدبيّة والإنسانيّة، فقد أكّدوا أنّ النحول يزداد في الهجر، فالمغربي (توفيّ 570 هجريّ/ 1180ميلاديّ) يخالف ابن تيمية الرأي ، ويؤكد أنّ النّحول يزداد أثناء الوصال.”وهو من أعظم أمراض النّفس جناية على البدن، ولا سيّما مع البعد، وفراق المحبوب، فإنّه يؤدي إلى السّل في أكثر الأمر، وإلى الماليخوليا، وإلى الدّق والذّبول”. ومن طريف ما وجدناه عند العديد من الأدباء، أنّ طيف العاشق لو زار المعشوق في المنام، لأدّى به إلى النحول. فالأرّجاني يقول:
وبتُّ لو استزرت اليوم طيفي = لجرّ إليك شخصي من نحولي

غؤر العين
من الأعضاء الجسديّة التي تتأثر بالعشق، وتظهر عليها سمات المرض هي العين. ويعود ذلك للسّهر والأرق الطّويل .” فهناك من لا ينطبق جفنه من السّهر”. قال بشّار
جفَت عيني عن التّغميض حتّى = كأنّ جفونها عنها قصارُ
كأنّ جفونها خرمت بشوك = فليس لتوقه فيها قرار
يُعدّ ابن سينا ( توفي80 هجريّ/ 1037 ميلاديّ) من أوائل مَن تحدّثوا عن غالبيّة الأعراض المرضيّة التي تصيب العاشق. ومن أهمّها العين، وأكثر ما يصيبها هو الغؤر، وغلظ الجفون وتغيّر شكلها الطبيعيّ. “وعلامته غؤر العين ويبسها، وعدم الدمع إلا عند البكاء، وحركته متّصلة للجفن ضحاكّة، كأنّه ينظر إلى شيء لذيذ، أو يسمع خبرا ساراً، أو يمزح”. بينما نلاحظ أنّ الوشّاء قد اكتفى بذكر خشوع النظر، في سياق معالجته الأدبيّة في الكتابة عن سنن الظرف والظرفاء، فلم يتطرّق للتأويل الطبي.”واعلم أنّ أولّ علامات الهوى على ذي الأدب نحول الجسم، وطول السّقم، واصفرار اللون، وقلّة النوم، وخشوع النظر”.

تغيّر شكل العين أثناء الفراق أو التذكّر.
الأدباء الذين تطرقوا للتغيير الحاصل في العين، هو إمّا نتيجة رؤية المحبوب، أو تذكره أو أثناء وداعه. فالأنطاكي يكتفي بذكر التغيير أثناء مشاهدة المحبوب، ولا يحدّد لنا ما هو هذا التغيير.” وهي أحوال يتّصف بها البدن كتغيّر اللّون، والعين وتواتر النّبض والخفقان، وربما ازدادت هذه عند رؤية المحبوب أو سماع ذكره، حتّى أنّها قد تقضي بالهلاك، وكذا اعتقال اللّسان، وأحوالٌ يتصف بها الفكر كفساد الذهن، والتعقل وقد مرَّ”.

جمود العين
أشار ابن حزم الأندلسيّ، والذي تأثر به إلى حد كبير الحافظ مغلطاي، لعينَي العاشق التي تخلو من الدموع، أثناء مشاهدة المحبوب، أو تذكره، أو وداعه.”ومنها جمود العين عند التذكّر والوداع″.
علامة العاشق عند اللقا = رعشته والنّظر الخفض
الدّمع من عينيه يرفض = والشوق في أحشائه غض
ويعبّر عن جمود العين، ابن عبد ربه، لكن في سياق وداعه لمحبوبته، فيصف لنا جفونه ومعاناته الكبيرة، لكنه لم يبكِ أو يذكر الدموع في هذه الأبيات.
ودّعتني بزفرة واعتناق = ثم نادت متى يكون التّلاقي
وبدت لي فأشرق الصبح منها = بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم = بين عينيك مصرع العشاق
إنّ يوم الفراق أفظع يوم = ليتني مت قبل يوم الفراق

خفقان واضطراب القلب
من الأعراض المرضيّة الأخرى التي تصيب العاشق، وتزداد أثناء مشاهدته لمعشوقه، هي خفقان واضطراب نبض قلب العاشق. ويعتبر تغيّر النبض مؤشر سلبي لوجود علّة مرضيّة ، وقد أفرد ابن سينا في هذا العارض فصولا في سياق معالجته الطبيّة.
والنبض إن نبا عن المعتاد = من طبعه دلّ على الفساد
ودلّ الاختلاف في الأنباض = على ضرب السّقم والأمراض
إنّ تغيّر النبض الذي أشار إليه ابن سينا قد يؤدي إلى الموت. “وهي أحوال يتّصف بها البدن كتغيّر اللّون والعين وتواتر النبض والخفقان، وربما ازدادت هذه عند رؤية المحبوب أو سماع ذكرِه، حتّى أنّها قد تقضي بالهلاك”. وقد تأثر ابن أبي حجلة بابن قيم الجوزيّة واقتبس من “روضة المحبين”، ليعلّل سبب الخفقان :” وقد أُختلِف في سبب هذه الرّوعة والفزع والاضطراب، فقيل سببه أنّ للمحبوب سلطانا على قلب مُحبّهِ أعظم من سلطان على الرّعيّة، فإذا رآه فجأة راعه ذلك كما يرتاع من يرى من يعظّمه فجأة. فإنّ القلب معظّمٌ للمحبوب، خاضع له، والقلب إذا فجأة المعظّمُ عنده راعه ذلك. وقيل سبب انفراج القلب له ومبادرته إلى تلقيه، فيهرب الدّم منه، فيبرد ويرعد، وتحدث الاضطراب والرّعدة وربما مات”.
الأدباء الذين عالجوا نظريّات الحبّ من منطلقات ومعتقدات خاصّة بهم، كانت آرائهم وتأويلاتهم متشدّدة في ذمّ العشق، وتعداد ضرره الجسديّ والعقليّ على العاشق. من بين هؤلاء برز ابن الجوزيّ والذي سبق ابن القيّم الجوزيّة بقرنين من الزّمن، وقد كان لهما الرأي ذاته، وتأثر الثاني من الأول. وقد علّلا أنّ الهذيان والجنون يحصلان بعد تمكُّن الحب من قلب العاشق.

الاصفرار
ارتبط اللون الأصفر بالمرض، والأحمر بالصحة. حيث قالوا :” حمرة لون الإنسان يولدها الفرح والصحة والنعمة، وصفرة لونه يولدها الفزع والبؤس والغمّ والسّقم”. ويعتبر الاصفرار عارض مرضي مؤقت يحصل أثناء رؤية المعشوق إلى العاشق. وأول من فسّر سبب ذلك هم الفلاسفة والأطباء الإغريق.إذ أنّ “السبب الذي يكون منه اصفرار وجه العاشق إذا نظر إلى معشوقه أو سمع ارتجّت نفسه فيهرب دمه فإذا هرب الدّم استحال لونه فإذا استحال أورثه الاصفرار. فإذا غاب المعشوق عن بصره رجع الدّم إلى موضعه ذلك يحمّر وجهه وأمّا ظهور الدّم في وجه المعشوق فمن الحياء والخجل عرض عن حركته عرض في تامور القلب وترتفع منها حرارة إلى الرأس فتلطّف الدّم وتصفّيه”. وعلى ذكر استحالة اللّون، قال أبو بكر بنُ يزيد: وأنشدني محمد بن ياقوت لنفسه.
يصفرُّ لوني إذا تأملته = طرفي ويحمّر وجههُ خجلا

الهذيان والجنون
وهي مرحلة يصل إليها العاشق، بعد وصوله لمرتبة متقدّمة من مراتب العشق.
الحبّ أول ما يكون لجاجة = يأتي بها وتسوقه الأقدار
حتّى إذا خاض الفتى لجج الهوى = جاءت أمور لا تُطاق كبار
يربط ابن الجوزي الجنون والهذيان، بمراتب العشق التي يؤُول إليها العاشق، فكلّما زادت مرتبة العشق، تعرّض الجسد أكثر للمرض. وعندما يصل العاشق لمرتبة “التتّيم” يحصل الجنون. ” فإذا مرض الجسد، فإذا زاد جرح القلب وأزال الرأي واستهلك العقل، ثمّ يترّقى فيصير ولها، ويُسّمى ذو الوله مدلّها، ومستهاما، ومستهترا، وحيران، ثمّ بعده التتيّم فيدعى متيّما، والتتيّم نهاية الهوى وآخر العشق، ومن التتيّم يكون الداء الدويّ والجنون”. فيما ربط أرسطاطاليس العشق بالنجوم والكواكب.” زحل يهيئ الفكرة والتّمني والطّمع والهمّ والهيجان والأحزان والوسوسة والجنون “.



* ملاحظة: ( هذا المقال جزء من بحث أكاديمي لي، في الأدب العربي الكلاسيكي، اختصرت منه الكثير، وقمت بتبسيطه..).


.


.
صورة مفقودة
 
أعلى