الوشاء - الموشى أو الظرف والظرفاء

من مات من شدة الفقد
وتضعضعت أعضاؤه من شدّة الوجد
حكايات عمن قتلهم الحبّ
حُكي لنا عن إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عَديّ، عن هشام بن حسّان، قال: حدثنا رجلٌ من بني تميم قال: خرجتُ في طلب ناقةٍ لي فورّدت على ماء من مياه طيء، فإذا بعسكرين، أحدهما قريبٌ شابٌّ مدنَفٌ قد نهكته العلة فهو كالشنّ البالي، فدنوت لأعرف خبره، فسمعته وهو يقول:
ألا ما للمليحة لا تعود، ... أسُخطٌ بالمليحة ألأم صُدودُ
مرضتُ، فعادني أهلي جميعاً، ... فما لك لا تُرى فيمن يعود
فقدتُكِ بينهم فتلفتُ شوقاً، ... وفقْد الإلف، يا سكني، شديدُ
فلو كنتِ المريض لجئتُ أسعى ... إليكِ، ولم ينهنهي القعود
قال: فسمعتْ كلامه، فبادرت نحوه، وبدرتها النساء، فتعكّفن بها، فأحسّ بها، فوثب مبادراً نحوها، فحبسه الرجال، فجعلَت تجذب نفسها من النساء، ويجذب نفسه من الرجال، حتى التقيا، فاعتنقا، وبكّينا، ثم شهقا فخرّا ميّتين. فخرج شيخٌ من بعض الأخْبية فوقف عليهما، فاسترجع، ثم قال: رحمكما الله، أما والله لقد كنت لم أجمع بينكما في حياتكما، لأجمعنّ بينكما بعد موتكما! فأمر بهما، فكُفّنا في كفَنٍٍ واحد، ودُفنا في قبر واحد، فسألت عنهما فقال: هذه بنتي، وهذا ابن أخي، بلغ بهما الحب ما ترى.
ومن ذلك أيضاً ما حُكي عن إسحاق الرافقي قال: كنت في مجلس بالرقّة في عدةِ من الظرفاء وجماعة من القيان، ومعنا فتىً كأهيأِ من رأيت من الفتيان، وعليه ذلّة الهوى، يُديم الأنين والبكاء، فتغنّت إحداهنّ:
إني لأبغض كل مصطبرٍ ... عن إلفه في الوصل والهجْرِ
الصبر يحسُن في مواطنه، ... ما للفتى المحزون والصبر
فنظر إليها الفتى، وتبادرت عبراته، ثم وثب على قدميه ووضع يده على رأسه وقال:
غداً يكثر الباكون مِنّا ومِنكم، ... وتزداد داري من دياركم بُعدا
ثم رمى بنفسه، فسقط مجدَّلاً من قامته، فوثبنا إليه فحملناه ميتاً.
الفتاة التي أكلها السبع
ومن ذلك ما حُكي عن جميل بن معمر الذعري أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا جميل! حدّثني ببعض أحاديث عُذرة، فإنه يبلغني أنهم أصحاب أدب وعزَل. قال: نعم، يا أمير المؤمنين، إن آل بُثينةَ انتجعوا الحيّ وقطعوا بلداً آخر، فخرجت أريدهم، فغلطت الطريق، وجَنّني الليل، ولاحت لي نارٌ، فقصدتها، حتى دنت، ووردتُ على راعٍ في أصل جبل، قد ألجأ غنمه إلى كهف في الجبل، فسلّمت، فرد علي السلام، وقال: أحسبك قد ضللت الطريق؟ قلتُ: قد كان ذاك، فأرشدنيه. قال: بل انزل حتى تُريح ظهرك، وتبيت ليلتك، فإذا أصبحتَ وقفتُك على الطريق. فنولتُ، فترحّب بي، وأكرمني، وعمد إلى شاة فذبحها، وأجّج ناراً، وجعل يشوي ويُلقي بين يديَّ، ويُحدّثني في خلال ذلك، ثم قام بإزار كان معه، فقطع به جانب الخباء ومهّد لي جانباً، وترك جانباً خالياً، فلما كان في الليل سمعته يبكي ويشكو إلى شص كان معه، فأرِقتُ له ليلتي. فلما أصبحتُ طلبت الإذن، فأبى، وقال: الضيافة ثلاثٌ، فأقمتُ عنده، وسألته عن اسمه ونسبته، وحاله، فانتسب لي، فإذا هو من بني عُذرة وأشرافهم، فقلت: يا هذا! وما الذي احلّك هذا الموضع؟ فأخبرني أنه يهوى ابنة عمه له، وتهواه، وأنه خطبها إلى أبيها، فأبى أن يزوّجها منه لقلة ذات يده، وأنه زوّجها رجلاً من بني كِلاب فخرج بها عن الحيّ، فأسكنها في موضعه ذلك، وأنه تنكّر، ورضي أن يكون راعياً له، لتأتيه ابنة عنه، فتراه ويراها، وجعل يشكو إليّ صبابته بها، وشدّة عشقه لها، حتى إذا جَنّنا الليل وحان وقت مجيئها جعل يتقلقل ويقوم ويقعد كالمتوقّع لها. فأبطأت عن الوقت، وغلبه الشوق، فوثب قائماً وأنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتي لعادتها، ... أهاجها طربٌ أم صدّها شُغُلُ
لكنّ قلبي لا يلهيه غيرهُمُ، ... حتى الممات ولا لي غيرهم أمل
لو تعلمين الذي بي من فراقكُمُ، ... لما اعتذرت، ولا طالت لك العللُ
روحي فداؤكِ قد هيّجتِ لي سَقَماً ... تكاد من حره الأعضاء تنفصل
لو أن غاديةً منه على جبلٍ ... لزال، وانهدَّ عن أركانه الجبل
ثم قال: يا أخا بني عُذرة، مكانك حتى أعود إليك، فإني أتوهم أن أمراً عرض لابنة عمي. ثم مضى فغاب عن بصري، فلم يلبث أن أقبل وعلى يديه شيء محمولٌ، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخا بني عُذرة، هذه بنت عمي أرادت أن تأتيني، فاعترضها السبع فأكلها؛ ثم وضعها عن يده وقال: على رِسْلك حتى أعود إليك، ومضى فأبطأ، حتى أيستُ من رجوعه، ثم أقبل ورأس الأسد على يده، فوضعه، وجعل بنكُتُ على أسنانه، وهو يقول:
ألا أيها الليث المدلّ بنفسه، ... هُبِلتَ لقد جرّت يداك لنا حُزنا
وغادرتَني فرداً، وقد كنت آنساً ... وصيّرت بطن الأرض ثمّ لنا سِجنا
ثم قال: يا أخا بني عُذرة، إنك ستراني بين يديك ميتاً، فإذا أنا متّ، فاعمد إليّ وإلى بنت عمي، فأدرجنا في كفنٍ واحد، واحفر لنا جدثاً واحداً، وادفنّا فيه، واكتب على قبري هذين البيتين:
كنا على ظهرها، والعيش في مَهَلٍ، ... والعيش يجمعنا، والدار والوطن
ففرّق الدهر بالتشتيت أُلفتنا، ... فاليومَ يجمعنا في بطنها الكفنُ
ورُدّ الغنم على صاحبها، وأعلمه بقصتنا، ثم عمد إلى خِناقٍ فطرَحه في عنقه. فناشدته الله أن لا يفعل، فأبي، وجعل يخنق نفسه، حتى سقط بين يديّ ميتاً. فلما أصبحتُ كفّنته وابنه عمه كما أمرني، ودفنتهما في فبر واحد، وكتبتُ البيتين على قبرهما ورددتُ الغنم على زوجها، وأعلمتُه بقصته، فجعل يأكل كفّيه أسفاً أن لا يكون جمع بينهما في حياتهما. فهذا وما أشبهه كثير جداً.
ورُوي عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: كنا عند عُروة بن الزبير وعنده رجل من بني عُذرة فقال له عروة: يا عُذري بلغني أن فيكم رقةً وغزلاً، فأخبرني ببعض ذلك! قال: لقد خلّفتُ في الحي ثمانين مريضاً دنفاً عِشقاً ما بهم غير الحب قد خامر قلوبهم.
من وصف الحب
وما فيه من شدة المرارة والكرب
واعلم أن الحبّ، مع ما فيه من المرارة والنكد، وطول الحسرات والكمد، ومرٌّ لا تعدله مرارة، قال الكميت بن زيد:
الحب فيه حلاوةٌ ومَرارةٌ، ... سائلْ بذلك من تطاعم، أو ذُقِ
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها، ... فيما مضى، أحدٌ إذا لم يعشقِ
وقال آخر:
يا أيها الدنِف المُعذَّب بالهوى! ... إني بأحوال الهوى لعليمُ
الحب صاحبه يبيت مُسهَّداً، ... ويطير عنه فؤاده، ويهيم
الحب داءٌ قد تضمّن في الحشا ... بين الجوانح والضلوع مقيمُ
الحب لا يخفى، وإن أخفيته، ... إن البكاء على المُحبّ نَموم
الحب فيه حلاوةٌ ومَرارةٌ، ... والحب فيه شقاوةٌ ونعيم
الحب أهون ما يكون مُبرِّحٌ، ... والحب أصغر ما يكون عظيم
أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب:
سَلني عن الحب يا من ليس يعرفه، ... ما أطيب الحب لولا أنه نَكدُ
طعمان: حلوٌ ومرٌّ ليس يعدله ... في حَلْق ذائقه مُرٌّ، ولا شهد
وأنشدني إبراهيم بن محمد الواسطي لنفسه:
سلْني عن الحب، فإني به ... أعلم ذي وَطْءٍ على نعل
طعمان ضدّان، فمستعذَبٌ ... وآخر أشرى من القتل
ولبعض المتأدبين أيضاً في مثله:
سَلني عن الحب يا من ليس يعلمه، ... عندي من الحب، إن ساءلتُمُ، الخَبَر
أنا الذي بالهوى ما زلتُ مشتهراً، ... لاقيتُ فيه الذي لم يلقه بشر
الحب أوَّله عذبٌ مَذاقتُهُ، ... لكنّ آخره التنغيص والكَدَر
كم تيّم الحب أقواماً، ودللّهم، ... وكم يدٍ للهوى قد وارت الحُفَر
أنشدني ابن أبي الرعد:
من كان لم يدرِ ما حبٌّ وصفْتُ له، ... إن كان في غفلةٍ، أو كان لم يجد
الحب أوّله عذبٌ، وآخره ... مثل الحَزازة بين القلب والكبِد
أنشدني الوليد بن عُبيد البحتري لأبي العتاهية:
أخلاّني بي شَجْوٌ، وليس بكم شجْو ... وكل امرئٍ مما بصاحبه خِلْو
أذاب الهوى جسمي ولحمي وقُوّتي، ... فلم يبق إلا الروح والجسد النِّضْو
رأيت الهوى جمر الغضا، غير أنه ... على كل حالٍ، عند صاحبه حُلْوُ
وما من محبٍّ نال ممن يحبه ... هوىً صادقاً إلا سيدخله زَهو
قال: وأنشدني ابن أبي الدنيا:
الحب يترك منْ أحبَّ مُدَلَّهاً، ... حَيران، أو يقضي عليه فيسرع
الحب أهونه ثقيلٌ فادحٌ، ... يُهوي الجليد من الرجال، فيَصرع
ما في معرفة الهوى
وما كان اسمه في البداية أوّلاً
واعلم أن الهوى عندهم هو الهوان الصُّراح، والبلاء المتاح، لأنه يُهين الكريم، ويُذلُّ العزيز، ويدلّه العاقل، ويحطّ منزلة الشريف. وسُئلت أعرابية عن الهوى، فقالت: الهوى هو الهوان وإنما غُلِظ باسمه، واشتُقّ من طبعه، ولن يعرف ما أقول إلا من أبكته المنازل والطلول؛ وأنشأت تقول:
ليت الهوى لذوي الهوى لم يُخلقِ، ... بلْ ليت قلبي بالهوى لم يَعلق
إن الذي عَلِق الهوى بفؤاده، ... كمنوَّطٍ دون السماء مُعلَّقِ
لا يستطيع نزوله لشقائه، ... لكن إليه كل همٍّ يرتقي
إن الهوى لهو الهوان بعينه، ... ما ذاق طعم الذل من لم يعشق
وأُنشِدتُ لغيرها أيضاً:
إن الهوان هو الهوى نُقص اسمه، ... فإذا هويت لقد لقيتَ هَوانا
وإذا هَويتَ لقد تعبّدك الهوى، ... فاخضع لحبك كائناً من كانا
أنشدنا أبو عبد الله الواسطي لنفسه:
لم يدر ما بؤس الحياة ولينُها، ... إلا الذين مِنَ الهوى بمكان
كم من عزيزٍ قد ألمّ به الهوى، ... فأقرّ بعد كرامةٍ بهَوان
ليس الهوى إلا الهوان، ونونه ... نُقِصت كفعل الزور والبُهتان
ليس الحياة إذا نظرتَ، وبؤسها ... بين الوصال وغُصّة الهِجران
ما العشق عندي باختيارٍ إنما ... ذاك البلاء يُتاح للإنسان
قال: وأنشدني أبو العَيناء:
وما كَسَيٌ في الناس يُحمد رأيه، ... فيوجد إلا وهو في الحب أحمق
وما من فتىً ما ذاق بؤس معيشةٍ، ... من الدهر، إلا ذاقها حين يَعشقُ
ما سئل عنه أهل الصدق من تمام خَلاّت العشق
قال الأصمعي لأبي وائل الإضاخي: ما تقول في العشق؟ فقال: إن لم يكن عُصارة من الشجر، فهو ضَرب من الجنون؛ وأنشأ يقول:
بقلبي شيءٌ لستُ أعرف وصفَه، ... على أنه، ما كان، فهو شديد
تمرّ به الأيام تسحب ذيلها، ... فتَبلى به الأيام، وهو جديد
لعَمَري إن بذلك ما وجب لهم الدعاء، فصار مفترضاً على الأدباء كالفرض اللازب، والحقّ الواجب، لجليل الخطب وفادح الأمر.
أخبرني أحمد بن عُبيد قال: أخبرني الأصمعي قال: رأيت أبا السائب المخزومي متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهمّ ارحمِ العاشقين، واعطفْ عليهم قلوب المعشوقين بالرأفة والرحمة، يا أرحم الراحمين. فقلت: يا أبا السائب، أفي هذا المقام تقول هذا المقال؟ قال: إليك عني! الدعاء لهم أفضل من حجّةٍ بعمرةٍ. ثم أنشأ يقول:
يا هجر كُفّ عن الهوى، ودع الهوى ... للعاشقين يطيب، يا هجر
ماذا تريد من الذين جفونهم ... قَرحى ، وحشو صدورهم جمر
وسوابق العَبرات فوق خدودهم، ... هُطلاً تلوح كأنها القطْر
صرعى على جسر الهوى لشقائهم، ... بنفوسهم يتلاعب الدهر
قال: وخُبّرت عن الأصمعي أيضاً أنه قال: رأيت جاريةً وهي تقول: اللهمّ، مالك يوم القضاء وخالق الأرض والسماء، ارحم أهل الهوى، واستنقذهم من عظيم البلاء، واعطف عليهم قلوب أودّائهم بالصفاء، فإنك سميع النجوى، قريبٌ لمن دعا؛ ثم أنشأت تقول:
يا ربّ! إنك ذو منٍّ ومغفرةٍ، ... بيِّتْ بعافيةٍ منك المحبينا
الذاكرين الهوى من بعد ما سهروا، ... حتى يظلوا على الأيدي مكبّينا
فقلت: يا هذه، أتُغنّين وأنت في الطواف؟ فقالت: إليك عني، لا يُهقك الحب! فقلت لها: وما الحب؟ وأنا به أعرف منها. فقالت: جلّ أن يخفى ودقّ عن أن يُرى له كمونٌ ككمون النار في الحجر، إن قدحته أوراك، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتى عرفت منزلها، فلما كان من الغد جاء مطر شديد، فمررت ببابها، وهي قاعدةٌ مع أتراب لها زُهرٍ، يقلن لها: لقد أضرّ بنا المطر، ولولا ذلك لخرجنا إلى التطواف؛ فأنشأت تقول:
قالوا أضرّ بنا السحاب بقطره، ... لما رأوه لعبرتي يحكي
لا تعجبوا مما ترون، وإنما ... هذا السحاب لرحمتي يبكي
وزعم قومٌ أنه لا ذنب على أهل الهوى ولا وزر، وأن خطاياهم تُمحّص عنهم بطول بلائهم، وكثرة زفراتهم وما لقوا من الشقاء بأودائهم.
وأخبرني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شَبيب عن رجل ذكره قال: كنت عند مالك بن أنس، فأتاه شابٌّ، فقال: إني قد قلت أبياتاً ذكرتُك فيها، فاسمعها. قال: لا حاجة لي فيها. فقال لي: أحبّ أن تفعل، قال: هات. فقال:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والصِّبي، ... وحب الحِسان المغنجات الفَواركِ
يخبركُمُ أني مصيبٌ، وإنما ... أُسلّي هموم النفس عني بذلك
فهل في محبٍّ يكتم الحب والهوى ... أثامٌ، وهل في ضَمّة المتهالك
فسرّي عن مالك، وقال: إن شاء الله. وكان ظنّ أنه هجاه.
أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن عبد الله بن شَبيب عن شيخ من عاملة قال: مرّ ابن مَرجانة الشاعر بسعيد بن المسيَّب فقال: هذا ابن مَرجانة؟ قالوا: نعم. قال: هذا الذي يقول:
سألتُ سعيد بن المسيَّب مفتي ال ... مدينة: هل في حب دهماء من وِزر
فقال سعيد بن المسيَّب: إنما ... تُلام على ما تستطيع من الأمر
والله ما سأني إنسان عن شيء من هذا، ولو سألني لأجبت.
قال: وسئل شريك بن عبد الله القاضي عن العشّاق، فقال: أشدّهم حباً أعظمهم أجراً.
وأنشدني محمد بن يحيى لمسلم:
فوالله ما أدري، وإني لسائلٌ ... بمكة أهل العلم: هل في الهوى وِزر
وهل في اكتحال العين بالعين ريبةٌ ... إذا ما التقى الإلفان، لا بل به أجر
وأنشدني إبراهيم الأزدي لنفسه:
ما العشق في الأحرار مستنكرٌ، ... وما على العاشق من وِزر
قال وأنشدني الجمّاش:
إذا قبّل الإنسان إنسان يشتهي ... ثناياه لم يأثم، وكان له أجرا
فإن زاد زادَ الله في حسناته ... مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا
وقال سائب راوية كُثيّر: حضرتُ مع كثيّر عند ابن أبي عتيق، فأنشدنا أبيات ابن قيس الرُّقيَّات التي يقول فيها:
خبّروني هل على رجلٍ ... عاشقٍ في قبلةٍ حرج
فقال كُثيّر: لا! إن شاء الله، ونهض.
وأنشدني علي بن العباس بن رومي:
أيها العاشق المعذَّب إصبر، ... فخَطيّات ذي الهوى مغفوره
زفرةٌ في الهوى أحطّ لذنبٍ، ... من غزاةٍ وحجّةٍ مبروره
وقال المؤمَّل، وأحسن، والله، في قوله:
صِفْ للأحبة ما لقِّيتَ من سهرٍ، ... إن الأحبة لا يدرون ما السهر
حسْبُ المحبين في الدنيا عذابهمُ، ... والله لا عذّبتْهم بعدها سَقَرُ
وقال الأصمعي: رأيتُ جاريةً بالطواف وهي تقول:
لن يقبل الله من معشوقةٍ عملاً ... يوماً، وعاشقها حَيرانُ مهجور
وليس يأجرها في قتل عاشقها، ... لكنّ عاشقها لا شكّ مأجور
فقلت: يا جارية! أفي هذا المقام، أما حياء فيردعك؟ فأنشأت تقول:
بيضٌ أوانس ما هممن بريبةٍ، ... كظباء مكة صيدهنّ حرام
يُحسَبْن من لين الكلام زوانياً، ... ويصدّهنّ عن الخَنى الإسلام
وقد قيل أيضاً: إن قتيل الهوى لا قَوَدَ له، وإن دماء أهل الهوى تبطل وتُهدَر.
قتيل الهوى
ومن ذلك ما حُكي عن ابن عباس أنه أُتي بشابّ محمول قد صار كالشنّ البالي، فقيل له: استشفِ الله لهذا المريض، يا ابن عمّ رسول الله، فقال له ابن عباس: ما علّتك يا فتى؟ فلم يُحِرْ إليه جواباً، ثم رفع رأسه، وقال بلسان فصيح طليق:
به لوعةٌ تشتكي الصُّمُّ مثلها، ... تفطّرت الصُّمُّ الصِّلابُ وخرّتِ
ولو قسم الله الذي بي من الهوى، ... على كل نفس حظّها ما أبلّتِ
ثم خفت خفنةً ثم فتح عينيه، وهو يقول:
بنا من جوَى المبرِّح لوعةٌ، ... نكاد لها نفسُ الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حُشاشةَ ما ترى ... على ما به عودٌ هناك صليبُ
فقال ابن عباس: ممن الرجل؟ فقال: من بتي عُذرة، ثم شهق شهقة فمات. فقال ابن عباس لجلسائه: هل رأيتم وجهاً أليق ولساناً أذلق من هذا؟ هذا والله قتيل الهوى لا قَودَ ولا دِيَة، وإلى الله أرغب في العافية مما نرى.
دماء العشاق مهدورة
وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب:
إذا هنّ ساقَطن الحديث لذي الهوى ... سقوط حصى المَرجان من كفّ ناظمِ
رمَين، فأصمينَ القلوب، فنا ترى ... دماً سائلاً، إلا جوىً في الحَيازِم
فأي دمٍ، لو تعلمين، جَنَتيه ... على الحُرّ، جاني مثله غيرُ سالم
أما إنه لو كان غيرُك أرقلت ... إليه القَنا بالمُرهَفات الصوارمِ
ولكن، وبيت الله، ما طلّ مُسلِماً ... كغُرّ الثنايا، واضحات المعاصمِ
وأنشدني أبو عبد الله الواسطي لنفسه:
قضى الله في القتلى قِصاصَ دمائهم ... ولكنْ دماء العاشقين جُبارُ
تُطلّ دماء العاشقين، وثأرها ... لدى الحدقِ المرضى، وذلك ثار
قال الأحوص بن محمد الأنصاري:
ما تُذكر الدهر لي سُعدى وإن بعُدن ... إلاّ ترقرق ماء العين، فاطَّردا
يا للرجال لمقتولٍ بلا تِرَةٍ، ... لا يأخذون له عقلاً، ولا قَوَدا
وحدّثني العَنَزي أبو علي عن الزبير بن بكّار عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن جُندَب عن أبيه قال: خرجتُ مع أبي سفيان، فلقينا نُسوةً ينظرن العقيق، فيهن امرأةٌ حسناء العين، فقال أبي:
ألا يا عباد الله هذا أخوكمُ ... قتيلاً، فهلْ فيكم به اليوم ثائر
خذوا بدمي، إن متُّ، كل خَريدةٍ، ... مريضة طَرف العين، والجَفنُ ساحر
قال: فالتفتت إليّ امرأةٌ، فقالت: يا بنيّ احتسب أباك، واغتنم نُهبيك، فإن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يُفدى.
وأنشدني أحمد بن يحيى لجَرير بن الخَطَفى:
هل في الغوادي لمت قتّلن من قَودٍ، ... أو من دياتٍ لقتلى الأعين الحور
تبيت ليلك في وجدٍ تُخامره، ... كأن في القلب أطرافَ المسامير
ما كنت أوّل مَحزونٍ أضرّ به ... بَرْحُ الهوى، وعذابٌ غير تَفتيرِ
وقال أيضاً:
إذا كَحَلْن عيوناً غير مقرفةٍ ... ريّشن نَبلاً لأصحاب الصِّبى صُيُدا
ما بال قَتلاكِ لا تخشين طائلهم، ... لم تضمني ديةً منهم ولا قَوَدا
وقال عمر بن لجأٍ:
تراءت، كي تكيدك أمّ عمرو، ... وكيدك بالتبرُّج ما تكيد
وكيف قَتَلني، يا أمّ عمروٍ، ... ولا قَوَدٌ عليكِ، ولا حدودُ
وقال أعرابي، وما أساء:
أقاتلتي، يا للرجال، حبيبةٌ ... إليّ، بلا جُرم لديها ولا دَحْلِ
فقيمُ دماء العاشقين مضاعةٌ ... بلا قَوَدٍ، عن الحِسان، ولا عقلِ
وأحسن والله المؤمَّل حيث يقول:
إني قُتلتُ بلا جُرمٍ، وقاتلتي، ... يا قومِ، جاريةٌ في طَرفها حَوَرُ
لما رمَت مُهجتي قالت لجارتها: ... إني قتلتُ قتيلاً ما له خَطَرُ
قتلتُ شاعر هذا الحيّ من مُضرٍ، ... فالله يعلم ما ترضى بذا مُضَرُ
شكوتُ ما بي إلى هندٍ، فما اكترثَت، ... يا قلبها! أحديدٌ أنت أم حجر
إن كُنتِ جاهلةً بالحبّ، فانطلقي ... إلى القبور، ففيمن حلّها عِبَرُ
وقد قيل أيضاً: إن قتيل الهوى شهيدٌ، على ذلك أجمع، والله يعلم، الأدباء وأهل العلم والظرف لموجود ومسند الآثار.
حدثنا قاسم الزُّبيدي بإسناد ذكَرَه عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من تعشّق فعفّ فهو شهيد.
شهداء الحب
وقال بشار بت برد العُقيلي:
قُربُ دار الحبيب قُرّةُ عينٍ، ... وكأنّ البُعاد في القلب ثُكلُ
إنّ موت الذي يموت من الح ... ب عفيفاً له على الناس فضلُ
ولبعض المتأدبين:
ليتني مُتُّ، والهوى داء قلبي، ... إنّ مَيتَ الهوى لَمَيتٌ شهيدُ
ولقد أحسن جميل حيث يقول:
ألا ليتَ شعري هل أبِيتنّ ليلةً ... بوادي القُرى، إني إذاً لسعيدُ
يقولون جاهدْ، يا جميلُ، بغَزوةٍ، ... وأيَّ جهادٍ غيرهن أريد
لكل حديثٍ بينهنّ بشاشةٌ، ... وكلّ قتيلٍ بينهنّ شهيد
ومَلُح الحَمَمي حيث يقول:
ولقد كُنّا رُوينا ... عن سعيدٍ عن قَتاده
عن سعيد بن المسيَّبْ ... أنّ سَعدَ بنَ عُباده
قال: من مات محباً، ... فله أجرُ الشهاده
ممن يحسن الحب
واعلم بأن العشق يَحسُنُ بأهل العفّة والوفاء، ويقبحُ بأهل العهر والخَنى مع أن الهوى قد فسد وقلّ الوفاء وكثُرت الخيانة والغدر، واستعمل الناس في العشق شيئاً ليس من سُنّة الظرف، ولا من أخلاق الظرفاء، وذلك أن أحدهم متى ظفر بحبيبه، وأصاب الغفلة من رقيبه، لم يَعفّ دون طلب الصفاء. أنشدني عبد الحميد المَلطي:
قد فسد الحب وهان الهوى، ... وصار من يعشق مُستعجلا
يريد أن ينكِحَ أحبابه، ... من قبلِ أن يسهر، أو يَنحُلا
ولأحمد بن أبي فنَن في مثل ذلك:
أنا لا أَبْدا بغدرٍ أبداً، ... فإذا ما غدرَت لم أتَّركْ
واجداً منها بديلاً مثل ما ... وَجَدَت مني بديلاً، لا تَشُكّ
أتُراني أقعد الليل لها ... ساهراً أطلب وَصلاً قد هلكْ
وهْيَ فيما تشتهي لاهيةٌ، ... مِتُّ إن دار بهذين فَلَكْ
كان للناس وفاءٌ مرّةً، ... فانقضى، وانحلّت اليوم التّكَكْ
مسامير الحبّ
وحدثني أبو العَيناء قال: حدثني الجاحظ قال: كتب بعض الظرفاء إلى مُلْك جارية أبي جعفر:
يا مُلْكُ قد صِرتُ إلى خُطةٍ، ... وكنتُ فيها منْكِ ذا ضَيمِ
يلومني الناسُ على حبّكم، ... والناس أولى فيكِ باللوم
فكتبت إليه:
إنْ تكُنِ الغُلمةُ هاجت بكم، ... فسكّنِ الغُلمةَ بالصومِ
ليس بك الشوقُ، ولكنّما ... تدور من هذا على الكَوْمِ
واعلم أن العشق لا يكون مع الفسق، ومتى مازج العشق الفسق ضَعُفت قُواه، وانفصمت عُراه، وهم لا يريدون غير الرَّفثِ، ويسمونه مسامير الحبّ، وزعموا أن أسباب الحب لا تتصل إلا به، ولا يزال منحلاً، حتى يشدّها ذلك، وينشدون:
العشق داءٌ دويٌّ لا دواء له، ... إلا العناق وإفشاءُ السريراتِ
وليس يُلتذّ طيبُ العيش من أحد ... إلا بعضّكَ، أو رشفِ الثنيّاتِ
ووضعك الصدر فوق الصدر تجمعه ... ضمّاً إليك على ظهر الحشيّاتِ
وينشدون أيضاً في مثل ذلك:
رأيتُ الحبّ ليس له دواءٌ، ... سوى وضع البُطون على البطونِ
وإلصاق الثنايا بالثنايا، ... وأخذٍ بالمَناكب والقُرونِ
وقد ناظرتُ بعضهم مرة من الِمرار، فاحتج بخبر ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فاحتجّوا بظاهر الخبر، ولم يفحصوا عن التأويل، وهذا خلاف ما يفعل أهل الظرف والأدب، وغير هذا جاء عن العَرب. وقد بلغني عن الأصمعي أنه قال: قلت لأعرابي مرة: ما العشق فيكم؟ قال: النظرة بعد النظرة، وإن كانت القبلة بعد القُبلة، فهو الوصول إلى الجنّة. فقلت: ليس العشق عندنا كذلك، قال: فما هو عندكم؟ قلت: تفرقُ بين رجليها وتحمل نفسك عليها. فقال: بأبي أنت لستَ بعاشقٍ، إنما أنت طالب ولد.
ما جاء فيمن تعفف في محبته
ورعى عقود عهود مودّته
وما وجدنا أحداً من العرب يفعل ذلك، ولا صمد نحوه، وقد كان الواحد منهم يعشق من أول دهره إلى آخره لا يُحاول فِسقاً، ولا يقرب رفثاً، ولم يكن لهم مراد إلا في النظر، ولا حظّ في غير الاجتماع والمؤانسة، والحديث والشعر، كما قال الفرزدق:
وجدتُ الحب لا يشفيه إلاّ ... لقاءٌ يقتل الغُللَ النِّهالا
أُحبّ من النساء، وهنّ شتّى، ... حديث النزْر، والحدقَ الكِلالا
موانعُ للحرام بغير فُحشٍ، ... وتبذل ما يكون لها حلالا
وكان الواحد منهم إذا تعلّق خلّةً لم يفارقها حتى الممات، ولم يشغل قلبه بغيرها، ولم يهمّ بالسلوّ عنها، وقَصَر طرفه عمّن سِواها، وكذلك هي أيضاً كانت له بتلك المنزلة، فأيّهما هلك قبل صاحبه قتلّ الآخرُ نفسه في أثره، أو عاش حافظاً لودّه قائماً بعهده، لا ينسى ذكره، ولا يصل غيره، فاستحسن الناس الملّل والاستبدال، والغدر والانتقال، وصار أشدّهم ظَرْفاً، وأحسنهم يتعشّق السنين الكثيرة، والدهور الطويلة، ويتوهّم بفعله أنه عاشقٌ، فإذا فقد حبيبه يوماً واحداً، استبدل به سواه، ويُنشدن في ذلك:
افخر بآخر من بُليتَ بحبّه، ... لا خر في حب الحبيب الأول
أتشُكّ في أن النبي محمداَ ... ساد البريّة، وهو آخر مُرسَلِ
وأنا أبرأ إلى الله أن يكون هذا من شعرِ ظريفٍ أو من فعل حَصيفٍ، ولكن قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:
البين جرّعني نقيعَ الحَنظَل، ... والبينُ أثكلني، وإن لم أثكل
ما حسرتي أن كِدتُ أقضي، إنما ... حسرات نفسي أنني لم أفعلِ
نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى، ... ما الحب إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى، ... وحنينه أبداً لأوّل منزل
على أنه ليس التنقّل من حبيب أول إلى حبيب ثانٍ بحسن، وإنما الحب ما أقام عليه القلب، فلم يجد التخلّص منه إلى غيره كما قال جرير:
أخالدَ! قد هويتُكِ بعد هندٍ، ... فشيّبني الخوالدُ والهنودُ
هوىً بتهامةٍ، وهوىً بنجدٍ، ... فتُبْليني التهائم والنُّجودُ
ولا كقوله أيضاً:
أحبّ ثرى نجدٍ، وبالغَور حاجةٌ، ... فغار الهوى، يا عبد قيسٍ، وأنجدا
ولا كقول الآخر:
إني سأُبدي الحب فيما أُبدي ... لي شَجَنانِ: شَجَنٌ بنجدِ
وشجنٌ لي ببلاد الهِندِ ...
ولا كقول الآخر:
هوىً بالغَور لي، وهوىً بنجدٍ، ... فما أدري أأنجِدُ أم أغورُ
بكُلّ حاجةٌ، وهوىً مقيمٌ ... بقلبك قد تَضَمّنه الضمير
بشرقيّ العراق، بباب عمروٍ، ... وبالغَورين زينبَ والقدور
هذا والله من ألفاظ الشعر أسمجُ جداّ، وقد كذب هؤلاء، وادّعوا وجداً، وهل يجتمع وَجدان في موضع؟ ولكن قد أحسن جميلٌ حيث يقول:
وقلتُ لنسوانٍ تعرّضْن دونها: ... إليكنّ إني غيركُنّ أُريد
وحيث قال أيضاً:
وكم من بديلٍ قد وجدنا وطُرفةٍ، ... فتأبى عليّ النفسُ تلك الطرائفا
فهذا هو الصادق الهوى الخالص الوفاء، لا جرير وصاحبه، ولا الذي يقول:
أرى ذا، فأهواه، وأُبصرُ غيره، ... فأترك ذا ثم استبدُّ بذا عِشقا
ثمانون لي في كل يومٍ أحبّهم، ... وما في فؤادي واحدٌ منهم يبقى
فقبّح الله هذا اللفظ لفضاً، ولا أعطيَ قائله حظّاً، فليس من شعر وامقٍ، بل هو من فعل مُماذق، ولا والله ما التنقّل من شأن الأدباء، ولا الاستبدال من فِعلِ الظرفاء، وإنما الهوى ما حسُن سريرته، وهيهات ذوو الوداد الخالص، والصفاء الدائم، والحب اللازم، ودود الحفاظ، ورعاة العهود، والمتمسكون بالوفاء، والراغبون في صحيح الإخاء إليك. فقد تنقّضت وثائق الحب، وانفصمت عُرى الهوى، وتقطّعت أسباب العشق، وتكدّر صافي المودّة، والناس كما قال الشاعر:
قلّ الثقاتُ، فما أدري ثمن أثق، ... لم يبقَ في الناس إلا الزور والملَقُ


.



bb1b36cf02c333a44cb46489a5e8fe9d.jpg
 
أعلى