محمد آيت لعميم - ضداً على تجهم الأدب

يعتبر الموروث الأدبي القديم عند العرب خزانا ثريا تجمعت فيه صور عديدة عن الحركة الأدبية التي شهدتها مراحل ازدهار هذا الأدب، وتنوع طرائقه ومشاربه. ويعد الشعر بحق ديوان العرب الذي جمع نمط حياتهم وأبرز طبيعة ذهنياتهم. وإذا كانت الصورة التي ترسخت في أذهاننا عن هذا الموروث أنه موروث يلعب في منطقة الجد، وإعادة إنتاج قيم انحدرت منذ القديم، يمكن اختصارها في مفهوم المروءة بما ينطوي عليه من أخلاق معيارية؛ فإن المتفحص والمتتبع لهذا الرأسمال الرمزي يعثر على الجانب الآخر الذي ظل مهمشاً ومنسياً من الصورة، وهو الأدب الذي ازدهر في الهزل والسخف والفحش. وهو أدب من الغنى والذكاء والظرف، يضاهي وأحيانا قد يتجاوز أدب الجد من حيث الابتكار والإبداعية.

ومن المفارقات، أن هذا الأدب قد ازدهر في فترات من زمن الحضارة العربية، لا سيما في الزمن العباسي، ولم تمارس عليه الرقابة أو المنع، بل كانت زبائنه من الطبقات الراقية في المجتمع آنذاك وحتى كبار السلطة كانوا يرحبون به ويستمتعون به، لكن المؤسسات الحديثة قد مارست على هذا النوع من الأدب رقابة وتهميشاً ووسمته بالدونية وأغفلت هذا البعد الهزلي والفضائحي، ولم تسمح له بأن يلج المؤسسات التعليمية، كي يضمن نوعاً من التداول والبحث والدراسة. حتى المؤسسة النقدية أسهمت إسهاما كبيرا في طمس معالم هذا النمط من الأدب الساخر والهازل والفاحش، فجل مؤرخي الأدب كرّسوا فقط أبطال الأدب المشهورين، ووجهوا البحث في إعادة إنتاج هذه البطولات الأدبية، وبذلك ضيّعوا الكثير على الناشئة وعلى المتعطشين لمعرفة كيف كان أسلافنا يضحكون ويهزلون ويتظرفون. لقد رسمت صورة متجهمة للأدب العربي ومفرطة في الجدية. دفعت ببعض المستشرقين من أمثال شارل بيلا إلى أن يتهم الأدب العربي بالملل، مستثنياً من ذلك الجاحظ الذي يكتب ضد الملل، ولذلك تخصص فيه وكتب عنه أبحاثا.

ظل أدب الهزل والفحش غافيا في طيات كتب الأدب القديمة والكتب التي أرّخت لطبقات الشعراء، مثل كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي، «والوافي بالوفيات» لابن أيبك الصفدي و «وفيات الأعيان» لابن خلّكان، و «نفح الطيب» للمقري، وكتب أخرى، من هذه الكتب تعثر على نصوص وأشعار وحكايات فاحشة وفضائحية. لكنها تبقى مدسوسة وسط ركام من الجد والصرامة.
في الآونة الأخيرة بدأت تظهر طبعات لبعض الكتب والدواوين الشعرية لشعراء تفننوا في أدب الهزل والسخف والفحش، من أمثال أبي الشمقمق وابن الحجاج وابن أبي حكيمة الذي خصص ديوانا كاملا في رثاء عضوه.

الظرف والزمان
لقد كان أدب الفحش والهزل يعكس في العمق التحولات التي طرأت على المجتمع، وتفاقم مستويات العيش، وظهور الطبقات الفقيرة والمحرومة التي عاكسها الحظ في إدراك مآربها، لا سيما إذا كان من هذه الطبقات من كان ذا موهبة ولكنه لم يحسن استعمالها أو كان مفلوكا دار عليه فلك النحس، كما هو الشأن بالنسبة إلى الشاعر ابن لنكك البصري الذي رأى من هو دونه يصل إلى مراكز مرموقة، فما كان منه إلا أن صب جام غضبه على زمانه وعصره، وهجا هؤلاء الأغبياء الذين وصلوا إلى المقامات العالية:
وإن زمانا أنتم رؤســاؤه = لأهل لأن يخرى عليه ويضرطـا
أراكم تعينون اللئام وإنـني = أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا.

وكذلك الأمر، بالنسبة إلى الشاعر المخضرم مروان بن محمد، المعروف بأبي الشمقمق، يبدو أنه كان سيئ الحظ، لازمه الفقر طيلة حياته، ما دفعه لسلوك طريق غريب، طريق التسلط على أبناء جنسه من الشعراء، يفرض عليهم «الجزية» فيدفعونها له عن يد وهم صاغرون، مداراة لسفاهته وفحشه وسلاطة لسانه. وله مع بشار صولات وجولات «كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مئتي درهم، فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له: هلم الجزية يا أبا معاذ، فقال: ويحك، أجزية هي؟ قال: هو ما تسمع، قال له بشار: هل أنت أشعر مني؟ قال لا. قال، فلم أعطيك؟ قال لئلا أهجوك.
فقال له: إن هجوتني هجوتك: قال أبو الشمقمق هكذا هو؟ قال نعم. فقل ما بدا لك. فقال أبو الشمقمق:
إني إذا ما شاعر هجانيه = ولج في القول له لسانيه
أدخلته في إست أمه علانيه / بشار يا بشار ....

وأراد أن يقول: يا ابن الزانية، فوثب بشار فأمسك فمه. وقال أراد والله أن يشتمني ثم دفع إليه مئتي درهم ثم قال له، لا يسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق» (الأغاني ج3 ص194).
كان الفحش عند أبي الشمقمق نوعا من الابتزاز والإغارة على جوائز الشعراء ليقتسموها معه، فقد كان يشعر بالظلم فيغضب لأنه لم يكن له نصيب عند الأمراء والسلاطين. يصف حالته المزرية والمأساوية التي تجعل القارئ يتعاطف معه ويتفهم غضبه وفحشه:
ولقد أهزلت حتـى = محت الشمس خيالي
من رأى شيئا محالا = فأنا عين المحـال
ليس لي شيء إذا قيـ = ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتــى = حل أكلي لعيـالـي.

ومن الشعراء الذين اشتهروا بشعر الهزل والفحش يعتبر ابن الحجاج حامل لوائهم؛ لقد امتاز شعره بالخفة والهشاشة. هذه الخفة هي نتاج وعي جديد بالشعر يرتكز أساسا على التعاطي المباشر مع الواقع المعيش والابتعاد عن النماذج المثالية التي أغرق الشعراء فيها قصائدهم، فهو ملتصق بالواقع، يستقي معجمه من الأشياء المألوفة ومن حياته اليومية، فحين أراد أن يصف شعره استقى معجمه من خبزه اليومي.
يا سيدي هذي القوافي التـي = وجوهها مثل الدنانير
خفيفة من نضجها هشــة = كأنها خبز الأبازيـر

وبما أن شعره يعتمد الخفة والجدة في الألفاظ والمعاني التي لا قبل للمؤسسة النحوية بها، حيث هذه الأخيرة تكتفي بالبحث عن الشاهد الشعري، فإن هذه المؤسسة قد تجاهلت شعر هؤلاء بالسكوت عنه وعدم الاستشهاد به، وقد كان ابن الحجاج يعي أن هذه المؤسسة قد تعترض سبيله فبادرها بالهجوم وهجا أحد أقطابها ساخرا منه وهو ثعلب صاحب الكتاب المشهور «الفصيح»:
إن عاب ثعلب شعــري = أو عاب خفة روحي
خريت فـي بــاب أفعـلـــ = ــت في كتاب الفصيح.

الأسلوب القذر
لقد هاجم ابن الحجاج المؤسسة النحوية وهاجم أيضا أبطال المشهد الشعري المكرسين ليفسح المجال لمغامرته في شعر الهزل والفحش، وقد نجحت خطته إلى درجة أنه صرح قائلا «لقد أدركت بشعر الهزل ما لم يدركه أبو تمام بشعر الجد».

ومن المظاهر البارزة في شعر ابن حجاج وتعتبر تجديدا في هذا النمط الشعري هو طبيعة معجمه الذي استقاه من الأدب المتصل بالبراز والغائط والموضوعات الداعرة، ويمكن بهذا أن نعتبره مؤسسا للأدب الإسكاتولوجي وبذلك يكون سباقا لهذا الباب قبل فرانسوا رابلي في روايته «غارغانتورا» و «بنتاغرويل»، وجورج باطاي في روايته «مادام إدواردا».

لقد اهتدى ابن الحجاج إلى أن الشعر طاحونة كبيرة تقبل بكل ما يلقى فيها، فليس هناك معجم خاص بالشعر، فحتى الكلمات التي يمجها الذوق العام قابلة لأن تكون مفردات شعرية. لقد كان هذا المعجم البرازي من أولى الصدمات التي تلقاها الجمهور الذي ألف شعرا يفوح بالكلمات العطرية، لكن ابن الحجاج رأى أن قذارة عصره لا يمكن وصفها بالورود والرياحين، فهو لا يريد أن يسهم في النفاق الشعري والاجتماعي فقد جاء إلى القرن الرابع الهجري عاريا والتقط المفردات المثيرة للتقزز والغثيان المغرقة في عالم الفضلات والنتانة ليصف بها مجتمعا مهترئا وممزقا وفاسدا أيام البويهيين يقول:
وشعري سخفه لا بد منـه = فقد طبنا وزال الاحتشـام
وهل دار تكون بلا كنيف = فيمكن عاقلا فيها المقـام

يرى ابن الحجاج أن القصيدة مأواه ومنزله ومن الطبيعي أن تشتمل الدار على كنيف لقضاء الحاجة، كذلك القصيدة لا بد أن تشتمل على شيء من السخف والفحش والقذارة. لقد أصبح الكنيف الشعري لدى ابن الحجاج ضرورة وأصبح ملهماً للشاعر، إذ كل ما له صلة بالفضلات وما يخرج من الأمعاء يصبح أداة شعرية تسعف في بناء الموضوع الشعري يقول:
شعري الذي أصبحت فيه = فضيحة بين المــلا
لا يستجيب لخاطــري = إلا إذا دخل الخــلا

وقد عمد ابن الحجاج في شعره الفاحش إلى المفارقة والسخرية وقلب الأغراض والمحاكاة الساخرة، فنراه في موقف يقتضي المواساة يسخر سخرية لاذعة تثير الضحك الهستيري، فهو يكتب إلى أحد أصدقائه وهو قد شرب دواء مسهلا، فيفاجئه بهذه القصيدة التي يشتم منها رائحة الشماتة:
يا أبـا أحمد بنفسـي أفديــك = وأهلي من سائر الأسـواء
كيف كان انحطاط جعسك في طا عة شرب الدواء يوم الدواء
كيف أمسى سبال مبعرك النــذ = ل غريقا في المرة الصفراء
وها هو يهجو أحدهم كان من أوفيائه فجفاه:
ولقد عهدتك تشتهـي = قربي وتستدعي حضوري
وأرى الجفا بعد الوفا = مثل الفسا بعد البخـور
يا خرية العدس الصحيح = النيْء والخبز الفطيـر
في جوف منحل الطبيعة = والقوى، شيخ كبيـــر
يخرى فيخرج سرمه = شبرين من وجع الزحير.
والقصيدة طويلة أحصى فيها كل منتن فظيع...

نستنتج أن هذا النوع من الأدب هو النمط الأقرب إلى معالجة الواقع اليومي المباشر، وقد كان سلاحا في يد الشعراء للدفاع عن أنفسهم وعن أوضاعهم المزرية وأيضا لفضح زيف الواقع والاختباء وراء نماذج مثالية لا وجود لها إلا في أذهان أصحابها.



.
صورة مفقودة
 
أعلى