محمد خطاب سويدان - المرأة والحب في التراث العربي

قالوا في المرأة والحب
كانت المرأة ولا زالت ملهمة شعراء الغزل ومحور كتابات الأدباء في قصصهم وكتاباتهم ، حتى أن الفلاسفة على مر العصور قالوا فيها أوصافا كانت بين عالٍ وما هو دون ذلك .
وكان شعراء الجاهلية وكذلك في الإسلام يبدأ كل منهم شعره بالغزل وذكر الحبيب .
المرأة على مر العصور تعلو مكانتها تارة وأخري يكن مكانها في أدنى مرتبة وذلك بحسب نظرة المجتمع لها مرتبط ذلك كله بثقافة المجتمع .
وئدت المرأة في الجاهلية ، وحرقت حية في الهند بعد موت زوجها .
قال أوميروس ( المرأة مولاة من تزوج بها وهي لا تشير بشيء فيه صلاح ألبته ) .
ونظر سقراط إلي جنازة امرأة وخلفها نسوة تبكي فقال ( الشر لفقد الشر يتوجع ) .
وكان لشكسبير رأي مختلف حيث قال ( من غيرها (أي المرأة ) بيت الرجل في ظلام ) .إذن أقوال الأدباء والعلماء والكتاب في المرأة تتخالف وتتناقض كل بحسب ثقافته وتجربته فيرى المرأة من منظاره الخاص لتتحول هذه التجربة إلى مدح تارة وذم تارة أخرى ، ومرة شفقة وأخري قسوة شديدة عليها ، وترغيبا تارة وترهيبا أحيانا .
ففي الهند كانت تعاليم مانو ( ثلاثة يجب ألا يملكوا الزوجة والابن والعبد )
وكانت في اليابان قديما إذا ترملت وجب عليها إظهار البؤس وأن تحلق شعرها .
وقرر مجتمع روما : أن المرأة كائن لا نفس له وأنها رجس ويجب ألا تأكل اللحم وألا تضحك ولا تتكلم بل كل وقتها للخدمة .
في حين أن المرأة البابلية كانت متمتعة بحق التساوي مع الرجل .
وكما تباينت الآراء في المرأة تباينت كذلك في تعريف المرأة الحسناء .
قيل لأعرابي صف لنا شر النساء فقال :
شرهن ناحفة الجسم ، القليلة اللحم ، المحياض الممراض ، المصفرة المبشومة ، العسرة المشئومة ، كأن لسانها حربة ، تبكي من غير سبب ، وتدعو على زوجها بالحب ، عرقوبها حديد ، منتفخة الوريد ، كلامها وعيد وصوتها شديد ، تدفن الحسنات ، وتفشي السيئات ، تعين الزمان على زوجها ، ولا تعين زوجها على الزمان ، إذا دخل خرجت وإذا خرج دخلت ، وإن ضحك بكت ، وإن بكى ضحكت ،تبكي وهي ظالمة ، وتشهد وهي غائبة .
غير أن الشعراء تغنوا في وصف الحبيبة وأفاضوا في وصفها وتبيان محاسنها وجمالها ، وفي الأدب العربي القديم والحديث الكثير لنماذج ترضي كل ذوق وتطفئ ظمأ عاشق يبحث عن كلمات يصف فيها محبوبته أو يري صورة كتبت تماثل ما يراه فيها من حسن وما يعتلج في صدره من شوق وهيام نحوها ، ومع الشعر نجد تصويرا للبيئة العربية بكل جوانبها .

قال المتنبي واصفا محبوبته وجمالها :
نشرت ثلاث ذوائب من شعرها = في ليلة فرأيت ليالي أربعا
واستقبلت قمر الزمان بوجهها= فأرتني القمرين في وقت معا

وقال جرير :
إن العيون التي في طرفها حور = قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به = وهن أضعف خلق الله أركانا

ويقول أمرؤ القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة = ترائبها مصقولة كالسجنجل

ويقول آخر :
أيا قمرا تبسم عن أقاح = ويا غصنا يميل مع الرياح
جبينك والمقبل والثنايا = صباح في صباح في صباح

وقال الشاعر يصف حاله مع من يحب وأنها لا تغيب عن خاطره:
يا مقيما في خاطري وجناني = وبعيدا عن ناظري وعياني
أنت روحي إن كنت لست أراها = فهي أدنى إلي من كل دان
ومن جميل ما قيل قول كثير عزة حيث قال :
لو أن عزة حاكمت شمس الضحى = في الحسن عند موفق لقضى لها .

وكانت المرأة مادة الحب الأولى وعماد قصيدة الحب و الغزل على مر العصور عند كل الشعوب يقول الشاعر معرفا الحب ومعددا مراحله :
الحب أوله ميل يهيم به = قلب المحب فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرة عرضت = أو مزحة أشعلت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها في قدحة فإذا = تضرمت أحرقت مستجمع الحطب .

وقال آخر في تعريف الحب :
وما الحب من حسن ولا من سماحة = ولكنه شيء به الروح تكلف

سأل المأمون أبن أكثم عن العشق فقال :سوانح للمرء تؤثرها النفس ويهيم بها القلب .
قالت أعرابية واصفة الحب والعشق: العشق يذهب العقل ، وينحل الجسم ، ويهمل الدمع ، بحدوده مرور الأيام ، ولا تفسده بل لا تغيره إساءة المحبوب على الدوام .
قيل لبعض العـلماء : إن ابنك قد عـشق ! فـقال : الحمد لله !
الآن رقت حواشيه ، و لطفت معانيه ، وملحـت إشاراته ، و ظرفت حركاته ، و حسـنت عباراته ، وجادت رسائله ، وجلت شمائله ، فواظب المليح ، وجـنب القبيح.
و سـئل أحد العلماء وقيل له : هل سلم أحد من العشق؟ فقال : نعم
الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عـنده فهم.
ويمكن تعريف كلمة الحب : هي مأخوذة من الحُبِّ جمع حُبَّة وهي لباب الشيء وأصله ، وذلك لان القلب هو أصل الإنسان ولبه وما يعتلج في داخله من مشاعر وأحاسيس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث (عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحَاسَدوا، وَلا َتَنَاجَشوا، وَلاَ تَبَاغَضوا، وَلاَ تَدَابَروا، وَلاَ يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ، وَكونوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانَاً، المُسلِمُ أَخو المُسلم، لاَ يَظلِمهُ، وَلاَ يَخذُلُهُ، وَلا يكْذِبُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقوَى هَاهُنَا - وَيُشيرُ إِلَى صَدرِهِ ثَلاَثَ مَراتٍ - بِحَسْبِ امرئ مِن الشَّر أَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسِلمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَام دَمُهُ وَمَالُه وَعِرضُه ) 239 رواه مسلم
‏ وفي حديث آخر في معنى الحديث السابق قال ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبو النضر ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏المبارك ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏الحسن ‏ ‏أن ‏ ‏شيخا ‏ ‏من ‏ ‏بني سليط ‏ ‏أخبره ‏
‏أتيت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أكلمه في ‏ ‏سبي ‏ ‏أصيب لنا في الجاهلية فإذا هو قاعد وعليه حلقة قد أطافت به وهو يحدث القوم عليه ‏ ‏إزار ‏ ‏قطر ‏ ‏له غليظ قال سمعته يقول وهو يشير بإصبعه ‏ ‏المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله التقوى هاهنا التقوى هاهنا يقوا أي في القلب ).
وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) [البخاري ومسلم]. هذا الحديث موافق للحقائق الطبية الحديثة والتي تقرر الأهمية الفائقة للقلب وتأثير ذلك على جسد الإنسان وصحته بشكل كامل.
ولذلك ارتبط إظهار الحب رسما بالقلب ، فكل من أراد ان يظهر حبه رسم قلبا .
الحب إذن هو: الميْل الدائم بالقلب الهائم، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب حضوراً وغياباً، وإيثار ما يريده المحبوب على ما عداه، والطواعية الكاملة، والذكر الدائم وعدم السلوان .

وقد قيل أن الحب مراتب ودرجات ومنها :
العشق : هو فرط الحب وأمره وأكثر مراتب الحب والوجد شدة على المحب
على أن بعض الشعراء يرى الجنون أخف من العشق.

قالت جننت بمن تهوى فقلت لها = العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه = وإنما يصرع المجنون في الحين

الهوى : وهو ميل النفس إلى الشيء
العـلاقه : وهو الحب اللازم للقلب
الكلف : وهو شدة الحب
الشغف : وهو ارتفاع الحب أعلى موضع من القلب
وهو إحراق الحب للقلب
الجوى : وهو الهوى الباطن والحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن
التتيم : وهو التعبد والمتيم هو الذي تيمه الحب ، ولذلك قال مجنون ليلى
أَراني إذا صَلَّيْتُ يَمَّمْتُ نَحْوها = بِوَجْهي، وإنْ كانَ المُصَلّي وَرَائِيا
وما بِيَ إشراكٌ ولكنّ حُبَّها= وعُظْمَ الجَوى، أَعْيا الطَّبيبَ المُداوِيا

التبتل : وهو أن يسقمه ويمرضه الهوى
التدله : وهو ذهاب العقل من الهوى
الهيام : وهو اشد العطش ، واستخدم اللفظ تعبيرا عن شدة الشوق إلى المحبوب كالذي يسير في الصحراء واشتد به العطش وكل ما يطلبه هو شربة ماء يطفئ بها عطشه الشديد وكذلك هو الشوق لرؤية المحبوبة
الصـبابة : وهي رقة الشوق وحرارته فإذا قيل محب صب يعني ان له تجاه الحبوب شوق شديد يجد حر الحب في قلبه ونفسه
المقة : المحبة الــوامــق المحب
الوجد : هو الحب الذي يتبعه الحزن
الدنف : هو المرض واستعمل العرب هذا الاسم للحب إذا أحب البعض وأصابه المرض نتيجة لذلك
الشجو: هو الحب الذي يتبعه هم وحزن
الشوق : هو سفر القلب إلى المحبوب
التباريح : الشدائد والدواهي يقال برح به الحب والشوق إذا منه البرح وهو الشدة
الغمرة :
ما يغمر القلب من حب أو سكر
الشجن : هو حاجة المحب اشد ما يكون إلى رؤية ومسامرة محبوبته
الوصـب : هو ألم الحب ومرضه
الكمد : هو الحزن المكتوم
الأرق : السهر و هو من لوازم الحب
الحنين : هو الشوق الممزوج برقه
الجنون : ومن الحب ما يكون جنوناً واصل مادة الجنون الستر والحب المفرط يستر العقل
الود : هو خالص الحب وألطفه وأرأفه
الخله : توحيد المحبة وقيل سميت خله لتخلل المحبة جميع أجزاء الروح
الغرام : هو الولوع و الحب اللازم واغرم بالشيء أي أو لعبه
الوله : هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد
الرسيس : وهو الثبات ورسوخ صورة المحبوب في النفس
الجزع : هو عدم الصبر على الفرقة
السُّـهْدُ : شدة السهر وتواتر أحوال المحبوب على القلب
الغل : شدة العشق
اللهف : حزن وتحسر ، اللهفان المتحسر ،واللهيف المضطر
التبالـه : تبله الحب أي أسقمه وأفسده
اللوعة : لحرقه لوعه الحب أي حرقه
الداء المخامر: وهو من أوصافه وسمي مخامراً لمخالطته القلب والروح
السدم : هو الحب الذي يتبعه ندم وحزن

قال قيس بن ذريح يخاطب حبيبته لبنى وكأنما يعرف لنا الحب ودرجاته بقوله:
هل الحبُّ إلا عَبْرْةٌ ثُمَّ زَفْرَةٌ = وحَرٌّ عَلى الأَحْشَاءِ لَيسَ له بَرْدُ
وفيضُ دموعٍ تَسْتَهِلُّ إذا بَدَا = لَنا عَلَمٌ مِنْ أَرْضِكُمْ لم يكُنْ يَبْدُو

ويصف الشاعر الصبابة والهوى فيقول وما يشعر به تجاه محبوبته :
إذا ما تناشدنا الذي كان بيننا = جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة = إلى إلفه فاستعجلت عبرة قبلي
فياويح نفسي حسب نفسي الذي بهل = ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي

ويقول قيس بن ذريح حين ارتحلت لبنى وأقبل يقبل أثر بعيرها قائلا :
وما أحببتُ أرضكم ولكن = أقبل أثرَ من وطئ الترابا
لقد لاقيتُ من كلفٍ بلبنى = بلاء ما أسيغُ له الشرابا
إذا نادي المنادي باسم لبنى = عييتُ فلا أطيق له جوابا .

وغنت جارية شعرا في أخري كان اسمها قبيحه أصابها مرض فقالت :
بثت قبيحة في قلبي لها حرقا = وبدلت مقلتي من نومها أرقا
وما ذلك إلا لشكواها فقد عطفت = قلبي على كل شاك بعدها شفقا
كأنها زهرة بيضاء قد ذبلت = أو نرجس مس مسكا طيبا عبقا
إني لأرحم من حبي له سلمت = من كل حادثة ياقوم من عشقا .

والحب مراتب أعلاها العشق والشغف وقد أشار القران الكريم إلى ذلك في سورة يوسف قال تعالى ( قد شغفها حبا ) .
وقد امتلأ الشعر العربي قبل الإسلام وبعده بشعر الغزل والمحبين وازدان بأشعارهم الجميلة التي صورت حياة البادية والحضر كذلك ، وعرفنا من خلاله محبين اشتهروا بعشقهم وبحبهم العذري ما فاق كثيرًا (روميو وجولييت) ، التي تغني بها الغرب وهي لا واقع لها ، ومن أشهر هؤلاء كان عنترة بن شداد الذي أحب ابنة عمه عبلة بنت مالك ، وكثير عزة ، وقيس بن الملوح الذي أحب ليلى العامرية وسمي بمجنون ليلى لما أصابه من جنون بسبب عشقه لها فهام في الصحراء ينشد أشعاره فيها ويصف حبه الشديد لها ، وله فيها شعر جميل رقيق يمس القلوب ويبكيها .وكذلك قيس بن ذريح الذي اشتهر بحبه لبنى
ومن كتب في الحب والعشق ليسوا بالكثير منهم ابن حزم الأندلسي رحمه الله فقد كتب كتابه الشهير( طوق الحمامة ) برغم كونه فقيها عالما ، وكذلك محمد بن داود الأصفهاني المعروف بالظاهري المتوفى 296 أو 297هـ من أكابر علماء عصره وفقهائهم وأذكيائهم وله قصة مشهورة في الحب مذكورة في الكتب. وهو معاصر لابن الرومي، حكى أبو بكر بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد (في الفتيا) فجاءه رجل فدفع إليه رقعة فأخذها وتأملها طويلاً وظن تلامذته أنها مسألة فقلبها وكتب في ظهرها ودفعها فإذا الرجل علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر وإذا في الرقعة مكتوب:

يا بن داود يا فقيه العراق = افتنا في قواتل الأحداق
هل عليهن في الجروح قصاص = أم مباح لها دم العشاق

وإذا الجواب:

كيف يفتيكم قتيل صريع = بسهام الفراق والاشتياق
وقتيل التلاق أحسن حالاً = عند داود من قتيل الفراق

ومما كتب أيضا في الحب( مصارع العشاق)
للشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي المتوفى سنة 500 هجرية .
وكتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين": للشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 .

ويصحبنا شعر المحبين والعاشقين في رحلة داخل النفس العاشقة فيها تظهر لنا الأحاسيس والمشاعر التي تختلج في نفسه ، وكان أغلب العاشقين الذين وصلنا شعرهم بعيدين عن من أحبوا لسبب أو لآخر مما كان يهيج في نفوسهم الشوق والحنين ، ومع طول الغياب والبعد تسمو نفوسهم وترتقي مشاعرهم إلى أبعد حد فينشد شعرا جميلا محلقا يخرج من القلب يلامس شغاف قلب كل محب أو غير محب .
ومن شعر مجنون ليلى الجميل قوله :
وَدِدْتُ على طيبِ الحياةِ لو انّهُ = يُزادُ لليلى عُمْرُها مِن حَياتِيا
ألا يا حَماماتِ العِراقِ أَعِنَّني = على شَجَني، وابْكِينَ مِثْلَ بُكائِيا
يقولونَ ليلى بالعِراقِ مَريضَةٌ = فيا ليتني كنتُ الطَّبيبَ المُداوِيا
تَمُرُّ الليالي والشّهورُ، ولا أرى = غَرامي لها يَزدادُ إلاّ تَمادِيا

ويقال أنه لما اشتد عليه الوجد والعشق وأخذه والده إلى الكعبة لعله بدعائه عندها يشفى من حب ليلى :
وكان ذلك اليوم وقع في ثلاثاء يوافق العشرين من ذي الحجة في عامٍ صادفت وقفته يوم جمعة، فاجتمع يومها من الخلق ما لم يجتمع في حج من قبل وهو حج جفل منه قيس عندما أخذه والده إلى الكعبة بنصيحةٍ من الناس لعل الله يشفيه من ليلى قيل فلما طلب منه والده أن يتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله الفرج، وقف قيس في نهدةٍ من الأرض صارخاً في البيت وأهله (اللهم زدني لليلى حباً وبها كلفاً ولا تنسني ذكرها أبداً ولا تشغلني عنها)
فبوغت أبوه، والتفتت إليه الجموع مستغربةً مستنفرةً، فمثل هذا دعاء لم يعهدوه ولم يسمعوا بمثله في هذا الموقف، فاستكبره جمهور رأى فيه بوحاً لا يليق واستهتاراً لا يسكت عنه، فشخصوا حول قيسٍ وتناهبوه، وهو يردد الدعاء ذاته، لا يغير فيه إذا لم يزد وأبوه يذود عنه مسترحماً معتذراً متعذراً بجنونٍ ألم بولده لفرط العشق لكنهم لا يسمعون إليه، حتى أوشكوا عليه وفيما هو محمول يخرجونه من الحرم، ينقذونه ودمه يغسل الطريق، كان يردد بصوتٍ واهنٍ، لا يكاد يسمع : (ها أنت سمعت ها أنت رأيت) .

ويقول أيضا :
أَراني إذا صَلَّيْتُ يَمَّمْتُ نَحْوها = بِوَجْهي، وإنْ كانَ المُصَلّي وَرَائِيا
وما بِيَ إشراكٌ ولكنّ حُبَّها = وعُظْمَ الجَوى، أَعْيا الطَّبيبَ المُداوِيا
أُحِبُّ من الأسماءِ ما وافَقَ اسْمَها = أو اشْبَهَهُ، أو كانَ مِنهُ مُدانِيا

ويقول ايضا :
فيا رَبِّ إذ صَيَّرْتَ ليلى هيَ المُنى = فَزِنِّي بِعَيْنَيْها كما زِنْتَها ليا
وإلاّ فَبَغِّضْها إليّ وأهْلَها = فإنّي بليلى قد لقيتُ الدّواهِيا
على مِثلِ ليلى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفسَهُ = وإنْ كنتُ مِن ليلى على اليأسِ طاوِيا
خَليلَيَّ إنْ ضَنُّوا بليلى، فقَرِّبا = لي النّعْشَ والأكْفانَ، واسْتَغْفِرا ليا .

ويروى ان ليلى زارها قيس فأكرمت زيارته وحادثته ولكنها أرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت فأنشأت تقول:

كلانا مظهر للناس بغضاً = وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون مقالتينا = وفي القلبين ثم هوى دفين

فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة وأغمي عليه فمكث كذلك ساعة ونضحوا الماء على وجهه حتى آفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ ثم انصرفت عنه وهو من أشد الناس سروراً وأقرهم عيناً.

جاء قيس منزل ليلى يطلب قبساً من نار وهو متلفع ببرد له من البرد فأخرجت ليلى له ناراً في عطبة فأعطته إيَّاها ووقفاً يتحدثان فلما احترقت العطبة أخذ خرقة من برده وجعل النار فيها فكلما احترقت خرق أخرى وأذكى بها النار ثم انسابت النار إلى راحتيه دون أن يشعر. وقد لخص شوقي ذلك الحديث:

رب فجر سألته = هل تنفست في السحر
ورياح حسبتها = جررت ذيلك العطر

ولكن ليلى تخشى عليه خطر النار فتقاطعه:

ويح قيس تحرَّقت = راحتاه وما شعر

هذا الحب يصاب بلعنة وأي لعنة. فقد لغا الناس في حبهما وأرجفوا الأراجيف وذكروا لقاءهما ليلة الغيل إذ يقول قيس:

أبت ليلة بالغيل يا أم مالك = لكم غير حب صادق ليس يكذب

وقد كرهت ليلى هذا البيت خشية الأقاويل.

ولما أتى قيس بن ذريح ليلى شفيعاً لسميِّه ابن الملوح ومثيله في جنون العشق قال لها:
إن الناس تأولوا كلامه على غير ما أراد فلا تكوني مثلهم. إنما أخبر أنه رآك ليلة الغيل فذهبت بقلبه لا إنه عناك بسوء فأطرقت طويلاً ودموعها تجري وهي تكفكفها ثم انتحبت وقالت لابن ذريح: قل له بنفسي أنت والله أن وجدي بك لفوق ما تجد ولكن لا حيلة لي فيك.

ومع ذلك فقد حجبت ليلى وأهدر الوالي دم قيس إن تعرض لها ثم أكرهت على الزواج من غيره. ولما أراد زوج ليلى الرحيل بها إلى بلده بلغ المجنون أنه غاد بها فقال يخاطب نفسه:

أمزمعة للبين ليلى ولم تمت = كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن شطت بهم غربة النوى = وزالوا بليلى أن لبك زائل

قيل إن قيساً سقم سقماً شديداً قبل اختلاطه حتى أشفي على الهلاك. فدخل إليه أبوه يعلله فوجده ينشد هذه الأبيات ويبكي أحرَّ بكاء وينشج أمرَّ نشيج:

ألا أيُّها القلب الذي لج هائماً = بليلى وليداً لم تقطع تمائمه
أفق قد آفاق العاشقون وقد أنى = لحالك أن تلقى طبيباً تلائمه
فما لك مسلوب العزاء كأنما = ترى ناي ليلى مغرماً أنت غارمه
أجدك لا تنسيك ليلى ملمة = تلم ولا ينسيك عهداً تقادمه

قيل: ووقف مستتراً ينظر إلى أظعان ليلى وقد رحل بها زوجها وقومها. فلما رآهم يرتحلون بكى وجزع فقال له أبوه: ويحك إنما جئنا بك متخفياً ليتروح بعض ما بك بالنظر إليهم فإذا فعلت ما أرى عُرفت وقد أهدر السلطان دمك إن مررت بهم فأمسك أو انصرف. فقال ما لي سبيل إلى النظر إليهم يرتحلون وأنا ساكن غير جازع ولا باك فانصرف بنا. فانصرف وهو يقول:

ذُدِ الدمع حتى يظعن الحي إنما = دموعك إن فاضت عليك دليل
كأنَ دموع العين يوم تحملوا = جمان على جيب القميص يسيل

وتصبح الدنيا كلها ضيقة عليه كأنها حلقة خاتم ويشعر بفؤاده تتخطفه مخالب الطير:

كأن فؤادي في مخالب طائر = إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم = علي فما تزداد طولاً ولا عرضا

وهو يتحرق بنار الفراق بعد أنس القرب:

وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني = بقول يُحلُّ العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة = وخلفت ما خلفت بين الجوانح

ومع ذلك فلتفعل ليلى ما بدا لها ما أكرهت عليه فليس بمتغير لها ولا تائب عن حبها ولو نصحه الناصحون:

عفا الله عن ليلى وإن سفكت دمي = فإني وإن لم تجزني غير عاتب
عليها ولا مبد لليلى شكاية = وقد يشتكي المشكى إلى كل صاحب
يقولون تب عن حب ليلى وذكرها = وما خلتني عن حب ليلى بتائب


ومن المحبين الذين اشتهروا وذاع خبرهم بين العرب قيس بن ذريح أحد الشعراء العذريين رأى ( لبنى بنت الحباب ) في بعض أسفاره فأحبها وطلبها زوجة له فمانعه أبوه ثم لان فتم الزواج . وعاد وغير رأيه وسعى في تطليقه إياها فحار قيس بين من يحب وما يطلب أبوه . وأخيرا ، نزل عند رغبة أبيه فطلق حبيبته بعد أن تزوجها ، وطلق معها سعادته وهناءه وفرحه ، ومرض لفراقها وبعدها عنه. وزاد مرضه ثقلا أن تزوجت لبنى غيره ، ففقد بذلك عقله وصبره ، ونحل جسمه إلي آن قضى صريع الحب ومن أشعاره :
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى = وتجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا = لي الليل هزتني إليك المضاجع
لقد رسخت في القلب منك مودة = كما رسخت في الراحتين الأصابع
أحال علي الهم من كل جانب = ودامت فلم تبرح علي الفواجع
ألا إنما ابكي لما هو واقع = فهل جزعي من وشك ذلك نافع
وقد كنت أبكي والنوى مطمئنة = بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأهجركم هجر البغيض وحبكم = على كبدي منه كلوم صوادع
وأعمد للأرض التي لا أريدها = لترجعني يوما إليك الرواجع
وأشفق من هجرانكم وتروعني = مخافة وشك البين والشمل جامع
فما كل ما منتك نفسك خاليا = تلاقي ولا كل الهوى أنت تابع
لعمري لمن أمسى ولبنى ضجيعه = من الناس ما اختيرت عله المضاجع .
والملاحظ ان أغلب المحبين الذين تُيموا وأصابهم المرض والجنون كانوا من الرجال ، ولم يذكر لنا التاريخ أن أحدا من النساء أصابها الجنون جراء الحب .
فهل يمكن القول أن الرجل أكثر عطاء في الحب من المرأة ؟؟

يقول نزار قباني في الحب ومتحدثا عن حبيبته :
لو تطلب البحر في عينيك أسكبه = أو تطلب الشمس في كفيك أرميها
أنـا أحبك فوق الغيم أكتبهــا = وللعصافيـر والأشجـار أحكيهـا
أنـا أحبك فوق الماء أنقشهــا = وللعناقيـد والأقـداح أسقيها
أنـا أحبك يـا سيفـا أسال دمي = يـا قصة لست أدري مـا أسميها
وهكذا تحدث الشعراء والمحبين عن من أحبوا فرفع كل محبوبته فوق كل النساء وفوق كل البشر ، لم ير فيها عيبا واحدا بل تجسد الجمال والكمال في محبوبته فسال شعره واصفا محاسن الحبيبة من غير حدود ومن غير قيود .
والخلاصة أن المحبة في التراث العربي الإسلامي قطبها الإنسان سواء كان محباً للإنسان أو كان محبوباً من أخيه الإنسان وسواء كان حبه لله أو كان حب الله له أو كان الحبان مشتبكين فلا بد من أن يلم به ذلك الحب وأن يغمره بنوره المتألق المتعدد الألوان. على أن غمرة النور هذه تؤدي إلى النشوة والعنفوان أو إلى التبريح والاصطلام

وللحديث بقية
محمد خطاب



.


صورة مفقودة
 
أعلى