محمد صابر عبيد - «ذئب الأربعين».. والقصيدة الحسية

ظهر مصطلح "القصيدة الإيروتيكية" في السنوات الأخيرة لوصف القصيدة التي تشتغل على فضاء الجنس الحسّي بحالاته وطقوسه وهواجسه وتحولاته ونماذجه ولغته وصوره وإيقاعاته، ضمن حساسية خطاب شعري يعي هذه الخصوصية، ويتمثّلها، ويعمل على تفعيلها وضبط حركيتها وهندسة تموّجاتها، في إطار حسّاس جداً من رصد الوضع الإنساني والصوفي العميق الذي يستجيب لها، ويحرسها بعناية، ويتغنى بنشيدها الحافل بالخصب والعطاء واللذّة.
وإذا كان المصطلح قد انشغل كثيراً وعميقاً بنوع من القصائد تحضر فيها المفردات الإيروتيكية الحسيّة حضوراً لافتاً للانتباه لفرط شدّتها وضراوتها، فإن نوعاً آخر من القصائد الإيروتيكية يرتقي درجة أعلى في سلّم الترميز ليحاكي الحساسية الإيروسية على إيقاع آخر، تبتعد فيه دوال القصيدة عن المثول الطاغي في حضرة التصوير الحسّي الغزير والمباشر للفعالية الإيروتيكية، لتحفل بحساسية جديدة تعمل على تقصّي النكهة الإيروتيكية من خلال تمظهراتها في اللفظة والصورة والإيقاع والمشهد واللقطة والرؤية، وتمارس نشاطها في منطقة الخفاء والظلّ والصمت والحجب والخجل، لكنها في الوقت عينه تتجلّى بروح إيروتيكية لا يمكن العبور من فوقها، أو إهمالها، أو التغاضي عن قوّة حضورها وتلبّثها في الميدان الشعري.
المجموعة الشعرية الموسومة "ذئب الأربعين" للشاعر يوسف عبد العزيز (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2008) تشتغل ومنذ عتبة عنوانها الرئيس على أنموذج إيروتيكي معيّن، فدال "ذئب" مشحون بحسّ إيروتيكي عالٍ، وحين يضاف إلى الدال الجمعي العددي "الأربعين" فإنه يكتسب عمقاً أكثر إيغالاً في هذا الحسّ، إذ إن "الأربعين" هو سن النضج الإيروتيكي الذي ينتقل بمفاهيم الرغبة واللذة والمتعة إلى أقصى درجات الخصب والأداء والعطاء.
يمكن تناول الكثير من قصائد المجموعة لتمثّل أنموذج هذه القصيدة في أنحاء ملوّنة، فهي تحضر في قصائد عديدة ضمن سياقات مختلفة ومتباينة، وسيتم هنا انتخاب قصيدة "ناي" التي تبدو الأكثر تمثيلاً لهذا الحسّ من بين قصائد أخرى في المجموعة، والأكثر تركيزاً على حيوية الحسّ الإيروتيكي وقضاياه وتموّجاته.
قصيدة "ناي" تفيد من معطيات عتبة العنوان لتعزّز مسارات الرؤية الإيروتيكية في أنساغها وتفاصيل تشكيلها، وتتجلّى هذه الرؤية في عتبة العنوان من خلال جملة خصائص خطيّة وشكلية ورمزية ودلالية وأسلوبية، وأوّل هذه الخصائص هي أسلوبية التنكير التي حظيت بها لغة العنونة "ناي"، إذ إن مفهوم التنكير يحيل في هذا المستوى من التأويل على فعالية التابو والحجب والعزل والتصميت، التي تضع الفعل الإيروتيكي دائماً في منطقة الظلّ والعيب والخفاء الاجتماعي.
ورغم أن الموحيات الدلالية للدال غير المعرّف "ناي" تتمرّد بطبيعتها على الحجب والتصميت والقمع، إلا أن الفعل الكامن والمشرع للتحقق في جوهر معناه هو الوضوح والصوت والانطلاق والإدهاش والإمتاع، على النحو الذي يحقق المعادلة الجدلية في المفهوم الإيروتيكي بين الباطن والظاهر، المستتر والمتمظهر، المخفي والمتجلّي، البعيد والقريب، الكامن والمتفجّر، المضمر والمعلن، الخجول والجريء، المعتم والمضيء، الخافت واللامع، الخائف والشجاع، الحياء والرغبة، وما إلى ذلك من شبكة الثنائيات الغزيرة التي يمكنها أن تتقدّم في هذا السياق.
ينفتح الدال العنواني المنكّر "ناي" على مرجعية شبه أسطورية تجعل من آلة الناي وسيلة إيقاعية للتواصل بين المحبين، فصوته اللحني المرتبط غالباً بالشجن والحزن والرغبة في الوصال ينطلق من عاطفة إنسانية شجيّة، تحكي حالات هذه العاطفة عبر التموّج الإيقاعي للّحن النايي المنطلق بأسى من الآلة، قصّة الحرمان والظمأ والنأي، وترسل شجوها المكتظّ بالشوق إلى الآخر المعني/المقصود وغير المعني/غير المقصود لتعلن عن رغبتها المكبوتة في بلوغه والتواصل معه. فضلاً عن أن شكل الناي وقدرته على الفعل الأدائي، يحيل في هذا المستوى البصري من مستوياته على حال الإيروس، إذ هو لا يؤدي الأداء الحسن إلى حين يلتصق التصاقاً عشقياً بالجسد، ليصدح بمقولته ويفعل فعله.
تشرع القصيدة بافتتاح مشروعها الفضائي عبر استهلال مكاني ظرفي يشتغل على الأبعاد والحدود بطريقة رياضية مراوغة:
"تحت سماء نائيةٍ".
إذ يتألف الشطر الشعري الاستهلالي الأول من ثلاثة مداخل مكانية تحيط بالصورة وتشكّل رؤيتها وتقترح مقولتها، فـ"تحت" تعني أسفل، و"سماء" تعني أعلى، و"نائية" تعني أبعد، وأمام هذه الأبعاد الثلاثية في رسم صورة المسافة (أسفل/أعلى/أبعد) تأخذ مساحة الوجود الشعري الرياضي حضورها في ملء الفراغ بالحكاية المضمرة التي تختزنها القصيدة في قابل دوالها القادمة. ثم ما يلبث فعل الحكاية بعد ذلك أن ينفتح على المنتظَر أو المتوقَّع أو المحتمل، ليباشر عمله في ملء فجوات المكان لمنحها المعنى المطلوب، على النحو الذي تبدأ فيه الحكاية الشعرية بالمثول بين يدي القراءة:
"فاض قميصُ الشاعر بالموسيقى".
يعمل الفعل الماضي "فاض" على إنتاج معنى الفيض السيميائي في إحالة إيروتيكية على بلوغ أقصى درجات اللذة، إن دلالة "فاض" تقود الصورة المتخيّلة في أول مستوى من مستويات تخيّلها نحو وصول الفاعل إلى درجة الامتلاء، بحيث يغزو الماء الخارج بعد أن يستحيل عليه البقاء في الداخل، لكي يعبّر في حركيته الفعلية عن تحوّل كبير في الأداء والنتيجة ورسم الصورة، ويتحلّى فعل الفيض بإيقاعية خاصة تدلّ على عمق التداخل والتفاعل والتجاسد بين الحركة والسكون، الحصار والانفلات، التوتّر والراحة، الصمت والكلام، الكمون والتفجّر.
تتسلّح هذه الشبكة الدلالية المحيطة بالفعل "فاض" بطاقات جديدة على التوليد والتعميق والتوسيع الدلالي، حين يسند الفعل إلى فاعله (قميص الشاعر)، وهو يحيل إحالة ابتدائية على قميص يوسف الذي تختفي تحته هواجس "زليخة" زوجة العزيز، حيث تتبدّى الإيروتيكية المقتولة التي تجهضها إشارة السماء. بالإمكان إجراء بدلية سيميائية بين المضاف إليه (الشاعر) وقد أضيف إلى "قميص"، و"يوسف"، إذا ما رُفعت كلمة "الشاعر" ووُضع اسم يوسف الذي هو اسم شاعر القصيدة.
وحين يتعرّف المرء إلى مادة الفيض التي هي "الموسيقى"، يتجرّد الحسّ الإيقاعي ليندغم بالحسّ الإيروتيكي المثار في الصورة، إذ إنّ الفعالية الإيروتيكية في جوهرها هي فعالية إيقاعية من نوع خاص تنتج موسيقاها على نحو غزير ومثير وفعّال، على النحو الذي تتشكّل فيه الصورة (فاض قميصُ الشاعر بالموسيقى) تشكلاً إيروسياً نوعياً، يجعل من (قميص الشاعر/قميص يوسف) فيضاً موسيقياً يبعث في الجسد رغبة الحركة والفعل والرقص والفرح والبهجة، والشروع بالانطلاق نحو فضاء خاص يستثمر كل الاستعادات الرمزية والأسطورية والسيميائية التي تتمظهر في جسد الصورة.
ما يعمّق هذه الحساسية الإيروسية المنبثقة من الدوال المشكّلة للصورة، الجملة الشعرية اللاحقة المعطوفة على الجملة الشعرية السابقة، وهي تشحذ دوالّها بدلالة المعطيات السابقة من أجل أن يتعالى الحسّ الإيروسي، ويتمثّل وجوده الفعلي والجسدي:
"وابتلّتْ بالنارِ يداهُ".
الفعل المعطوف "ابتلّت" يحيل على حالة البلل التي تحيل بدورها على فضاء الإشباع وتتصل بالفيض، لكنّها حين تملأ مساحة البلل "بالنار" وليس الماء، فإنها تحقق مفارقة جدلية في التشكيل والتعبير، تنفتح على فضاء الإيروتيك ولغته وضراوته بكلّ شدّة وعمق ودلالة ورمز. أما الفاعل النحوي والمفعول الدلالي "يداه" فإنه يكشف عن آلة الجسد المشتغلة في حقل البلل، إذ إنّ اليد هي الآلة الجسدية الأكثر فعالية ونشاطاً في الحفل الإيروتيكي، فهي سهم الاستدلال الأولّي إلى مواطن اللذّة، وعندما تبتلّ بالنار فإنها تكون جاهزة لبلوغ أعلى درجات اللذة، وتكون قادرة على تمرير ذلك إلى بقية أدوات الجسد، حيث تكون دائماً بانتظار النتائج التي تتمكّن اليد من تحقيقها والكشف عنها.
هنا فقط يكون بوسع الشاعر "يوسف" أن يعلن عن النتائج التي آلت إليها معادلته الإيروتيكية، ويرفع قلمه/نايه ليؤرّخ لزمن مختلف لا بدّ من تسجيله والاحتفاظ به، من أجل أن تصبح الأشياء مرئية على الورق:
"فسجّل في دفترهِ".
إن عملية التسجيل في الدفتر هي عملية تأريخ للإنجاز الذي تمكّنت اليد المبللة بالنار من رسمه وتعميق صورته في المشهد، إذ يتحوّل الفعل الإيروتيكي هنا من من منطقة الإجراء الطافح بالرغبة إلى فضاء الكتابة. إلا أن المكتوب الذي انشغلت "اليد" أيضاً -في فعالية مزدوجة- بتسجيله في الدفتر يقود حساسية التلقّي والقراءة نحو صورته في خاتمة القصيدة، حين يسدل الستار على المشهد العام في القصيدة، وتظهر الصورة على هيئة تشكيل إيروتيكي عمودي هابط ثم أفقي ممتدّ على الشكل الآتي:
"جسدُ
المرأةِ
ناي ي ي ي ي".
يعتلي دال "جسد" أعلى الصورة في التشكيل ويهبط خطيّاً إلى "المرأة"، ليبني الصورة البصرية التي يتحرّك الفعل الإيروتيكي نحوها بسهمٍ مباشر وحرّ، ومن ثمّ يهبط درجة أخرى إلى الأسفل ليصل إلى "ناي" الذي سبق له أن اعتلى منصّة العنوان أيضاً، على النحو الذي يصبح فيه هنا تعريفاً حسيّاً لـ"جسد المرأة"، أي أن جسد المرأة يساوي أو يعادل أو يضاهي أو يناظر أو يقارب أو يتحدّى الدال "ناي"، لكنّ هذا الناي بحركته الإقفالية شبه الدائرية يمتدّ أفقياً على هذا الشكل (ناي ي ي ي ي)، بمعنى أنه يتموسق تموسقاً إيروتيكياً على المستويين البصري والسمعي.



.

93.jpg
 
أعلى