كمال الزغباني - الديني والجنسيّ:

من زمن بغايا سومر المقدسات إلى زمن الشيوخ النجوم الفضائيّين ونجمات "الشوبيز"
جالست صديقا كاتبا فبدت لي نظراته وعباراته مرّة وسوداء مثل القهوة التي كان يحتسيها. وحين سألته عن علّة ذلك، صمت طويلا وسألني بدوره: بم تفسّر كون شيوخ الدين كفّوا منذ سنوات عن تكفير الكتّاب وعن إهدار دمائهم؟ لم أكن في الواقع على دراية بالأمر ولكنني جازفت بالإجابة مفترضا بتفاؤل صادق أن هؤلاء الشيوخ قد اهتدوا أخيرا إلى حقيقة أن الكتابة الإبداعية لا يمكن أن تحاسب من موقع ديني أو أخلاقي أو حتى إيديولوجي، لأنها فعل تخييلي محض ينشئ عالما مستقلا لا يمكن لأية مرجعية خارجية أن تأتيه "لا من بين أيديه ولا من خلفه"، كما يردّد الشيوخ أنفسهم. رمقني الصديق الكاتب بمزيج من الحنق والشفقة. أفرغ في جوفه ما تبقّى من قهوته السوداء المرّة ثمّ قال، بعد أن قرّعني بلطف على طيبتي التي تقارب الحماقة، أن الأمر غير ذلك تماما. التفت يمنة ويسرة ليطمئنّ إلى عدم وجود أذن أمنيّة تسجّل حديثنا، ثمّ صارحني بما حدث له مع بعض أولئك الشيوخ. قال (أختصر هنا كلامه، لأن جزءا هاما منه كان مديحا ذاتيا مغلّفا بالرجوع إلى الناقد الفلاني أو المنبر العلاّني) أنه نشر (كما أعلم) منذ سنوات رواية حازت إعجاب القرّاء (من النخبة) والنقاد (...) وحصلت على جوائز (...) لكنها سبّبت له في الوقت ذاته ديونا كثيرة وثقيلة، بما أنه اضطرّ إلى "ارتكاب" قرض بنكي بفوائد مشطّة من أجل طبعها ونشرها. وبما أن توزيعها كان محدودا (فهو قد نشرها على نفقته الخاصة)، فإن أمله في رؤيتها تكتسح الأسواق وتطبع بعشرات الآلاف ظلّ معقودا على أمر واحد: أن تقع الرواية بين يدي واحد من شيوخ الفضاء (قياسا على رواد الفضاء. فإذا كان الأمريكان والأوروبيون قد أرسلوا إلى الفضاء روّادا ليدرسوه علميا، فإننا لم نبق من جهتنا مكتوفي الأيدي وأرسلنا إلى أقماره شيوخا يبثون من خلالها "علوم" القرآن والفقه والحديث وغيرها، خاصة وأن هذه "العلوم" تتضمن في طياتها ريادة وإعجازا علميا يغنينا وزيادة عن كل علوم "الغرب" المادي الحاقد) المشهورين وأن يعلن من أعلى منبر إحدى الفضائيات الكبرى تحريم قراءتها وتكفير كاتبها، ولم لا إهدار دمه، بسبب ما تتضمّنه الرواية من مسّ سافر بالمقدسات الإسلامية الحنيفة ومن مشاهد جنسية فاضحة وشاذة من شأنها أن تخرّب أرواح قرّائها (خصوصا من الشباب) وتلوّث عقولهم وتزيّن لهم سبيل الرذيلة والخطيئة والفساد الخ...
مع هذه الكلمات (التي قالها مقلّدا طريقة أحد الشيوخ المشهورين في الصياح المستنفر وفي التحريك السريع لجفون عينيه الصغيرتين المغمورتين باللحية الكثة)، لمع في وجه صاحبي الكاتب بريق عجيب جعلني أخشى عليه من نفسه وأرتاب قليلا في محتوى القهوة التي كان يشربها أو السيجارة التي كان يدخّنها بلهفة. قلت له: «ولكن ما الذي يجعلك تتمنى كل هذا الشر لكتابك ولشخصك الكريم؟» غمغم مرّة أخرى بحنق شديد وهدّدني بالمغادرة فورا إن لم أفق من غباوتي لأركّز معه في ذلك "الصباح الكلب"، كما قال. وعدته بأن أبذل كلّ ما في ذهني من طاقة لفهمه فعاد إلى الحديث رغم امتعاضه. قال أن ذلك التكفير وذلك الإهدار، لو تحققا، لكانا جلبا عليه وعلى كتابه شهرة واسعة ستجعل القرّاء في كل مكان يبحثون عن الرواية لشفاء غليلهم من هرطقاتها ومن فسادها الأكيد، بناءا على القاعدة الذهبية القائلة بأن كل محظور مرغوب فيه. ومن جهة أخرى فإن الكتّاب التقدميين في العالم والقائمين على المنظمات المستقلة المدافعة عن حقوق الإنسان وعن حرية الرأي والتعبير والإبداع سيتضامنون معه لا محالة وسيساهمون بالتالي في مزيد شهرته ومن ثمة في ترجمة كتابه إلى مختلف الألسنة التي يحترم الناطقون بها حقوق المؤلف مما سيدرّ عليه أرباحا طائلة تمكّنه لا فقط من تسديد ديونه الثقيلة ولكن أيضا من العيش الرغيد الذي سيتيح له فرصة التفرّغ لكتابة الروايات الأخرى الراقدة منذ سنوات في طيات مسوداته وفي دهاليز مخيلته التي تراكم على جنباتها الصدأ.
بعد يأسه من وقوع الرواية صدفة في يدي أحد الشيوخ، عمد صاحبنا إذن إلى إيقاعها قسرا في أيدي عدد لا بأس به منهم (ذكر لي أسماء بعض أشهرهم، غير أنني نسيتهم. لأنني، لحسن الحظ أو لسوئه، لا أملك تلفازا من شأنه أن يذكّرني بهم). تحت اسم مستعار، أرسل إليهم رسائل نارية تشتعل حميّة على الدين الحنيف وتقطر غضبا على الكاتب المرتد الذي عاث في العقيدة السمحاء تنكيلا وفي الأخلاق الحميدة تدميرا. ودعاهم بحرارة المؤمن الغيور إلى تحذير الأمّة جمعاء من الاقتراب من ذلك الكتاب حتى لا تلسعهم أفاعيه وعقاربه المسمومة كفرا وخطيئة. وانتظر الكاتب أن تقوم الدنيا فلا تقعد. لكنها ظلّت قاعدة على حالها، راضية مرضيّة، كأن شيئا لم يكن!! لقد تجاهل الشيوخ كلهم رسالته المستنكرة ولم يمنّوا عليه ولو بشتيمة عابرة. قال لي في ختام حديثه: هل فهمت الآن مغزى سؤالي؟ ثم غادرني وهو كظيم متجاهلا صيحات النادل إثره مما اضطرّني إلى أن أسدّد مُكرها ثمن قهوته السوداء التي انتقلت مرارتها إلى روحي.
ظل السؤال الحائر يدور بخلدي من حين لآخر بضعة أيام، ثم نسيته لانشغالي بمتابعة المنافسات الانتخابية الديمقراطية المشوّقة التي كان وطيسها يحمى صعدا في مختلف المدن والقرى العربية. ولكنني وقعت مرّة عن طريق الصدفة على خبر طريف بإحدى الصحف أعادني عنوة إلى ذلك السؤال. يقول الخبر: « شيخ مشهور (نسيت الآن اسمه، ولكنني متأكد أنه واحد من الذين خيّبوا انتظارات صديقي الروائي الباحث عن الشهرة والمال وحب الجميلات حتى ولو هدر دمه في سبيلهن) يندّد خلال حصّة مباشرة تبثها أسبوعيا قناة تلفزيونية إخبارية واسعة الانتشار بمطربة استعراضية شابة وشهيرة ومغرية ومحبوبة و"دلّوعة" (نسيت اسمها أيضا لذات السبب المذكور أعلاه) ويدعو سلطات البلاد التي كانت ستستضيفها لإحياء حفل جماهيري كبير إلى منعها من ذلك وإلى طردها فورا من هناك قبل أن تلمس قدماها النجستان(أو بالأحرى فردتا حذائها باهظ الثمن) أديم تلك البلاد الطاهرة. والسبب في ذلك هو أن تلك "الفنانة" تعودت (في كل الفصول) على ارتداء ألبسة خفيفة جدا وغير محتشمة بالمرّة، وعلى القيام خلال غنائها (وفي "كليباتها" التي تبثّها القنوات المختصة) بحركات لعوب فيها خدش للحياء وإغراء مخز وتحريك مشين للغرائز الجنسية المنحطّة... ». ويعلّق الصحفي الذي نقل الخبر أن تلك ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها شيخ غضبه على مغنية أو على ممثلة، أو يشيد فيها آخر بواحدة حجّت وتحجّبت وتابت رغم أنها ما تزال في عنفوان إغرائها (وقد حدث أن واحدة من المعنيّات تراجعت فجأة –بسبب كاشيه مغر ولا شك- عن تحجّبها، فنالت من سخط ونقمة شيخ فضائي نزرا غير يسير). وذكر الصحفي الساخر أمثلة كثيرة عن ذلك قبل أن يتساءل بخبث مكشوف عن السر في ذلك التداخل بين عالمين يبدوان لأوّل وهلة بعيدين تماما أحدهما عن الآخر! ثم أشار، على سبيل الطرفة، إلى فتوى قال أنها أثارت في حينه « ضجة واسعة » فحواها أنه على الموظف الذي يشتغل على نحو متّصل مع موظفات أن يرضع من أحد ثديي كل منهن (إن لم يكن من الثديين كليهما) حتى يمسين بمثابة الأمّهات له وحتى يعصم بالتالي نفسه ويعصمهن من الإثم الأكيد، بناءا على أنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. طافت بذاكرتي لحظتها صدور زميلاتي في العمل وتخيلتني لحظة في وضع الرضيع شاربا حليبي الصباحي من ثدي إحداهن قبل إشعال سيجارتي الأولى وترشّف قهوتي السوداء الحلوة. ورغما عنّي، حلّقت مخيّلتي الشقية بعيدا ثم حطّت على صدر رحب لزميلة محجّبة عزمت بيني وبين شيطاني على مفاتحتها في الموضوع حال عودتها من إجازة الولادة.
وتساءلت بدوري عن صروف هذا الزمان العجيبة التي تجعل شيخا ورعا ووقورا يتجاهل الكتابات الأدبية (حتى وإن كانت مستهترة. ليقرأْها أوّلا ثمّ يحكم عليها، قلت في نفسي متعاطفا مع صديقي الكاتب، ألسنا أمة كتاب قبل أي شيء آخر؟!) ليمضي جزءا من وقته ومن تركيزه في مشاهدة قنوات "الشوبيز" التي تبث كليبات الأغاني الخفيفة واهتزازات الراقصات على إيقاعات ممجوجة من فرط تكرارها. وقلت لصاحبي الكاتب المقهور حين لقيته بعد ذلك (مسلّحا هذه المرة بمعلومات المقال الصحفي وبأفكاري الثمينة التي ستمنعه من رميي بالسذاجة مرة أخرى) أن أولئك الشيوخ يبحثون بدورهم عن النجومية وعن الانتشار الواسع ولذلك يركبون (لغويا على الأقل) ظهور المغنيات-النجمات غير المحتشمات حتى تضرب سمعتهم (الحسنة طبعا) كافة الأصقاع وتتناقل وسائل الإعلام أسماءهم وفتاواهم فتتضاعف أجورهم وتتزاحم عليهم القنوات وحتى المواقع الإلكترونية. فقد كتب صاحب المقال المذكور أن عددا من أولئك الشيوخ قد "تعنكبوا" و"تفسبكوا" (أي أصبحت لهم مواقع وحسابات على شبكة "الأنترنيت" العنكبوتية وعلى "الفايسبوك"، إلى درجة أن أحدهم قد اختير من قبل شبان بلاده « الشخصية الوطنية الأولى لسنة كذا »...عفوا، الثالثة في الواقع...أي مباشرة بعد رئيس تلك البلاد وحرمه المصون طبعا). تحمّس الصديق الكاتب لحديثي هذه المرّة وأضاف مؤكّدا أن أولئك الشيوخ مرضى نفسيون (واضح أن نقمته عليهم بلا حدود) إلى درجة تجعلهم يقترفون سرّا كل الخطايا والرذائل التي يرجمونها علنا أمام كاميرات الفضائيات. وضرب لي على ذلك مثلا من خلال سيرة شيخ فضائي يحسبه جل المشاهدين العرب نموذجا أعلى للتفقه والتقوى ويسألونه بإجلال خاشع عن كل أمور دينهم ودنياهم، والحال أنه منافق من الطراز الأوّل. فهو لا يكف عن سب "الغرب" باعتباره موطنا للفساد والرذيلة اللذين لا شفاء منهما ولكنه في الوقت ذاته يملك قصرا منيفا في قلب واحدة من أشد عواصم الغرب الفاسد فسادا، يأوي فيه نساءه الأربع، فضلا عمّا ملكت أيمانه من الرقيق الأبيض والأصفر والبنّي ومن باقي ألوان قوس قزح (أو "حزام فاطمة" كما كانت تقول جدتي). كما أنه سجّل أبناءه الكثر في أكبر وأعرق المدارس والجامعات الأمريكية التي تخرّج منها على مرّ الأجيال من يسمّيهم ذلك الشيخ نفسه (حين تسمح له بذلك سياسة الدولة التي يتكلّم من شاشتها) « أعداء أمّتنا الكفرة الحاقدون ».
اندفعت بدوري متحمسا أكثر فأكثر وألقيت على الطاولة (الخالية من قهوة قد يكون عليّ سداد ثمنها، وهو ما زاد في جرأتي) بالفكرة (الفرويدية) التالية : أن أولئك الشيوخ، حتى وإن كانوا أتقياء بحق، يجدون في الحديث عن الفساد والغرائز والشذوذ والانحلال ضربا من اللذة اللفظية التي يعوّضون بها عن القحط الجنسي الذي يعيشونه حتى لو تزوّجوا من النساء أربعين بدل الأربع اللواتي أباحهن لهم الشرع الحكيم. وضربت على ذلك مثلا استحضرته لحظتها بالذات. فقد كان يدرّسنا في بداية الثمانينات أستاذ (وإمام جمعة) مادة تسمّى التفكير الإسلامي. وكان عنوان درسنا « الإسلام والمذاهب الإلحادية ». كان ذلك في الواقع إبّان تولّي مقاليد التربية من قبل وزير ذي نزعة إسلاموية وقوموية. وقد استغل ذلك الوزير نقمة الرئيس المريض بورقيبة على الشباب اليساري الذي ملأ أرجاء الجامعة ليفيض عنها في الشوارع غاضبا ومن هناك إلى السجون متمرّدا، ليصوغ (الوزير) برامج التعليم على نحو يمكّن من اجتثاثهم إيديولوجيا، حتى لا تتحمّل الدولة أعباء إيوائهم السجون القديمة أو بناء أخرى جديدة (ومن طريف الأمور أن تلك السياسة "الحصيفة" قد ساهمت في خلق شباب إسلاموي ساهم بدوره في ملء تلك السجون، بقديمها وجديدها، ليجيء فيما بعد وزير آخر صاغ برامج التعليم على نحو يمكّن من اجتثاث تلك الآفة الجديدة... وهكذا دواليك...). كان الملاعين المستهدفون في ذلك الدرس ثلاثة من عتاة الملاحدة: داروين وماركس وفرويد. لكن أستاذنا الجليل كان يمرّ بسرعة (ليس أكثر من حصّتين) على الملحديْن الأوّليْن (قائلا لنا مثلا أن ماركس كان يحقد على الرأسمالية وعلى الدين لسبب شخصي تافه واحد وهو أنه تبارز في مطلع شبابه مع رأسمالي من بلدته معروف بورعه فجرحه هذا الأخير بالسيف في وجهه ممّا جعله يطلق لحيته الكثة تلك ليغطّي ندبته -لم يكن الطب التجميلي متطوّرا أيامها- ويكرّس باقي حياته للتعدي على الدين ولمحاولة تحطيم الرأسمالية التي كان الإسلام من أوّل المنادين بها مع تلطيفها بالزكاة والصدقة وغيرها)، ليمرّ بنا بسرعة ملهوفة إلى ثالث الملحدين، إلى فرويد وبئس (أو نِعْم؟) الملاحدة. كان الرجل يطنب في التنديد بولع الطبيب النمساوي بأمور الجنس وخباياه وكيف أنه ينفرد بمريضاته الشابات الجميلات مهيضات الجناح فيمدّدهنّ على أريكته الوثيرة والشهيرة وينوّمهن بمعسول كلامه الذي يقطر إثما وشهوة وربّما ببعض الأدوية المخدّرة. ومن يدري ما الذي يفعله بهن في الأثناء؟ ألن تمتدّ يده المجرمة إلى...ويغمز الأستاذ بحياء محاولا عدم إطالة النظر في صدور الفتيات الأربع اللواتي كن يدرسن معنا، في ذات الوقت الذي يلمع فيه خط صغير من لعابه يسيل بخجل في ركن قصي من شفتيه المرتعشتين سخطا على ذلك الطبيب اليهودي والملحد الذي جاء نقمة على البشرية جمعاء. وكنا من جهتنا (بعضنا على الأقل) نستمتع على نحو مضاعف بذلك الدرس : بالاستيهامات الجنسية التي كانت تبعثها في أخيلتنا المراهقة تلك الصور التي كان الأستاذ يدعونا إلى الإطلال عليها، وبالحالة (الحليلة) المثيرة للشفقة التي كان المسكين يؤول إليها، إذ لم يكن من العسير علينا فهم ما كان يتخبّط فيه من تمزّق بين التلذذ والسخط، بين الروحاني والجنساني.
عند نطقي بهذا الثنائي اللفظي الذي أعترف الآن أنه لم يكن يخلو من تقعّر، اقترب منا شاب كان يجلس إلى طاولة قريبة ويستمع إلينا بانتباه واضح جعل صاحبي الكاتب يرتاب في أمره ويرمقه بنظرات حارقة (فصديقنا مصاب بداء "الفليكوفوبياء"، أي الخوف العصابي من الملاحقة البوليسية، وهو مرض- عافانا اللّه - منتشر على نحو لا بأس به في صفوف فئة من المثقفين اليساريين الذين لا نسبة ولا مناسبة بين أقوالهم وأفعالهم). قدّم لنا الشاب نفسه على أنه باحث في أنثربولوجيا الأديان مضيفا أنه بصدد إنجاز أطروحة حول علاقة الجنسي بالمقدّس في تمظهراتها اليومية والشعائرية، وذاك ما جعله يهتم بحديثنا رغم طابعه الساخر. بعد مساءلات عسيرة امتحنه بها كاتبنا المتأفف من وضعه، ليتأكد من أن الشاب ليس عون أمن مدسوسا علينا، سمحنا له بمجالستنا ليبسط علينا الخطوط العريضة لما كان ينوي الاشتغال عليه رغم أن خطاطة بحثه لم تكن قد توضحت بعد في ذهنه كما اعترف لنا بتواضع جم.
قال أن فكرة ذلك البحث قد انبجست في ذهنه لمّا كان يقرأ كتابا مترجما عن الأساطير السومرية والبابلية ولاسيما أسطورة (أو بالأحرى ملحمة) إينانا ودوموزي (عشتار وتموز) الشعرية (ص.ن. كريمر، إينانا ودوموزي. طقوس الجنس المقدّس عند السومريين، ترجمة نهاد خياطة، مكتبة السائح، طرابلس-لبنان، 1987) وأن ما شد انتباهه فيها، وربما أيضا ما جعلها تخلد وتظل متداولة على مرّ الأزمان في نظره، هو ذلك التلازم الحميم فيها بين البعدين الجنسي والمقدّس. وقد رصد مستويات عدّة لذلك التلازم ذكر لنا اثنين منها: مسألة مضاجعة المحارم (أو بالأحرى الأقارب، لأنهم لم يصبحوا "محارم" إلا بعد انبثاق فكرة "التحريم") بما هي سؤال قلق ستطرحه كل حضارة بطريقتها المخصوصة على نفسها وعلى مرجعياتها، ومسألة البغاء والبغاء المقدّس تحديدا، وهو ما قال أنه سيفرد له فصلا تحت عنوان: « المضاجعة في المعبد، من مضاجعة المعبد إلى مضاجعة الآلهة ». في المستوى الأول هناك تلك العلاقة الملتبسة بين البطلين الذكري والأنثوي للملحمة، أوّلا، يتراوح كل منهما بلا انقطاع بين دور ذكوري ودور أنوثي عبر مختلف الرموز المادية التي يسيطران عليها وعبر المواقع التي يحتلانها تباعا (الزراعة، السلطة، الظلمات والنور، المعبد الخ..)، وثانيا، تنتقل العلاقة بينهما من قرابة من الدرجة الأولى كما يقول المغفور له كلود-ليفي ستروس (إينانا-عشتار هي أخت دوموزي- تموز) إلى علاقة جنسية (الحبيبة أوالخليلة أوالزوجة أو الثلاثة معا). أما في المستوى الثاني فإن باحثنا الشاب منشغل بتلك المنزلة الأساسية للبغايا المقدسات اللواتي يعج بهن معبد الآلهة (البانتيون) السومري. بحيث لا يكون التعبّد تعبّدا إلا إذا ما مرّ بالفعل الجنسي وتحقق فيه، في لحظة نشوته القصوى أو "الأورغازم"، ولا يكون الجنس جنسا ولا الأورغازم أورغازما إلاّ إذا كان في حد ذاته فعلا تعبديا صرفا. وقرأ علينا من الكتاب الذي كان يحمله جزءا من قصيدة متبوعا بفقرة تعليقية مقتضبة، وقد أدخلا على نفوسنا الكثير من البهجة:
« أنت، لأنك تحبني،
أيها الليث، امنحني بركة ملاطفاتك،
الرب إلهي، الرب عفريتي الصالح،
مليكي شوسن هو الذي يدخل المسرة على قلب إنليل
امنحني بركة ملاطفاتك...
كما تشير الأبيات الأخيرة من هذه الغنائية الطافحة بالنشوة، إلى أن هذه العذراء ليست من عامة العذارى اللائي يبحن بحبهن لحبيب عادي، بل هي من اللائي يعبدن إلهة الحب – الشاعر القديم يسمي ذلك "بلبال إينانا"- ويغنّين اتحادا سريعا بالعريس، الملك شوسن الذي يدخل المسرة على قلب إنليل، أو جِماعا من شأنه أن يعود بخير الإلهة على البلاد والناس. لقد بدا شوسن (الملك-الإله-العاشق)، وهو في هذا لا يختلف عن سليمان الذي جاء متأخرا عنه جدا، وكأنه يتمتع بأفضلية عظيمة لدى "سيدات الحرملك"، وكن البغايا المقدسات والعابدات اللائي يشكلن الهيئة الدينية لعبادة إينانا-عشتار » (كريمر، المرجع المذكور أعلاه، ص ص 136-137). ولاحظ باحثنا النبيه إلى أن الألوهة ذاتها دائمة التراوح بين الذكورة والأنوثة، وربما ميالة إلى هذه الأخيرة أكثر قبل أن تعيث فيها الأديان التوحيدية (في بعدها المتصلّب على الأقل) اختزالا، لترسّم وترسّخ نهائيا صورة الإله-الذكر-الأب قياسا طبعا على صورة الحاكم-الأب-الفحل الذي مازالت شعوبنا المسكينة تعاني من سطوته حتى يوم الناس هذا، ولا أدل على ذلك من هذه الحماسة "المازوخية" التي تستجدي بها الجموع العربية حكامها للبقاء دوما على رؤوسها...(هنا لكزه صديقي الكاتب بقوّة في مرفقه ملتفتا بجزع ذات اليمين وذات الشمال، ودعاه إلى خفض صوته).
نفس هذا التلازم نجده حاضرا بقوة في طقوس الأزتيك القدامى (ثنائية الثعبان والطائر أو الأرض والسماء التي يجسدها كيتزلكوتل – الثعبان ذو الريش- في اختزاله الإشكالية للذكورة والأنوثة متمازجين ومتصارعين في آن واحد، وهو ما انشغل بالتعبير عنه الروائي البريطاني العظيم د.ه. لاورنس في "كتاباته المكسيكية" ولاسيما في رائعته الثعبان ذو الريش) كما في ممارساتهم اليومية التي مازالت بعض آثارها قائمة حتى يومنا هذا (قال لنا الفتى أن الجامعة –الفرنسية- التي ينجز فيها بحثه ستمكّنه قريبا من إقامة مدّة أشهر بالمكسيك لمزيد التعمق في هذه النقطة. وقد حسدناه على ذلك بكل ما نملك من حماسة عربية أصيلة).
وقد تواصلت هذه الوحدة الصماء بين البعدين الجنسي والقدسي خلال كل التراث الإنساني، بدءا من نشيد الإنشاد للملك-النبي سليمان مرورا بالإغريق (العلاقات الجنسية بين الآلهة والبشر ومختلف أشكال الغيرة والصراع والمكائد وأنصاف الآلهة التي تترتب عنها- عوليس مأخوذا بين أحضان الإلهة الشهوانية كاليبسو...) ووصولا إلى الأديان التوحيدية الثلاثة. في العهد القديم مثلا (وبقطع النظر عن حكاية يوسف مع زليخة-الزوجة الشابة والشهوانية لحاكم مصر الهرِم) هناك مشهد لا يفتأ يتكرّر: نبي من بني إسرائيل يسير مهموما هائما على وجهه ولاعنا حظه التعس بسبب رفض قومه له أو لخوفه عليهم من آفة ربانية ستلحق بهم لجهلهم وعنادهم، أو ماضيا هكذا في حال سبيله، بحثا ربما عن بئر يشرب منها أو عن شجرة يقطف ثمارها خلسة، وفجأة تشق طريقه فتاة (مراهقة غالب الأحيان) حسناء تميّل عودها الأهيف الطري أمام ناظريه وتهديه رغيفا أو تروي عطشه بشربة باردة من الجرّة التي تحملها فوق رأسها، قبل أن ينزوي بها ويضاجعها فيفضّها وتحمل منه (هكذا بكامل السرعة ومرّة واحدة، أية فحولة لدى هؤلاء!!) وبعد الزمن المقيّض بيولوجيا تنجب الفتاة نبيا صغيرا سرعان ما يكبر ليتخاصم بدوره مع قومه لسبب ما ويهيم على وجهه في البراري و...
أما في العهد (الإنجيلي) الجديد فإن المسيح (وإن لم يكن على ما يبدو مغرما كثيرا بممارسة الجنس) قد ظل طوال حياته القصيرة مشدودا إلى امرأتين يملأ الجنس حياتهما على هذا النحو أو ذاك، أو لنقل بين "مريميْن"، بين أمه التي تحوم حولها الشبهات خصوصا حين تعود (وهي التي يفترض أنها "عذراء") بهذا الوليد الذي لا يعرف له أحد أبا والذي يشرع فورا في الدفاع عن شرف أمّه المستباح (فهي أساسا وقبل كل شيء أمّه، بقطع النظر عن كل الاعتبارات الأخلاقية اللاحقة)، وبين مريم الأخرى، المجدلية، المومس التي يستمتع الجميع بجسدها سرّا ويرجمها الجميع جهرا والتي لا تجد لها نصيرا سوى ذلك الشاب اليتيم الذي يحميها بصدره النحيل صائحا بتهوّر أكيد: « من كان منكم بلا خطيئة فليرم هذه المرأة بحجر ». تلك العلاقة التي أبدع اليوناني نيكوس كازنتزاكيس في التعبير عنها من خلال روايته الفذة غواية المسيح الأخيرة. واستغل صديقنا الكاتب هذه الإشارة العابرة إلى فن الرواية ليسأل متطاوسا الباحث الشاب عما إذا كان قد قرأ روايته، وليؤنّبه إذ أجابه بالنفي ويحرّضه بشدة على الإطلاع عليها في أقرب وقت ممكن، ولم لا الكتابة عنها إذ هي على حد قوله تنخرط تماما في سياق بحثه الأنثروبولوجي.
وحدّث بعد ذلك بلا حرج، واصل باحثنا مبتسما، عن الإسلام وعمّا فيه من حضور طاغ للجنس والجنسانية (وقد رصدها على نحو موسوعي مستفيض عبد الوهاب بوحديبة في مؤلّفه المرجعي الجنسانية في الإسلام، وإن كان محدّثنا الباحث يعيب عليه كما قال طابعه التبريري الدفاعي عن الإسلام في غير ما موضع) فمحمّد كان مضاجِعا من الدرجة الأولى لا يفوّت فرصة لإشباع شهواته الفائرة التي تتجدد بلا توقف حتى قيل عنه أنه وحّد القبائل (ولم لا الأمم أيضا) بـ....ـه. وسرد علينا الباحث الأنثربولوجي المتحمّس أمثلة عدة استقاها من كتب الحديث والسيرة (ولا سيما من تاريخ الطبري) عن نساء جئن محمدا يستشرنه في أمر من أمورهن فبادر فورا إلى الزواج منهن أو إلى ضمهن إلى ما ملكت أيمانه. ناهيك عن القصة الشهيرة التي بسببها وقع تحريم التبني في الإسلام والتي تفيد وقائعها أن محمدا قصد دار زيد، ولده بالتبني، لأمر من الأمور قد يكون المصالحة بينه وبين زوجته الشابة. وإذا بهذه الأخيرة تستقبله (عن حسن نية طبعا، فهو في النهاية "عمّها" أي أبو زوجها) في لباس خفيف يكشف الكثير من مفاتن جسدها الغض. فما كان منه إلا أن قرر الزواج منها، مما حتّم عليه أن يحرّم التبني (تذكرت من جهتي أن هذا الأمر كان اعترضني أيام الدراسة الثانوية على لسان ذلك الأستاذ المعادي للتحليل النفسي ولفرويد شخصيا، فقد روى لنا هذه الحكاية نفسها حين كان يفسّر لنا الآية الكريمة « ولمّا قضى منها زيد وطرا زوّجناكها » وتلعثم بعض الشيء إذ حاول أن يطرد من أعيننا نظرة الاستنكار التي رمقْنا بها الحادثة، كان ذلك بمناسبة سؤال وجّهه له زميل لنا، وكان ولدا بالتبني لتاجر في قريتنا معروف بالاستقامة والطيبة، عما إذا كان يحق لأعمامه أن يحرموه من ميراث والديه الذين توفيا معا في حادث أليم). أما عن الجنة كما صوّرها القرآن، أضاف محدثنا، فهي في الواقع أشبه بنزل من فئة العشرة نجوم يقع في مرج أخضر لا متناه تسيل فيه كافة أصناف الشراب أنهارا ولا شغل فيه للمؤمنين سوى الإشباع المتصل (أبديا، إذ لا زمن هناك ولا يحزنون) لشهواتهم الغذائية وخصوصا الجنسية. فالكواعب الأتراب وحوريات العين لا يحصى لهن عدد وهن كلهن عذراوات مليحات تنظر إلى الواحدة منهن فتنسيك أمر الأخرى بحيث ما عليك سوى أن تشمّر على ...ـك و"ذراعك يا علاّف"، مع علمك سلفا بأن التي تنهض من تحتك سرعان ما تعود عذراء كما جاءتك وهكذا...
شعرنا بأن باحثنا الشاب قد فقد زمام حديثه، ربما بفعل السحر الذي مارسه عليه تصوير الجنة (كما مورس من قبل على أبي العلاء وعلى غيره من الشعراء والناثرين القدامى وحتى المحدثين، وإن كان هؤلاء الأخيرون مكممين في هذا المجال)، فأعدناه إلى الجادة عبر سؤاله عما إذا كان ينوي النبش في تربة العلاقة بين الجنسي والمقدس لدى المتصوّفة نصا وممارسة. فتنهد وطلب قارورة ماء مثلجة ليطفئ لهيب الشهوة التي تأججت فجأة في جسمه الفتي، وقال أن ذلك أمر قد يستدعي أن يفرد ببحث، بل بأطروحة قائمة بذاتها لما فيه من ثراء وتشويق. ولكن يكفيه الآن أن يقول لنا أن التوحّد بالله كما وصفه أقطاب المتصوفة الكبار من ابن عربي إلى الحلاج إلى البسطامي إلى رابعة العدوية (ذلك التوحد الذي يعبّر عنه بعض الفلاسفة، مع عدد من الفوارق المؤكدة، بوحدة الوجود) فإنه، كما يدل على ذلك عدد لا يحصى من الأدلة النصية، لا يعدو أن يكون توحّد الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى في سكرة "الأورغازم" (وبدا واضحا أن صاحبنا كان يعشق هذا اللفظ الفرنسي تحديدا إلى درجة رفض ترجمته - وهو لعمري معذور، إذ أننا لا نملك في لساننا على حد علمي لفظا يستوفي شحنته الدلالية التي ينصهر فيها الروحاني بالجسماني في لحظة قصوى عصية على الإمساك). أما عن الأولياء والوليات (الصالحين والصالحات) وأصحاب الطرق والكرامات، فقد بيّن الباحثون (ومنهم خصوصا المؤرخ التونسي الجاد لطفي عيسى) أن حياة الزهد التي يعتقد عامة الخلق أنهم كانوا يمارسونها ليست سوى وليدة هالة التقديس والطهرانية التي يريدون إسباغها عليهم. فحياتهم وحياتهن الجنسية كانت مليئة بالمغامرات الشيقة وبشتى اللذائذ...هنا اعتذر لنا صديقنا الجديد، فقد رن هاتفه الجوال فتكلّم فيه هامسا مبتسما وأعلن أنه يتوجب عليه أن يمضي سريعا. وغمزنا بتواطؤ منشرح جعله يتكرّم بتسديد ثمن كل ما شربناه في الأثناء.
حين انفردت مجددا بصديقي الكاتب المنكود الحظ، كانت في الأثناء قد تخمرت بداخلي فكرة هممت باقتراحها عليه ثم تراجعت عن ذلك بكامل الأنانية قائلا بيني وبين نفسي: ولم لا أحتفظ بها لنفسي فأستفيد من ريعها المحتمل؟ كنت أنوي أن أحثّه على نسيان أمر روايته الأولى وعلى كتابة واحدة ثانية يكون بطلاها ذلك الشيخ الفضائي الورع وتلك المطربة الفضائية اللذيذة على أن يتوحّد مصيرهما في النهاية (بعد قصة كراهية عنيفة تنتهي طبعا بلحظة حب أعنف) ليحلّقا سويا اليد في اليد في سماء فضائياتنا العربية الفتّانة، التي ترضعنا إعلاما ديمقراطيا جادا ورصينا، نجمين ساطعين متلألئين ببريقي القداسة والجنس وما يتخللهما من شهرة أوسع ومن مال أوفر...أليست هذه فكرة عبقرية؟!!


.

صورة مفقودة
 
أعلى