محمد الشرشابي - الثقافة الجنسية والثقافة الفقهية

لم تنتابني مشاعر القلق والارتباك التي تصيب الكثيرين عند تعرضهم لقضية الثقافة الجنسية، ذلك أنني أنظر إلى القضية من وجهة نظر تختلف كثيرا عن وجهات النظر الأخرى.
ومرَدُّ ذلك أنني أزهري النشأة، وهذا يعني أنني بكَّرْتُ بتعَلُّم العلوم الدينية، فكنت أدرس الفقه المالكي عندما كنت في الصف الأول الإعدادي في كتاب "شرح متن العشماوية" في فقه السادة المالكية، ومع بداية الدراسة في باب الطهارة وبالتحديد فيما يتعلق بنواقض الوضوء، يقول الشيخ الإمام العالم العلامة عبد الباري العشماوي الرفاعي، رحمه الله تعالى: "اعلم وفقك الله تعالى أن نواقض الوضوء على قسمين: أحداث، وأسباب أحداث، أما الأحداث فخمسة: ثلاثة من القبل وهي: المذي، والودي، والبول، واثنان من الدبر: وهما الغائط والريح، وأما أسباب الأحداث فالنوم وهو على أربعة أقسام: طويل ثقيل ينقض الوضوء، وقصير ثقيل ينقض الوضوء أيضاً، قصير خفيف لا ينقض الوضوء، طويل خفيف يستحب منه الوضوء، ومن الأسباب التي تنقض الوضوء، طويل خفيف يستحب منه الوضوء، ومن الأسباب التي تنقض الوضوء: زوال العقل بالجنون، والإغماء والسكر وينتقض الوضوء بالردة وبالشك في الحدث وبمسِّ الذكر المتصل بباطن الكف أو بباطن الأصابع أو بحميتها ولو بأصبع زائد إن حس، وباللمس وهو على أربعة أقسام: إن قصد اللذة ووجدها فعليه الوضوء، وإن وجدها ولم يقصدها فعليه الوضوء، وإن قصدها ولم يجدها فعليه الوضوء وإن لم يقصد اللذة ولم يجدها فلا وضوء عليه، ولا ينتقض الوضوء بمس دبر، ولا بمس فرج صغيرة ولا قيء ولا بأكل لحم جزور ولا حجامة ولا فصد ولا بقهبهة في صلاة ولا بمس امرأة فرجها وقيل: "إن ألطفت فعليها الوضوء".
كان هذا المتن مصحوبا بالشروح التي من شأنها أن تبني عندنا وفي سن مبكرة، لا أقول ثقافة جنسية لأنها لم تكن كذلك، بل كانت ثقافة فقهية أدت الذي من أجله يطالب التربويون بتدريس الثقافة الجنسية.
تضاف إلى ذلك قدرة مدرس المادة وقتها - أستاذي فتح الله الطوخي أمد الله في عمره - على التبسيط والتمهيد والتوطئة والتيسير، بالتلميح حينا وبالتصريح في أحيان كثيرة، لكنه تصريح يضمن لقاعة الدرس وقارها وله هيبته ومكانته، ربما لم يخل الأمر من مزاح في بعض الأحيان، لكنه مزاح المعلم المدرك أين يوجه مزاحه وكيف يستفيد منه؟.
ومع الانتقال للمرحلة الثانوية جاء التوسع في دراسة أبواب الطهارة في السنة الأولى والنكاح في السنة الثانية والزنا واللواط ضمن باب الحدود والكفَّارات في السنة الرابعة، من خلال كتاب "الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك"، تأليف العلامة أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدرديري العدوي، وبالهامش حاشية العلامة الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي.
وعَبْر هذه الرحلة التي امتدت إلى سبع سنوات ومن خلال الكتب الفقهية، لا أظن أن شاردة ولا واردة فيما يطلقون عليه اليوم الثقافة الجنسية، إلا وقد ألممت بها أنا وزملائي، في إطار لم يجعل أحدا يعترض عليها، لأنها وبمنتهى البساطة تم تدريسها في إطار فقهي محترم، يقدم المعلومات بصورة لا تثير الغرائز ولا تخدش الحياء، بل على العكس، تقدم هذه الصورة نموذجا للتثقيف التوعوي المحترم الذي يهذب الغريزة ويعَمِّقُ الحياء بوضعه النقاط على الحروف المجهلة، وبتقديمه إجابات علمية لكثير من التساؤلات التي ربما تدور في ذهن المراهق ولا يجد لها إجابات، لو لم يجدها لأجهد نفسه في البحث عنها حتى لو قادته رحلة البحث إلى مناطق محرمة، فلا يلبث إلا وقد انجرف فيها، إلى غير عودة أو أمل في الرجوع.
لكن يعيب الثقافة المعاصرة أنها تهرب من تسمية الأشياء بمسمياتها إلى أسماء ربما لا تحمل نفس الدلالة المبتغاة من التسمية الأصلية، وذلك بزعم أن الأسماء الحقيقية قد تحمل نوعا من الإساءة أو جَرْح المشاعر، لكن الذي لا يدركه هؤلاء أن تسمياتهم البديلة سرعان ما تحمل نفس المعاني التي هربوا منها، وعندها سيجدون أنفسهم مضطرين لتغيير الاسم مرة أخرى وسوف يظلون هكذا إلى ما لا نهاية.
أذكر مثلا أنه في وقت ما رأى بعض مدعي الثقافة أن كلمة معوق تحمل في طياتها إهانة ضمنية لهذه الفئة من الناس، فعدلوا عنها إلى ذوي الاحتياجات الخاصة، وبعد فترة رأى آخرون أن في كلمة ذوي الاحتياجات الخاصة ما رآه غيرهم في كلمة معوق، فقرروا أن يعدلوا عنها هي الأخرى إلى كلمة مُتَحَدِّي الإعاقة، وهكذا في كثير من الأسماء التي فرَّغُوهَا من مضامينها بسبب كثرة التسميات التي يطلقونها عليها.
هذا الحال يتشابه كثيرا مع اللغط الاجتماعي الذي صاحب الدعوة لتدريس ما أطلقوا عليه الثقافة الجنسية، حيث كانت كل الاختلافات مركزة على التسمية دون أن يلتفت أحد إلى أهمية ما وراء هذه التسمية.
ودعونا نبدأ بما أسلفناه، بعد مقارنتنا بين منهج الفقه الإسلامي في طرح القضايا الجنسية على طلاب العلم، والمناهج المطروحة حديثا لتدريس الثقافة الجنسية، أظن أن النتيجة المرجوة ربما تكون واحدة، لكن الوسائل المؤدية إليها متباينة، لدرجة أنها قد لا تلتقي عند نقطة واحدة وبالتالي من المستحيل أن يصلا إلى نتيجة واحدة.
الفارق من وجهة نظري، يكمن في أن تدريس الثقافة الجنسية على أنها مادة مستقلة بذاتها سوف يفتح الكثير من الأبواب أمام فتن نحن في غنى عنها، وهذا لا يعني أنني ضد تدريس الثقافة الجنسية، فأنا من أشد المؤيدين لفكرة أن يكون الشباب مُلِمًّا بالقضايا الجنسية، خاصة إذا ما وضعنا في اعتباراتنا أن معظم الشباب يقضون جل أوقاتهم، وقد لا أبالغ إن ادعيت أنهم يقضون كل أوقاتهم، في التفكير أو الحديث عن الجنس، وهو ما يبدد الكثير من الطاقات التي كان يجب أن تستغل لو أن هؤلاء الشباب تم توجيههم بالصورة التي تضمن تهذيب توجهاتهم الجنسية، ضمانا لعدم الجنوح إلى مناطق محظورة أو محرمة، وبالتالي فإن المسألة لا تحتاج أكثر من إعداد خريطة تربوية تتمكن من توزيع ما يطلقون عليه الثقافة الجنسية على المناهج بطريقة تضمن تقديمها للدارسين بشكل غير مباشر، حتى تحقق النتيجة المرجوة وتمكن الاستفادة منها في ترشيد طاقات الشباب.
وما دُمْنَا نبحث عن طريقة مثلى لتبصير الشباب بما يجب أن يتعلموه من الثقافة الجنسية، فإني أدعو جميع التربويين من خلال هذا المنبر الإعلامي، إلى الاسترشاد بالمدارس الفقهية التي تمكنت من تقديم أروع النماذج لتدريس الثقافة الجنسية، دون أن تحمل بين طياتها ما يمكن أن يعتبره البعض خادشا للحياء أو مثيرا لكوامن الرغبات عند الشباب.



.

صورة مفقودة
 
أعلى