مهند مبيضين - العشق والحب في الثقافة العربية

هل كان الإسلام بعيداً عن السلو، بمعناه الروحي، أم إنه سمح به، وفق محددات؟ وهل يمكن للمسجد أن يكون ناقلاً للمعرفة، أي معرفة غير الوعظ والحديث عن العبادات؟ فما كان حادثاً قبل ألف عام يؤكد أن تجربة الإسلام في سياق الفعل المعرفي هي أفضل مما نحن عليه اليوم.
مبتدأ الحديث في الإجابة عن تلك الأسئلة.. كلمات قالها عاشق، يوماً ما، وما زالت تصدح في زماننا مغناة، ومنها:
«لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم... ورحلوا فسارت بالدجى الإبلُ
وقلّبت من خلال السجفِ ناظرها... ترنو إليّ ودمع العين منهملُ
وودعت ببنان عقدُها عنمٌ = ناديت: لا حملت رجلاك يا جملُ
ويلي من البين ماذا حلّ بي وبها = يا نازح الدارِ حُلَّ البينُ وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي أودعها = يا راحل العيس في ترحالك الأجلُ
إني على العهد لم أنقض مودتكم = فليت شعري وطال العهد ما فعلوا»
وما سبق من قول هو لشاب وُصف أن دخل ديراً، ومكث فيه وقد فارقته حبيبته، ذات يوم، وهو في الوصف «شاب مكحول العين، حسن الوجه، مرجل الشعر، أنشد ما سبق في لوعة الغياب لمحبوبته، التي عانى من فراقها الكثير، ووجدها صاحب كتاب ’مصارع العشاق‘ جديرة بأن يضمنها لكتابه، إنها مدخل في اغتراب المعشوقة، تتجاوز الوقوف على الطلل، وتنأى بالنفس عن الوصف للجسد، وتحل وتهيم في الغياب الموجع الذي اكتوى به العاشق، ومن يطالع الكتاب يجد قصصاً مليئة بهذا اللون من العذاب».

العاشق ابن السراج
إبان نهاية القرن الخامس الهجري، وتحديداً في السنوات الممتدة بين عامي 419 و500 للهجرة، عاش ـ في بغداد ـ المحدث والحافظ جعفر بن أحمد بن الحسن السراج، الذي اشتهر في المشرق الإسلامي كونه صاحب علم واسع في الفقه الإسلامي، وأنه أحد محبي العلم والأدب. ولكن هذا الشيخ، الذي اتسع اهتمامه وعلمه في مختلف الحقول، كاد أن يكون مجرد أثر لولا كتابه الشهير: «مصارع العشاق».
وعنوان الكتاب دال على محتواه، فهو يحدث القارئ عن أخبار أهل العشق ونوادرهم، في زمن كانت البلاد الإسلامية عرضة فيه لخطر الغزو الخارجي الفرنجي، الذي انتهى بسقوط القدس، عام 492 هـ، أي قبل وفاة المؤلف بثماني سنوات.
أشاد معظم كتاب التراجم بشخصية السراج، وعدّوه من الأذكياء في مجتمعهم، أما الحديث الذي يجب أن يقود إليه مثل هذا المؤلف، فيمكن ابتداؤه بجملة من الأسئلة منها: ما موقع أدب العشاق في التراث الحضاري الإسلامي؟ وهل كانت لظروف العصر أن تحول دون هذا الأدب؟ وأين، ومتى، وكيف جاء تصنيف مثل هذا الكاتب؟
إن العصر الذي وضع فيه الكتاب هو العصر العباسي، ولكنه في المرحلة الأخيرة التي كانت تشهد ظروفاً سياسية ساخنة مليئة بالخصومات والخلافات، والقرن الذي عاش فيه المؤلف مليء بالأحداث الصاخبة ـ سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً ـ وزاخراً بالتقلبات.
أوضح السراج الغاية من كتابه الذي أراد فيه أن يجمع نوادر وقصصاً، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يحمل رسالة أخلاقية هادفة، عبر توظيف قصص العشق لتكون في خدمة العقيدة، وقد أشار باحثون عرب محدثون إلى أهمية استخدام القصص في استنهاض قيم دينية فيها من الوفاء والعفة الشيء الكثير.
تناول الكتاب قصص العشاق بقالب أدبي، وهو ليس الأول من نوعه في هذا الباب، فهناك كتب ومصنفات عدة، منها: كتاب «طوق الحمامة»، لابن حزم؛ وكتاب «الزهرة»، لابن داوود، ولكن ميزة كتاب «مصارع العشاق» في أنه ذو أثر مباشر أكثر من الكتب التي تلته أو سبقته.
يقدم جعفر السراج نفسه في هذا الكتاب عاشقاً عفيفاً كتوماً، ولذا حرص على نشر العفاف، ودعا العشاق إلى ممارسة العفة بشكل واضح، وطالب بكتمان العشق للارتقاء إلى الشهادة، والكتاب زاخر بالحكايات التي يرويها المؤلف بأسلوب أدبي رشيق، ولها دلالاتها في المجتمع الذي انتشرت فيه، ويلاحظ على بعض الحكايات أن أبطال القصص من غير المسلمين.
السؤال: أين كان جعفر السراج يلقي دروسه في العشق؟
لعل الإجابة تبدو غريبة شيئاً ما، ففي زمن الحروب والتهديدات الخارجية، وأهمها غزو الفرنجة للقدس، كان السراج يتخذ من أحد مساجد بغداد مكاناً لإلقاء دروسه، ومنها نوادر العشاق وقصصهم.. كان المسجد المكان الذي احتضن بث مصارع العشاق في حلقة علمية، وكان المسجد ـ آنذاك ـ مكاناً لا يقتصر على خطب الدين ودروسه، بقدر ما كان يعد ملتقى للدارسين والباحثين، فاستوعب المسجد حديث العشق وأسرار الوجد كما استوجب حديث الفقه، وهذا ما يؤكد أن ذاك العصر أكثر رقابة مما نحن عليه اليوم في مساجدنا التي اقتصرت على بث خطاب الوعد والوعيد والتكفير.

درس العشق
يبدأ درس العشق في باب تعريف أصل العشق، وما ذكر فيه، فيسرد المؤلف جملة من التعريفات، ومما يرويه أن الخليفة المأمون سأل يحيى بن أكثم التميمي: والعشق؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه، وتؤثرها نفسه، فقال ثمامة النميري: اسكت يا يحيى، العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب تلك ملك مسالكه لطيفة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وأرائها، وأعطى عنان طاعتها وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه، فقال له المأمون: أحسنت والله، وأمر له بألف دينار.
ليس في الخبر عن العشق جمال المعنى، وحسب، هنا، إنما الجمال ـ أيضاً ـ في أن يجلس خليفة لحديث مثل هذا، ويوهب العطايا لمن يأتي بأفضل تعريف عن العشق.
وثمة تعاريف أخرى للعشق، ومنها أن أحدهم سأل: ما العشق؟ فأجاب آخر: الجنون والذل، وهو داء أهل الظرف، وهناك من قال: لو كان إلي من الأمر بشيء ما عذّبت العشاق لأن ذنوبهم ذنوب اضطرار لا ذنوب اختيار. وهناك من عرف العشق بأنه غلبة الهوى، وملكة النفوس، وهناك من يحيل العفة في جانب العشق أشبه بالشهادة؛ فعن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله: من عشق فظفر فمات، مات شهيداً؟
في الباب الثاني من الكتاب يقف المؤلف عند كل هذا العشق الذي صارعه نفر من العشاق، وهي حكايات يرويها جعفر السراج بقالب أدبي بسيط، يقصد فيها المؤلف بث رسالة في الأخلاق والعفة، ولكنه يبدأ ـ بعد ذلك ـ برواية أخبار للعشاق برواية عن الشيخة الكاتبة فخر النساء شهدة بنت أحمد بن الفرج بن عمر الأبري، وقد قرأت هذا الكتاب برحبة جامع القصر الشريف، في مجالس آخر سنة 573 هـ، وهذا الأمر يلقي الضوء على دور المرأة في حركة المعرفة والعلم في ذلك العصر. وفي هذا الفصل من الكتاب اقتراب شديد من العامة البغدادية، وهذا الاقتراب يتبدى في جملة من النصوص والحكايات التي تظهرها أحاديث العشاق عن الجواري والعامة، فمن القصص التي يرويها المؤلف عن جارية كانت ظريفة وتسكن المدينة، وهي حاذقة بالغناء، فهويت فتى من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها، فملها الفتى، وتزايدت هي في محبته وأسف فغارت فولهت، وجعل مولاها لا يعبأ بذلك، ولا يرق لشكواها، وتفاقم الأمر حتى هامت على وجهها، ومزقت ثيابها، وضربت من لقيها، فلما رأى مولاها ذلك عالجها فلم ينجح فيها العلاج فكانت تدور بالليل في السكك، بعد الأدب والظرف، قال: فلقيها مولاها ذات يوم في الطريق ومعه أصحاب له، فجعلت تبكي وتنشد شعراً تقول:
«الحب، أولَ ما يكون، لجاجة = تأتي به وتسوقه الأقدارُ
حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى = جاءت أمور لا تطاق كبارُ»
قال: فما بقي أحد إلا رحمها، فقال لها مولاها: يا فلانة، امضي معنا إلى البيت، فأبت وقالت: شغل الحي أهله أن يعارا.

فساق العشاق
يفرد جعفر السراج باباً لعقوبات فساق العشاق يورد فيه بعض الحكايات والنوادر التي تعرض لها من وصفهم بالفساق ممن أساؤوا للحب بأخلاقهم. وهذه القصص يحاول المؤلف فيها إثبات نية الحب العفيف في مقابل الحب الوضيع، الذي لا يقدم أي نماذج إيجابية، أو إنه لا يبث أي رسالة أخلاقية، غير أنه يوضح ـ من خلاله ـ ما قد يعرض للعشق من فساد بسبب تغليب الرغائب والغرائز الحيوانية، عند الإنسان، على القيم الإنسانية. والكاتب هنا يستذكر قصة الشاعر العباسي ديك الجن الحمصي.
ومن الروايات التي يذكرها السراج في كتابه هذا، ص 125، أن «لقمان بن عاد بن عاديا، وهو معمر جاهلي من ملوك حمير، كان مبتلىً بالنساء، وكان يتزوج المرأة فتخونه، حتى تزوج جارية صغيرة لم تعرف الرجال، ثم نقر لها بيتاً في صفح جبل وجعل له درجة بسلاسل ينزل بها ويصعد، فإذا خرج رفعت السلاسل حتى عرض لها فتى من العماليق، فوقعت في نفسه... قال: امرأة لقمان هي أحب الناس إلي، قالوا: فكيف نحتال لها؟ قال: اجمعوا سيوفكم ثم اجعلوني بينها وشدوها حزماً عظيمة، ثم ائتوا لقمان فقولوا إنا اردنا أن نسافر ونحن نستودعك على سيوفنا حتى نرجع، وسموا له يوماً، ففعلوا وأقبلوا بالسيوف... فدفعوها إلى لقمان فوضعها في ناحية بيته. وخرج لقمان وتحرك الرجل فخلت الجارية عنه، فكان يأتيها فإذا أمست بلقمان جعلته بين السيوف حتى انقضت الأيام ثم جاؤوا لقمان، فاسترجعوا سيوفهم، فرفع لقمان رأسه بعد ذلك فإذا أثر الرجل في البيت، فقال لامرأته: أثر من هذا؟ قالت: إنه أثري، فقال لها: افعلي مثله، وكان الأثر نخامة، وهي ما يخرج من الصدر والحلق من لعاب، ولما فعلت لم تكن تستطيع أن تأتي بما يشبه ذلك، فرمى بها لقمان من ذروة الجبل فتقطعت، وعندما نزل لقيته ابنة له يقال لها صحر فقالت: يا أبتاه ما شأنك؟ قال: وأنت أيضاً من النساء، فضرب رأسها فقتلها، فقالت العرب: ما أذنبت إلا ذنب صحر، فصارت مثلاً.
صحيح أن هذه قصص وأخبار سالفة، إلا أن المؤلف أراد بها أن يلقي الضوء على أخبار هؤلاء العشاق الفساق الذين ابتعدوا عن قيم الوفاء والمحبة الصادقة، مقابل قيم أخرى شاعت بفعل العفة والأنفة وفعالية النفس على الهوى.
بعد هذا يتحدث السراج في أبوابه التالية عن مصارع عشاق الطير، وعجائب محبي الله وكراماتهم، ومن صعق لوعظ معشوقة، ويتحدث في باب عن العافين الذين ظفروا بأحبابهم بعد أن أشرفوا على الإتلاف.


التاريخ : 21-10-2011
* العشق والحب في الثقافة العربية - د.مهند مبيضين


.
761234819cebe9df68a30dcfe1ec873d.jpg


.
 
أعلى