جودى مابرو - حريم الشرق وحريم الغرب!.. تصورات الرحّالـة الغربيين عن النساء فى الشرق الأوسط

مع أن كلمة "حريم" (من "حرام") تعنى حجرات البيت حيث يقيم النساء والأطفال ـ والتى يقْصَى عنها الرجال ما عدا الزوج وبعض الأقرباء المقرّبين ـ أو تعنى نساء البيت، فإن الطبعة الأولى من قاموس روچيه (Roget’s Thesaurus) عام 1852 أوردت كلمة "حريم" تحت كلمة (impurity) (دَنَس)، جنبًا إلى جنب مع كلمات مرادفة للمبغى.

شكّلت النساء المسلمات مؤخراً موضوع نقاش كثيف فى الصحافة الغربية، خاصة حين طالبت قلّة قليلة من الفتيات فى فرنسا وانجلترا بحقِّهن فى ارتداء غطاء الرأس فى المدرسة. ولقد عكس السجال الطويل والمرير الذى دار فى فرنسا والآخر المقتضب الذى دار فى انجلترا تلك النظرة الغربية المتأصلة التى ترى أن السبب الأوحد لاضطهاد النساء المسلمات هو دينهن. فلطالما "عرفت" أوروبا أن النساء المسلمات يعانين من الاضطهاد ما لا تعانيه غيرهن من النساء، فهذا ما وصفته كتب الرحلات الغربية والأدب العربى وما صوَّره الفن الغربى على مر فترة مديدة من الزمن. لذا فقد أُخِذَ الأمر على أنه واقعة لاشك فيها، ويمكن للجميع أن يروها متجلية فى الحجاب وفى مؤسسة الحريم، هاتان الظاهرتان لاتزالان تثيران اليوم ردود فعل قوية شأنهما فى أى وقت مضى.

والحجاب، الذى يطلقه الغرب على كلّ وشاح يغَطَّى به رأس المرأة، هو تعبير يمكن أن يضلّل ويسوق إلى تعميمات زائفة مغلوطة. لذا سرعان ما طَفَتْ على السطح مجموعة من الأفكار عن الإسلام والنساء المسلمات. ومن الأمثلة على ذلك أنّ مراسلاً لـ"الجارديان" قام بتحقيق عن حالة تلميذتين فى أولترنجشام ارتدتا غطاء الرأس، فطلب مقابلة والدهما لاقتناعه أن الإسلام دين يهيمن فيه الرجال وأنّ النساء المسلمات كائنات سلبية لا حول لها ولا قوة، غير أن إحدى الفتاتين قالت له إن والدها مشغول وعرضت عليه أن تساعده هى نفسها. ويقول هذا المراسل: "ومن ثم فقد ساعدتنى فاطمة طوال 40 دقيقة كاملة. ومع أنها لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، فإن طلاقتها وثقتها بنفسها لو وجدتا لدى شخص فى ضعف سنها لكانتا لافتتين للانتباه؛ فهى سيدة نفسها وتعرف ما تريد" (الجارديان، 19 يناير 1990).

وفى مايو 1989 تضمن برنامج تليفزيونى عن أفغانستان مقابلة أجراها رجل أيضاً، مع بعض الطالبات فى جامعة كابول. وحين أعربت الفتيات اللاتى يعشن فى مدينة أنهكتها الحروب عن رغبتهن الجامحة فى السلام وعن استعدادهن لقبول التسويات إذا ما كانت ضرورية لتحقيقه، أصيب المحاور البريطانى بصدمة. فقد كان واثقاً من أن هؤلاء الصبايا اللاتى ترعرعن فى فترة الحكم الشيوعى لابد أن يجدن مكانة النساء أكثر أهمية من السلام.. وحين طرح عليهن السؤال: "أأنتن مستعدات حقاً لارتداء الحجاب؟" أجبن جميعاً أنهن مستعدات، إذا ما كان لذلك أن يسهم فى إحلال السلام فى البلاد.

وخلال العقد الذى كرّسته الأمم المتحدة للمرأة، بين عامى 1975 و1985 راح النسويون فى الغرب يلحِّون إلحاحاً قصير النظر على مسائل مثل الختان أو الحجاب، ويشيرون للنساء فى الشرق الأوسط وأفريقيا على أن هذه هى القضايا الرئيسة للنضال من أجل تحرر المرأة فى بلدانهن. غير أنّ هؤلاء النسويين بدأوا يدركون مع نهاية ذلك العقد أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، وأن ليس من شأن امرأة غربية أن تقرر لامرأة من هذه المناطق ما هى القضايا الرئيسة، وأن نزع الحجاب أو أغلال الختان لن يعود على النساء فجأة باستقلالهن الاقتصادي، وبالطعام والسلام، مما ترى الكثيرات منهن أنها القضايا التى تجب معالجتها أولاً.

والحال أن أوروبا كانت طوال قرون قد سُحِرَت بالحجاب وبالحريم ونفرت منهما فى آن واحد. فقد عمل هذان الرمزان، من جهة أولي، على الحيلولة بين المراقب الأوروبى ورؤية النساء أو الاتصال بهنّ مما أيقظ لديه مشاعر الإحباط والسلوك العدوانى. أما من جهة ثانية، فقد وفر للرجال فرصة الجموح بالخيال والتلويح بتجارب غريبة وشهوانية مع "الجميلة المتحجبة" و"درة نساء الحريم". وذلك فى الوقت الذى أبدت فيه المراقبات من النساء ما أبداه الرجال من التباس وعداء ومركزية أوروبية، وإن يكن لأسباب مختلفة عن أسباب الرجال.

ومما يجدر ذكره هنا أن الرحالة الغربيين، بتركيزهم على الحجاب والحريم، غالباً ما أخفقوا فى فهم أوجه حياة النساء فى الشرق الأوسط. فالحريم كما فُهِمَ فى الغرب كان نادراً إلى أبعد الحدود وكان ليبدو "غريباً" كل الغرابة بالنسبة لغالبية نساء المنطقة اللواتى يعشن فى مناطق ريفية، ويعانين من الفقر، وينهضن بقسط وافر من أعباء العمل الزراعى. وهو ما يصحّ أيضاً على المدن التى اضطرت فيها كثير من النساء إلى العمل بغية الإسهام فى دخل العائلة. ومن ثم، فإن ما تعنيه كلمة "الحريم" هو ذلك الجزء المنعزل من البيت حيث لا يسمَح للرجال الأغراب بالدخول. إلا أننا سنجد لاحقاً أنّ إيحاءات هذه الكلمة فى الغرب قد جاءت مغايرة تماماً.

وإلى هذا، فقد أفضى ما افترضه الرحالة من أن النساء المحجبات هن بالضرورة أشد اضطهاداً وسلبية وجهلاً من السافرات إلى أقوال تنطوى على مبالغة وإفراط، مفادها أن نساء "المشرق" أشبه بالسجينات قياساً بما تتمتع به النساء فى أوروبا من تحرر كامل. ولاشك بالطبع أن النساء فى كلا المجتمعين كن يعانين من الاضطهاد بقدر يزيد أو ينقص، لكن ما فات الرحالة أن يدركوه هو ما تنطوى عليه أوضاع النساء فى هذين المجتمعين من ظروف التشابه، وذلك لانطلاقهم من افتراضات مفادها أن أسلوب الحياة الغربى أرقى بالضرورة.

وما يثير اهتمامنا هنا هى تلك الكثرة من كتب الرحلات التى انهمرت من المطابع فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مما خلّفه كتَّاب مغمورون تعوزهم الشهرة. فلقد أبدى الأوروبيون فضول لمعرفة "الشعوب الأخرى"، غير أن ذلك لم يكن إلا على مستوى يرسِّخ اقتناعهم بتفوق ثقافتهم على غيرها من الثقافات. وكانت كتب الرحلات وعروض الفانوس السحرى بالنسبة لهم بمثابة مكافئ للبرامج التليفزيونية الوثائقية فى هذه الأيام. والحال أنّ عدداً هائلاً من الكتب عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد وجد طريقه إلى النشر لدرجة أن كثيرا من المؤلفين كانوا يستهلون كتبهم بمسوغات تبرر إصدارها، إذ كان ثمة قدر كبير من التكرار والانتحال فى هذه الكتب. فتنوع الحياة فى تلك المنطقة كان مجهولا، شأنه اليوم فى أغلب الحالات، كما اتُخِذَت مواقف تعميمية وشمولية، نظرًا لما أملاه الخوف مما هو مختلف والجهل به من مقاربة تركزت على المظاهر الخارجية وحدها. ولقد بلغ الافتتان بالشرق، وبالنساء فيه خاصة، درجة شعرت فيها الكتب المدرسية المعنية بعلم الآثار، على سبيل المثال، أنها مضطرة لأن تعلق على هذا الموضوع. أما الناشرون فكانوا يلجأون فى بعض الأحيان إلى تضمين كتبهم رسومًا مثيرة للنساء بغية الترويج لها.

وفى حين كان يضطر أولئك الرحالة والسياح والآثاريون، والجغرافيون، وعلماء الطبيعة، والفنانون وسواهم إلى السفر إلى شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط كيما يروا النساء المحجبات، فإن بمقدور معظم الغربيين اليوم أن يروا هؤلاء النساء فى المدن الأوروبية. أما ردة فعلهم الشائعة حيال هذه الرؤية فيمثلها أفضل تمثيل ما كتبته مجلة "مارى كلير" فى أيلول عام 1988، حيث نشرت مقالاً يعزف على وتر افتراضات بالية ورثها عن الرحالة الغربيين بخصوص النساء الشرقيات:

غالبًا ما تأتى خبرة الغربيين بالحجاب من رؤيتهم زمرًا من النساء القصيرات، البدينات، المتسربلات من الرأس إلى إخمص القدمين بنوع من الكتان الأسود الفاحم، وهن يطفن على مهل فى متاجر المدن الكبرى. ومع أن هؤلاء النساء يبدون بمثابة الشيء الشاذ والغريب وهن يركبن ويترجلن من سيارات الليموزين التى تراها متوقفة بانتظارهن أمام محلات "الماربل آرش لماركس وسبنسر" فى لندن، إلا أنهن قد يكنَّ فى بلادهن ساحرات الجمال، وغامضات، وفاتنات، ومدهشات مثل نجد الصحراء القاحلة فى شبه الجزيرة العربية.

ومن الواضح بالنسبة لى أن ثمة خلطًا وتشوشًا فيما يقوله الكاتب عن النساء المحجبات. فهو يرى أنهن قد لا يكنَّ على نحو ما صوّرهن الخيال الغربى من جمالٍ وإدهاش، ويرى أنهن قد يكنَّ ساحرات الجمال، وغامضات، وفاتنات، ومدهشات، حين يكشفن أنفسهن، خاصة فى بيئتهن الطبيعية حيث لا يبدون بمثابة الشيء الشاذ أو الغريب. وبعبارة أخري، فإن هذا الكاتب لا يعنى بهؤلاء النساء إلا بوصفهن موضوعات جنسية، وهو يزيد من غموض هذا الأمر ومن لغزيته لأن مثل هذه الموضوعات تبيع جيدًا. ولقد استوقفنى وأنا أقرأ هذه المقالة، التى عُنْوِنَتْ "جزيرة العرب خلف الحجاب" وأُرْفِقَتْ بالصور المثيرة كما يليق بمجلة الأزياء، ما اشتملت عليه من ردود أفعال تشبه ما أبداه عدد كبير جدًا من سياح القرن التاسع عشر فى الجزائر، ومصر، وسواها من بلدان الشرق الأوسط، ممن أسهبوا فى الكتابة عن المظهر والجنس لدى النساء اللاتى صادفوهن أو حلموا بهنّ.

فإذا ما بدأنا بما فى الروايات والقصائد الرومانسية، وفى كتب الرحلات والقصص التوراتية، من أفكار عن النساء الشرقيات، نجد أنّ الارتكاس المباشر، الذى يتلو الإثارة الناجمة عن كون هؤلاء الكتّاب قد عادوا فى الزمن إلى أيام ألف ليلة وليلة أوالكتاب المقدس، هو ارتكاس عدواني، غالبًا ما يتجلى فى سلوك بعيد كل البعد عن التحضر؛ كأن ينتهكوا حرمة البيوت، أو يسترقوا النظر إلى النساء المستلقيات على المصاطب أو المستحمات فى الأنهار، أو يسودوا صفحة ثقافات كاملة على أنها منحطة ومتفسخة، ليصل الأمر فى إحدى الحالات حد دفع المال لفتاة لقاء ختانها ورؤية هذه العملية من بدايتها إلى منتهاها. كما أننا نجد لدى هؤلاء الكتّاب شعورًا بالعداء تجاه البيوت المغلقة والمدن المغلقة والنساء المحجبات اللاتى كن يصدّنهم، هم المراقبون الغربيون، بل ويقلبن الأدوار بين المراقِب والمراقَب، ذلك أن النساء خلف النوافذ الحديدية والعيون خلف الحجاب لم تكن، بالطبع، عاجزة عن الرؤية. ولذا، وكما كتب مالك علولة عن المصورين الفرنسيين فى الجزائر، فإنّ:
هؤلاء النسوة المحجبات لم يكنَّ بالنسبة للمصوّر لغزًا محيرًا وحسب، بل كنَّ أيضًا بمثابة هجوم صريح عليه. ولا بدَّ من الاقتناع بأن النظرة الأنثوية المحدقة التى ترشح من خلال الحجاب هى نظرة من نوع خاص؛ فهي، إذْ تركزها الفتحة الضيقة المخصصة للعين، تشبه عين آلة التصوير، أو العدسة التى تجعل من كل شيء هدفًا لها.

والمصوِّر لا يخطئ هذا. فهو يعرف جيدًا هذه النظرة التى تشبه نظرته حين تمتد من الحجرة المظلمة أو من محددة المنظر. ولذا يشعر المصور بأنه يصور ما إن يجد نفسه إزاء الحضور الطاغى لامرأة محجَّبة؛ وإذْ يصبح هو نفسه موضوعًا للنظر، فإنه يفقد المبادرة، حيث تُسْلَب منه نظرته المحدقة...

وحيال هذا التحدى الهادئ الذى يكاد أن يكون طبيعيا، فإن المصوِّر يردّ بعملية انتهاك مزدوج، حيث ينزع الحجاب عن المحجَّب ويقدم تمثيلاً صُورِياً للمحرم. (الحريم الكولونيالي، ص14).

وينظر مالك علولة فى كتابه "الحريم الكولونيالى" فى عدّة آلاف من البطاقات البريدية التى أنتجها الفرنسيون فى الجزائر وقيل إنها تصوّر النساء والعادات والتقاليد هناك. ويجد علــولة أنّ صــورة النوافـذ ذات القضبان تتكرر كثيرًا فى هذه البطاقات بحيث يتضح للناظر من غير شك أن نساء الجزائر يعشن فى سجون. أما صور النساء العاريات فتنكر على هؤلاء النساء أية طبيعة ما عــدا الطبيعة الجنســية فى الوقــت الذى تخلـف فيه انطباعًا راسخًا بأن المصور قد نجح فى مهنته، إِذْ رفع الحجاب عن المحجب، على الرغم من أن هذه الصور مأخوذة فى الأستوديوهات ولموديلات من النساء:
وعلى هذا النحو فإن فكرة المرأة الحبيسة فى دارها لابد أن تفرض نفسها بطريقة "طبيعية" إلى أبعد حد... فإذا لم تكن رؤية النساء متاحة (أى إذا كنَّ محجبات)، فذلك لأنهن سجينات وهذه الموازاة الدرامية بين التحجب والحبس ضرورية لبناء سيناريو متخيل يفضى إلى تصفية المجتمع الفعلى والواقعي، هذا المجتمع الذى يسبب الإحباط، واستبداله بوهم، وهم الحريم.

على هذا المنوال ذاته، كانت كتابة رحالة القرن التاسع عشر (من الرجال والنساء) مسكونةً بالحريم وبالحجاب. فصور السجون والأغلال فى كل مكان، مهما تكن بعيدة عن الموضوع. وكانت رؤية جدار أو مصراع نافذة، أو سماع رنين خلخال تثير لدى هؤلاء الرحالة أفكارًا عن نساء حبيسات وردود فعل عدوانية تجاه نظام الحياة المغلق فى "الشرق"، ذلك النظام الذى يختلف كثيرًا عن حياة الغرب الودودة والمنفتحة. ونظرًا لتعذر دخول هؤلاء الكتّاب إلى حياة العائلة ـ الأمر الذى يبدو متاحًا فى أوروبا أمام أى رحالة أجنبى ـ فقد انهمر من أقلامهم وابل من الأحكام الأخلاقية المتعلقة بتعدد الزوجات، والحريم، وفجور النساء (شهوا نيتهن المفرطة، وغياب المبادئ الأخلاقية لديهن، وميولهن السحاقية، وهلمجرا)، وموقفهن البائس من الأمومة، وغبائهن. ومثل هذه المواقف كانت نتاجًا للمركزية العنصرية وللإيمان بتفوق العنصر الأوروبى. فوصف الحياة فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية يروى عن النساء هناك ما يرويه عنهن فى الشرق الأوسط، وإن كان "اختباء" النساء فى هذه المنطقة الأخيرة قد أثار ردود فعل خاصة تركزت أكثر ما تركزت على الحريم. وحين نقرأ قوائم الاتهام بالفجور الذى يعممه هؤلاء الكتاب، ينبغى أن نتذكر أيضًا أن النساء اللواتى بدون لأولئك الرحالة متحررات أكثر من غيرهن ويستطعن الظهور عليهم أكثر من غيرهن، كُنَّ من البغايا أو الراقصات.

ولقد أشار كثير من الأدب الغربى إلى الحريم كما لو أنه كان موجودًا فى كل مكان من الشرق الأوسط على النحو الذى صورته عليه اللوحات الاستشراقية والروايات عن السراى فى إستانبول. كما تم التعامل مع هذا التصوير للحريم كما لو أنه مكافئ لتلك المسرحيات التى تصور الحياة اليومية فى قصر باكنغهام واللوحات النصفية لسيدات العصر الفيكتورى مما يعْتَبَر مطابقًا لحياة العائلة الإنجليزية وسلوكها وعاداتها. وكان السياح الأوروبيون "يعرفون"، حتى قبل أن يغادروا أوطانهم، أن "الحريم" عالم فاسق تُزْرَب فيه معًا نساءٌ جميلات، وشهوانيات، وتافهات، فيستلقين على أرائك طيلة النهار، يدخّن الغلايين، وينتظرن السيد أن يأتى ليختار إحداهن، فإن لم يقع عليهن الاختيار أطلقن العنان مع بعضهن بعضًا لأفعالٍ لا يمكن وصفها (أو أنها توصف وصفًا مفصَّلاَ فى بعض الأحيان). لكن الواقع هو أن أغلبية نساء المنطقة كن يعشن فى القرى. وعلى الرغم من معرفة أن حياتهن كانت مختلفة عن الوصف السابق كل الاختلاف، وكثيرًا ما كُتِبَ عنها بإسهاب نظرًا لسهولة مراقبتها، إلا أن ذلك لم يعُدْ عليهن (أو على نساء المدن الفقيرات اللواتى يعملن خارج المنزل) بأى قَدْرٍ من الاحترام الإضافى.

وذلك لأن الكتّاب كانوا يكتفون بواحدٍ من خيارين، فإما أن يطلقوا العنان لخيالاتهم الجامحة عن العذراوات عند النبع، مستذكرين رفقة التى يطلبها إبراهيم لابنه اسحق أو مريم العذراء، أو أن يصرفوا النظر عن هؤلاء النساء بوصفهن جاهلات ومنحطات، أشبه ببهائم الجر. وبذا تتواصل ضروب التعميم عن النساء الحبيسات.

وعلى الرغم من تراكم أدلة كافية فى القرن التاسع عشر تثبت أن النساء المسلمات ـ بصرف النظر عن السراى وغيره من أنواع الحريم الكبيرة ـ كُنَّ حرّات فى الخروج من البيت والعودة إليه ويمارسن سلطة واسعة فى داخله، إلا أن كثيرًا من الأوروبيين تشبثوا بالفكرة التى مفادها أن وضع هؤلاء النساء يبعث على الأسى وأن الحريم مكان للفجور. ومع أن كلمة "حريم" (من "حرام") تعنى حجرات البيت حيث يقيم النساء والأطفال ـ والتى يقْصَى عنها الرجال ما عدا الزوج وبعض الأقرباء المقرّبين ـ أو تعنى نساء البيت، فإن الطبعة الأولى من قاموس روچيه (Rogetصs Thesaurus) عام 1852 أوردت كلمة "حريم" تحت كلمة (impurity) (دَنَس)، جنبًا إلى جنب مع كلمات مرادفة للمبغى. ولقد استمر ذلك كمعنى وحيد إلى حين صدور طبعة Everyman من هذا القاموس عام 1952 حيث وردت كلمة (apartment) (شقّة) كمعنى ثان. أما طبعة عام 1962 فلم تضع كلمة "حريم" تحت المدخل (impurity)، وإنما تحت المدخل (Womankind) (جنس النساء) والمدخل (love-nest) (عش الحب)، وكان ذلك صائبًا. غير أن الأصوب هو ما أوردته الطبعات الأخيرة حيث وضعت كلمة "حريم" تحت المدخل (Womankind) والمدخل (Seclusion) (مكان منعزل)، مع أن الطبعة التى صدرت عام 1972 فى لندن عن Galley Press باسم Everyday Rogetصs Thesaurus عادت إلى وضع الكلمة تحت المدخل القديم (impurity).

ومع أنَّ النساء من الرحالة كُنَّ قادرات على زيارة الحريم، إلا أن ردود أفعالهن كانت معقدة وانتقادية إلى أبعد حد فى أغلب الأحيان. وأنا لا أشير هنا إلى نساء مثل لوسى دَفْ غوردن، التى عاشت فى مصر سبع سنوات ووافتها المنية هناك عام 1869 بسبب إصابتها بالسل، وإنما أشير إلى عدد كبير من السائحات اللواتى كن يقمن بزيارات منظمة إلى هذا الحريم أو ذاك فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. فتلك الزيارات غالبًا ما كانت قصيرة جدًا، وغالبًا ما اتسمت بسوء فهم متبادل وأحاديث متكلفة من خلال مترجم. ونادرًا ما خطر للرحالة الغربيين من النساء أن يفكرن أى تفكير عميق بالأثر الذى يتركه حضورهن على ما كان يجري، فما كُنّ يلاحظنه لم يكن الحياة اليومية العادية على وجه التحديد، إذ كُن جزءًا مما كان يجرى. وعلاوة على أن بعض الكاتبات كن يسخرن من ردود أفعال النساء على زياراتهن لهن ليظهرن مدى جهلهن وصبيانيتهن، فقد شعرت كثيرات من هؤلاء الكاتبات بأن لديهن الأهلية والكفاءة الكافية لإطلاق أحكام واثقة وأكيدة. فإن لم تكن النساء جميلات وفاسدات كما هُنَّ فى اعتقادهن، فلا بد أن يكن إذًا أميات، وأمهات رديئات يثرن الشفقة لهذه الحياة المملة التى يعشنها. بل إن البعض كن يعتبرن أن لديهن من المعلومات المسبقة ما يكفى لأن يرفضن الزيارة أصلاً. ومن هؤلاء إ.هـ. ميتشل فى عام 1891، حيث أشارت إلى أنها كانت تقوم بالزيارة لو كان لذلك أن يساعد "أخواتنا المسكينات" على النجاة من أَسْرِهن، أما الذهاب لرؤيتهن فى حبسهن البغيض فهو أمر أصعب من أن تحتمله مسيحية (عن لين تورنتن، المرأة فى اللوحات الاستشراقية). أما هارييت مارتينو، المناضلة الإنجليزية من أجل حقوق النساء، فقد قامت بزيارة حريمين وعلقت ببساطة أنها لا تستطيع أن تفكر بالصباحين اللذين قضتهما هناك دون أن ينقبض قلبها على نحو يفوق ما أصابها فى مدارس الصم والبكم، أو المصحات العقلية، أو حتى السجون (الحياة الشرقية، المجلد 2، ص147).

أما فى الواقع، فقد كانت نساء الطبقة الوسطى والعليا فى مصر يكتبن المقالات ويصدرن الكتب التى تتداولها الأيدى فى ضروب الحريم منذ أوائل الستينيات من القرن التاسع عشر. ومع حلول العقد الأخير من ذلك القرن كانت الصحف النسائية قد صدرت أيضًا. ولقد أطلقت مارغو بدران على هذه العقود اسم "مرحلة النسوية المستترة"، حيث لم تكن أصوات النساء مسموعة للعالم الخارجى بسبب من عزلة النساء والفصل بين الجنسين. غير أن قلة ما من الرحالة الغربيين لا بد أن تكون قد تمكنت من سماع ما كان يجرى أو من قراءة ما كان ينْشَر للنساء العربيات فى القرن التاسع عشر من ضروب الكتابة الشعرية، والقصصية، والمقالات التى تتناول العلاقة بين الرجل والمرأة، والمعاجم التى تشتمل على تراجم لأعلام النساء وما إلى ذلك (مارغو بدران ومريام كوك، فَتْحُ البوابات). بل إن كثيرات من نساء الطبقة الوسطى والعليا فى مصر كُنَّ قد انخرطن فى النضال ضد الاحتلال البريطانى واشتركن فى المظاهرات عام 1919، حيث كفّت كثيرات منهن على أثر ذلك عن ارتداء الحجاب الذى يغطى الوجه.

ولقد وجدت ليلى أحمد أثناء كتابتها عن مواقف النساء الأمريكيات فى ثمانينيات القرن العشرين من الحريم أن معظم هؤلاء النساء "يعرفن" أن النساء المسلمات يعانين من الاضطهاد ما لا تعانيه غيرهن من النساء، وذلك فى الوقت الذى يعترفن فيه صراحة بأنهن لا يعرفن شيئًا عن الإسلام أو عن مجتمعات الشرق الأوسط. وتناقش ليلى أحمد طريقتين مختلفتين فى النظر إلى الحريم، حيث:

يمكن تعريف الحريم بأنه ضَرْبٌ من النظام الذى يتيح للرجال مدخلاً جنسيا إلى أكثر من امرأة واحدة. ويمكن تعريفه أيضًا، وعلى نحو أدق، بأنه ضرب من النظام الذى تتشارك فيه قريبات رجل ما ـ زوجاته، وأخواته، وأمّه، وعماته، وبناته ـ قسطًا كبيرًا من وقتهن ومكان عيشهن، ويوفر للنساء، علاوة على ذلك، مدخلاً سهلاً ومتكررًا إلى نساء أخريات فى مجتمعهن، وذلك بصورة أفقية وقطرية وعمودية. ("المركزية الاثنية الغربية وتصوراتها عن الحريم"، دراسات نسوية، 8:3 "1982").

وبالطبع، فقد فضل الغرب التعريف الأولى على الدوام.

وحين كان الرسامون يرسمون النساء جماعات، فإن الحمام التركى كان خلفية نمطية لمثل هذه الرسوم. وما يلفت الانتباه أن الرسامين الذين صوروا النساء بوصفهن أمهات هم قلة قليلة وحسب بين الرسامين الاستشراقيين قبل نهاية القرن التاسع عشر، وذلك قياسًا بالعدد الكبير من اللوحات التى تصور النساء الغربيات ومن حولهن أطفالهن. ويعود هذا فى جانب منه إلى أن الخلفية "الغربية" كانت تمكن هؤلاء الرسامين من رسم أشياء ما كان لهم أن يرسموها على خلفيات وطنية دون تبعات وخيمة؛ ذلك أن "فتاةً شبه عارية ومثيرة على عتبة فى الجزائر هى أمر غريب ومدهش، أما الفتاة ذاتها وفى الوضع ذاته على عتبة فى باريس فهى أمر فاحش وقذر" (بيترغي، التجربة البرجوازية، المجلد 1، ص 392).

بيد أن ما كان يعزز مثل هذه المواقف لم يكن مقتصرًا على طرائق النظر إلى النساء "الشرقيات"، وإنما تمثل أيضًا فى الأفكار الأوروبية السائدة بخصوص دور المرأة. فالأيديولوجية البرجوازية الشائعة كانت قائمة على معارضة بين عالمين، عالم عمل الرجال العام المغترب وعالم عمل النساء الخاص غير المغترب والمرتبط برعاية الأطفال والتضحية، كما كانت البنية برمتها معتمدة على تعزيز مُثُل الزواج الأحادى وصورة النساء بوصفهن كائنات جنسية سلبية. ولذا فقد كان من شأن تصوير نساء الحريم كأنهن نساء عاديات يعتنين بأطفالهن ويرعين منازلهن كما تفعل النساء فى أوروبا أن يقوض كل دعائم الحياة العائلية الغربية. وذلك فى قرن من التغير المتلاحق، ومع ثقافة الطبقة الوسطى "الانتقائية المليئة بضروب التوتر والدوافع المتناقضة" (كما يصفها بيترغى)، حيث كان من الضرورى أن يتم الحفاظ على هذين العالمين المنفصلين، اللذين كانا عرضة لتهديد دائم ومتواصل.

فالقرن التاسع عشر هو فترة كان على الناس فيها أن يتكيفوا مع صنوف من التغير الشديد فى حياتهم اليومية حتى إنهم حاولوا تجميد الأشياء وتجزئتها بغية الحد من ذهولهم. فالتصنيع، والنقل، والاضطراب والتغير السياسيان، وتعاظم تجارة ما وراء البحار، والاستعمار، ومراحل النمو والركود، وضروب الصراع بين الفلسفة والدين فى أرجاء القارة الأوروبية، وبين العلم والدين فى إنجلترا، كل ذلك عمل على تغيير المجتمع ودفع البشر لأن يكونوا فى آن معًا متعجرفين وغير واثقين حيال مكانتهم فى العالم. كما كان على البشر أن يتكيفوا مع إحساس جديد بالزمن أدخلته القطارات، والمحركات البخارية السريعة، والخدمات البريدية فضلاً عن الدراسات الچيولوچية والآثارية فى النصف الأول من ذلك القرن وكتاب داروين أصل الأنواع فى عام 1859، أى بعد بضع سنوات من معرض الكريستال بالاس عام 1851، والذى يشكل الذروة التى بلغها القرن التاسع عشر:

إنها لمفارقة ساخرة أن مجتمعًا يعتبر ذاته القمة الفريدة للحضارة كان عليه أن يعمل على رعاية الحفريات التى أطاحت بذلك الوهم المريح.

فالتيار الثقافى الذى ينتمى إليه الفيكتوريون لم يكن سوى واحد وحسب من تيارات التاريخ الكثيرة، ولعله ليس الأكمل بينها، فما بالك بأن يكون الأبقى. ومن المؤكد أنه لم يعد بالإمكان القول إن اليهودية ـ المسيحية قد احتلت على الدوام مركز المسرح العالمي؛ فهى مجرد حدث واحد فى دراما معقدة تعود إلى عصور طويلة ماضية. (ريتشارد. د. ألتيك، الناس والأفكار فى العصر الفيكتوري، ص ص99ـ100).

مع منتصف القرن الثامن عشر، كان الإنتاج المنزلى قد بدأ بإفساح المجال أمام إنتاج المصانع، مما أفضى إلى تطور الأيديولوچية البرجوازية بخصوص العالمين المنفصلين. وراحت العوائل محدثة النغمة تبنى فيلات تعزل فيها النساء وتقطعهن عن العمل فى المجال العام. وقَضَتْ فكرة "التهذيب" التى لعبت دورًا كبيرًا فى تلك الفترة بأن على نساء الطبقة الوسطى أن ينافسن نظيراتهن من الطبقة العليا، فكان عليهن ألا ينخرطن فى أى عمل مأجور ما لم يكن ذلك أمرًا لا مفر منه. ولقد كُتِبَتْ فى تلك الفترة روايات كثيرة عن الطريقة التى كنَّ يقضين فيها أيامهن فى تعلم الأشغال النسوية والقيام بزيارات متبادلة متكررة بعضهن لبعض. أما التعليم الذى نلنه فكان محدودًا إلى أبعد حد ولم يكن المقصود منه سوى جعلهن زوجات وأمهات طيبات، كما كانت الصفات والخصائص الجنسية التى اعترف لهن بها معدة لهذا الغرض ذاته.

وبالمقارنة، فإن النساء فى النصف الأول من القرن الثامن عشر لم يكن ينظر إليهن على هذا النحو. فحتى أواخر أربعينيات القرن الثامن عشر "كان ثمة تمثيل ثابت للنساء بوصفهن موضعًا للمشاعر الجنسية الجامحة والجوع الجسدى. ومنذ منتصف القرن الثامن عشر فصاعدًا بدأت صورة النساء هذه بالتحول ببطء باتجاه المثال المنزلي، أو ملاك البيت الذى يحفظه كملاذ من العالم الخارجى القاسى. وفى عام 1761، أطلق جان جاك روسو فى كتابه الشهير إميل فكرته عن التربية الملائمة التى ينبغى أن تتلقاها صوفي، أو المرأة المثالية كما يراها. وكتب يقول إن هذه التربية يجب أن تكون متصلة كل الاتصال بشئون الرجال، ذلك أن على المرأة أن "تمتعهم، وتنفعهم وتكون محبوبة عندهم وتتشرف بهم، وتعلمهم فى الصغر، وترعاهم فى الكبر، وتشير عليهم، وتواسيهم، وتجعل الحياة سائغة ومقبولة لديهم". ولقد عززت الداروينية فى القرن التاسع عشر هذه الأفكار، حيث أشارت إلى أن تطور المرأة الخاص قد جعل منها عضوية متكيفة مع تنشئة الأطفال فى الوقت الذى جعلها هشة وسيئة التكيف مع المساعى الفكرية. وبالطبع، فإن الصورة القديمة التى قضت بأن تكون النساء محكومات من قبل الرجال وفى حمايتهم لم تختف تمامًا بأى حال من الأحوال، كما أن الصورة الجديدة لم تكن أكثر من صورة مثالية ليس غير. ولقد تم الإقرار بوجود الرغبة الجنسية لدى بعض النساء، إنما مقابل النظر إليهن على أنهن "بلا أخلاق"، إما أن يكن من بنات الطبقة الدنيا ـ كفتيات المصانع اللواتى وُصفن بوضاعة الأخلاق ولم يكن من الممكن قبولهن كخادمات فى المنازل ـ أو من النساء "الغريبات"، كالغجريات ونساء الأعراق الأخري، أو مجرد مجنونات وحسب. ومع ذلك، فقد كان يرى أن سنة القيم البرجوازية هذه تصلح للطبقة الوسطى كما تصلح تاليا لأى أحد آخر، خاصة أنها تترك الحرية للرجال نظرًا لما لديهم من "أهواء أقوى".

وحين عمد الرحالة إلى الشرق الأوسط إلى مقارنة حياة النساء فيه بحياة النساء فى أوروبا لم يقارنوا بين أفراد، ذلك أنهم كانوا يتحدثون بصورة تكاد أن تكون ثابتة عن النساء الأوروبيات من الطبقة الوسطى. وحتى آنذاك لم تكن المقارنة شريفة أو نزيهة. فمن الواضح أن كثيرًا من هؤلاء الكتّاب لم تكن لديهم أية معرفة بحياة النساء من الطبقة العاملة الأوروبية ومدى تدهورها وانحطاطها. وحين كانوا يلتقون بالنساء المحجبات و"السجينات"، كان أكثر الكتّاب من الرجال يتوقون إلى رؤيتهن وامتلاكهن فى الوقت الذى يؤكدون فيه على اختلاف نسائهم عنهن. أما الكاتبات النساء فكن يملن إلى وصف المساواة التى يتنعمن بها بأوصاف متفاخرة، متناسيات ما عانته كثيرات منهن فى مجتمعاتهن من ضجر وإحباط ويأس، مما كان سببًا فى سفرهن وترحالهن فى كثير من الحالات.

وفى النظرة الأوروبية الذكورية إلى العالم، غالبًا ما نجد النساء وسكان البلدان الأخرى وقد تم "تصويرهم ومعاملتهم كأطفال بحاجة إلى الحماية والرعاية التى توفرها سلطة ذكورية/امبراطورية نظرًا لضعفهم وبراءتهم وقصورهم" وإذا ما كان الرجال الأوروبيون قد اعترفوا بحق النساء التركيات فى الخروج سافرات، فى الوقت الذى بذلوا فيه كل جهد لمنع نسائهم من تجاوز حدود معينة، فذلك لأنهم كانوا يحاولون استخدام النساء التركيات ـ أو غيرهن من النساء الشـرقيات ـ لدك النظام الاجتماعى هناك تحت ستار تحرير هؤلاء النساء من ربقة رجالهن.

والحق أن النسويين لم يختلفوا عن غيرهم فى اتخاذ مواقف مركزية أوروبية واستعمارية. وحين أخذت النساء العربيات بالانخراط فى النضالات الوطنية، غالبًا ما سارعت النساء الأوروبيات إلى الإشارة إلى ما يرتكبنه من خطأ. ومن الأمثلة على ذلك ما تقوله تروبريدحهال فى كتابها مصر فى صورة ظليلة:

إيه أيتها النساء، يا من تقاتلن من أجل الحرية أروع قتال وأنبله، فلتنسين فى الحال كل كفاح سياسى. إن المهمة الملقاة على عاتقكن لهى أعظم أهمية بما لا يقاس من الحكم الذاتى لبلادكن. فلتنسين كل شيء ماعدا إلغاء تعدد الزوجات، تلك اللطخة الشنيعة التى تشوه سمعة بلادكن الطيبة. (ص64).

وأكثر ما يصدم المرء لدى قراءته ما كتبه الرحالة فى وصف حياة النساء "الشرقيات" فى القرن التاسع عشر هو ذلك المستوى الرفيع من النفاق فيما يختص بوضع المرأة فى الغرب. فالسؤال الحقيقى هو ما مدى الفوارق فى حياة النساء فى كلتا المنطقتين، والتى تؤدى إلى مثل هذا التفاوت فى الأوضاع الاقتصادية والسياسية، أيا كانت المظاهر الخارجية والأساليب المختلفة فى تنظيم شئون الأسرة؟ وهل المسيحية هى السبب الذى يجعل وضع النساء الأوروبيات على هذه الدرجة من الاختلاف، نظرًا لاعترافها بالقيمة الحقيقية للمرأة، كما ادعى الكثير من الكتّاب؟ ربما كان علينا، قبل قراءة ما خطّه الكتّاب عن النسـاء الشــرقيات، أن نلقى نظرة على وضع النساء فى أوروبا وما حمله الرحالة معهم من أفكــار تتعلق بطبيعة المرأة.

فمع تنامى تأكيد الأيديولوجيا البرجوازية فى القرن التاسع عشر على حصر المرأة بالبيت، كان ثمة جهد مبذول لإقامة تعارض مُحْكَم بين عالم الرجل وعالم المرأة، بين العالم العام والعالم الخاص، وذلك باللجوء إلى "غريزة" الأمومة لدى المرأة بوصفها جوهر كينونتها الذى لا يقتصر على جعلها منشئة أطفال وحسب، بل يهبها ضربًا من النفوذ الأخلاقى بفضل طبيعتها المُحِبَّة والمضحية. وربما وافق كثير من الرجال على ما كتبه الرسام الشهير ديلاكروا فى مفكرته بعد زيارته الجزائر، حيث قال: "يا للجمال! لكأننا فى أيام هوميروس! فالمرأة فى مدقتها منهمكة فى رعاية أطفالها، أو فى غزل الصوف أو تطريز أقمشة جميلة. تلك هى المرأة كما أفهمها" (أوردته آسيا جبّار فى كتابها نساء الجزائر فى مساكنهن).

وبالطبع، فإن الحفاظ على هذه البنية المؤلَّفة من عالمين منفصلين (ومتساويين) لم يكن ممكنًا على مستوى المجتمع ككل. فمثل هذه البنية تظل ضربًا من المثال الذى لا يطال أبدًا. بل إن ذلك لم يكن مرغوبًا فيه من الناحية الاقتصادية، لأن المرأة كانت تشكل جزءًا أساسيا من القوة العاملة.

لقد تم تصوير هذين العالمين على أنهما عالمان منفصلان لكنهما متساويان. ولعلنا لا نجد من صور هذين العالمين على هذا النحو بذلك العداء للمرأة الذى نجده فيما كتبه بيير جوزيف برودون عام 1846:

بالنسبة لي، كلما فكرت بالأمر أكثر، كلما ضعفت قدرتى على تبرير ما يقَدَّر للمرأة خارج البيت والعائلة. فأنا لا أرى أية منطقة وسطى بين البغى وربة المنزل (أقول ربّة المنزل، لا الخادمة). فما الذى يحط من قدر المرأة إذا ما اتخذت هذا الخيار؟ وبأى منظور يكون دور المرأة، المثقل بأعباء إدارة شئون المنزل وكل ما يتعلق بأمور الاستهلاك والادخار، أدنى مرتبة من دور الرجل، الذى تتمثل وظيفته فى توجيه الورشة، أى فى قيامه بدور حكومة للإنتاج والتبادل؟

ومع هذا، فقد قبلت نساء كثيرات مثل هذا الرأي، نظرًا لما كان شائعًا فى أوساط الطبقتين الوسطى والعليا من إيمان عميق برسالة خاصة تؤديها المرأة. وحين كانت النساء من الرحالة إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط يخبرن من يلتقينهن هناك عن الزواج الغربى القائم على المساواة التامة أو كُنَّ يطلقن ضروبًا من التعميم الذى لا يستند على أكثر من خبرة محدودة وناقصة. والحق أن كثيرًا من النقد الذى وجهنه للمجتمعات التى زرنها كان من الممكن أن يوجَّه أيضًا إلى مجتمعاتهن.

ففى إنجلترا القرن التاسع عشر كان ينظر إلى النساء بوصفهن مشكلة. فمن جهة أولي، لم تكن النساء راضيات على الدوام بالمكانة المقسومة لهن فى المجتمع، أما من جهة ثانية، فقد كانت أعدادهن كبيرة جدًا بالنسبة لمجتمع قائم على الزواج الأحادى وقدسية المنزل وتبعية النساء. ولقد ناقش و. ر.غريغ هذه "المشكلة" فى عام 1862 فى مقالة عنوانها "لماذا النساء زائدات عن الحاجة؟" وحاول أن يبين أن هؤلاء النساء الفائضات هنَّ "الشر والآفة التى تجب مداواتها". وكان الدواء مرة أخرى ترحيل 500000 إلى المستعمرات.

ولقد ازدهرت تجارة البغاء على نحو خطير فى فرنسا أيضًا نتيجة لتضافر إفقار النساء مع ازدواجية المعايير الجنسية بالنسبة للرجل والمرأة والمطالبة بأن يكون الرجال "ذوى خبرة" قبل الزواج. وهكذا، فقد افتُرض بنساء الطبقة العاملة والنساء المهاجرات من المستعمرات أن يكن ضمانًا لطهارة زوجات البرجوازية وبناتها.

وفى روايته واحد من فاتحينا (1891)، يصور چورچ ميريديث "مهراجا من الشرق" يطوف الشوارع ليلاً أثناء زيارته إلى لندن ويلاحظ أن "مجتمعات الزواج الأحادى تنم على مظهر لائق وخلفية شنيعة".

والدارس لهذه الفترة يعجب حين يعلم أن الأوروبيين كانوا يشخصون بداية الطمث والمشاعر الجنسية المرتبطة بسن اليأس على أنهما مشكلتان مرضيتان، ذلك أن الجنس عند المرأة كان يعتبر مرضًا يتطلب العلاج. ومن ثم دخول مستشفيات الأمراض العقلية.

لذا كان يجرى الختان (قطع البظر) "لمساعدة النساء فى السيطرة على أنفسهن، وفى ثمانينيات القرن التاسع عشر، كان أطباء النسائية فى الولايات المتحدة وبريطانيا يستأصلون مبايض سليمة بكل رحابة صدر كعلاج لحالات مثل الجنون المبكر أو الصرع. وبالنظر إلى مثل هذه المواقف والأجواء، ليس مستغربًا أن تكون ردود الفعل تجاه "الشهوانية الشرقية" على ما كانت عليه من القوة والتشوّش.

النظرة المتدنية إلى المرأة فى أوروبا فى هذا العصر وصلت إلى درجة أنه حين أرسلت شارلوت برونتى عام 1837 بعضاً من بواكير أشعارها إلى الشاعر روبرت سوثى لإبداء رأيه فيه أقرّ أنّ لديها الموهبة لكنه حاول أن يثنيها عن مواصلة الكتابة قائلاً:

ليس للأدب أن يكون شغل المرأة الشاغل، ولا ينبغى أن يكون.. فأحلام اليقظة التى تغرقين فيها قد تؤدى إلى حالة من الاعتلال تصيب العقل؛ ولأن كلّ الحاجات العادية فى هذه الدنيا تبدو لك تافهة وبلا طائل، فإنك لن تكونى نافعة فيها ولا فى سواها.

وعلى الرغم من النجاح السريع الذى حققته رواية شارلوت برونتى جين آير، فإن أصوات المعارضة سرعان ما بدأت تشير إلى أن البطلة لا تبدى الخصال التى تميز المثال الأنثوى. فجين آير فخورة بنفسها، وتبدى مشاعر الهوى والغضب، مما لا يمكن قبوله فى عصر كانت السيطرة فيه لأتباع الكنيسة الإنجيلية. ولم يكن معروفاً فى ذلك الحين أن المؤلف امرأة، إذ نُشِرَت الرواية باسم مستعار هو كورير بل. ففى عام 1857، وجّهت تهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة هذه إلى كل من فلوبير بسبب روايته مدام بوفارى وبودلير بسبب ديوانه أزهار الشر. أما المشهد الذى يقوم فيه رجل ببيع زوجته فى رواية (عمدة كاستربريدج)، فقد صدم الحساسية الفيكتورية أيما صدمة. واتهم النقاد هاردى بتجاوز روايته حدود المعقول فى القص.. بيد أن بيع الزوجات كان يجرى فى انجلترا القرن التاسع عشر، وفى أسواق المواشى غالباً، حيث كانت تقتضى العادة الشعبية فى كثير من الأحيان أن تُساق المرأة إلى هناك بالرسن (صموئيل بيات مينيفي، زوجات للبيع، حيث يورد 300 حالة موثقة بين عامى 1800 ـ 1900).

لقد مال رحّالة العصر الفيكتورى إلى اعتقاد مفاده أن حياة المرأة المسيحية، الأوروبية، المنتمية إلى الطبقة الوسطى وحياة المرأة المسلمة، الشرقية، المنتمية إلى المنزلة الاجتماعية ذاتها تقفان على طرفى نقيض. غير أنّ حياة النساء فى الشرق لم تكن كما وصفوا، وحياة المرأة الأوروبية ظلت مكبّلة بأشد القيود حتى نهاية القرن، لذا فإن الوضع فى الطرفين لم يكن مختلفاً كثيراً كما يحلو لكثيرين أن يؤكدوا. فالنساء الفقيرات فى كلا المجتمعين كن يعانين من العمل المضنى سواء داخل البيت أم خارجه، وحقيقة ارتداء المرأة الشرقية الحجاب ما كانت لتجعلها أشد معاناة وشقاء بالضرورة. والحال أن النساء لم يكن ضحايا مستكينة وسلبية فى واحد من هذين المجتمعين أكثر منهن فى المجتمع الآخر.

فحين ألّحت النسوة فى حمام تركى على السيدة مارى مونتاغيو لكى تخلع ملابسها وتلتحق بهن، نضت عنها سترتها لكى تريهن مشدّها. وهذا ما ساقهن ـ كما تقول ـ إلى الاعتقاد بأنها سجينة فى آلة لا يمكن فتحها إلا من قِبَل زوجها. وهذا مثال على أن كل واحدة من مجموعتى النساء هاتين كان بمقدورها أن ترى الأخرى كمجموعة من السجينات. ولاشك أن كلتيهما كانت محقة.

أما ماتيلدا بيثام إدواردز فقد خرجت أثناء رحلتها فى شمال أفريقيا، لتتمشى مع بعض الصبايا الفرنسيات ممن التقت بهن هناك. غير أن والدة هؤلاء الفتيات طلبت منها ألا يغربن عن ناظريها إلى أن يعدن سالمات إلى البيت، ذلك أنه لم يكن من اللائق أن يتجولن فى الطرقات بمفردهن بوجود كثير من الجنود فى المدينة.

هنا تكمن السخرية فى حرية التفكير الأوروبية! ففى حين نرثى لحياة العزلة والقيود التى تعيشها النساء المغربيات، نجد أن الصبايا الفرنسيات فى سن الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين لا يؤتَمَنَ على البقاء وحدهن أبعد من حديقة المنزل! لاشك أن بمقدور هجاء عربى أن يخرج بشيء من حالة كهذه! (شتاء مع السنونو، ص116).

وثمة رحالة آخر هو جون رينيل موريل سمع الكثير مما قاله الفرنسيون ضد العرب فى الجزائر، غير أنّه حذّر قراءه من قبول هذه الاتهامات على نحو أعمى.

لدى تلقيك هذه وغيرها من أقاويل الكتّاب الفرنسيين عن العرب، من الضرورى أن تتوخّى أشد الحذر، وذلك لأن من مصلحة الفاتحين أن يصوروا ضحاياهم بأبشع صورة، كما يبرروا وحشيتهم وظلمهم. (الجزائر ص303)

وأخيراً، فقد أمضى الباحث الفرنسى فولنى من الوقت فى تهيئة نفسه للرحلة التى انطلق بها إلى مصر وسوريا فى أواخر القرن الثامن عشر أكثر مما أمضاه معظم الرحّالة. وذلك، كما يقول، لأن فهم طبيعة بلد ما يقتضى أن تقيم هناك، وتتعلم لغة هذا البلد وتمارس عاداته، علماً أن ذلك كله لن يكون كافياً لحصول الرحّالة على معرفة حقة وفهم حق:

فليس عليهم (الرحّالة) أن يغالبوا كل ما سيواجهونه من أهواء وحسب، وإنما أن يتغلبوا كذلك على التى جلبوها معهم؛ ذلك أن الفؤاد مُحَابٍ، والعادة غلاّبة، والحقائق خادعة، والوهم هين. ولذا فإن على المراقب أن يكون محترساً دون أن يكون خائر القلب، وعلى القراء الذين ليس أمامهم سوى الرؤية بعين وسيط أن يهتموا برأى هذا الدليل دون أن ينسوا حكمهم الخاص. (سى.ف.فولني، رحلة إلى مصر وسوريا، ص39).


والحال أنَّ قلة من الرحّالة هم الذين تمكنوا من الوفاء بقائمة المتطلبات الأولي، وأقلّ منهم بكثير من وفوا بالثانية. فمواجهة الأهواء والأحكام المسبقة التى حملوها معهم لم تكن واحدة من النصائح النافعة التى قُدِّمت لرحالة القرن التاسع عشر.



من مقدمة كتاب:

Veiled Half-Truths: Western Travellersص Perception of Middle Eastern Women
(تصورات الرحالة الغربيين عن النساء فى الشرق الأوسط)
Judy Mabro
London:I.B.Tauris, 1999.

وعلى الرغم من تراكم أدلة كافية تثبت أن النساء المسلمات ـ بصرف النظر عن السراى وغيره من أنواع الحريم الكبيرة ـ كن حرات فى الخروج من البيت والعودة إليه ويمارسن سلطة واسعة فى داخله، إلا أن كثيرًا من الأوروبيين تشبثوا بالفكرة التى مفادها أن وضع هؤلاء النساء يبعث على الأسى وأن الحريم مكان للفجور



.



صورة مفقودة
 
أعلى