نذير جعفر - بين الجنس والإباحية

في ظل عالم وثقافة رقمية غير قابلة للقوننة والضبط تحت أي معيار كان , لم يعد من الممكن مطالبة المبدع بالامتثال إلى ذهنية التحريم السائدة ,وعدم خروجه على تابو الجنس والدين والسياسة . والرواية بوصفها تنوعا كلاميا يعكس غنى وتنوع الحياة الاجتماعية والاتجاهات الفكرية والمصائر والميول والرغبات , استطاعت بما تمتلكه من إمكانيات تعبير فنية أن تحطّم تابو الجنس بدرجات متباينة تراوحت بين المشاهد الحسية العاطفية الشفّافة , والمشاهد الجنسية المثيرة , والإباحية المبتذلة . والجنس بحد ذاته ليس موضوعا جديدا في الأدب العربي عبر عصوره المختلفة , فقد حفل به الشعر والنثر, كما نال حظا وافرا في المرويات السردية وبخاصة في “ ألف ليلة وليلة “ . وإذا كان تناوله في الرواية ما يزال يثير لدينا كثيرا من الأخذ والرد , فإن هذا الأمر قد حسم تماما في الآداب الغربية , وأضحت الأعمال التي أثارت ضجة واستهجانا في حينها بسبب جرأتها في اختراق تابو الجنس مثل : “ ديكاميرون “ لبوكاشيو , و” مدام بوفاري “ لفلوبير , و” عوليس “ لجيمس جويس , و” مدار الجدي “ لهنري ميللر , من كلاسيكيات الرواية الغربية . لقد عاد الحديث عن الجنس في الرواية يتصدر الاهتمام بوصفه موضوعا ساخنا , منذ الصدور المتوالي لعدد من الروايات المصرية , بدءا من : “ رامة والتنين “ لإدوار الخراط , و “ ذات “ لصنع الله إبراهيم , و “ التجليات “ لجمال الغيطاني , و” لبن العصفور “ ليوسف القعيد , ووصولا إلى “ عمارة يعقوبيان “ و” شيكاجو “ لعلاء الأسواني . كما أخذ هذا الحوار حول الجنس يتفاعل في المشهد الثقافي السوري بصدور عدد من الروايـات التي تناولته بأشكال ودلالات مختلفة لكل من : حيدر حيدر( وليمة لأعشاب البحر ) , ونبيل سليمان ( سمر الليـالي) , ووليد إخلاصي ( دار المتعة ) . إن الجنس في العمل الروائي مثله مثل أي موضوع آخر يمس حياة الإنسان ويؤثر فيها , فلا يمكن الحديث عن السلوك ودوافعه , وعلاقات الحب والزواج , والسياسة والاقتصاد , والأمراض النفسية والجسدية , والجريمة والمخدّرات , بمعزل عنه . وربما السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام ليس الحديث عن الجنس أو تصويره في العمل الروائي , إنما كيفية هذا التناول وأغراضه الفنية والجمالية التي تعزّز سياق النص فنيا أو تضعه في خانة الإثارة المجانية الرخيصة وحدها . وكمتلق للعمل الروائي أجد أن الجنس الذي ُيوظف أحيانا كتوابل خارجة عن السياق لا يخدم النص بقدر ما يسيء إليه , والإسراف في تصوير المشاهد الحسية الجنسية ينأى بالعمل الروائي عن مداره الحيوي الذي يعنى بتصوير السلوك والانفعالات والمصائر التي تتحكم فيها دوافع وعوامل عدة ليس الجنس أولها وآخرها . إن شفافية اللغة , وشفافية تصوير المشهد الجنسي , بما يتوافق مع السياق , ويعزّز المضمون والدلالة , شرط مهم في اجتذاب القارئ وتشويقه وتحفيزه على القراءة بما يوفّر له عنصري المتعة والمعرفة , وهما غاية كل فن جميل , سواء أكان رواية أم قصيدة , أم لوحة تشكيلية . إن جمالية السرد الروائي لا تتأتى من خروجه عن المألوف والاقتراب من الخطوط الحمراء وتجاوزها فحسب , بل من حرارة الحدث , وعمقه , ودراميته , وصلته بالحياة التي نعيشها والمشكلات التي نواجهها , وتعبيره عن التعدّد والتنوع الكلامي والإيديولوجي في لحظة من لحظات التحول المصيري التي تثير كثيرا من الجدل وردود الأفعال , وقبل كل هذا أسلوبه وأدواته وتقنياته المبتكرة المستخدمة في توصيل ذلك . فالجنس في تجليه الإنساني العاطفي فضاء مهم للإبداع الروائي , شرط ألا يقع في الإباحية الرخيصة التي تقترب من الدور المناط بأفلام البورنو لا بالفن عموما . وما الطابع الفضائحي الذي تعكّزت عليه بعض الأعمال الروائية في اكتساب شهرتها الزائفة إلا فقاعة إعلامية سرعان ما تضمحل وينتهي أثرها بانتهاء الضجّة المفتعلة حولها . أما الأعمال التي لا تكتسب شهرتها وحضورها من هذا الباب فستجد قراءها الدائمين في كل زمان ومكان . شأنها شأن تلك الأعمال الخالدة التي ما زالت تهزّ وجداننا , من الإلياذة و أوديب وميديا وأنتيغون , إلى ديكاميرون وعوليس ودون كيخوته وألف ليلة وليلة , وكل ماتركه أديبنا الراحل نجيب محفوظ من روايات وقصص , على سبيل المثال لا الحصر .‏


.

0.jpg
 
أعلى