نزار بريك هنيدي - خطاب العشق في الأدب العالمي المعاصر - دراسة

يحتل خطاب العشق مكانة متميزة في الأدب العالمي المعاصر. وإذا كان من نافل القول أن الحب يشكل المادة الأولى التي ينهل منها الشعراء أعذب الصور وأشجى الأنغام، ويستمدّ منها الروائيون والمسرحيون أهم مواضيع أعمالهم وأكثرها غنى وحيوية، منذ أن كان الشعر وكان الأدب. إلا أن الظاهرة التي أعنيها هنا هي قيام عدد من مشاهير الشعراء والروائيين والنقّاد في العالم بتخصيص كتب بكاملها للتأمل في مسألة الحب، ودراسة أحواله المختلفة، وتقصّي علاقته بالنفس البشرية وبالسلوك والمصير، وتأثيره في الإبداع الأدبي والفني. وكذلك الإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم الشخصية وكشف أغوار حياتهم العاطفية.

وفي الحقيقة، فإن هذه الظاهرة ليست جديدة تماماً، فقد عرفنا في التاريخ الأدبي عدداً من الكتب المماثلة، وإن كانت قليلة ومتفرقة. وربّما كان أولها كتاب (فن الهوى) الذي وضعه الشاعر (أوفيد) منذ ألفي عام، وكذلك كتاب الحب الهندي (كاماسوترا)، وكتب الحب العربية.

فمن الجدير بالذكر أن لأجدادنا العرب مكانة متفرّدة في هذا النوع من التأليف، فقد أعطوا العالم عدداً من كتب الحب التي استطاعت اختراق الثقافة الغربية وبقيت تشكل المرجع الرئيس في بابها طوال عصور عديدة، وما زالت تلعب دورها المؤثر الكبير حتى يومنا هذا. وعلى رأس هذه الكتب كتاب (الزهرة) لأبي داود و(طوق الحمامة) لابن حزم، و (الروض العاطر في نزهة الخاطر) للشيخ النفزاوي. وربما كان خير دليل على ذلك أن التأثر الجليَّ والواضح بهذه الكتب يشكل قاسماً مشتركاً بين جميع مؤلفات الحب الحديثة التي نتناولها في هذا البحث، بالإضافة إلى عامل مشترك آخر، لا يخلو من الطرافة، يتجلى في كون هذه المؤلفات قد كتبها أصحابها في أواخر أعمارهم، بعد أن حققوا الكثير من الشهرة الأدبية العالمية، وبعد أن تجاوزوا سنّ الشباب والنضج أيضاً! وقد يذهب المرء في تفسير ذلك إلى أن الكتابة في الحب وشؤونه تحتاج إلى تراكم التجارب الحياتية والخبرات المعرفية. إلا أنه قد يكون للمسألة وجه آخر يتجلى في شعور الأديب بلا جدوى المجد الأدبي الذي أفنى أيامه في بنائه، واكتشافه المتأخر بأن الحب وحده هو المعنى الجوهري للوجود، والبهجة الكبرى للحياة، فراح يتأمل ما أضاع، في مغامرة تعويضيّة، تتيح له العودة إلى تجربة الحب، ولو على الورق!.

ومهما يكن من أمر، فإن دراسة هذه المؤلفات تتيح لنا أن نصنفها في ثلاث مقاربات متباينة بعض الشيء، بحسب طريقة تناولها لموضوع الحب، والمنظور الذي تتخذه حياله، والغرض الذي يضعه الكاتب نصب عينيه. وكذلك بحسب شخصية الكاتب والفن الإبداعي الذي يمارسه. ويمكن لنا أن نجمل الملامح الهامة لكل من هذه المقاربات فيما يلي:
1-المقاربة الأولى:

ويمكن لي أن أسميّها: المقاربة الاسترجاعية الاستقرائية. إذ يقوم المؤلف باسترجاع نصوص العشق التي رسخت في ذاكرته خلال عمله الطويل في قراءة ودراسة الأدب العالمي في عصوره المختلفة، ويتخذ منها مادةً البحثٍ يستقرئ فيه الأبعاد العاطفية والجمالية واللغوية التي انضوت عليها تلك النصوص، في محاولة لإعادة إحيائها وتفعيل وظائفها، دون أن يخفي العامل الذاتي الذي يتمثل في حنينه المستثار إلى التجربة العشقية، وتداخل مفردات خطابه النظري مع محطات حياته الشخصية.

ومن أهم الكتب التي تمثل هذا الاتجاه في المقاربة كتاب (رولان
بارت)(1) الذي يحمل عنوان (شذرات من خطاب في العشق) الذي ترجمته إلى العربية الدكتورة إلهام سليم حطيط والأستاذ حبيب حطيط، وصدر عام 2000 ضمن سلسلة (إبداعات عالمية) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت.

و (رولان بارت) من أشهر منظّري البنيوية واللسانية، ولد عام 1915، وله عدد من المؤلفات التي أصبحت حجر الزاوية في الدراسات النقدية واللسانية الفرنسية الحديثة ومن أشهرها (الكتابة في درجة الصفر) و (لذة النص) و (إمبراطورية الأدلة). أما كتابه (شذرات من خطاب في العشق) فقد كتبه في آخر حياته، أي قبل ثلاث سنوات فقط من وفاته عام 1980.

وفي هذا الكتاب، قام بارت بجمع عدد كبير من شذرات ما قيل في العشق من مصادر متنوعة، أهمها أفلاطون وغوته ونيتشه والفلسفة البوذية وأشعار الهايكو اليابانية وكذلك من ابن حزم صاحب (طوق الحمامة)، بالإضافة إلى أحاديثه مع الأصدقاء ومن تجارب حياته الشخصية.

ويقوم منهجه في الكتاب على استرجاع كلمة أو صورة أو شذرة من المصادر السابقة، ثم يضعها في (إضبارة العشق) مستعملاً صوريّة خطاب العشق بدلاً من وصفه كما يقول، ومعيداً لهذا الخطاب شخصيته الأساسية أي (الأنا) للعرض لا للتحليل. ومن هذه الصور: الغياب، الانتظار، التوله المفاجئ، الألم، التماهي، أحبك، كم كانت السماء زرقاء، الجسد، القلب، الحنان، الانتحار، الحقيقة، النميمة. ثم يدرسها محاولاً الغوص إلى الدلالات الخفية والمشاعر العميقة التي تتبطن خطاب العشق، وزفرات العشاق.
2-المقاربة الثانية:

ويمكن تسميتها مقاربة الحنين والإثارة، إذ ترتكز على الإحساس الصريح والواضح بالحنين إلى أيام الصبا والشباب التي لم يتم استغلالها كما ينبغي. لذلك لا بد من البحث المحموم عن الوسائل التي تعين على استثارة الحواس واستعادة الحيوية لتدارك ما فات. وفي سبيل ذلك يتم تحريض الذاكرة واستنفار المعارف والخبرات، ودراسة عادات الشعوب وتقاليدها لاستخلاص الوصفات السرية التي تستخدم لإثارة الرغبة.

ومن الأمثلة على هذا النمط من المقاربات كتاب (أفروديت)(2) التي كتبته الروائية التشيلية المعروفة (إيزابيل الليندي) بعد أن تجاوزت الخمسين من العمر، وقد ترجمه رفعت عطفة وصدر عن دار ورد في دمشق عام 2000. ولإيزابيل الليندي عدد من الروايات التي ترجمت إلى معظم لغات العالم وجعلت منها أهم كاتبات أمريكا اللاتينية وأكثرهن شهرة، ومن أهمها (ابنة الحظ) و (بيت الأرواح) و (باولا) و (عن الحب والظلال).

تقدّم الليندي لكتابها بمدخل واضح الدلالة تقول فيه: حين تغيب الشمس ويميل المرء طبيعياً للتأمل، تصير الخمسون سنة مثل آخر ساعات المساء. ومع ذلك فالغروب في حالتي يدفعني للخطيئة، وربما لهذا السبب في خمسينيتي أتفكر بعلاقتي بالطعام والإيروسية. نزعة الجسد أكثر ما يغويني، على الرغم، وتلك هي المسألة، من أنه ليس أكثر شيء مارسته. ثم تقول بصراحة مطلقة: أندم على الحميات، الصحون اللذيذة التي رفضتها بطلاناً، كما أحزن على فرص ممارسة الحب التي تركتها تفوتني لانشغالي بأعمال عالقة، أو لفضيلة متشددة.

وعن سبب إقدامها على تأليف هذا الكتاب تقول: أريد الاستمرار بالتمتع بما تسمح به قواي وحسن مزاجي، ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب الذي هو رحلة دون خريطة عبر مناطق الذاكرة الحسيّة. وهي تعرّف (الأفروديتي) بأنه أية خلاصة أو نشاط يثير الرغبة بالحب، بعضها يملك ركيزة علمية ومعظمها يعمل بدافع الخيال. وتعلن غاية كتابها: أرمي في هذه الصفحات إلى أن أقدّم، بأفضل ما عرفت، وصفاً لأكثر الأفروديتيات شيوعاً.

وتتوالى فصول الكتاب متضمنة عدداً كبيراً من وصفات تحضير الأطعمة ذات التأثير المهيج أو الأفروديتي بحيث يبدو الكتاب وكأنه كتاب تعليم فن الطبخ، ولكنه الطبخ الخاص بإثارة الشهوة الجنسية.

بالإضافة على مجموعة من الحكايات والنوادر والأشعار التي استقتها المؤلفة من قراءاتها في آداب شعوب العالم، ومنها الأدب العربي ممثلاً بشكل خاص بألف ليلة وليلة وكتاب الروض العاطر للنفزاوي. كما ضمّ الكتاب مجموعة من اللوحات الفنية اختارها الفنان روبرت شكتر، وتقول المؤلفة إنها كانت تنوي أن تضيف إلى كتابها قرصاً يضم تسجيلات لمقطوعات موسيقية ذات تأثير أفروديتي أيضاً..! وخلال ذلك كله تقدم المؤلفة لوحات من حياتها الشخصية المتعلقة بالحب والجنس، كما تصف لنا تجارب قامت بها على عدد من المتطوعين الذين دعتهم لدراسة تأثير (أفروديتياتها) عليهم. وتغري القارئ بقولها: إذا استطاعت هذه الصحون أن تفعل هذا الفعل في عجائز مثلنا، فما الذي لا تستطيعه معك.؟!
3-المقاربة الثالثة:

وهي مقاربة التأمل والكشف والإبداع، وهي مقاربة تبحث في الأساس الوجودي للحب كمفهوم يجسد البعد الأسمى لعلاقة الإنسان بالعالم، ويعطي الحياة معناها الأقصى. وفي سبيل ذلك يتم سبر أغوار التجارب البشرية المختلفة عبر التاريخ، وتبيين الثابت والمتحول في فهم وممارسة الحب في العصور المختلفة وعند الشعوب المتباينة. وتحديد الفاصل بين الحب والجنس والنشوة، وربط جوهر التجربة العشقية بموقف الإنسان من العالم والطبيعة والوجود. واستقصاء التشابك المعقد بين الحب والإبداع.

وربما كان خير مثال على هذا الاتجاه كتاب (اللهب المزدوج)(3) للشاعر المشهور (أوكتافيو باث)، وهو الكتاب الذي ألفه في سنوات عمره الأخيرة وصدر بلغته الأصلية عام 1993، كما قام بترجمته إلى العربية الأستاذ المهدي اخريف، وصدرت الترجمة عام 1998 ضمن المشروع القومي للترجمة الذي يقوم به المجلس الأعلى للثقافة في مصر.

ومما هو معروف أن (أوكتافيو باث) واحد من أهم شعراء القرن العشرين، ولد في مدينة مكسيكو سيتي عام 1914، وأصدر عدداً كبيراً من المجموعات الشعرية التي ترجم معظمها إلى مختلف لغات العالم، ومنها (قمر بري- تحت ظلك الوضاء- بذور النشيد- السفح الشرقي- حجر الشمس- وغيرها) كما أصدر عدداً من الكتب النظرية والنقدية والفكرية، من أهمها (القوس والقيثارة- الصوت الآخر- اللهب المزدوج- متاهة الوحدة).

وعن سبب قيامه بتأليف كتاب (اللهب المزدوج) الذي نحن بصدده، يقول: (أليس من المضحك قليلاً أن أكتب في نهاية أيامي كتاباً عن الحب، أم أن الأمر يتعلق بوداع أو وصية؟.. مرت أسابيع عديدة من التردد، فجأة، ذات صبيحة بدأت الكتابة بيأس فرحان. وبقدر ما كنت أتقدم، كانت أفكار جديدة تتولد.

كنت أنوي كتابة بحث من مئة صفحة لكن النص كان يتمدد أكثر فأكثر بتلقائية عاتية حتى كفَّ عن التدفق، فركت عيني: لقد ألفت كتاباً).

يعتبر أوكتافيو باث إن الجنس هو النار الأصلية البدائية التي ترفع اللهب الأحمر للإيروسية، وهذه بدورها تسند وترفع لهباً آخر أزرق مرتعشاً هو لهب الحب. فالإيروسية والحب هما (اللهب المزدوج) للحياة. حسب تعبيره.

وكما هو واضح فإن المؤلف يميّز بين الحب، في مدلوله الخاص، وبين الإيروسية والجنس، بالرغم من العلاقة الحميمة بين هذه المجالات الثلاثة، فالجنس هو أقدم هذه المظاهر الثلاثة، هو المنبع الأصلي، أما الإيروسية والحب فشكلان مشتقان من الغريزة الجنسية: تبلّرات، تصعيدات، انحرافات، وتكثيفات تحول الجنس وتغيره. إن الجنس كما في حالة الدوائر المتمركزة هو مركز وقطب هذه الهندسة العاطفية. أما الإيروسية فهي جنس محوّل من لدن التخيل والإرادة، فالإيروسية مقصورة على الإنسان وحده، وهي تتميز بالتنوع اللا نهائي للأوضاع والطرائق التي تظهر بها في جميع العصور وجميع المناطق، الإيروسية ابتكار وتنوع مستمر، أما الجنس فهو نفسه دائماً. تتجسد الإيروسية في شكلين رمزيين: شكل المتدين المتوحد وشكل الشخص الإباحي، وبالرغم من كونهما متعارضين لكنهما متحدان في الحركة ذاتها: كلاهما ينفي وظيفة التناسل وكلاهما يمثل محاولة للخلاص أو الانعتاق الشخصي في عالم منهار وفاسد.

أما عاطفة الحب فتمثل استثناء داخل ذلك الاستثناء الأكبر الذي هو الإيروسية في مقابل الجنس. فمنطقة الحب فضاء ممغنط باللقاء بين شخصين، وفيها تتقاطع الإمكانات الموضوعية والذاتية، إذ إن فكرة اللقاء تتطلب بدورها شرطين متعارضين: فالجاذبية التي يشعر بها العاشقان هي فعل لا إرادي، يؤكد من مغناطيسية سرية قادرة على كل شيء، وهي في الوقت نفسه اصطفاء، جبرية واختيار.

ويميز المؤلف أيضاً بين الشعور بالحب، وبين فكرة الحب المتبناة من لدن مجتمع وعصر معينين. فالحب هو الميل السري العاطفي نحو شخص واحد فقط، أي أنه تحويل لـ (الموضوع الإيروتيكي) إلى فاعل حر وفريد، إلا أنه لا بد من القبول بوجود إيديولوجيات متعددة للحب في مختلف الحضارات. فإذا كانت فلسفة الحب في الغرب، منذ البداية، مدركة خارج الدين الرسمي، وأحياناً في مواجهته، فإنَّ الحب في الشرق قد كان معيشاً ومفكراً فيه داخل الدين، ولربّما أمكن اعتباره خطيئة، لا مروقاً، أما في الغرب فقد انتشر الحب دائماً في مقابل الدين، وخارجه، وحتى ضده. الحب الغربي وليد الفلسفة والإحساس الشعري الذي يحيل كل ما يلمسه إلى صور. إن الإدانة الصارمة للذة الجنسية والدعوة إلى العفة كطريق إلى الفضيلة والسعادة هما النتيجة الطبيعية للفصل الأفلاطوني بين الجسد والروح، والذي يبدو مغالياً في قطيعته.

تتوالى فصول الكتاب بعد ذلك لتدرس تاريخ الحب منذ تجلياته الأولى قبل التاريخ، عبر استقراء النصوص الشعرية والأدبية بشكل رئيس، ذلك أن ما قاله الشعراء والمسرحيون والروائيون عن الحب ليس أقل جمالاً وعمقاً من تأملات الفلسفة، بل أصح وأكثر تطابقاً مع الواقع الإنساني والبسيكولوجي في جل الأحيان على حد تعبير المؤلف.

ففي العصر الإغريقي نجد أن جل القصائد الإغريقية هي قصائد ايروتيكية أكثر مما هي قصائد حب. كما أننا لا نجد في المسرح الإغريقي حوارات عن الحب بالمعنى الذي نجده عند شكسبير مثلاً، ولذلك يجب المضي، من أجل العثور على بعض التمثيلات والتنبؤات لما سيكون عليه الحب عندنا إلى الاسكندرية وروما. حيث تعتبر قصيدة (الساحرة) لثيوقريط التي كتبت في الربع الأول من القرن الثاني ق. م من أولى القصائد الكبرى عن الحب. وهي ما زالت اليوم بعد مضي أكثر من ألفي عام محتفظة بكامل شحنتها العاطفية. ويقول المؤلف إن ثيوقريط لم يكن باستطاعته أن يكتب قصيدته هذه في أثينا أفلاطون، ليس فقط بسبب بغض الأثينيين للنساء، وإنما بسبب وضعية المرأة في اليونان القديمة. أما في العهد الاسكندري الذي يملك أكثر من وجه شبه مع عصرنا، فقد حدثت ثورة غير مرئية، فالنساء المحبوسات في غرف الحريم قد خرجن إلى الهواء الطلق وبرزن على سطح المجتمع، واغتنت حياة الطبقة الوسطى في المدينة بأهوائها الصغيرة والكبيرة، بمآزقها وحسها الاجتماعي وحماقاتها. كما أن المدينة القديمة نفسها تغيرت فانفتحت على الخارج، وتبادلت الأفكار والأشخاص والعادات والمعتقدات. وهكذا فإن ما قبل تاريخ الحب في الغرب ماثل في مدينتين كبيرتين: الاسكندرية وروما. ومع أن العصر الأوغسطي كان عصر الشعر اللاتيني العظيم، شعر فرجيل وهوراس وأوفيد، إلا أن قصائدهم كانت تنويعات متقنة على الموضوعات التقليدية الإيروسية مشربة بالأبيقورية، ومع ذلك فثمة شاعر أقل مستوى بكثير هو (بروبرسيو) الذي عاش بين 47 ق. م و 15 ق. م عرف كيف ينقل بعمق الأحزان والأفراح الكبرى للحب في قصيدته عن (سنتيا). ولكن موقف بروبرسيو وشعراء آخرين كان تحدياً للمجتمع وقوانينه.

وبالانتقال إلى فرنسا في القرن الثاني عشر، نجد الحب، وقد ظهر أخيراً، لا كهذيان فردي، أو استثناء أو ضلال بل كمثل أعلى لحياة عليا، فقد ظهر (الحب الغزل) أو المهذب، الذي كان تطلعاً مضمراً لذلك المجتمع الذي سيشكل فيما بعد الإبداعات الكبرى للحضارة الغربية، ويخص المؤلف بالذكر إبداعين اثنين: الشعر الغنائي، وفكرة الحب باعتبارها أسلوباً للعيش. ويؤكد أوكتافيوباث مقولة (روني نيلي) في أن التأثير المبكر والأعمق والحاسم هو تأثير أسبانيا المسلمة، فمعظم العلماء يعترفون بتبني الشعراء البروفنساليين لشكلين شعريين شعبيين عربيين أندلسيين هما الزجل والموشح. كما أن الشعراء البروفنساليين تبنوا التقليد العربي، فقلبوا العلاقة التقليدية بين الجنسين، فنادوا المرأة سيدتهم وأقروا بأنهم خدامها، وهذا التحول مثّل ثورة حقيقية في المجتمع بتأثير إسبانيا الإسلامية.

وفي الإيروسية فإن أرفع أنواع الحب كان هو الحب الطاهر، ويستشهد أوكتافيو باث بكتاب (الزهرة) لمحمد بن داود، حيث يولد الحب عنده من النظر إلى جسد جميل، ثم يتدرج من الجسماني إلى الروحاني. وبعد قرن على ذلك سيكتب الفيلسوف والشاعر ابن حزم، أحد وجوه الأندلس الأكثر جاذبية، كتابه (طوق الحمامة) المترجم إلى جميع اللغات الأوربية تقريباً، ويقول المؤلف أنه صادف بدوره صدى آخر لابن حزم لا عند الشعراء البروفنساليين فحسب، ولكن عند دانتي أيضاً. لقد كان الحب بالنسبة للبروفنساليين الذين ساروا على نهج ابن حزم والإيروسية العربية، ثمرة لمجتمع مطهر، لم يكن عاطفة تراجيدية، رغم مكابدات المحبين وأحزانهم، لأن الغبطة غايته النهائية، أي تلك السعادة الناتجة عن اتحاد اللذة بالتأمل، والعالم الطبيعي بالروحي، وهذا ما يجعل التجربة الصوفية أيضاً كالتجربة الجنسية: انصهار لحظي للمتعارضات، التوتر والارتخاء، التوكيد والنفي، الوجود خارج الذات والاجتماع مع فرد بعينه في حضن طبيعة رضية. لذلك من الطبيعي أن يستخدم الشعراء المتصوفون والإيروتيكيون لغة متماثلة. إذ لا توجد صيغ كثيرة للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه. فقصائدنا الصوفية مشبعة بالإيروسية، وأشعارنا في الحب مشبعة بالتدين. ويستنتج المؤلف أن التصور الغربي للحب يبرز وجود تشابه مع التصور العربي والفارسي أكبر وأعمق من التشابه المحتمل مع مثيلهما في الهند والشرق الأقصى، ذلك أن كلا التصورين: الغربي والإسلامي، اشتقاق، أو مروق بالأصح، عن ديانتين توحيديتين كلتاهما تشترك في الإيمان بروح متفردة خالدة.

وبعد مرور ثمانية قرون على الشعراء البروفنساليين، أو (الحب الغزل) يتساءل أوكتافيو باث: هل تغير النموذج الذي قدمه لنا هؤلاء الشعراء؟ ويجيب أن تاريخ الآداب الأوربية والأمريكية إنما هو تاريخ تحولات الحب، وما يثير الدهشة هو استمرارية وثبات فكرتنا عن الحب، لا تغيراته وتنويعاته. فقد بقيت العناصر الجوهرية للحب على قيد الحياة منذ ثمانية قرون، في نفس الوقت الذي ظلت العلاقات بينها في حالة تغير لا ينقطع منتجة تركيبات جديدة كل مرة. والعناصر الجوهرية لفكرة الحب هي: التفرد، فالحب فردي، أو بالأحرى شخصي جواني. والحرية فالحب يخترق الممنوعات. ومفارقة السيطرة والخضوع، ثم الاتحاد القابل للفصل بين متضادين: الروح والجسد. أما الجمال، ففضلاً عن كونه معرفة شخصية، فهو لا يلعب إلا دوراً ثانوياً في جاذبية الحب التي هي أعمق بكثير، ولم يتم بعد التوصل إلى تفسيرها بشكل تام، ذلك سر مبهم تتدخل فيه كيمياء خفية تنتقل من حرارة الجلد إلى التماعة النظرة، من صلابة النهدين إلى طعم الشفتين. فالجاذبية مركب ذو طبيعة مرهفة تختلف باختلاف كل حالة وهي مكونة من خلائط حيوانية وأنماط روحية، من تجارب طفولية ومن أشباح تسكن أحلامنا. الحب ليس رغبة في الجمال بل تشوفاً للاكتمال. والحب هو أحد ردود الفعل التي اخترعها الإنسان ليحدق في الموت وجهاً لوجه!.

وعندما يصل أوكتافيو باث في رحلته عبر تاريخ الحب، إلى العصر الحاضر. الذي يصفه بأنه عصر التبسيط والفظاظة، والذي انتهى بعد سقوطه في وثنية الأنظمة الأيديولوجية، إلى عبادة الأشياء. يتساءل: أي مكان للحب في عالم كعالمنا هذا؟ ففي هذا العصر تمثل مصادرة الإيروسية والحب على يد سلطات المال وجهاً واحداً فقط من غروب شمس الحب، أما الوجه الآخر فهو تبخّر مكونه الجوهري: الشخص (الفرد)، والوجهان معاً يكملان ويفتحان منظوراً للمستقبل المحتمل لمجتمعاتنا هو البربرية التكنولوجية. فإلى جانب الأضرار الاقتصادية والسياسية التي أصابت المجتمعات العصرية، هناك أيضاً أضرار أخلاقية وروحية. بعضها يهدّد أساس مجتمعاتنا برمتها: أي فكرة الشخص الإنساني. تلك الفكرة التي كانت منبع الحريات السياسية والثقافية، كما كانت خالقة أحد الاختراعات الإنسانية الكبرى: الحب.

ويؤكد أوكتافيو باث أن الإصلاح السياسي والاجتماعي للديموقراطية الليبرالية الرأسمالية يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع إصلاح آخر للفكر المعاصر لا يقل إلحاحاً واستعجالاً، وإن الحوار بين العلم والفلسفة والشعر يمكن أن يكون مقدمة لإعادة تشكيل وحدة الثقافة، ومقدمة أيضاً لانبعاث جديد للشخص الإنساني الذي هو المنبع والحجر الأساس للحضارة. ولكي نتمكن من تجديد الحب، حسب مطلب الشعراء، ينبغي أن نخترع الإنسان من جديد.

لقد سمحت لنفسي أن أقف الوقفة الأكبر مع كتاب (اللهب المزدوج) لأنه الأكثر غنى والأشد عمقاً. فالمقارنة بين المقاربات الثلاث تكشف لنا بجلاء ووضوح أن المقاربة الأولى كانت ذات طابع وصفي برّاني، تناولت موضوع الحب من خلال وسيط هو الشذرات الأدبية المختارة. والمقاربة الثانية كانت شخصية وذات طابع عملي تجريبي لم تهدف إلى التفكير بجوهر الحب بقدر ما كانت تعمل على إثارة الرغبة في ممارسته. أما المقاربة الثالثة فهي وحدها التي سعت إلى الغوص إلى أعماق تجربة الحب وتمييز الحدود بين الحب والجنس والإيروسية وكشف العلاقات الغامضة فيما بينها وكذلك البحث في علاقتها بالوجود الإنساني، واهتمت بدراسة العوامل التي آلت بالحب إلى ما هو عليه اليوم في ظل الحصار الذي تفرضه الأنظمة المعاصرة على كل ما يتصل بالجوهر الإنساني الأصيل.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون مؤلف الكتاب الذي يمثل المقاربة الأولى هو فيلسوف وناقد كبير (رولان بارت) وأن يكون كتاب المقاربة الثانية لروائية من أشهر روائيي العالم المعاصر (إيزابيل الليندي)، بينما الكتاب الذي يمثل المقاربة الثالثة لشاعر هو (أوكتافيو باث). ذلك أن الشعر يبرهن مرة أخرى أنه الأكثر قدرة على الغوص إلى الأعماق، والخوض في التفاصيل، وإدراك الكليّات، واستحضار النائيات، واستشراف الآفاق. وما ذلك إلا لأن الشاعر –أولاً وأخيراً- هو الصوت الحقيقي للجوهر الإنساني!.



.

صورة مفقودة
 
أعلى