نورالدين برحيلة - الجنسانية الذكورية.. جدل الفحولة والخصاء

يُعتبر الجنس بأبعاده وتجلياته المتعددة الأكثر عمقا وتغلغلا في أنطولوحيا الوضع البشري، في الأحداث التي يعيشونها، واللغة التي يتكلمونها، في السلم كما في الحرب، في الرخاء كما في البأساء.. إنه البعد الأكثر تأثيرا في الوجود الإنساني.

وسأخص قراء هسبريس بهذه الدراسة العلمية على حلقات، لتسليط الضوء على مناطق الظل في ثقافتنا، والعمل على تفكيك وخلخلة الطابوهات، لأن العلم نور والجهل ظلام، ومحاربة الجهل في نظرتنا لذواتنا إناثا وذكورا، هو الطريق لأنسنة المجتمع، ونشر قيم الاحترام المتبادل بين آدم وحواء، من أجل التفاهم والعيش المشترك والبناء.

لاريب أن الجنس يحظى بحضور قوي في في الثقافة الإسلامية، سواء في النصوص الدينية الضابطة له في النظام الاجتماعي، أو تلك النصوص التي تُشير إلى الجنس كأحلى ملذات الجنة، تتطرق إلى هذا الأمر زهاء ثلاثمائة آية، إضافة إلى الأحاديث النبوية، والمؤلفات الفقهية والأدبية، التي تكون تُراثا ضخما، حول الجنس، يمكن وصفها بالجنسانية الإسلامية، التي تتمحور على الجنس موضوعا وسلوكا، وتضفي عليه الكثير من الاعتبارات القيمية خصوصا وهو يستقطب اهتماما مفصليا في التاريخ..

إن جغرافية الجنس في المجتمعات الإسلامية وعرة المسالك، والمقاربة العلمية للجنس مجازفة، مما يفسر قلة الأبحاث والدراسات العلمية في موضوع الجنس، ربما بسبب "الخوف" من الخوض في المقدس على اعتبار أن الجنس مؤطر دينيا، ورغم ما يبدو في مختلف مظاهر الحياة اليومية من اعتبار مسألة الجنس من البديهيات التي أصبحت مُجاوزة، فإن الجنس مازال أكبر الطابوهات في ظل مجتمع ذكوري يستمد "فُحولته" ووجوده، من "القضيب"، وأكثر ما يخشاه الذكور، هو الخصاء، وانكسار وفقدان القضيب.

حتى لا نُصدِر أحكاما ذاتية جاهزة متسرعة، لا بد أن نتجاوز الفهم البيولوجي لمفهوم القضيب، الذي يحمل نغمة جنسية، بيد أنه يجاوز الجنس إلى الثقافة، المجتمع، السياسة، الاقتصاد ومختلف مجالات الحياة.

سنحاول استنطاق الجهاز الفاهيمي، الذي سيساعدنا على فهم الإطار النظري لمفهومي "الفحولة" و"الخصاء":

- في البدء كانت الفحولة:

من الناحية اللغوية كلمة الفحولة مشتقة من الفحل، وهو الذكر من كل حيوان، الذي يتمتع بالقوة، إن الفحولة في معناها ومبناها قوة، سلطة، سيطرة، وبالرجوع إلى لسان ابن منظور، نجده يربط الفحولة بالذكورة: الذكر خلاف الأنثى، ويوم مذكر يوم شديد، ورجل ذكر إذا كان قويا شجاعا أبيا، ومطر ذكر: شديد وابل، وقول ذكر متين، بل إن الذكورة تمتد إلى الشعر فيوصف بالقوة والفحولة.. فحول الشعراء..

يمكن أن نخرج بعدة خلاصات من تعريف ابن منظور:

- إعطاء كلمة الذكر المعاني الدالة على القوة والعظمة والنفوذ القيمي.

- الربط بين المعاني المادية والمعنوية، فالذكورة في كل شئ هي متانته، صلابته وإباؤه.

- إخلاص ابن منظور للثقافة الذكورية السائدة في عصره، ورعايته لها، عندما يستشهد بترسانة من الدلالات تعتبر كل ما هو قوي وأصيل ومنيع ومؤثر وفاعي في الذكورة.

وتجدر الإشارة أن الذكورية ثقافة كونية، يتضح هذا من خلال اللسان الغربي لمفهوم الفحولة Vérilité، إذ تتأرجح بين الذكورة والفحولة، والرجولة، وقبول الذكر واستدماجه لقيم وتمثلات الذكورة والتصرف وفقها في محيطه، كما تعني كمال الصفات المميزة للرجل بما فيها:

- المميزات الفيزيولوجية للذكر البالغ، بالمعنى البيولوجي، فتكون مرادفة للبلوغ Puberté/النضج الجنسي..

- ترمز أيضا إلى السلوك الجنسي للرجل خاصة قوته وقدرته جنسيا، والتي يحددها الخبير السيكولوجي بيير داكو Pierre Daco في الرغبة الجنسية لذى الذكر، والقدرة على الانتصاب والإيلاج، ثم القدرة على إتمام الفعل الجنسي وتحقيق اللذة المشتركة لا لذة الرجل فقط.

أما السوسيولوجي بيير بورديو Pierre Bourdieu فيربط الفحولة بالسيطرة الذكورية بمعنى نظام أو مؤسسة اجتماعية مرتكز على الهيمنة والتسلط والدوغمائية الذكورية المُمَأسسة على القوة والتفوق الذكوري في المجتمعات الأبوية التي تُبنى على الخلط بين الوظائف، الأدوار والسلطات، فالنظام الأبوي لا يعني سلطة الأب فحسب، بل تتداخل وطيفة الأب بوظيفة صاحب السلطة، وتتداخل وظيفة الزوج بوطيفة صاحب السلطة، إن النظام الذكوري يقوم على هيمنة الذكر، وإخضاع المرأة، وتنشئة الطفل الذكر على تبني قيم الذكور، وبالتالي يُكوِن الطفل هويته كرجل (فحل) بالاستناد إلى التمثلات النفسية-الاجتماعية الموجودة في المجتمع الذكوري.

- هل الفحولة أسطورة؟

- ماذا لو جردك أحدهم بقوله: "أنت لست رجلا؟".

إن الخطاب حسب مؤلِف "تاريخ الجسنسانية" ميشيل فوكو Michel Foucault، ليس مجرد قول يكشف أو يُعبِر عن ممارسة، بل هو نفسه ممارسة وفعل في الواقع يسير وفق قواعد وآليات تخلق الموضوع وتضع الحدود والموانع والمعايير، وإذا كان الخطاب ممارسة وفعلا أو قولا مؤثرا في الواقع، لأنه من قبيل الأفعال الإنجازية فإن تأثيره لا يكون بذاته وإلا أضحى سحريا، وإنما بفضل المؤسسات التي تتحكم في قواعد اشتغاله وما تبتدعه مؤسسة المجتمع من تخيلات يُفسِر بها الأفراد عالمهم ويُضفُون المعنى على وجودهم.

وهنا يُسعِفنا السوسيولوجي المغربي الخمار العلمي من كون التربية أداة التنشئة الاجتماعية، هي الصانعة للثقافة الذكورية، وظيفتها التشكيل المستمر للماضي، وليس الماضي في سياق مؤسسة الفحولة سوى ميراث طويل من الهيمنة الذكورية وما يرتبط بها من عنف مادي ورمزي للمحافظة على السيطرة الذكورية على المرأة، وجعل الذكر فوق الأنثى، وهنا تُفرض على المرأة أدوار اجتماعية، لا تتعدى الثلاثة:

- العذراء: ملك الأب الذي تحمل اسمه وشرفه، تحمل قيمة تبادلية ثمينة بين الرجال كونها بضاعة نظيفة مرغوب فيها.

- الأم جسد للزوج وآلة للإنجاب، تفقد قيمتها بالطلاق (وجود عيب)، أوالترمل (عتبة نحس).

- العاهرة: مقبولة ضمنيا، لكنها مرفوضة من النظام الاجتماعي، قيمتها في جسدها الذي يصلح للتبادل، مما يجعلنا نتحدث عن مؤسسة العهر التي قد تتعرض للشجب قولا، مع أنها في الواقع لا تلقى التساهل والتغاضي فحسب، بل تُمارس على نطاق واسع لا سيما من قبل الطبقات السائدة، والشجب لا يمس الرجال (الباغون فحول) بل يوجه للنساء (الباغيات مخصيات) فقط، فيعاملن باحتقار ويتبذن كناية على السيادة المطلقة للذكور على جنس النساء.

- المجتمع الذكوري يتغاضى عن عهر الذكور، بل هو يكون في عالب الأحيان مفخرة ورمزا للفحولة، بينما يتم استِـبشاع عمر المرأة لماذا؟

- لأن العُهر في مؤسسة الفحولة الذكورية أنثوي.

وإذا كان التنافس والتساوي في العهر لا معنى له غير المأساة والانحطاط والضياع والشقاء والبؤس ومضاعفة النماذج والسلوكات المنحطة، فإن اعتبار العهر أنثوي لا معنى له غير ازدواجية المواقف والنفاق الاجتماعي، والجسد الإنساني له قدسيته وليس لحما مُستباحا.

إن الخوف على الفحولة الجنسية هو أخطر ما يخشاه الذكور في المجتمعات العربية، ويعتبر جيث الرحل عن أمراضه أواضطراباته الجنسية، مسا بذكورته، وغالبا ما تُنسب إلى "الثقاف" الذي يعني شل قدرة الرجل الجنسية بواسطة السحر، وطبعا توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى المرأة (كيد النساء) وهي قناعة مشتركة بين معظم الذكور، ولحل "التقاف" يتم الاستنجاد بالمشعوذين والعلاج الشعبي، ولا يلجأ إلى الطبيب المختص إلا قليلا، وتزداد معاناة أصحاب القضبان المنكسِرة، لأن انكسار القضيب في مجتمع ذكوري يعتبر الرجل معادلا قضيبيا يعني انكسار الرجولة وضياع سلطة الفحولة.

- ما هو هذا القضيب Le phallus:

القضيب كل ما له طول وعرض، وطوله أكبر من عرضه، المحلل النفسي سغموند فرويد S.Freud يُشبه القضيب بعصا موسى عليه السلام ( يهش وفيه مآرب أخرى)، نعم للقضيب نغمة جنسية يَهُش، لكنه يتعدى ما هو جنسي، وهذا ما جعل جاك لاكان Jacques Lacan يعتبر القضيب كالدال الذي يدل على الطبيعة الأبوية الذكورية، لذلك يستعمل Lacan كلمة ذكر Penis لأن الهيمنة الذكورية في تصوره للأشياء هي بناء ثقافي، وليست معطى بيولوجيا، ولذلك فالقضيب دائما رمزي، "إذ ليس المهم طول العصا بل السحر في العصا".

وقد اشتقت عبارة "قضيب مركزي" من طرف الحركات النسوية ضدا على التوجهات التي تعتبر الذكورة هي المصدر الطبيعي الوحيد للسلطة.

يحكي التاريخ أن "الماركيز تيوبولد" حكم على أسرى حرب بالخصاء، غير أن امرأة عند سماعها الحكم، أخذت تصرخ وتولول ، استمع القائد إلى شكواها فقالت: إن لزوجي عينين وأنف ويدين وقدمين، هذه الأعضاء ملك خاص به، وقد يستحق أن يفقدها إن ارتكب جريمة ما، وليتفضل مولاي بالإبقاء على ما أعتقد أنه ملكي الخاص بي، فضحك القائد وأطلق سراح زوجها .

في المجتمعات العربية يعامل القضيب كأبرز الخصائص الرجولية الأكثر سرية، ويعتبر معظم الرجال طول القضيب مدخلا إلى قلب المرأة "لعلام" وينتشر هاجس حجم وفاعلية القضيب، مما يعرض أصحاب القامات القضيبية القصيرة أو القضبان "المنكسرة" إلى توثرات نفسية قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية وسلوكات غير سوية وأعطاب جنسية في الحياة الزوجية، رغم أن نجاح الفعل الجنسي لا يرتبط بحجم القضيب، إذ ليس المهم طول العصا، بل "فعل" العصا، والنكات الجنسية تعكس ثقافة قضيبية حبلى بالتناقضات، ويعتبر تعيير الرجل بصغر قضيبه أو وصفه بالضعف الجنسي، من أكثر الشتائم مسا برجولة الرجل.

يحظى القضيب في الثقــــافة العربية بحضور قوي من خـــــلال مؤلفات عــــــــــدة، خصـــصت للجنس/ النكاح، لمؤلفين ذوي ألقاب دينية، كالامام جلال الدين السيوطي والشيخ النفزاوي وشــــهاب الدين التفاشي، ويتضح هذا من خلال إفراد أبواب خاصة لأسماء القضيب التي تفوق المائة في هذه المؤلفات والمدعمة بالآيات والأحاديث والأشعار والأمثال باختصار، هذه المؤلفات توضح أن الرجل في الثقافة العربية معادل قضيبي .

في المجتمعات العربية يمتد القضيب إلى كل المجالات: الدينية، والسياسية والاجتماعية، إنه يشكل ثقافة مترامية الأطراف، يبرز القضيب سياسيا في التفرد بالحكم ورفض الديمقراطية خوفا من فقدان القضيب/ السلطة، مثال على ذلك، في المجتمعات العربية ليس هناك زعيم "سابق" أتاح الفرصة ديمقراطيا للاحق، فقط هناك "زعيم راحل" أو "زعيم مغتال" أو زعيم مطرود، يتمظهر القضيب دينيا حين يفرض شخص أو مجموعة، وصاية دينية على الآخرين، إذ يعتقد هذا الشخص أنه ولي الله وأتقى الناس والباقي على ضلالة، أما صورة القضيب اجتماعيا فكثيرة إذ يعتقد كل رجل أنه أرجل رجل " سيد الرجال" وما يصاحب هذا الاعتقاد من سلوكات أبسطها غياب احترام إنسانية الانسان في إطار التعامل اليومي .

الثقافة الجنسية تجد باستمرار ما يؤكد حضور القضيب كفعالية مركزية لخدمة الذكورة على أرض الواقع، حيث اللغة نفسها تتلبس بوطأة تلك الجنسانية وتغدو مشروعا متجددا في خدمة سلطة ثقافة "الفحولة الجنسية"، فعبر التاريخ ارتبط القضيب كعضو ذكري بالفعل الجنسي والاختراق والافتضاض، مما يجعله رمز القوة والسلطة والتواجد والفحولة، وتغييب ثقافة الفحولة العلمية وإثبات الذات من خلال تكريس منطومة القيم الديمقراطيةالتي تؤنسنُ الإنسان، أين فحولة العدالة الاجتماعية؟ أين فحولة الإبداعات الفكرية والتواجد المعرفي؟ أين فحولة الاختراعات والاكتشافات وافتضاض عوالم التكنولوجيا ومعانقة التقدم والازدهار والرخاء؟ هذه الفحولة لن تتحقق إلا بتشغيل المراكز المعرفية للدماغ، وهي مجمدة عند معظم شعوب العالم العربي، التي تمارس عليها إيديولوجية التخدير الفكري، وتحفيز مراكز فحولة الغرائز في أدمغتها، لجعلها تفكر فقط في الأكل والشرب والجنس وجعل هذه الشعوب هجينة مدجنة، تخشى خصاء القضيب.. وهذا ما سأُفصِل فيه القول في المقالة القادمة..

.



.

صورة مفقودة
 
ثانيا: في البدء كان الخصاء

"الرجل يتحمل الزلزال والوباء والمرض الرهيب، والعذاب الروحي مهما كان نوعه، وتقصم ظهره مأساة مخدع النوم" الفيلسوف والأديب تولستوي.
- في البدء كان الخصاء:
قد تندهِشُ عزيزي القارئ من كون الخصاء "اللعين" ليس صانعا للتاريخ البشري فحسب، بل هو التاريخ، هو الصوت الصامتُ الأكثر بُركانية في الوجود الإنساني، الخصاء يعني الغياب، الطمس والإقصاء، العدم والانمحاء.. الموقف خطير ومآزقه أخطر، وهنا تنتصِب المفارقات Paradoxes الصادمة التي تكشف عنها التقابلات التالية: الفحولة/الخصاء، الوجود/العدم، الحضور/الغياب، الحياة/الموت.. الخصاء هو "المأساة القاتلة" بلغة تولستوي Tolstoï مما يُفسِر "الخوف من الخصاء" La peur de la castration، تخشى الجنسانية الذكورية من الخصاء، سيما وهي تمتح وجودها من الانتفاخ، الغُرور، الزعامة، الكبرياء، والأهواء، وتُغذي الهواجس والخيالات والاستهامات الوهمية، صورة الخصم المُنافِس، والرغبة في إخضاعه ضد إرادته، بل تتعداها إلى تصفيته جسديا، لأنه يُشكل في مخيال الذكر المسكون بهاجس الخصاء، العدواللذوذ الذي يجب التخلص منه، خوف قابيل من هابيل، "قلق الخصاء" L’angoisse de castration، شخصية الفحولة المؤسسة على الاستعلاء، متمركزة على الذات، مريضة بجنون العظمة، رفض قربان قابيل وقُبول قربان هابيل أجج عدوانيته، وتملكه الخصاء، قابيل انهزم ولن يتزوج بالفتاة الحسناء، قمة الخصاء، فيقتل أخاه هابيل، هكذا يُراق أول دم.. أول حادثة عنفية دموية في التاريخ البشري من توقيع الخصاء، ومنتهى الخصاء عجز المخصي، "أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ" المخصي يلجأ إلى العنف تجاه الذات والغير.
- لكن ماهو الخصاء؟ وماهي تجلياته؟
لابد من القيام بحفريات أركيولوجية، بغية التقاط الخيط الهادي، والعثور على قِطع الأحجية المتناثِرة والخفية، وهذا يستدعي عملية جراحية حساسة ودقيقة، لتفكيك تناقضات الخطاب، مادام حديثنا ينصب على الجنس، مجال الأهواء.. دراستنا تحاول عقلنة اللامُعقلن.. من الناحية اللغوية الخصاء castration، كلمة مرتبطة بالخصيتين لدى الرجل، يقول ابن منظور: الخِصية البيضة، والخصاء مذلة، والخصي هو الذي سُلت خِصيتاه ونُزعتا.
الخصاء بهذا المعنى اعتداء على الطبيعة الإنسانية.. لإلحاق الضرر بالشخص المخصي من خلال استهداف دكورته، وضربه في صميم رجولته.. ليكون مذلة ومهانة..
من هذا المنطلق حرم الإسلام الخصاء، حيث رفض الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أصحابه خصاء أنفسهم بسبب بُعدهم عن زوجاتهم أوقات الحرب، أكثر من ذلك، وضمن مشروع إنساني حضاري تنويري في أُفق التحرير الشامل للإنسانية من مظاهر العبودية والخصاء يقول الرسول الأكرم "..ومن خصى عبده خصيناه.."، يتضح أن الإسلام يحمي الحقوق الجنسية ويُجرم الاعتداء عليها، في وقت كان الخصاء في العديد من الحضارات عُرفا سائدا، الحضارة الآشورية، الإغريقية، المصرية، الرومانية.. كان الخصاء يُمارس على العبيد، الأسرى، المعارضين، حتى الأطفال، وذلك بنزع الخصيتين أو القضيب من منبته أو هما معا، لأغراض متنوعة، إما بدافع التجارة المربحة، سوق نخاسة الخصيان، أو مضاعفة آلام أسرى الحرب، واستخدم الخصاء كعقاب للمجرمين المنحرفين جنسيا، كما استعمل في أوربا للحصول على أطفال ومراهقين يُغنون بأصوات حادة في مناسبات خاصة، وقد تورطت الكنيسة في مجزرة خصاء الأطفال.. فمن منطلق نظرتها الدونية التدنيسية للمٍرأة، كانت الكنيسة ترفض قيام النساء بترانيم التراتيل، وللحصول على أصوات نسوية.. أصوات ملائكية.. في الجوقة البابوية.. قام رجال الدين بخصاء الآلاف من الأطفال.. وهذا موثق في السجلات السرية للفاتيكان.
جدير بالذكر أن الخصيان (المخصيين) أُسنِدت لهم مهام خاصة داخل قصور الحكام ودواوينهم وخدمة الحريم السلطاني.. هذا الموضوع سأخصص له مقالا خاصا.. علما أن العديد من الخصيان تربعوا هرم الحكم مثل كافور الاخشيدي الذي استحوذ على السلطة من أصحابها الشرعيين، ووعد الشاعر المتنبي بمنحه ولاية، لكنه أخلف وعده فهجاه أبو الطيب في قصيدة تعكِس ثقافة الفحولة والخصاء:
عيـــدٌ بأيــــّةِ حــالٍ عُـدتَ يا عيــدُ
بمَا مَضــَى أمْ بأمــْرٍ فيـكَ تجْـــديدُ
أكُلّمَا اغـتَـــالَ عـبد السـّوْءِ سَــيّدَهُ
أوْ خَانَهُ فَلـــَهُ فـــي مصـــرَ تَمْهِيدُ
صَارَ الخَصِيّ إمَامَ الآبِقـِيـنَ بِهَـــا
فالحُرّ مُسْتـَعْبَدٌ وَالعـــبد مَعْـبـــُودُ
مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكـرُمَةً
أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبـــــــَاؤهُ الصِّـيدُ
وَذاكَ أنّ الفُحُولَ البِيضَ عاجِــــزَةٌ
عنِ الجَميلِ فكَيفَ الخِصْيةُ السّودُ؟
المتنبي هنا يردد حكاية الملك شاه زمان وشقيقه الملك شهريار.. حكاية الخصاء.. حكاية ألف ليلة وليلة.. وكما قلت في البداية أن التاريخ البشري هو تاريخ الخصاء ومقاومة الخصاء.. مادامت ألف ليلة وليلة تُدشن بواقعة خصاء الملك "شاه زمان" الذي كان مسافِرا معية بطانته وجنوده لزيارة أخيه شهريار، و في الطريق تذكر أنه نسي قلادته.. فرجع ليتفاجأ "وجد زوجته راقدة في الفراش معانقة عبدا أسودا فاسودت الدنيا في عينيه واستل سيفه وقتلهما معا"..واصل شاه الزمان رحلته صوب شقيقه شهريار.. وكلما تذكر ما كان من فعلة زوجته إلا ازداد غمه.. هي أشياء تُرى.. يقول شهريار: "يا أخى إنى أرَاك قد ضعف جسمك واصفر لونك".
الخيانة الزوجية ضربة موجِعة.. غضب.. انفعال..هزال.. جِراحات عميقة.. خصاء..وهي نفس التجربة التي سيعيشها شهريار بمرارة أكبر، وسيختار استرتيجية دموية لمحاربة الخصاء بافتضاض فتاة عذراء كل ليلة وقتلها مباشرة كي لا يدع لها مجالا للخيانة.. عبر مسلسل طويل من الثأر والانتقام.. هذا النزيف النسوي ستتمكن شهرزاد من إيقافه بحكمتها، ثقافتها، ذكائها، تنوع معارفها.. شهرزاد في ألف ليلة وليلة هي مثال للمرأة العالمة لا العامية.. المرأة الإنسان، لا جسدا لنزوات الرجال.. عقل شهرزاد ليس في جسدها، باختصار شهرزاد امرأة كوجيطو قالت: "أنا أفكر إذن أنا موجودة"، شهرزاد استطاعت أن تُعالِج شهريار، وأن تُثبِت وجودها بفكرها، وأن تنقذ نفسها وبنات جنسها، بسلطة المعرفة لا سُلطة الجسد، وصناعة السلم الاجتماعي.
دورَ المرأة في أنسَـنـَةُ الجنس بعيدا عن خطاب الفحولة والخصاء، وجعله طقسا للحب والحميمية والسلم الاجتماعي، يُجسِده الكاتب المسرحي الإغريقي أريستفانيس، (القرن الخامس قبل الميلاد)، في مسرحية ليزيستراتا Lysistrata، بطلة المسرحية التي دعت النساء إلى ممارسة الإضراب الجنسي، وعدم معاشرة أزوجهن إلا بعد إعلان السلام بين أثينا وإسبرطة، السلام مُقابل المعاشرة الجنسية.. المسرحية تكشف عن الضعف الإنساني، السيدة كالونيكي التي تنتظر وزجها الجندي الغائب أكثر من خمسة اشهر، تصيح بعفوية: افعل اي شيء، اي شيء ما عدا مقاطعة زوجي، ياعزيزتي ليزيستراتا، اطلبي مني أن أدخل وسط النيران، لو أردت ولا تسلبيني أحلى وألذ ما في الدنيا" .. وهنا تُذكر ليزيستراتا النساء بفواجِع الحرب.. نساء أرامل، ثكالى، وأيتام.. دماء وشقاء.. إنها حرب فحولة الذكور الوهمية.. هكذا ستتمكن حركة السلام النسوية من الصمود، وسَتُرغِم مجلس شيوخ أثينا وقف الحرب وإعلان السلم بفضل خطة السيدة Lysistrata التي تجرعت آلام الحرب.
تتقاطع شهرزاد و ليزيستراتا في صناعة الحياة، وتفتيت أوهام الفحولة والخصاء، وإرساء السلم والسلام، دور المرأة المُفكرِة في تخليص عالم الذكور من خطاب الهيمنة والبطولة الزائفة.. إنه مشروع نسوي منطلقه ومنتهاه أنسنة الذكور، شهرزاد غيرت نظرة شهريار للمرأة.. الذي كان يعتبر الخيانة الزوجية ممارسة نسوية بامتياز، وفق منطق الفحولة الذكورية.. قمة خصاء الرجل أن تخونه المرأة.. ماذا عن طوابير الجواري في قصر شهريار.. الذكر الفحل يثور.. يثأر.. يتوهم أنه الذكر من يمتلك شعورا وكرامة.. أما المرأة فلا إحساس لها حتى وإن كان زير نساء.. لا يحق لها أن تحتج.. أن تغضب.. فتكون الضربة قاتلة عندما تسقط المرأة إلى الحضيض.. وتصربه برجل غيره.. قمة الخصاء أن تضرب المرأة رجلا بتزكية رجل.. قمة الخصاء في مسرحية ليزيستراتا رجلا ترفضه امرأة.. رجلا ليس مطلبا لامرأة..
- لماذا؟؟
لأن الرجل في مجتمع الفحولة مبني على القضيب، والخصاء يعني اللاقضيب، والخصاء لا يقوم إلا من خلال المرأة التي تقول للرجل: أنت رجل أم لا، فيحيل الخصاء على الفقدان.. فقدان الماهية، فقدان الهوية، فقدان المركزية، فقدان الرجولة، فقدان الفحولة، فقدان القوة، قمة التعاسة، ينهار الرجل، يتعرض للتهميش والتهشيم، قمة الخصاء تظهر في الانفلات الجنسي، الجوع الجنسي الذي لا يُشبع، والظمأ الجنسي الذي لا يرتوي..
- إنها عقدة الخصاء Complexe de castration ولن أستعير هنا من الجهاز المفاهيمي لمؤسس مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد Sigmund Freud، سوى أسطورة أوديب Le mythe d'Œdipe، الموقف الأوديبي، ثنايا الأسطورة تُفصح عن ماهية الخصاء: الخوف من الفقدان.. فقدان القضيب، فقدان الأعضاء، فقدان الأسرة، فقدان الوطن، فقدان السلطة، فقدان المكانة الاجتماعية، فقدان الحياة.. فقدان الإنسان لإنسانيته بسبب أوهام الفحولة، وسراب الخصاء.. وهذا ما يجعلنا نتحدث عن مظاهر متنوعة للخصاء، الخصاء البيولوجي، الخصاء النفسي، الخصاء الاجتماعي، الخصاء الفكري، الخصاء السياسي، الخصاء الثقافي، الخصاء الأخلاقي.. وهي أمراض العالم العربي من المحيط إلى الخليج.. وطن الخصاء.. وهذا ما سنفصل فيه القول في المقال القادم..


.
 
أعلى