محمد بلوحي - الشـعر العذري في ضوء النقـد العربي الحديث (دراسة فـي نقد النقـــد)

المقدمة
ينطلق هذا البحث من متصورات جوهرية "لنقد النقد"، الذي يتساءل عن صلاحية المناهج النقدية المتبعة في قراءة الإبداع والظواهر الأدبية وعن الأصول المعرفية والإبستمولوجية لهذه المناهج، وما هو الموقف الذي ينبغي أن يتخذه ناقد النقد وهو يتفحص أعمال نقدية تحتك مباشرة بالإبداع الفني.
فالمناهج النقدية في أصولها المعرفية وتطبيقاتها الميدانية هي موضوع دراسة هذا البحث، وليس الأعمال الإبداعية، وبذلك فالمجال الحقيقي لهذه الدراسة ليس المعرفة وإنّما هو معرفة المعرفة. فاشتغالها منصَبّْ على الحقل الإبستمولوجي أكثر من الحقل الإبداعي.
لكن القدرة على محاكمة الأعمال النقدية من حيث التزامها بتطبيق الأصول النظرية للمنهج المنتقى ليطبق على الأعمال الإبداعية، والقول بالنجاح في ذلك أو الإخفاق مهمة شاقة وصعبة، لأنّ ناقد النقد يفترض فيه أن يكون أكثر معرفة من الناقد، وذلك من حيث الإلمام بأصول المناهج. وهذا طموح يشقى الباحث للوصول إليه. وذلك ما حاولنا أن نلم به في هذا البحث مدركين أنّ الإحاطة بالأصول النظرية للمناهج النقدية سياقية كانت أم نسقيه أمر في غاية الصعوبة، نظراً لتشعب المعطيات المعرفية لكل منهج، ينضاف إلى ذلك أنّ بحثنا لم يتوقف عند هذه الأصول المعرفية فقط، بل حاولنا تتبع مدى عمق تطبيقاتها على الظاهرة العذرية كظاهرة شعرية تراثية. فاعتمدنا في بحثنا الوصف لأنّنا ندرك إلى حدّ يمكن الوصف أن يقدم خدمة لنظرية المعرفة في مجال البحث، وينتج الموصوف بطرائق أخرى. ونكون عندئذ أمام تحصيل ما هو حاصل.
إنّ الدافع الأساسي لاختيار هذا الموضوع على الرغم من إدراكنا مدى صعوبته وتشعبه الرغبة في الإحاطة بالتراث القديم، والإلمام بالثقافة الحديثة. ولطالما راودتني هذه الفكرة وأنا طالب.
فكنت أحاول الجمع بين التراث والحداثة، ولم أكن أتحمس كثيراً لتلك الدعوات التي تحاول أن تفصل الحداثة عن التراث، لأنّني لا أومن بوجود حداثة مقطوعة الجذور، كما لم أكن مطمئناً إلى دعاة القراءة التراثية للتراث، على الرغم من أنّني أثمن تلك القراءات القديمة التي كانت تحمل في طياتها كثيراً من الرؤى الحداثية. فالتراث لا يثمن إلاّ بالإلمام به أولاً ثمّ قراءته قراءة حداثية يضئ جوانبه ثانياً، وتستكشف كنوزه، وتميط اللثام عن مكوناته، وبخاصة إذا كانت هذه القراءة الحداثية على وعي كبير بالتراث من جهة واستيعاب الأصول المعرفية للمناهج النقدية من جهة ثانية.
فالقراءة الواعية هي وحدها القادرة على نقل الخطاب الأدبي من المستوى الذي يحتكم إلى المعيارية النقدية، إلى المستوى العمودي الذي يحتكم في إطاره المرجعي إلى منطق السؤال، ويخضع لمبدأ الاحتمال والتنوع الذي ينفي كل ما هو أحادي، ويثبت كل ما هو متعدد، وبذلك يصطنع النص في القراءة الواعية لغة لم تألفها ذهنية ثقافة موجهة قبلياً. ومن هذا المرتكز يمكن للخطاب النقدي أن يكتسب قدرة السؤال وقوة المقاربة.
وانطلاقاً من هذه المتصورات التي تعتمد عليها نظرية القراءة الحديثة، ينطلق بحثنا هذا في نقد النقد ليتأمل في المناهج النقدية الحديثة، فيمتحن قدرتها على تجسيد متصوراتها النظرية، وأدواتها الإجرائية، في الممارسة النقدية وبخاصة وأن التحكم الكلي في المنهج ليس مطلباً سهل المأخذ، ولكنه يحتاج إلى ممارسة مستمرة وخبرة كبيرة، وهذا لا يتأتى للقارئ إلاّ بالوعي الكامل بالمرتكزات الفلسفية والمعرفية للمناهج النقدية، وحسن انتقاء الأداة الإجرائية وحسن استثمارها في مجال التأويل.
فالممارسة النقدية الحديثة في حدّ ذاتها لم تنج من مفارقة الاختلاف والتباين في المقاربة، والتي ستظل إشكالاً مطروحاً ما دامت الظواهر الإبداعية لا تقول الحقيقة بلغة الدقة، وتسد الفضاء العلوي أمام التأويل. فالنص الإبداعي الراقي الذي يحمل معطيات الديمومة والاستمرارية. يظل مفتوحاً في نظرنا لأنّه رسالة لا تحدد شفراتها تحديداً واضحاً، ولا يبسط مرجعها بسطاً أفقياً مباشراً، وبذلك، فهو لا يقبل القراءات المعيارية التي تدعي قول الحقيقة بلغة الجزم.
وبعد قراءات متعددة في التراث الشعري العربي، والقراءات النقدية الحديثة له، لفت انتباهي اهتمام هذا الأخير بالظاهرة العذرية، فبدت لي الظاهرة الواحدة المتعددة، لأنّ المتحمل في خطابها الشعري يتفاعل مع بلاغة تأويلية، ويفرض على الممارسة النقدية أن تتعامل مع الظاهرة الإبداعية تعاملاً يحكمه منطق السؤال، ويمليه وعي الإبداع الذي يرفض الأجوبة اليقينية.
لقد كانت الظاهرة العذرية موضوع دراسات نقدية متعددة، وكل هذه القراءات أجهدت نفسها في مقاربتها، وحاولت الاقتراب من عالمها، بأدوات إجرائية مختلفة، مما أعطى ثراءً نقدياً، بخاصة أنّ منطلقاتها المعرفية وأدواتها الإجرائية متباينة الرؤى. وشجع على تعدد المقاربات النقدية لهذه الظاهرة وتباين رؤاها ما تتميز به العذرية من طابع إنساني، وجمالية فنية، ورسالة ذات شفرة غير محددة تحديداً واضحاً. فهي ظاهرة مفتوحة دوماً، متعددة الاحتمال والتنوع. وتلك ميزة الفن الراقي الذي يخترق حجب الزمن ليعيش في اللازمان، فيكون أرضية خصبة يفتح صدره لكل قراءة جادة تحاول أن تتعامل مع الخطاب الشعري بأدوات فيها من الجدة والأصالة، لتفك شفراته دون أن تسقط في المعيارية، وإنّما تطرح السؤال لتتفتق عنه الأسئلة المتعددة.
فالظاهرة العذرية ذات أبعاد دلالية عديدة، يمكن أن تكشف مقاربتها عن أنّها ليست مجرد ما نعنيه بكلمة الجنس الأدبي أو الموضوعية الأدبية من الناحية التقليدية، وإنّما هي ظاهرة تحمل رؤى متعددة، لا يمكن تفجير مكوناتها إلاّ عن طريق السؤال المبني على أسس علمية دقيقة. وتبعاً لذلك تباينت القراءات في مقاربتها للعذرية لتباين منطلقاتها المعرفية.
وبعد فحص المادة والإلمام بها من جميع نواحيها تراءى لنا أنّ نتناول الموضوع "الظاهرة العذرية في النقد العربي الحديث" والمؤسس على جوهر موضوع "نقد النقد" من خلال هذه الخطة التي كانت تبدو لنا أنّها تقودنا إلى الغايات التي رسمناها قبل وبعد إنجاز البحث، فعقدنا لذلك: مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
أمّا الفصل الأول فخصصناه للقراءة التاريخية، حيث بسطنا التصورات العامة لهذا المنهج، وتتبعنا أطروحاته في مظانها وأصولها، وحاولنا تتبع إجابة القدماء والمحدثين على حدّ سواء بخصوص الوجود التاريخي للشعراء العذريين، فبعضهم ينكر وجودهم وبعضهم الآخر يقره، وكان من الطبيعي أن يتمخض عن مسألة وجود الشعراء عن عدمهم قضية النحل والانتحال، التي شغلت النقد العربي القديم والحديث، فامتد الشك من وجودهم التاريخي إلى ما دار حول قصصهم ونصوصهم الشعرية، ثمّ اعتنت القراءة التاريخية بمصدر العذرية هل كان المصدر عربياً خالصاً أو إسلامياً؟.
أمّا الفصل الثاني فتناولنا فيه القراءة النفسية بالمدارسة والفحص، حيث وقفنا على أطره المرجعية، حتى يتبين لنا مدى تطابق النقد العربي الحديث مع منطلقاته الأصلية. ولما لم نجد دراسات عديدة تسمح لنا باستخلاص خصائص المنهج النفسي، حيث ألغينا مؤلف "يوسف اليوسف" وقبله دراسة العقاد لجميل، اكتفينا باستنباط ما توصلت إليه هذه المقاربات من خلال حصرها في أهم المقولات النفسية نذكر منها: مقولة الكبت و (النرفانا) و (النوستالجيا) و (السادية) و (المازوشية) وغيرها من المقولات النفسية.
ثمّ أتينا إلى القراءة الاجتماعية في الفصل الثالث فسرنا على المنوال نفسه الذي رسمناه للقراءة السابقة، وانتهينا إلى الملاحظات نفسها، فكانت هذه القراءة أقرب إلى النظرات والاجتهادات العامة منها إلى التفكير الاجتماعي، الذي يستند على مرتكزات نظرية وفلسفية.
وهذا ما لحظناه عندما أدرجنا كتابات "يوسف اليوسف" في هذه القراءة لأنّها جمعت بين القراءة النفسية والقراءة الاجتماعية، كما جمعت قراءة "طه حسين" قبلها، بين البعد التاريخي والبعد الاجتماعي. وهذا ما جعلنا نتعامل مع تصنيف هذه القراءة بحذر شديد، وبتحفظ يدرك الصعوبات التي تتركب عن عملية التصنيف، ولم تكد تخرج هذه القراءة عما تطرحه الدراسات الاجتماعية للظاهرة الأدبية كالقهر والقمع الاجتماعيين والصراع الطبقي والتدجين الاجتماعي وغيرها من المقولات الاجتماعية.
أمّا الفصل الأخير فمثل لحظة الانعطاف والانتقال من القراءات السياقية إلى القراءة النسقية، ونعني بها القراءة البنيوية التكوينية التي حاول "الطاهر لبيب" تطبيقها بكثير من الوعي النظري المتماسك الذي افتقرت إليه القراءات السياقية، وقد بدأنا بأنّ هذه القراءة تحمل جهداً علمياً تمثل صاحبها المنهج تمثلاً حسناً، وحاول تقديم مقاربة متميزة لكنّها لا تخلو من بعض الهنات، منها الإغراق في القراءة التاريخية حيناً، والقراءة الاجتماعية حيناً آخر. لكنّها حققت قدراً وافراً من الاجتهاد كما أسلفنا قبل قليل.
ثمّ انتهينا في الأخير إلى بلورة بعض نتائج البحث في الخاتمة فرّكزنا على أهمها.
سيدي بلعباس: 17 شوال 1614هـ/ الموافق: 06 مارس 1996م
محمد بلوحي
القـــراءة التاريخيـــة
1- الوجود التاريخي لشعراء العذرية.
أ- عند القدماء.
ب- عند المحدثين.
2- النحل والانتحال:
أ- الشك في الوجود التاريخي لشعراء العذرية.
ب- الشك في قصصهم.
جـ- الشك في نصوصهم.
3- التفسير التاريخي الحديث لنشأة العذرية.
أ- المصدر العربي.
ب- المصدر الإسلامي.
1- الوجود التاريخي للشعراء العذريين:
إن القارئ للتراث العربي ما قبل حركة التدوين يصطدم بإشكالية الإثبات التاريخي لوجود كثير من أعلام الشعر، ونسبة النصوص إليهم، وذلك راجع إلى اختلاف الرواة حول أخبارهم وأنسابهم، وإثبات نسبة النصوص إليهم، خاصة وأننا نعلم أن المجتمع العربي الإسلامي في تلك الفترة من تاريخه كان مجتمعاً شفهياً لا يعتمد على الكتابة في نقل تراثه، وإنما كان اعتماده غالباً على الرواية الشفهية، هذه الشفهية التي جعلت الكثير من (التراث العربي) تتسرب إليه ظاهرة تداخل الروايات وتباينها، وكذلك الاختلاف في نسبة النصوص إلى أصحابها، مما جعل النقاد والدارسين قديمهم وحديثهم يقفون أمام هذه الظاهرة بغية التحقق من نسبة الكثير من النصوص إلى أصحابها، والوقوف أمام المخيلة الشعبية حتى لا تتسرب إلى قصص وأخبار وتراجم الشعراء، وبذلك نادى معظمهم إلى ضرورة الاهتمام بظاهرة "النحل والانتحال" والتعامل معها كظاهرة تراثية يجب الوقوف عندها لغربلة التراث وتمييز صحيحه من منتحلة، فعملوا على رد الأمور إلى مصادرها الرئيسة.
فقد وقف ابن سلام الجمحي في "الطبقات" عند مسألة النحل والانتحال، واعتبرها ظاهرة يجب وقاية التراث الشعري منها إذ إن "في الشعر المسموع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة، ولا يروى عن صحفي، وقد اختلف العلماء في بعض الشعراء، كما اختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اختلفوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه"(1) وهو موقف يبرهن على أن العلماء القدامى لم يكونوا يتقبلون الروايات والأخبار كلها، ويسلمون بصحتها تسليماً دون فحص و نقد، إنما كانوا يتعاملون معها تعاملاً علمياً، إيماناً منهم بأن الرواية الشفهية تحمل الكثير من المثالب، فيجب تمحيص هذه الأخبار والروايات تمحيصاً دقيقاً لتمييز الصحيح منها من المنتحل معتمدين في ذلك على سلامة الذوق الفني، وأصالة التمييز، ودقة التمحيص، لذلك لم يكن "ابن سلام" الرجل الذي يقبل كل المسموع وإنما اعتبر الكثير منه مفتعلاً موضوعاً لا خير فيه، ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد منه، ولا معنى يستخرج منه، ولا مثل يضرب به، وهو موقف أسّس للنظرة العلمية في تدوين التراث حتى لا تلعب به أيادي الرواة.
أما في العصر الحديث فقد أعاد "طه حسين" إثارة قضية النحل والانتحال في كتابه الشعر الجاهلي والذي أثار معركة نقدية كان لها الأثر البالغ في بعث الحركة النقدية في العصر الحديث، ولفت انتباه الكثير من الدارسين إلى وجوب الاهتمام بالتراث العربي جمعاً وتحقيقاً ومدارسة.
والذي يستوقفنا في دراسة للظاهرة العذرية قضية "الوجود التاريخي لأعلامها" لأن بعضهم سلّم بوجودهم التاريخي تسليماً لا يتسلل الشك إليه وبعضهم الآخر أنكر وجودهم.
لهذا يصادف الدارس تداخلاً كبيراً في معطيات نشأتها ونسب أعلامها، ورواية أخبارهم، حتى لأنَّه يجد نفسه كلَّما قرأ أخبار قصة أحدهم يجد تشابهاً كبيراً في هذه القصص والأخبار وكأنها قصة واحدة تكررت بأسماء مختلفة.

نشأة العذرية:
أ- عند القدماء:
إن القارئ لأمهات الكتب التراثية، وبخاصة تلك التي اهتمت بالترجمة و التدوين للشعر العربي القديم، يجدها تتعامل مع الظاهرة العذرية لا من حيث هي ظاهرة شعرية متكاملة الخصائص والسمات، أوجدتها ظروف وملابسات موضوعية، تاريخية منها واجتماعية وسياسية ونفسية وحضارية، ولكنها تعاملت بشكل مطلق مع الشعراء الذين يمثلونها، فراحت تفصل في الترجمة لهم بإيراد مختلف الأخبار المتعلقة بقصصهم، واقفة في كثير من الأحايين عند بعض من أخبارهم متوجسة منها شاكة في صحة نسبها، مشيرة إلى أن خيال الرواة قد عمل عمله في نسج بعض المعطيات حول أخبارهم ورواياتهم.
تمثلت أهم الكتب التي ترجمت لشعراء العذرية في كتاب "طبقات الشعراء" لابن سلام الجمحي"، و "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني" و "الشعر والشعراء" لابن قتيبة" أما كتب التراجم الأخرى فلم يكن أكثرها إلا تكراراً لما ورد في هذه المصادر الثلاثة، وبخاصة ما ورد في "الأغاني"، إذ يلاحظ الدارس أنّ جل الترجمات التي جاءت بعد الأغاني لم تكن إلاّ تلخيصاً لما ورد فيه من تراجم هذا بالإضافة أو الحذف.
إن المتأمل لتراجم "الأغاني" لشعراء العذرية يلاحظ اعتماده على الرواية في الأخبار، تلك الرواية المبنية على أساسين: "الإسناد والمتن" كقوله في ترجمته "لجميل بن معمر": "أخبرني "الخرمي بن أبي العلاء" قال: حدثنا "الزبير بن بكار" قال: حدثني "بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي" قال: "كان جميل ينسب بأم الجسير، وكان أول ما علق ببثينة أنه أقبل يوماً بإبله حتى أوردها وادياً يقال له بغيض، فاضطجع وأرسل إبله مصعدة، وأهل بثينة بذنب الوادي، فأقبلت وجارة لها واردتين الماء، فمرتا على فصال له بُروك فضربتهن بثينة. يقول:
نفرتهن وهي إذ ذاك جويرية صغيرة، فنسبها جميل، فافترت عليه، فملح إليه سبابها فقال:
وأَوَلُ مَا قَادَ المَوَدَةَ بَيْنَنَا
بِوادِي بَغيض يا بُثَيْنَ سِبَابُ
وقُلْنَا لَهَا قولاً فجاءَتْ بِمِثْلِهِ
لِكُلِ كَلاَمٍ يا بُثَيْنَ جَوَابُ(2)
إن هذه الرواية تؤسس لجزء هام من قصة جميل، ولكن لا تهمنا أحداث القصة بقدر ما يهمنا تعامل القراءة التاريخية عند القدماء مع الأخبار المؤسسة لقصص العذريين، إذ جعلوا من الإسناد جزءاً أساسياً في رواية الأخبار، وما اعتمادهم على الإسناد في رواية الخبر إلا لهدف الحمل بين الروايات والتحقيق بينها، اقتداءً وتأثراً بالمنهج الذي انتهجه علماء الحديث الشريف في التدوين والتحقيق، فنسجوا على منوالهم. ولكن هذا لم يمنع من أن الرواية الأدبية كانت "أصلاً قائماً بذاته، وقد وجدت عند العرب منذ الجاهلية، فكان علماء النسب الجاهليون ومن أدرك منهم الإسلام يأخذون علمهم بالنسب عن شيوخ هذا العلم ممن تقدمهم أو عاصرهم، وكذلك كان رواة الشعر والأخبار الجاهلية"(3) فالرواية الأدبية عند القدماء التزمت الإسناد في غالب الأحايين ولكن لم تهتم به اهتمام علماء الحديث، ونحن نقصد بالإسناد، الإسناد المتصل المرفوع، لا الإسناد المرسل المنقطع، إذ إن هذا الضرب الثاني من الإسناد يكاد يكون ملتزماً في رواية الأدب التزاماً لا إخلال فيه، ومن هنا كان هذا الإسناد الملتزم في الرواية الأدبية إسناداً مرسلاً أو منقطعاً. وبذلك فليس للرواية الأدبية إذن علم للسند ونقده، بل ليس للرواية الأدبية سند كالسند الذي عرفه الحديث النبوي الشريف، وقصارى السند في الأدب حين يوجد أن يكون دليلاً على أنّ الرَّاوية قد لقي العلماء، وأخذ علمه من أفواههم في مجالس العلم ولم ينقله في صحيفة.
هذا سبيل "أبي الفرج الأصفهاني" في "الأغاني" إذ اعتمدت ترجمته لشعراء العذرية على الرواية المبنية على الإسناد والمتن، أما إذا عدنا إلى منهج "ابن قتيبة" في "الشعر والشعراء" فإننا نجده يهمل الإسناد ويحذفه ويترجم لشعراء العذرية بإيراد قصتهم وأخبارهم دون الإشارة إلى الإسناد، إذ كان "بعض العلماء يضيقون بالإسناد على قصره. فالمبرد كان يهمل الإسناد حينما يتحدث أو يملي، ويبدو أنه كان مشهوراً بحذف الإسناد حتى قال "نفطويه": "ما رأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد من المبرد ومن "أبي العباس بن فَرات"(4) وبذلك انتقلت قراءة القدماء من طابعها المبني على الرواية المسندة، إلى طابع النسج القصصي المهمل للإسناد، الذي يعطي للترجمة طابعاً قصصياً مبنياً على الأسلوب السردي للحدث.
إنّ القارئ لترجمة القدماء لشعراء العذرية يدرك إجماع المترجمين على الوجود التاريخي لجل هؤلاء الشعراء، ما عدا توجسهم وشكهم في أخبار المجنون وقصته، إذ يظهر ذلك جلياً عند "أبي الفرج الأصفهاني" في "الأغاني" فيشير في ترجمته للمجنون منذ البداية إلى الاختلاف في اسمه ووجوده التاريخي بسبب تعدد الأسماء لشخصه، بل هناك من الروايات التي تذهب إلى حد نفي وجوده، يقول "أبو الفرج": "أخبرني "علي بن أبي سليمان" الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال: حدثنا إسماعيل بن مجمع" عن المدائني قال: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى، قيس بن معاذ من بني عامر، ثم من بني عقيل، أحد بني نمير بن عامر ابن عقيل، قال ومنهم رجل آخر يقال له: مهدي بن الملوح من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة"(5) وتلك رواية تكشف تعدد الشخصية التاريخية الواحدة. وهناك رواية أخرى تنفي وجود شخصية المجنون التاريخي "أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن الخزامي قال: حدثني أيوب بن عبابة قال: سألت بني عامر بطنا بطنا عن المجنون بني عامر فما وجد أحد يعرفه"(6) ويُرجع الأصمعي وضعهما إلى الرواة "أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول: رجلان ما عرفا في الدنيا قط إلاّ باسم مجنون: مجنون بني عامر، وابن القرية، وإنما وضعهما الرواة"(7).
إن تشكيك "أبي الفرج الأصفهاني" في الوجود التاريخي لشخصية "قيس بن الملوح"، طرح أمام القراءة القديمة السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن الاعتماد على أخبار العذريين في إثبات وجودهم التاريخي؟ وأي قدر في هذه الأخبار وفي هذه القصص يصدقه الواقع؟.
ولكن على الرغم من تضارب الأخبار والروايات حول شخصيات العذريين وخاصة المجنون إلا أنها لا تنفي وجود الظاهرة في عمومها، وإنما شككت في بعض أخبار شعرائها، وبذلك فهي تثبت الوجود التاريخي للظاهرة أكثر مما تنفيه.
وظلت القضية مطروحة للمناقشة والتعديل حتى عصرنا الحديث ولذلك قامت عدة دراسات حديثة فأثارت من جديد إشكالية الوجود التاريخي للظاهرة العذرية في قصصها وأخبار أعلامها وكان الاختلاف فيها متبايناً والطروحات متعددة.
ب- عند المحدثين:
إن المتتبع للقراءة الحديثة التي تناولت الظاهرة العذرية يدرك فرقاً جوهرياً بينها وبين قراءة القدماء، إذ إنّ القراءة الحديثة عن الكثير من روادها تناولتالغزل العذري من حيث هو ظاهرة شعرية متكاملة في خصائصها ومميزاتها وبنائها الفني ولغتها الشعرية، متخلية عن الترجمة الفردية التي تميزت بها قراءة القدماء، والتي كان الأساس فيها الرواية.
تُجمع القراءة التاريخية في غالبيتها على الوجود التاريخي معتمدة في ذلك على المصادر القديمة، لكن تختص القراءة التاريخية الحديثة بتعاملها مع الظاهرة العذرية تعاملاً متبايناً، نابعاً في أساسه من الاختلاف في تفسير عوامل نشأتها كظاهرة متميزة في خصائصها وزمانها ومكانها. وبذلك تعددت الرؤى حول عوامل نشأتها، فهناك عوامل سياسية وعوامل دينية واجتماعية ونفسية وحضارية. ومن هنا يلاحظ الدارس اتفاق القراءة الحديثة على الوجود التاريخي للظاهرة العذرية كظاهرة فنية وشعرية، وإن اختلفت في الوجود التاريخي لقصص بعض شعرائها وخاصة "المجنون".
ويعد الدكتور "طه حسين" من أوائل الدارسين في العصر الحديث الذين اهتموا بالبحث في نشأة الظاهرة العذرية، إذ يرجع ظهورها في بادية الحجاز إلى السياسة الأموية تجاه الحجاز "فقد أساء خلفاء الشام ظنهم ببلاد العرب فعاملوهم معاملة شديدة قاسية وأخذوها بألوان من الحكم لا تخلو من العنف"(8) مما جعل حواضر الحجاز وبواديه تنصرف عن الحياة السياسية إلى الحياة الخاصة، فظهر في حواضرها اللهو والمجون لما كان فيها من ثراء ورخاء، أما البوادي فكانت مهداً للظاهرة العذرية لما كان فيها من فقر ويأس وحرمان. فهو نوع من التجديد سماه "طه حسين" "تجديد الفقراء والبائسين، وهو هذا الشعر الذي شاع في البلاد العربية" في الحجاز" و "نجد"، والذي إن صور شيئاً فإنما يصور الطموح إلى ما ليس له سبيل، والنزوع إلى ما لا أمل في الوصول إليه، وهو ما تعودنا أن نسميه الغزل العذري"(9) فجميل في نظره "طه حسين" عندما كان يتغزل ببثينة لم يكن يفكر في بثينة بقدر ما كان يفكر في هذا الترف الكثير الذي كان يراه من حوله، والذي لم يكن له حظ فيه. فالحب العذري "لا يصور حباً يائساً بالفعل وإنما يصور اليأس العام، اليأس من الوصول إلى ما كان الأغنياء والمترفون يصلون إليه مُصبحين ومُمسين"(10) وبذلك يرى "طه حسين" أنّ الظاهرة العذرية ليست ظاهرة معزولة تعبر عن فئة محدودة من الشعراء وإنما هي تعبير عن إحساس عام كانت تشعر به بادية الحجاز في العصر الأموي.
إنّ "طه حسين" بقدر ما يؤسس للوجود التاريخي للظاهرة العذرية في شموليتها، فإنه يقف موقف الشاك من الوجود التاريخي لبعض أعلامها خاصة "المجنون" إذ نجده ينفي وجوده التاريخي نفياً مطلقاً، ويُرجع مصدره إلى خيال الرواة وناقلي الأخبار فيقول. "ولكن أشك الشك كله، أن يكون "قيس بن الملوح" شخصاً تاريخياً وجد وعرفه الناس أو استمعوا إليه، وفي أن يكون هذا الشعر إليه صحيحاً قد صدر عنه حقاً، وأزعم أن "قيس بن الملوح" خاصة إنما هو شخص من هؤلاء الأشخاص الخياليين اخترعتهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة أو نحو خاص من أنحاء الحياة بل ربما لم يكن "قيس بن الملوح" شخصاً "كجحا" وإنما كان شخصاً اخترعته نفر من الرواة، وأصحاب القصص ليلهو به الناس أو ليرضوا به حاجة أدبية أو خلقية"(11) ويعلل "طه حسين" شكه في الوجود التاريخي "للمجنون" بعوامل عدة منها:
* اختلاف الرواة في اسمه وأخباره.
* إنكار بني عامر اسمه وأخباره.
* إنكار بني عامر لشخصه.
* عمل الرواة على اختراع قصة الجنون لتلهية الناس وتسليتهم بهدف جمع المال.
* اختلاف الرواة في جنونه.
لم يكن "طه حسين" الدارس الوحيد الذي شكك في الوجود التاريخي لكثير من نصوص العذريين وقصصهم وأخبارهم، وإنما سبقه "أبو الفرج الأصفهاني" في ترجمته للمجنون كما أسلفنا من قبل وسار على نهجه بعض من جاءوا بعده، رادين ذلك إلى مصادر وأسباب عديدة، إذ يذهب "إبراهيم عبد الرحمن"، إلى أنّ كثيراً من النصوص العذرية "تسجيل للحرمان واليأس والتسامي بالعاطفة واستعذاب الألم في سبيلها والاستغراق فيها، ولعل هذا الجانب الصوفي الذي يغلب فهي ذات عارفة تعبر عن آراء فلسفية ذات أبعاد معرفية متصلة في جوهرها برؤية عرفانية وبذلك فهي تخاطب ذات مطلقة بعيدة عن المحدودية في بعدها الزماني والمكاني. ينضاف إلى ذلك الاختلاف الجوهري في المعجم اللغوي بين الكونين، مع تعدد أسامي المحبوبات في القصيدة الصوفية، وارتباط العذريين بواحدة دون سواها عند كل.
أما إذا تأملنا في دراسة "علي البطل" فإنّنا نلفيه يذهب إلى أنّ القصة العذرية ذات أبعاد ميثولوجية مرتبطة في أساسها بالبعد الأسطوري القديم والتي تتعلق بأسطورة الثريا(14) في المجتمع العربي الجاهلي. وبذلك يجعل من الأسطورة العربية الجاهلية "الثريا" قاعدة للقصص العذري إذ يرى أن القصة العذرية وما فيها من الشعر العذري قصة شعبية مجهولة المؤلف، إذن، تعتمد على عناصر قليلة من الواقع، إلى جانب العناصر التي تخترعها، فتخضع العناصر الواقعية لسياق "النمط" الذي تسير عليه، وهي تعبر من خلال القالب الفني تعبيراً رامزاً لما يجري من حولها، وما تعانيه الجماعة من هموم، وما تترقبه من آمال"(15). فالقصص العذري في العصر الأموي عند "علي البطل" تمتد جذوره موغلة في القدم إلى حيث المأثور الأسطوري والشعبي في عصور ما قبل الإسلام، وقد حافظ هذا القصص على عناصر كثيرة من الميراث القديم، مطوراً بعضها، ومضيفاً إليها عناصر أخرى فرضتها الظروف الجديدة.
إن ما أغرى "علي البطل" ليذهب هذا المذهب في تفسير القصص العذري هو ما علق بهذا القصص من إضافات اخترعتها مخيلة الرواة والقصاصين لإضفاء طابع الجاذبية على تفاصيل هذا القصص، خاصة وأن القصة الأدبية والرواية الخبرية لم يكن المترجمون يحققون في سند روايتها كما كان يتعامل علماء الحديث النبوي الشريف في روايته. ولذلك نذهب إلى أنّ هذا الطابع الأسطوري والشعبي الذي وقف عنده "علي البطل" إنّما كان يشكل جزءاً يسيراً من مجموعة القصص العذري، أما القصة العذرية في جوهرها فقصة حقيقية وأبطالها حقيقيون وما أضيف إليها من أخبار تحمل سمات الأسطورية إنّما كان من صنع خيال الرواة والقصاصين، ليضفوا الجاذبية على القصة، ويعطوها طابعاً حكائياً ممتعاً.
أما "شكري فيصل" فيقصر نشأة الظاهرة العذرية على العامل الديني وحده، وبذلك ينفي كل العوامل الدخيلة، سواء أكانت ميثولوجية أم جاهلية، أم سياسية أم اجتماعية، ويقرر أنّ الوجود التاريخي للظاهرة العذرية حقيقة واقعة، وإفراز طبيعي للتربية الإسلامية وتحول كبير لماهية الغزل في الحضارة العربية، إذ تحول من مفهوم مادي جسدي إلى مفهوم وجداني عفيف. "فالغزل العذري تعبير عن وضع طائفة من المسلمين كان تتحرج وتذهب مذهب التقى وتؤثر السلامة والعافية في المغامرة والمخاطرة، وترى أنّ النفس أمارة بالسوء (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَارَةٌ بِالسُّوءِ) (16)، وإنّ النار قد حفّت بالشهوات. لذلك آثرت هذه الطائفة، أن تعدل عن شهواتها، فكانت مثلاً واضحاً للتربية الإسلامية في سموها وتعاليها"(17). "فشكري فيصل" لا يذهب مع مذهب المشككين في الظاهرة العذرية، وإنما يؤكد وجودها التاريخي ويثبت كذلك الوجود التاريخي لشعرائها، خاصة "جميل بن معمر" وإنّ ظهورها في العصر الأموي كان أمراً طبيعياً، إذ لم يكن من الممكن أن تظهر في عصر الخلفاء على الرغم مما عرف عن هذا العصر من صلاح وعفة. العذرية نتيجة لتربية جيل جديد تربية صادقة صارمة "ففي العصر الأموي كانت اكتملت نشأة هذا الجيل الذي مازجت التربية الإسلامية أعماقه.
وخالطت دماءه وظللت طريقه... وفي هذا العصر أيضاً همدت ريح الفتوح وانكبت هذه الفتوح من عمل جماعي... إلى عمل حكومي تنظمه الدولة وتشرف عليه وتأخذ نفسها بإعداده والاختيار له"(18). فالظاهرة العذرية، بذلك إفراز حضاري، ووجودها التاريخي حقيقة لا شك فيه. عبرت عن النفس الإسلامية وما تشبعت به من قيم ومثل إسلامية جعلت العربي يغير من نظرته إلى الحب والمرأة والكون في شموليته.
ويؤكد "عبد القادر القط" كذلك الوجود التاريخي للظاهرة فيذهب إلى أنّ العامل الأساسي في ظهورها حضاري، تظافرت كل العوامل السياسية والاجتماعية والدينية والنفسية في إيجادها "فإذا كان العذريون قد عاشوا في الحجاز ولم يهاجروا خارج الجزيرة العربية، فلا شك أنهم مع ذلك كانوا يعبرون عن طبيعة العصر بوجه عام، وعما طرأ على الحياة في الجزيرة نفسها من تحول حضاري كبير، وقد كان هؤلاء الشعراء دائمي التردد بين البادية والحاضرة... ولعلهم بهذا التردد بين البادية والحاضرة والتأرجح بين النمط الحضاري الجديد وأسلوب الحياة العربي القديم كانوا أشد إحساساً بالتمزق والشك والإقدام والإحجام من أولئك الذين استقر بهم المقام في الشام والعراق ومصر و غيرها منأرجاء الوطن الجديد"(19). فالعذرية إفراز طبيعي للصدام الحضاري الذي شهدته النفس العذرية في تمزقها بين ما هو موروث وما هو جديد، الجديد الذي كان له التأثير البالغ في النفس العربية، فشكلها وفق رؤيته للكون والحياة ولكنها بالرغم من ذلك لم تتخلص من جذورها الموروثة، لأن البعد الحضاري في تكوين النفس الإنسانية لا يمكن له أن ينسلخ كلية عن المراحل الأولى التي عاشتها، لأن اللاشعور الجمعي أحد المكونات الأساسية للشخصية، وبذلك كانت العذرية وليدة هذا التمازج بين الموروث وبين الجديد الذي طرأ على الحياة العربية الإسلامية في أبعادها الحضارية الشاملة.
إن "عبد القادر القط" يثبت برأيه هذا بما لا مجال للشك فيه الوجود التاريخي للظاهرة العذرية، وأنها إفراز حضاري للحضارة الإسلامية في بعدها الثقافي والاجتماعي والإنساني.
وخلاصة ما ينتهي إليه الدارس في تأمله لأطروحات المحدثين وآراء حول الوجود التاريخي للظاهرة العذرية وشعرائها من حيث نفيها أو إثباتها إلى نظريتين متباينتين:
1- الشك في الوجود الحقيقي لبعض شعراء العذريين، وخاصة ما دار حول إنتاجهم الشعري، من قصص يسرف في تصوير ما كان يعانيه هؤلاء الشعراء من آلام وحرمان.
2- الإثبات اليقيني لوجود هؤلاء الشعراء تاريخياً، وما روي حول حياتهم من أخبار تسرف في تصوير عواطفهم وتساميهم في الحب.
لكن الذي يستخلصه الدارس من كلتا النظرتين، هو أنّ الاختلاف واقع حول تفاصيل الجزئيات الخاصة بأخبار العذريين وقصصهم. لكن الإجماع حاصل حول الوجود التاريخي للظاهرة، كظاهرة متميزة في التراث العربي القديم، لها أسس سواء أكانت هذه الأسس مقنعة أم غير مقنعة، وهذا ما جعل كثيراً من الدراسات تتناولها لا من حيث إنّها واقعة تاريخية يجب أن تمارس عليها المقاييس التاريخية العلمية ولكن من حيث إنّها ظاهرة فنية تعبر عن رؤية للعالم.
إنّ الحديث عن الوجود التاريخي للظاهرة العذرية هو الذي طرح وبشكل جلي إشكالية "النحل والانتحال" لتلقي بظلالها على الدراسات التي تناولت الظاهرة، وشعرائها، وبذلك، فالشك هو المبدأ الأساسي الذي يتحكم في طريقة التعامل مع الظاهرة العذرية، وهذا ما سنحاول أن نفصل فيه بعد هذه التوطئة حول الوجود التاريخي للظاهرة وشعرائها.
2- النحل والانتحال:
النحل والانتحال من الظواهر الأدبية والنقدية التي عرفها التراث العربي القديم، وهي ظاهرة لا تقتصر عليه وحده فقط، بل نجدها عند الأمم القديمة الأخرى وبخاصة ما تعلق بالتراث الإغريقي القديم كملحمتي هوميروس الأوديسا والإلياذة. وهذا ما جعل الدارسين الغربيين يهتمون كثيراً بالدراسة والبحث في نشأة هذا التراث القديم وطرائق حفظه وروايته والتحقق من صحة نسبه، وذلك راجع إلى أنّ التراث الإغريقي لم يكتب في أوائل عهده، وإنّما اعتمد في نقله على الرواية الشفهية "فلم يكتبا منذ أن نُظِما، بل بقيا محفوظين في صدور الرجال ترويهما الأجيال المتعاقبة وينشدهما الأفراد في المجالس والمحافل"(20) فشفهية التراث اليوناني في أول عهده هو الذي دفع الدارسين إلى الاهتمام بتحقيقه خوفاً من امتزاجه بالقصائد والأغاني الشعبية في العصور الوسطى عند الأمم الأوروبية "فوازنوا بين ملحمتي هومر والملاحم الأوروبية التي نظمت في عصور أكثر حضارة وأوفر علماً من عصور الإلياذة والأوديسة من مثل إلياذة "فرجيل"، والفردوس المفقود لملتون"(21). وذلك بغرض التحقق من صحة مصادر التراث الإغريقي القديم ونصوصه حتى لا يمتزج بالآداب التي كُتبت من بعده، خاصة وأنّ قضية الرواية الشفهية للتراث القديم تطرح إشكاليات عدة يجب التحقيق فيها لدرء الشبهة والتحقق من صحة النصوص.
وبفعل قدم ظاهرة "النحل والانتحال" وتأثيرها في الرواية الشفهية للتراث الأدبي الإغريقي القديم، نجد تأثيرها امتد أيضاً إلى تراثنا القديم، وبخاصة ما اعتمد في نقله على الرواية الشفهية لفترة من الزمن سواء أطالت هذه الفترة أم قصرت "فعرفها العصر الجاهلي كما عرفها العصر الأموي والعصر العباسي، بل لا تزال، يعرفها عصرنا الحاضر الذي نحيا فيه"(22) وهي ظاهرة لم تقتصر على الشعر فقط بل تعدتها إلى كل ما يمت إلى الأدب العام بسبب:
كالأنساب والأخبار. بل لقد بدأ الكذب والوضع يعم حتى طال الحديث النبوي الشريف في حياة الرسول فقال: زاجراً مثل هؤلاء الوضاع (من تعمد علي كذباً فليتبوأ مقعده من النار)(23) وازداد الأمر استفحالاً بعد وفاته بسبب اعتماد الحديث النبوي الشريف على الرواية الشفهية طيلة القرن الأول الهجري، وهذا ما دفع بعلماء الحديث إلى الاجتهاد في جمع الحديث النبوي الشريف مؤسسين بذلك لعلم قائم بذاته "علم التعديل والتجريح" بهدف تنقية الحديث من الشوائب التي لحقت به.
لم يكن أمر الوضع والنحل في التراث العربي القديم ليخفى على الرواة العلماء خاصة ما تعلق بأخبار الجاهلية وأشعارها مع القرن الأول الهجري، إذ نجد جملة من الرواة والنقاد القدامى قد تفطنوا إلى خطر هذه الظاهرة، فنبهوا إليها، يقول "ابن سلام الجمحي" (24): "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها "حماد الراوية" وكان غير موثوق به كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار" إنها إشارة صريحة من "ابن سلام" إلى إشكالية النحل والانتحال في التراث العربي القديم سواء ما تعلق بروايته أم بنصوصه، وهو ما فتح المجال أمام الكثير من النقاد القدامى إلى الاهتمام بهذه الظاهرة. "فالجاحظ يشير إلى الموضوع والمنحول على ثلاث طرائق، فهو حينا ينسب الشعر إلى شاعر بعينه ثم يعقب عليه بما يفيد شكه فيه، وهو حيناً ثانياً يقطع قطعاً جازماً بأن هذا الشعر أو ذاك منحول موضوع مصنوع وكل ذلك من غير دليل أو حجة وإنّما يرسل القول إرسالاً، وهو حيناً ثالثاً يقطع بأنّ الشعر منحول ثم يُورد من الحجج ما يراه كفيلاً بدعم رأيه"(25) وبذلك يدرك أن "الجاحظ" كعلم من أعلام النقد القديم لم يُهمل هذه الظاهرة بل نبه هو كذلك إليها وبيَّن طرقها وأساليب تسربها إلى التراث القديم. أمّا "ابن قتيبة" فقد أشار إلى النحل والوضع في موطنين من كتابه "الشعر والشعراء" إذ أورد في الموطن الأول قول الأعشى:(26)
إِنَّ مَحلاًّ وإِنَّ مُرْتْحلاً = وإنَّ في السفْرِ ما مَضَى مَهَلاً
إِسْتَأْثَرَ اللَّه بِالوفاءِ وَ بِالحَمْـ = دِ وَوَلَّى الملامَةَ الرَّجُلاَ.
ثم عقَّب عليها بقوله: "وهذا الشعر منحول، ولا أعلم فيه شيئاً يُستحسن". تلك هي إشارات بعض النقاد القدامى إلى ظاهرة النحل والوضع في التراث العربي القديم لما كان يُعتمد في روايته على الشفهية، وهي التي طرحت إشكالية الشك في الكثير من أخبار وقصص أشعار القدامى، وفتحت المجال أمام الكثير من الدارسين للشك في جزء هام من التراث العربي القديم.
ولم يتوقف الشك عند القدامى فقط بل تعداه إلى نقاد العصر الحديث فوقفوا موقف الريبة والشك في كثير من أخبار القدامى. وما يهمنا في هذا المقام هو نظرة المحدثين إلى الظاهرة العذرية التي تشكل بناؤها وأحداثها وأخبارها في فترة الرواية الشفهية مما جعل عامل النحل والوضع يتسرب إلى كثير من جوانبها، فدفع ببعض الدارسين إلى الشك في وجودها التاريخي وخاصة في الوجود التاريخي لشعرائها وقصصهم ونصوصهم وصحة نسبها، وهذا ما سنقف عنده بالتفصيل.
الشك في الظاهرة العذرية في النقد العربي الحديث:
أ- الشك في الوجود التاريخي لشعراء العذرية:
إن الرواية الشفهية لأخبار العذرية ونصوصها في عهدها الأول هي التي طرحت وبشكل جدي عند بعض الدارسين إشكالية الشك في أخبار شعراء هذه الظاهرة وقصصهم وأشعارهم، فذهبوا في غير موطن إلى إنكار وجودهم التاريخي والتشكيك فيه أو التشكيك في جزء بارز من تفاصيل حياة هؤلاء الشعراء، وإن كنا قد ألمحنا إلى ذلك من قبل عند حديثنا عن نشأة العذرية إلاّ أنّ إشارتنا لم تكن مفصّلة وهذا ما دفع بنا إلى تخصيص هذا المجال لتدارك ما رأينا فيه تعميماً يحتاج إلى تفصيل خاصة ما تعلق بالنقد العربي الحديث وتعامله مع الوجود التاريخي لشعراء العذرية وقصصهم ونصوصهم.
يعد "طه حسين" من أوائل الدارسين في العصر الحديث الذين تعاملوا مع الوجود التاريخي لشعراء العذرية بمنطق الشك والريبة، إذ المتأمل في دراساته للغزل في عصر بني أمية يدرك إن موقفه يتراوح بين الإنكار الكلي لشعراء هذه الظاهرة وبين الإنكار الأحادي لشخصية "قيس بن الملوح"، ويؤكد ذلك في غير موطن من دراساته في "حديث الأربعاء" معلّلاً ذلك بأن "البحث العلمي يضطره إلى انتهاج الشك وتُكرهه عليه مناهج النقد إكراهاً".(27)
إن مبدأ الشك الديكارتي هو المرجع الرئيس لمنهج "طه حسين" في التعامل مع شعراء الظاهرة العذرية، علماً أن منهجه هذا انتهجه بعض المستشرقين في التعامل مع كثير من القضايا التراثية العربية بدأ من "مارجليوث" في إثارته لقضية النحل والانتحال في الشعر الجاهلي والذي بنى عليها "طه حسين" أطروحة الشك في الشعر الجاهلي في كتابه "الشعر الجاهلي" ثم "في الأدب الجاهلي" والذي أثار جدلاً نقدياً حاداً بين معارض لأطروحات حكمه، وبين متحفظ منها مؤيد لبعضها ومنكر لبعضها الآخر، والتي لا زالت كتب النقد الحديث تزخر بها.
والشك عند "طه حسين" هو أساس التعامل مع الوجود التاريخي للشعراء العذريين مما دفع به إلى التأكيد على أنه "سينكر وجود طائفة من الشعراء، أو سيجحد شخصيتهم، وسيزعم أنّ هؤلاء بين اثنين: إما أن يكونوا أثراً من آثار الخيال قد اخترعهم اختراعاً، وإما ألا تكون لهم شخصية بارزة ولا خطر عظيم، وإنما عظّم الخيال أمرهم وأضاف إليهم ما لم يقولوا وما لم يعملوا، واخترع حولهم من القصص ألواناً وأشكالاً جعلت لهم في الأدب العربي هذا الشأن العظيم الذي لا يكاد يقوم على شيء"(28) وهو موقف يتراوح بين الإنكار الكلي للوجود التاريخي لبعض الشخصيات العذرية، والإنكار الجزئي لأخبار بعضهم الآخر.
"فقيس بن الملوح" من الشخصيات العذرية التي تؤكد أنه "يشك الشك كله، أن يكون "قيس بن الملوح" شخصاً تاريخياً وجد وعرفه الناس أو استمعوا إليه" (29) وهو إنكار مبني على أسس استمدها "طه حسين" من اختلاف الرواة في اسمه وأخباره وجنونه، وإنكار "بني عامر" لشخصه، والتي تؤكد مصادر التراث القديم، خاصة "الأغاني" كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في ما سبق.
فالرواية الشفهية هي مصدر إشكالية الشك عند "طه حسين" إذ يؤكد أن "هناك طائفة من ثقاة الرواة، أو من الذين نعدهم ثقاة كانوا قد برعوا براعة لا حد لها في انتقال الأشعار والأخبار، وكان الناس قد آمنوا لهم، ووثقوا لهم، فكانوا يأخذون عنهم ما يرون على أنه حق لا شك فيه، ولم يكن يشك في روايتهم إلاّ نفر قليلون قد عملوا عملهم وشاركوهم فيما كانوا فيه من عبث ولهو ولست أذكر من هؤلاء الرواة إلا اثنين: أحدهما


حمّاد الراوية، والآخر خلف الأحمر"(30) فمصادر الأخبار خاصة في الرواية الأدبية لم ترق في التحقيق والتوثيق إلى ما وصلت إليه الرواية في الحديث النبوي الشريف، وهذا ما يدفع إلى اعتماد مذهب الشك في الكثير من الأخبار والروايات، ولكن الذي لا نتفق عليه مع "طه حسين" هو أنّ الشك في الجزء لا يؤدي بالضرورة إلى إنكار الكل، خاصة في الوجود التاريخي لشخصية ملأ اسمها وأخبارها سماء الدنيا في زمانها، ينضاف إلى ذلك "أنّ قراءة المجموعة الشعرية الصغيرة التي تركها قيس تدل على انتسابها إلى شاعر واحد بحكم وحدة الأسلوب الفني، وعلى أنه صاحب تجربة حقيقية لا مصطنعة بحكم توهج النفس الشعري"(31) فالاختلاف في الرواية خاصة إذا كان مصدرها الشفهية وارد لا شك في ذلك لأن الأمصار التي كانت مراكز تجمع استقطبت الرجال الحاملين في وثائقهم وصدورهم الموروث الإسلامي الذي كان قد بدأ يتضخم ويتشعب، "ويتألف هذا الموروث من خليط من المعلومات والنصوص والتأويلات والشروح غير مبوبة ولا مصنفة ولا مصفّاة. وكانت عملية التدوين تستهدف أساساً غربلة هذا "المجمع" من المعارف وتبويبه مما سيسفر عن تصنيفه إلى حديث وتفسير وفقه ولغة وتاريخ"(32) فكان الأساس والهدف من التدوين وما نتج عنه من علوم تابعة له غايتها تحقيق الرواية وتمحيص الصحيح من المنتحل الموضوع. فالتدوين لم يطرح إشكالية الشك في الوجود التاريخي للشخصيات وإنّما طرح إشكالية الشك في الأخبار والنصوص على اعتبار أنّها موطن رحب للوضع والانتحال.
فشك "طه حسين" في الوجود التاريخي للشخصيات العذرية، وخاصة المجنون وإن كان له أساس عند "أبي الفرج الأصفهاني" فإن حجج "طه حسين" لا تصمد أمام البحث العلمي، إذ هي تلجأ في أساسها إلى إضفاء البعد الشعبي والميثولوجي على أخبار العذريين، فتلبسهم طابعاً أسطورياً يحمل رموزاً تعبيرية لتفسير واقع اجتماعي وسياسي ساد العصر الأموي.
إنّ موقف "طه حسين" من الوجود التاريخي لشعراء العذرية يتأرجح بين شك كلي وشك جزئي، والشك في مثل هذه المسائل يجب أن يقف عند حدود معينة وإلا فقد كل مبرر منهجي. "ذلك لأنه بإمكان" الوضَّاع "أن يضعوا فعلاً بعض الأشعار وينسبوها إلى من يقدموهم، ولكن من المستبعد تماماً أن يتناول الوضع شخصيات الماضي وما ينسب إليها في آن واحد"(33). فالشك يطول جزءاً من أخبار شعراء العذرية ولا يطول كل الأخبار، فهو وضع يخص الجزء ولا يتعدى إلى الكل وبذلك ندرك أنّ قراءة "طه حسين" انطلقت من الجزء إلى إنكار الكل وذلك ما لا يقبله المنهج العلمي.

ب- الشك في القصص العذري:
إنّ القصص ركن أساسي من الأركان التي أسست للظاهرة العذرية، والمقصود بالقصص هنا، مجموعة الأخبار التي اختلقها الرواة وتناقلتها الرواية الشفهية، فشكّلت بذلك القصة العذرية عند أعلامها كجميل وقيس وكثير وغيرهم من العذريين.
فالرواية الشفهية التي تقف وراء القصة العذرية والمنهج الذي اعتمدت عليه في تدوين أخبار العذريين طرحت إشكالية الوضع والمبالغة في رسم أحداثهم وأخبارهم، وبالتالي جعل الكثير من الدارسين خاصة في العصر الحديث ينظر إلى القصة العذرية نظرة الشك.
فالشك هو أساس كثير من الدراسات التي تناولت الظاهرة العذرية في عمومها والقصة العذرية على وجه الخصوص، بدءاً من "طه حسين ووصولاً إلى "علي البطل".
ولئن كان شك "طه حسين" في الوجود التاريخي "لقيس بن الملوح" كما سبق وأن عرفنا شكاً جزئياً في كثير من المواطن، فإن شكه في القصة العذرية نلفيه شكاً كلياً وعند جل شعرائها بدءاً من جميل ووصولاً إلى "قيس بن الملوح"، معتبراً القصة العذرية جملة من الأخبار اصطنعها الرواة معتمدين على خيالهم لتفسير أشعار العذريين فصنعوا لهم أحداثاً تكون مورداً ومرجعاً أساسيين يرجع إليها القارئ لمعرفة مرجعية النص العذري.
إنّ "طه حسين" يذهب إلى أنّ طبيعة البحث المنهجي هي التي فرضت عليه الشك في قصص العذريين إذ هو "أشد من هؤلاء القدماء طمعاً وأكثر منهم تحفظاً لا تكفيه أسماء الثقاة من الرواة، ولا تكفيه جمال القصيدة وجودة المقطوعة، وإنّما يريد أن يتخذ كل شيء موضوعاً للبحث والنقد والتحليل، ولا يكاد يفرق عن ذلك بين الأدب والعلم... لأنه يرى أنّه لا يبتغي من الأدب والتاريخ رواية الأعاجيب والعظات"(34) فالطابع المثالي الذي تميز به القصص العذري والذي أضفى على كثير من أحداثه وأخباره طابعاً غريباً جعل "طه حسين" يذهب إلى أنّ الرواة قد أضافوا إلى هذه القصص الكثير من صنع خيالهم، وبذلك طرح إشكالية العدل في الرواية الأدبية حتى ولو كانت من ثقاة الرواة.
فالروايات الأدبية مصدر التراث العربي القديم، ولئن شكك "طه حسين" في رواية الثقاة فإنّه يشكك في القصص العذري بخاصة، ومصادر التراث العربي بعامة. وهو منهج على الرغم من أنّه يدعي العلمية إلا أنّه لا يلتزم بأبسط قواعد العلمية التي تؤكد صحة الخبر حتى يثبت وضعه و انتحاله. ومذهبنا هذا غير مبني على دافع عاطفي وإنّما أساسه أنّ الرواية الشفهية مصدر أغلب التراث العالمي القديم. فلماذا القصد للتراث العربي دون غيره من التراث العالمي الآخر؟ علماً بأنّ التراث العربي يعد محدثاً إذا ما قورن بالتراث العالمي الآخر.
إنّ مذهب "طه حسين" في التعامل مع القصص العذري، مبني على الإنكار الكلي والإنكار الجزئي، إذ يقف موقف الإنكار الكلي لقصة المجنون لأنه يستثني وجوده التاريخي دون غيره من أعلام القصص العذري من أمثال جميل وكُثَير وقيس بن ذريح، وإنّ قصة المجنون "أشدها سخفاً وأكثرها غلواً وإحالة وأخلاها من المغزى النافع أو المعنى المفيد، فلا تجد في هذه القصة شيئاً يبين لك شخصية هذا الرجل الذي اتخذ لها بطلاً، بل كل ما تجده ألواناً من المبالغات وضروب من الإسراف"(35) وبذلك فهو يرجع نسج أحداث قصة المجنون إلى الرواة، وأنّ هذه القصة وبطلها المجنون ما هي إلا رمزاً أساسياً يعبر عن احتجاج ضد البؤس والحرمان الذي سلط على البدوي في بادية الحجاز، الممزوج بالفقر والوازع الديني الذي أسبغ على هذه القصص بعداً صوفياً "ومهما يقل القائلون فلن يستطيعوا أن يغيروا رأي، وهو أنّ الكثير من هؤلاء الشعراء، ومن الفتيات اللاتي كانوا يتغزلون بهن، إنّما هم جميعاً رموز لا حقائق"(36) وبذلك ينفي القصة العذرية نفياً كلياً ويدخلها في إطار المرجع الرمزي الذي يكني عن قمة حضارية.
فقصة المجنون ما هي إلا من نسج خيال الرواة، ويظهر ذلك من خلال الأسلوب الرصين الذي دونت به والإتقان الذي نسجت به أحداثها، والذي يختلط فيه الواقع بالخيال، مما أضفى عليها بعداً أسطورياً وفتح المجال أمام الرواة للإضافة والنقصان وإدراج الأحداث وفق الطريقة التي ترضي المتلقي، وتبعث فيه عاطفة الشفقة والإعجاب. فالمتلقي هو العامل الأساسي في نسج أحداث القصة على اعتبار أنّ الرواة كانوا يراعون أذواق المتلقين أكثر من مراعاتهم لصحة الخبر، وبذلك انتقلت قصة المجنون من طابع تاريخي حقيقي إلى طابع خرافي أسطوري، عملت المخيلة الشعبية عملاً بارزاً في نسج أحداثها.
إنّ موقف "طه حسين" من قصة المجنون له ما يبرره خاصة ما تعلق بالجانب الغريب منها الممزوج بالطابع العاطفي المبني على قوة المتخيل لدى رواة هذه القصة، ولكن هذا لا يجعلنا ننفيها نفياً كلياً "لأن الحق يغرينا بأن نقرر في اطمئنان إلى أنّ "قيس بن الملوح" كان موجوداً، ولكنه كان أحمق، كما يذكر صاحب الأغاني نفسه ذلك مراراً قبل أن يحب ليلى، فلما أحبّها ولم يتزوجها جن، لأنه كان ذا نصف عقل. وما العشق إلا نصف الجنون... فإذا كان الرجل ذا نصف عقل، وقد كانت به لوثة، ثم عشق، ثم لم يوفق في عشقه وغلب على أمره، فما يستنتج عن هذا؟ إنّه الجنون وانتهى الأمر، ولا تركيب ولا تعقيد. ولا غرابة في الجنون"(37) وبذلك فإنّ قصة المجنون في جوهرها واقعة تاريخية لا يستطيع أن ينفيها أحد في كليتها وإن كان فيها بعض الإضافات. لكن يستطيع القارئ المتمرس أن يقف عندها لأنه يحس غرابة في بعض أخبارها وأموراً مفتعلة وذلك هو وجه الشك فيها.
أما القصة التي يشك "طه حسين" في جزء منها فهي قصة "جميل بن معمر" إذ يؤكد الوجود التاريخي لجميل ولكثير من أخباره، لكنه يشك في البعض منها خاصة ما تعلق بوصله لبثينة "فقصة جميل فيها سخف كثير، وفيها إحالة كثيرة، وأحسبها أصدق من قصة المجنون، ولكن جميلاً رجل تاريخي وُجد حقاً وشعره واضح للدلالة على شخصيته، ولم يكن مجنوناً ولا مذهوباً به... ومن هنا خلت قصته من هذه الألوان التي ننكرها في قصة المجنون، خلت من هذه الألوان وامتلأت بألوان أخرى أقل ما توصف بهما أنها تناقض الحب العذري"(38) فالأخبار التي تصف طرق اتصاله ببثينة والتي وردت خاصة في الأغاني تبعث على الريبة في أنّ جميلاً كان عذرياً، وأنّ هذه الأخبار ما هي إلا من وضع الرواة لإعطاء تفسيراً لبعض أشعاره و "أنّ واضع القصة كان رجلاً متكلفاً ميالاً إلى المحاجاة، فإنك تجد في غير موضع من أخبار جميل ضروباً من الرموز والألغاز بين هذين العاشقين حين كانت تتصل بينهما الرسائل"(39) وأخبار جميل في الأغاني مليئة بمثل هذه الحيل التي كان يستعملها جميل للاتصال ببثينة.
وهناك عامل ثان يعتمد عليه "طه حسين" في شكه في قصة جميل وهو الغدر الذي تميزت به كثير من أخبار جميل مع بثينة، الغدر الذي لا يمكن أن يصدر عن عذري أحب فأخلص الحب، وعف فكان قمة في الوفاء والود. ينضاف إلى ذلك أنّ كثيراً من أخبار جميل كانت تؤكد أنّه على اتصال دائم ببثينة خلسة من زوجها وأهلها، يبيتان في فراش واحد دون أن يتماسا، وهي أخبار تشكك في عفة الحب وعذريته وتجعله لا يتميز عن الحب المادي الذي تميز به "عمر بن أبي ربيعة" على زمن جميل مما يطرح عنه "طه حسين" إشكالية اختلاط الأخبار بين جميل وعمر بن أبي ربيعة، وهي مواقف وقف عندها "طه حسين" لأنها فعلاً مدعاة للشك، ولكن الذي نريد أن نؤكده هو إذا كانت هذه الأخبار تشكك في بعض جوانب قصة جميل فإنّها لا تنفي الوجود التاريخي للقصة وفي كثير من معطياتها وأحداثها كما لا تشكك في الحب العذري الذي كان بين جميل وبثينة لأن المتأمل في هذا الشعر يدرك صدق عاطفة الحب التي كانت تقع بينهما.
أمّا الدارس الثاني الذي ينفي الوجود التاريخي للقصة العذرية ويعطيها بعداً مغايراً لما جاء به "طه حسين" فهو "علي البطل" في مقال له نشره في مجلة "فصول" تحت عنوان "الغزل العذري واضطراب الواقع" إذ يعطي للقصة العذرية بعداً ميثولوجياً وأنّ "قصص العشق العذري في العصر الأموي تمتد جذوره موغلة إلى حيث المأثور الأسطوري والشعبي في عصور ما قبل الإسلام، وقد حافظ هذا القصص على عناصر كثيرة من ميراثه القديم، مطوراً بعضها، ومضيفاً إليها عناصر أخرى فرضتها الظروف الجديدة"(40) فالقصة العذرية نمط فني استحدث ليكون رموزاً تعبر عن مكبوتات سياسية في بادية الحجاز وذلك "لما كان التعبير المباشر محظوراً فقد لجأت البادية إلى هذا القالب الفني الذي وجدت هيكله العام في التراث الذي توارثه أهلها عن الأسلاف. ونعني به التراث الأسطوري والمأثور الشعبي السائد قبل الإسلام، نحن إذن إزاء قصص شعبي يحمل السمات التي تميز كل فولكلور، وأهمها أنّه قصص مجهول المؤلف، وأنّه يسير حسب أشكال نمطية تتكرر "موتيفاتها" من قصة إلى أخرى، على نحو يجعل القصة العذرية "تيمة" محددة لها عناصرها المعروفة، حتى إذا لجأت إلى المغايرة أحياناً والتحوير أحياناً أخرى"(41)، فوحدة الموضوع هي التي أغرت "علي البطل" على الذهاب مذهبه هذا في إرجاع القصص العذرية إلى قصص من صنع المخيلة الشعبية، وأنّ أبطال هذه القصص ما هم إلا رموزاً تعبر عن واقع جماعة. فالقصة العذرية لديه وما فيها من شعر عذري قصة مجهولة المؤلف، تعتمد على عناصر قليلة من الواقع، إلى جانب العناصر التي اخترعتها المخيلة، فتخضع فيها العناصر الواقعية لسياق "النمط" الذي تسير عليه. " وهي تعبر من خلال القالب الفني تعبيراً رامزاً لما يجري حولها، وما تعانيه الجماعة من هموم، وما تترقبه من آمال"(42) وهي قراءة فيها من الغلو ما يجعلنا نلاحظ إنكاره الكلي للوجود التاريخي للشعراء العذريين ولقصصهم وأخبارهم، ويكون بذلك قد أكد قراءة "طه حسين" وتعداها إلى النفي والإنكار الكلي وفي الوقت نفسه يثبت أنّ القصص العذري يعتمد على عناصر قليلة من الواقع، وهذا ما يجعلنا نتساءل: ألا يمكن لهذا القليل من الواقع أن يكون نواة أساسية للوجود التاريخي للشعراء العذريين ولقصصهم وأخبارهم؟
إنّ المذهب الميثولوجي الذي ذهبه في تفسير مرجعية القصة العذرية هو الذي دفع به إلى الاعتماد أنّها قصة شعبية مجهولة المؤلف. وبذلك فإنّ قراءة "علي البطل" كانت خاضعة في جوهرها لأسس القراءة المثولوجية أكثر من اهتمامها بالرواية الخبر والتحقق من صحته أو كذبه. فالأساس المنهجي الذي اعتمدته قراءة "علي البطل" هو الذي فرض هذا الإنكار الكلي لواقعية القصة العذرية، وليس الواقعة التاريخية ومنهجية التحقق من صحتها أو كذبها، ينضاف إلى ذلك أنّه وقع في تناقض بارز بين الإنكار الكلي للقصة والتأكيد على أنّ مرجعيتها الشعبية مجهولة المؤلف والإثبات الجزئي لها كواقعة تاريخية وقعت تحت تأثير ملابسات واقع بعينه.





.
 
أعلى