حسين قوق - الكتابة الأدبية عن الجنس، هل هي إبداع ام مجرد كتابة للإثارة فقط ؟

ربما يبدو هذا التساؤل قديما ومستهلكا بعض الشيء نظرا لما أساله من حبر وما أثاره من معارك فكرية بين المناصرين والمعارضين لهذا النوع من الكتابة.
حجة المناصرين أن الثقافة العربية وعلى امتداد تاريخا الطويل، ابتداء من امرؤ القيس ووصولا إلى وقتنا الراهن تحفل بكثير من النصوص الخالدة التي كان الجنس هو موضوعها الأساسي، أو حاضرا فيها بقوة؛ كما أن اللغة العربية نفسها هي من أكثر لغات العالم احتفاء بالجسد والشبق.
وحجة المعارضين أن هذا النوع من الكتابة مناف لأخلاق وقيم المجتمع، بالإضافة إلى أن الدين الإسلامي يأمرنا بالتحشم؛ وبالتالي يعتبرون مثل هذه الكتابات لا تندرج ضمن الأدب والإبداع إنما هي تعبير مرضي عن قلة أدب.
إذا، ينطلق الفريق الأول في دفاعه عن هكذا نوع من الكتابة مما هو كائن مستنجدا بتاريخ الأدب العربي نفسه، وموظفا الكثير من الأمثلة التي يعثر عليها في كل فترة من الفترات التي مر بها هذا الأدب سواء كانت فترة ازدهار أم فترة انحطاط.
في حين ينطلق الفريق الثاني مما يجب أن يكون، موظفا مقولات فقهية أوّلت النص الديني تأويلا خاصا، وواضعا نفسه – أي هذا الفريق- حاميا ومدافعا عن الأخلاق العامة، انطلاقا من نظرة اخلاقوية يعوزها الكثير من التفتح.
على المستوى الأدبي والنقدي وكذا من خلال الصحافة أثير هذا الموضوع كثيرا، وخصوصا حين يتعلق الأمر بأنثى كاتبة، فالذهنية الذكورية لمجتمعاتنا مازالت ترى بان المرأة حين تكتب فهي تكتب بجسدها ورغباتها قبل أن تكتب بعقلها.
لكن على مستوى التدوين وباعتبار هذا الفضاء الإبداعي لا يزال حديثا وفي طور التكون في العالم العربي، فإن مواضيع كثيرة مازالت في خانة المسكوت عنه، رغم ما يمنحه هذا الفضاء من حرية كبيرة في التعبير عن كل شيء. صحيح أن هناك الكثير من المدونات التي يعمد أصحابها إلى إثارة مواضيع جنسية وحميمة جدا، ولكن لم يفتح نقاش حول طبيعة هذه الكتابة، إنما الموجود هو ردود فعل سواء مشجعة أو رافضة، دون الغوص في جوهر الموضوع.
من الناحية السوسيولوجية يرتبط ” الأدب الجنسي” – مع بعض التحفظ على هذه التسمية- بالفضاء المديني أي الحضري، نظرا لما يتيحه هذا الفضاء الجغرافي من حرية مقارنة بالفضاء الريفي أو البدوي الذي يتميز على عكس الأول بكثير من التحفظ والحشمة، فالمدينة تتميز بمجهولية الناس القاطنين فيها مقارنة بالريف حيث الجميع يعرفون بعضهم البعض؛ هذه المجهولية تمنح الفرصة للتعبير بحرية كبيرة عن الرغبات الجنسية سواء من خلال الكلام/ الكتابة أو من خلال الممارسة، رغم أن معظم التعبيرات الشبقية لسكان المدينة تتم بشكل لفظي سواء من خلال الكتابة أو النكت الجنسية أو المعاكسة التي يتسع مجالها كثيرا نظرا للاختلاط الموجود بالمدينة ووجود نساء ورجال غرباء عن بعضهم مع بعض في أماكن كثيرة؛ ولكن التعبير عن الرغبات الجنسية في المدينة غالبا ما لا يتعدى المستوى اللفظي، ليس لان سكان المدينة يتميزون بعفة تمنعهم من الوصول إلى ممارسة فعلية وإشباع هذا الشبق المتنامي، وإنما لأسباب موضوعية وقاهرة تكسر هذه الرغبات وتمنعها من التحقق، هذه الأسباب تكمن أساسا في ضيق الأمكنة، وهذه خاصية سوسيولوجية مرتبطة بالمدينة على عكس الريف أو البادية التي تتميز باتساع الفضاء الغير مأهول والذي يمكن استغلاله كأماكن خاصة باللقاءات الحميمية.
في بحثه عن ” الجنس: وفرة الإثارة وشح الأمكنة” يقول الدكتور عبد الصمد الديالمي:
” في المدن الكبيرة، تتأرجح الأوساط الشعبية بين تأجج الرغبة الجنسية وبين قلة حظوظ إشباعها…
من بين ما يعنيه التحضر، الانتقال إلى مجال غير قبلي يتأسس على قيم جديدة تدور حول الفرد وحرياته. في هذا المجال، يتحرر الفرد من نظرة الآخرين ومن ضغط القرابة، وبالتالي تصبح معاكسة النساء أمرا ممكنا. أبعد من ذلك، يرى(جورج زيمل) أن معاكسة النساء ظاهرة حضرية بالأساس، بمعنى أن المعاكس يتعرض لنساء في كل الأماكن العمومية قصد استهلاكهن جنسيا. إنه الرجل الذي يجرب حظه مع كل النساء، ومع أكبر عدد ممكن من النساء. لا مجال هنا لشيء اسمه الحشمة، فلا أحد يعرفه في مجال حضري يتسم بالمجهولية”
إذا، هناك وفرة جنسية في مقابل شح في إمكانية إشباعها، وهذا ما يحول الإشباع من شكله الطبيعي الجسدي إلى شكل أخر، وهو محاول الإشباع عن طريق اللغة، أي توظيف جنسانية اللغة كوسيلة تنفيس عن تلك الرغبات المحمومة والممنوعة من جهة والممنوعة من التحقق من جهة ثانية، وهذا ما أنتج لنا ما يسمى في الغرب بالأدب المكشوف، وهذه الظروف نفسها هي التي أنتجت لنا في تراثنا العربي كما هائلا من الأدب الجنسي الذي ازدهر في حواضر الدولة الإسلامية خصوصا في عهد الخلافة العباسية.
وكنت في إدراج سابق تحت عنوان: الحب في الثقافة العربية قد تحدثت عن الفروق الموجودة بين شعر البوادي ( الشعر العذري كنموذج) والشعر الذي أنتجته الحواضر الإسلامية حول موضوع الحب ونظرة الإنسان المسلم البدوي للحب التي تختلف جذريا عن نظرة الحضري، ففي الشعر الذي أنتجته البادية نلحظ الكثير من العفة وكذا اقتصاد كبير في توظيف كلمات ومعاني ذات مدلول جنسي، على عكس الشعر الحضري الذي وصف وبالتفصيل ودون حشمة، الكثير من العلاقات الجنسية سواء السوية أو الشاذة، كما أنه- أي هدا الشعر- قد وظف القاموس الجنسي العربي أفضل توظيف.
وبالعودة إلى التراث الجنسي العربي نجد نصوصا كثيرة تناولت العلاقات الجنسية، عن لم نقل مجّدت هذه العلاقات، كما في حالة شعر أبي نواس الذي يظل مثالا نادرا ” للالتزام في الأدب ” حيث كانت حياته لا تنفصل عن شعره، ونظرا لما اتسم به من مجون فقد اودع كل هذا المجون في أشعاره. ولكن يبقى ابو نواس استثناء يؤخذ به دون أن يقاس عليه. ولكن هذا لا يعني أن الحسن بن هانئ هو من أوصل الجنسانية العربية إلى ذروتها، فالذين أوصلوا هذه الجنسانية إلى ذروتها هم فقهاء ورجال دين، وهنا تكمن المفارقة، وأيضا ينبرز الدليل الذي يوظفه أنصار هذا النوع من الكتابة ضد خصومهم الدين يعارضون باسم الدين وباسم نصوص فقهية.
ربما يكون الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي صاحب كتابي أسباب النزول وتفسير الجلالين، هو من أكثر من كتبوا عن الجنس، واستعراض بعض عنوانين كتبه في هذا المجال يعطي صورة أوضح عن الذهنية المنفتحة التي كان يتميز بها الفقهاء في الماضي ونظرتهم العقلانية للأشياء:
- نواضر الأيك في آداب النيك
- إرشاد اللبيب لمعاشرة الحبيب
- مقامة النساء
- رشف الزلال من السحر الحلال
- الوشاح في فوائد النكاح
- شقائق الاترنج
وغيرها من كتبه الكثيرة التي كان موضوعها الأساسي هو الجنس وبأسلوب يعتبر في أيامنا هذه فاضحا جدا، بدليل أن معظم كتبه التي حققت ونشرت تم منعها في الكثير من الدول العربية والإسلامية بحجة أنها أدب بورنو.
لا يمثل الإمام السيوطي استثناء في هذا المجال سواء بالنسبة لمجايليه أو السابقين عليه أو اللاح

.

- حسين قوق حاسي بحبح
 
أعلى