مهدي عرار - من الصوت إلى الصمت في أدب الحب والأحباب" دراسة سيميائية

لقد تضافرت مجموعة من العوامل التي أفضت بالصمت إلى أن يكون ذا سهمة كبيرة في التّواصل والإبانة في "أدب الحب والأحباب"، والحقّ أنّ أهل الحب يفصحون عن حواشي النّفوس، ومكنونات الضّمائر، معتمدين على رافدي المعنى الرّئيسين: الكلاميّات والصّمتيّات، أمّا الكلاميّات فأمرها ذائع، وأشهرها أشعار الغزل والمواجد العشقيّة، وأمّا الصّمتيّات والحركيّات فعليها عقد الباب والموضوع في هذه الورقة، وقد وصفها الشّعراء في أشعارهم، ورسموا تلكم الحركات الجسديّة الحمّالة لمعان بالكلمات، فغدت في أحايين صورا ناطقة لأحداث كلاميّة، فللأفواه إشارة بل إشارات، وللحواجب غمز ذو دلالة، وللأجفان تكسير، وللكفّ تسليم، وللعيون كلام إيمائيّ جسديّ يضيق عنه الوصف في هذا المقام، لقد عبّر الشّاعر عن هذه المعاني فقال متمنّيا أن يضمّه ومعشوقته بيت، وأن يكون تواصلهما بالإشارات الجسديّة، والإيماءات المعبّرة، لما فيها من إبانة عن المقاصد، وبيان بلا لسان، ومستغنى بالصمتيات عن الكلاميّات في مقامه ذاك:
أليس عجيبا أنّ بيتا يضمّني = وإيّاك لا نخلو ولا نتكلّم
سوى أعين تبدي سرائر أنفس = وتقطيع أنفاس على النّار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب = وتكسير أجفان وكفّ تسلّم
وألسننا معقودة عن شكاتنا = وأبصارنا عنها الصّبابات تفهم
وقد عدل أهل الحب في كثير من مواقفهم ومقامياتهم عن الصوت إلى الصمت، فكان منهم بيان بلا لسان، جانحين إلى التّراسل بالوجه الذي هو الأداة الرّئيسة في التّراسل والتّواصل الجسديّين في "أدب الحب والأحباب"، والمحتكم الرّئيس في الإبانة وتعيين المقاصد الجوّانيّة، والوجه مشتمل على جوارح أخرى تقع فيه، وأهمّها العينان، والحاجبان والفم، وفيه تتجلّى المعاني السّتّ العالميّة؛ كالفرح والغضب والخوف، وقد عوّل المحبون من الشّعراء عليه كثيرا في التّواصل والتّراسل الجسديّين، فعرّجوا على العين، ونظراتها، وهيئاتها، ومعانيها، والحاجبين، وغير ذلك ممّا يقوم في النّفس من معان تقرّرها الهيئة والرّؤية الحيّة ممّا "لا يمكن حصرها في جنس، ولا ضبطها في وصف" كما يقول الغزالي الإمام.
وفي هذه الورقة محاولة لاستشراف هذه الظاهرة من التواصل غير اللفظي أولا، وتعيين بعض شواهدها في أدب الحب والأحباب التراثي ثانيا، وتلمس البواعث المفضية إليها في ذلك الأدب ثالثا، ومن ذلك العرف العربيّ الاجتماعيّ الذي يأبى تواصل الذّكر مع الأنثى واجتماعهما، وتجاذبهما لواعج الهوى، ولذا كان على من وقر الحب في قلبه أن يجد بديلا يستعين به على التّواصل والتّراسل، فكانت الصمتيات عامّة، ولغة الجسد خاصّة، ممّا يستعان به على هذا، وليس ينسى شيوع الرّقباء والعيون، والعذّال، والوشاة، ولمّا كان ذلك كذلك، غدا على المحب استفزاز طاقات أخرى كالصمت في التّواصل، وابتداع الوسائل للتّراسل، والجنوح في ذلك كلّه إلى التّعمية والكتمان خوفا من الرّقباء والعيون.

أَشارَتْ بِعَينَيها إِشارةَ خائِفٍ = حِذارَ عُيونِ الكاشِحينَ فَسَلَّمتْ
فَردَّ عَلَيها الطَّرْفُ مِنِّي سَلامَها = وَأَوْما إِلَيْها أسْكُني فَتَبسَّمتْ
وَأوْمَتْ إِلى طَرفي يَقولُ لطرفها = بِنا فَوقَ ما تَلقى فَأشجَتْ وَتَيَّمتْ
فَلوْ سُئِلتْ أَلحاظُنا عَن قُلوبِنا = إِذنْ لاشْتَكتْ مِمّا بِها وَتَبرَّمتْ
وَما هكذا إِلاّ عُيونُ ذوي الهوَى = إِذا خافَتِ الأعْداءَ يَومًا تَكلَّمَتْ
ابن داود، الزهرة، 1/149

مُقَدِّمَةٌ أَوّلِيّةٌ:
نالتْ هذِهِ الظّاهِرةُ؛ ظاهِرَةُ العِشْقِ حَظًّا وافِرًا مِنَ التَّصنيفِ وَالتَّأليفِ الذي تَجلّى في ثَلاثةِ ضُروبٍ في تُراثِنا العَرَبِيِّ:
أوّلُها الأَخْبارُ المُتفرِّقةُ، وَالشَّذَراتُ المُتناثِرةُ التي كانَ يَأتي عَليْها مُصنِّفٌ ما في مُصنَّفٍ لَمْ يُخصَّصْ لهذِهِ الظّاهرةِ، وَمِنْ ذلِكَ "العِقدُ الفَريد"، وَ"أمالي القاليّ".
وَثانيها ما جادَتْ بِهِ قَرائحُ الشُّعراءِ العُشّاقِ وَالمُشَبِّبينَ الذينَ أَغْنَوا التّراثَ العَربيَّ، وَالحقُّ أنّهمْ كُثْرٌ، وَأَنَّ شِعرَهمْ أَكثرُ، بَلْ صارَ بَعضُهمْ مَضْرِبًا لِلمَثلِ في عِشْقِهِ وَسيرَتِهِ وَما أُثِرَ عَنْهُ مِن أشعارٍ رَقيقَةٍ تُثيرُ كامِنَ الجَوى، وَتُحرِّكُ ساكِنَ الوَجدِ، وَمِنْ هؤلاءِ أبو ذُؤَيبٍ الهُذَليُّ، وَعُروَةُ بنُ حِزامٍ، وَكُثيِّرُ عَزّةَ، وَجَميلُ بُثَينَةَ، وَالعَبّاسُ بنُ الأَحنَفِ، وَقَدْ أَتى عَلى بَعضِهمْ مَروانُ بنُ أَبي حَفصةَ، فَغَدوْا في شِعرِهِ مَضرِبًا مِنْ مَضارِبِ المَثَلِ وَالتَّمْثيلِ( ):
إِنَّ الغَوانِيَ طالَما قَتَّلْنَنا بِعُيونِهِنَّ وَلا يَدِينَ قَتيلا
مِنْ كُلِّ آنِسَةٍ كَأَنَّ حِجالَها = ضُمِّنَّ أَحْوَرَ في الكُناسِ كَحيلا
أَرْدَيْنَ عُروَةَ وَالمُرقِّشَ قَبْلَهُ = وَكَذا أَخا نَهْدٍ تَرَكْنَ جَديلا( )
وَلقَدْ تَركْنَ أبا ذُؤَيْبٍ هائِمًا = وَلقَدْ تَبَلْنَ كُثَيِّرًا وَجَميلا
وَتَركْنَ لابْنِ أَبي رَبيعَةَ مَنْطِقًا = فيهِنَّ أصْبَحَ سائِرًا مَحْمولا
إِلاّ أَكُنْ مِمَّن قَتَلنَ فإنني = مِمَّنْ تَرَكْنَ فُؤادَهُ مَخْبولا( )

وَثالِثُها المُصنَّفاتُ المُفرَدَةُ لِهذِهِ الظّاهِرَةِ وَأعْلامِها وَحِكاياتِهم وَآثارِهِم عَلى وَجهِ التَّعْيينِ وَالإِحكامِ، وَاللاّفِتُ لِلخاطِرِ أَنَّ مِنَ المُصنِّفينَ في هذِهِ الظّاهِرَةِ أَعْلامًا مِنَ العُلَماءِ وَالفُقَهاءِ وَذوي الصّيتِ وَالرِّياسَةِ، وَمِنْهُمْ ابنُ داودَ الظّاهِريُّ(297هـ) صاحِبُ "الزُّهَرة"، وَالخَرائِطيُّ(327هـ) صاحِبُ "اعْتِلال القُلوبِ في أَخْبارِ العُشّاقِ وَالمُحِبّينَ"، وَالسّريُّ الرَّفّاءُ(366هـ) صاحِبُ "المُحِبّ وَالمَحْبوب"، وَالشّيخُ الرّئيسُ ابنُ سينا(428هـ) صاحِبُ "رِسالة في العِشقِ"، وَالحُصْرِيُّ القَيْروانِيُّ(453هـ) صاحِبُ "المَصون في سِرِّ الهَوى المَكْنونِ"، وَابنُ حَزْمٍ الفَقيهُ الظّاهِريُّ(456هـ) صاحِبُ "طَوق الحَمامَةِ في الأُلفةِ وَالأُلاّفِ"، وَابنُ السَّرّاجِ(500هـ) صاحِبُ مَصارِعِ العُشّاقِ"، وَابنُ الجَوْزيِّ"(597هـ) صاحِبُ "أخْبار النّساءِ"، وَابنُ قَيّمِ الجَوْزِيّةِ(751هـ) صاحِبُ "رَوضَة المُحبّينَ"، وَالشِّهابُ مَحمودٌ الحَلبِيُّ(725هـ) صاحِبُ "مَنازل الأَحْبابِ وَمَنازِهُ الأَلْبابِ"، وَالحافِظُ المُحدِّثُ مُغْلَطاي(762هـ) صاحِبُ "الواضِح المُبين في ذِكرِ مَنِ استُشهدَ مِنَ المُحِبّينَ"، وَابنُ أبي حَجَلةَ(776هـ) صاحِبُ "ديوان الصَّبابَةِ"، وَلِسانُ الدّينِ بنُ الخَطيبِ(776هـ) صاحِبُ "رَوضَة التَّعريفِ بِالحبِّ الشَّريفِ"، وَالبِقاعيُّ إِبراهيمُ بنُ عُمرَ(885هـ) صاحبُ "أَسْواق الأَشْواقِ"، وَالأَنطاكِيُّ داودُ(1008هـ) صاحِبُ "تَزْيين الأَسْواقِ بِتَفصيلِ أَشْواقِ العُشّاقِ".

تَعْريفُهُ:
وَلِلعِشقِ في "أَدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" تَعريفاتٌ ما كانَ أَكثَرَها، وَالذي يَعْنينا في هذا المَقامِ ما كانَ مُتّصِلاً بِلغَةِ الجَسَدِ بِسَببٍ، أَوْ ضارِبًا فيها بِسَهمٍ، وَالحَقُّ أَنَّ الذي يَقومُ في النَّفْسِ آنَ تَمثُّلِ تِلْكُم التَّعريفاتِ وَاستِشْرافِها هُو أَنَّ لِلغَةِ الجَسَدِ حُضورًا جَلِيًّا في تَعْريفِ العِشْقِ، وَتَمْثيلِ هذا المَفهومِ المَعْنويِّ المُجَرَّدِ تَمْثيلاً مُحَسًّا مُشَخَّصًا بِما يَصدُرُ عَنِ الجِسمِ مِنْ حَرَكاتٍ، وَبِما يَظهَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوالٍ وَشَمائِلَ جَسَدِيَّةٍ، وَعَلائِمَ دالّةٍ عَلى عِشقِ مَنْ ظَهَرَتْ فيهِ وَعَليْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الأَصمَعِيِّ أَنَّهُ قالَ: قُلتُ لأَعْرابِيّةٍ: ما تَعدّونَ العِشْقَ فيكمْ؟ قالتْ: القُبلة، وَالضّمّة، وَالغَمْزَة، ثُمَّ أنشَدتْ تَقولُ:
ما الحُبّ إِلاّ قُبلَةٌ = وَغَمزُ كَفٍّ وَعَضُدْ
ما الحُبُّ إِلاّ هكَذا = إِنْ نُكِحَ الحُبُّ فَسَدْ
ثُمَّ قالَتْ: فَكَيفَ تَعدّونَ العِشْقَ فيكمْ؟ قُلتُ: يَقعُدُ بَينَ رِجْلَيْها ، ثُمَّ يُجهِدُ نَفسَه، قالَتْ: يا ابنَ أَخي، ما هذا عاشِقًا، هذا طالِبُ وَلدٍ( ).
وفي مَفْهومٍ لِلعِشقِ آخَرَ يَتَجَلّى أَنَّ علاماتِهِ ما هي إِلاّ جَسَدِيَّةٌ تَشي بِحالِ صاحِبِها، فَعَينٌ باكِيَةٌ، وَأُخْرى مُناجِيةٌ مُتكلِّمَةٌ، وَجِسمٌ نَحيلٌ، وَلِسانٌ أَخْرَسُ لا يطيقُ جَوابًا:
وَلَمّا شَكَوْتُ الحُبَّ قالَتْ كَذَبْتَني = أَلَستُ أَرى مِنكَ العِظامَ كَواسِيا
وَما الحُبُّ حَتّى يَلْصَقَ الجِلْدُ بِالحَشا = وَتَخْرَسَ حَتّى لا تَجيبَ المُنادِيا
وَتَضْعُفَ حَتّى لا يُبْقي لَكَ الهَوى = سِوى مُقلَةٍ تَبْكي بِها وَتُناجِيا( )
وَقَدْ ساءَلَ المَأمونُ يَحْيى بنَ أَكثَمَ عَنِ العِشْقِ ما هُو، فَقالَ: سَوانِحُ تَسْنَحُ لِلمَرءِ، فَيَهيمُ بِها قَلبُهُ، وَتُؤثِرُها نَفسُهُ، فَقالَ لَهُ ثُمامَةُ: اسكتْ يا يَحْيى، إِنَّما شَأنُكَ أنْ تُفتيَ في مَسألَةِ طَلاقٍ، أَوْ مُحرَمٍ صادَ ظَبْيًا، أَوْ قَتلَ نَملةً، فَقالَ المَأمونُ: قُلْ يا ثُمامَةَ، فَقالَ: العِشْقُ جَليسٌ مُمتِعٌ، وَأليفٌ مُؤْنِسٌ، وَصاحِبٌ مالِكٌ، وَمَلِكٌ قاهِرٌ، مَسالِكُهُ لَطيفَةٌ، وَمَذاهِبُهُ غامِضَةٌ، وَأحْكامُهُ جائِرَةٌ، مَلَكَ الأَبدانَ وَأرْواحَها، وَالقُلوبَ وَخَواطِرَها، والعُيونَ وَنَواظِرَها، وَالعُقولَ وَآراءَها، وَأعْطى عِنانَ طاعَتِها، وَقِيادَ مُلْكِها، تَوارى عَنِ الأَبْصارِ مَدخلُهُ، وَغمضَ في القُلوبِ ملكه، فَقالَ لَهُ المأمونُ: أحْسنْتَ يا ثُمامةُ، وَأمَرَ لَهُ بِألفِ دينارٍ( ).
وَقَدِ التَمسَ "أَرِسطو" تَعْريفًا آخَرَ للعِشقِ، مُبْتدِئًا بِأَنَّهُ حالَةٌ نَفسِيّةٌ تَنشَأُ عَنْها حالَةٌ جَسَدِيَّةٌ واشِيَةٌ بِحالِ صاحِبِها؛ كَالرِّعْدةِ في الأَطْرافِ، وَالصُّفْرةِ في الأَبْدانِ، وَاللَّجْلَجةِ في الكَلامِ، وَمِنْ ذلِكَ ما قيلَ عَنْهُ بِأَنَّ العِشْقَ "جَهلٌ عارِضٌ صادَفَ قَلبًا فارِغًا، دَقَّ عَنِ الأَفْهامِ مَسْلَكُه، وَخَفِيَ عَنِ الأَبصارِ مَوضِعُهُ، وَحارَتِ العُقولُ في كَيفيّةِ تَمكُّنِهِ،...، ثُمَّ يَتغشّى عَلى سائِرِ الأَعْضاءِ، فَيُبْدي الرِّعدةَ في الأَطْرافِ، وَالصُّفرَةَ في الأَبْدانِ، وَاللَّجْلَجَةَ في الكَلامِ، وَالضَّعفَ في الرَّأيِ، وَالزَّلَلَ وَالعثارَ حَتّى يُنسَبَ صاحِبُهُ إِلى الجُنونِ"( ).
وَلابنِ حَزْمٍ في "طَوق الحَمامَةِ" مَذهَبٌ في الكَلامِ عَلى ماهِيّةِ الحُبِّ، فَأوّلُهُ -كَما يَرى- هَزلٌ، وَآخِرُهُ جِدٌّ، دَقَّتْ مَعانيهِ لِجَلالَتِها عَنْ أَنْ توصَفَ، فَلا تُدرَك حَقيقَتُها إِلاّ بِالمُعاناةِ، ولَيْسَ بِمُنكَرٍ في الدِّيانَةِ، وَلا بِمَحْظورٍ في الشَّريعةِ؛ إِذِ القُلوبُ بِيدِ اللهِ تَقدَّسَتْ أَسماؤُهُ( ). وَقَدْ رَأى أَنَّ المَحبَّةَ ضُروبٌ، فَأفضَلُها مَحبّةُ المُتَحابّينَ في اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِمّا لاجتِهادٍ في العَمَلِ، وَإِمّا لاتِّفاقٍ في أَصْلِ النِّحْلَةِ وَالمَذْهبِ، وَإِمّا لِفَضلِ عِلمٍ يُمنَحُهُ الإِنسانُ، وَمَحبّةُ القَرابَةِ، وَمَحبّةُ الأُلفَةِ وَالاشتِراكِ في المَطالِبِ، وَمَحبّةُ التَّصاحُبِ وَالمَعرِفةِ، وَمَحبّةُ البِرِّ يَضَعُه المَرءُ عِندَ أَخيهِ، وَمَحبّةُ الطَّمعِ في جاهِ المَحْبوبِ، وَمَحبّةُ المُتَحابّينَ لِسرٍّ يَجْتَمعانِ عَلَيْهِ يَلزَمُهُما سَترُهُ، وَمَحبّةُ بُلوغٍ لِلَذّةٍ وَقَضاءِ الوَطَرِ، وَمَحبّةُ العِشْقِ التي لا عِلَّةَ لَها إِلاّ ما ذَكَره مِنَ اتّصالِ النَّفوسِ( ).
عَلاماتُهُ الجَسَديّةُ:
كَثيرًا ما يَتَكَلّفُ المُمَثِّلونَ في أَدائِهمْ لِمَشْهَدٍ عِشْقِيٍّ حَرَكاتٍ جَسَدِيّةً تُبْرِزُ هذا المَعْنى الوُجْدانِيَّ، وَتُحيلُهُ إِلى واقِعٍ مَرْئِيٍّ مُشَخَّصٍ بِالحَرَكاتِ، وَالإيماءاتِ، وَالهَيْئاتِ، فَيُسَبِّلونَ العُيونَ، وَيَتَصاغَرونُ أَمامَ المَعْشوقِ، وَيُميلونَ الرَّأْسَ تَلَطُّفًا وَتَدَلُّلاً، وَبِالجُمْلَةِ فَإِنّهُمْ يُبْرِزونَ هذا المَعْنى لِلنَّظارَةِ إِبْرازًا سَبيلُهُ لِسانُ الحالِ وَالمَقالِ، جامِعينَ بِذلِكَ بَيْنَ رافِدَيِ المَعْنى الرَّئيسَيْنِ: الصّامِتِ وَالصّائِتِ، لِلإِبانَةِ عَنِ المَعْنى العِشْقيِّ المُرادِ عَرْضُهُ عَلى خَشَبةِ المَسْرَحِ، أَوْ بَثِّهِ في نُفوسِ النَّظّارَةِ، وَلإِقامَةِ الدَّلائِلِ وَالعَلائِمِ عَلى ذلِكَ العِشْقِ في مَشْهَدِ التَّمْثيلِ، وَمَسْرَحِ التَّخْييلِ.
وَقَدْ جاءَ في أَخْبارِ "طَوق الحَمامَةِ" أَنَّ ابنَ حَزْمٍ كانَ يَومًا بِالمَريّةِ قاعِدًا في دُكّانِ إِسْماعيلَ بنِ يونُسَ الطَّبيبِ الإِسرائيلِيِّ، وَكانَ الأَخيرُ بَصيرًا بِالفِراسَةِ، مُحْسِنًا لَها، فَقالَ لَهُ أحَدُ أهْلِ تِلْكَ الحَضْرةِ: ما تَقولُ في هذا؟ وَأشارَ إِلى رَجلٍ مُنْتَبِذٍ عَنْهمْ ناحِيةً، فَنَظرَ إِليْهِ ساعَةً يَسيرَةً ثُمَّ قالَ: هُو رَجلٌ عاشِقٌ، فَقالَ لَهُ: صَدَقتَ، فَمِنْ أينَ قُلتَ هذا؟ قالَ: لِبَهْتٍ مُفْرِطٍ ظاهِرٍ عَلى وَجهِهِ فَقطْ دونَ سائِرِ حَرَكاتِهِ"( ).
وَمِنْ مِثْلِ ما تَقَدَّمَ الحِكايَةُ التي ساقَها الشِّهابُ الحَلبِيُّ عَنْ فِراسَةِ هَوْذةَ بنِ عَليٍّ، فَقَدْ دَعا فِتيانَ قَومِهِ، فَلمّا مَثلَوا بَيْنَ يَديْهِ صُفوفًا، وَازْدَحَموا عَلَيْهِ عُكوفًا، أَذِنَ بِانبِساطِهِمْ وَتَآنُسِهِمْ، فَلمَحَ فيهمْ فَتًى يَنطِقُ طَرْفُه بِظَرْفِه، "إِلاّ أنّه ناحِلُ البَدَنِ، ذابِلُ الشَّفَةِ، غائِرُ العَيْنَيْنِ، مُتَتابِعُ النَّفَسِ، شاحِبُ اللَّوْنِ، فَعَرَفَ بِالفِراسةِ أنّهُ عاشِقٌ..."( ).
وَالظّاهِرُ مِنْ تَيْنِكَ الحادِثَتَيْنِ المَسوقَتَيْنِ أَنَّ عَلائمَ جَسَدِيَّةً مَخْصوصَةً أَفْضَتْ بِصاحِبِ الفِراسةِ إِلى أنْ يَتوسَّمَ بِأَنَّ ذاكَ عاشِقٌ، وَهذا مُؤْذِنٌ –مِنْ وُجْهَة أُخْرى- بِالتَّقْريرِ بِأَنَّ العُشّاقَ تَظهَرُ عَليْهمْ عَلاماتٌ جَسَدِيَّةٌ مَخْصوصَةٌ يَقْفوها الفَطِنُ، وَيَهْتدي إِلَيْها الذّكِيُّ، فَتكونُ تِلْكَ العَلاماتُ حَمّالَةً لمَعانٍ وَقِيمٍ تواصُليّةٍ يَصْدقُ عَلَيْها قَوْلُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ:
حَتّى إِذا اقتَحَمَ الفَتى لُجَجَ الهَوى = جاءَت أُمورٌ لا تُطاقُ كِبارُ
وَإِذا نَظَرْتَ إِلى المُحِبِّ عَرَفتَهُ = وَبَدَت عَلَيْهِ مِنَ الهَوى آثارُ( ).
وَقَولُهُ:
أُخفي الهَوى وَهْوَ لا يَخَفى عَلى أَحَدٍ إِنّي لَمُستَتِرٌ في غَيْرِ مُستَتَرِ( )
وقَوْلُ أبي نُواسٍ:
عَلامَةُ العاشِق في وَجهِهِ = هَذا أَسيرُ الحُبِّ مَكتوبُ( ).
وقَوْلُ قَيْسِ بْنِ ذَريحٍ:
نَهاري نَهارُ الوالِهينَ صَبابَة = وَلَيْليَ تَنْبو فيهِ عَنّي المَضاجِعُ
قَدْ كُنتُ قَبْلَ اليَومِ خِلْوًا وَإِنَّما = تُقَسَّمُ بَينَ الهالِكينَ المَصارِعُ
وَلِلحُبِّ آياتٌ تَبَيَّنُ بِالفَتى = شُحوبٌ وَتَعْرى مِنْ يَديْهِ الأَشاجِعُ( ).
وقَوْلُ آخَرَ:
وَإِذا نَظَرْتَ قَرَأتَ بَينَ عُيونِنا = سِمةَ الهَوى هذا حَبيبُ حَبيبِ( ).
وَقَدْ أتى عَلى هذا المَطلَبِ الخَرائِطيُّ في "اعْتِلال القُلوبِ" مُفْرِدًا لَهُ بابًا ارْتَضى لَهُ اسمَ "دِلالَة المَحبّةِ وَشَواهِدها"( )، وَالحَقُّ أَنَّ جُلَّ الشَّواهِدِ المُقَرِّرةِ بِالمَحبّةِ في "أَدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" إِنَّما هِيَ علائِمُ جَسَدِيَّةٌ تَواصُليّةٌ دالّةٌ، وَمِنْ أهَمِّ تَجلّياتِها العَيْنُ المُتكلِّمَةُ التي هِيَ أَداةٌ رَئيسَةٌ مِنْ أَداوتِ التَّراسُلِ وَالتَّواصُلِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ"، وَقَدْ مَثَّلَ عَلى ذلِكَ بِمُثُلٍ مُتعَدِّدةٍ، وَمِنْها أَنَّ رَجُلاً قالَ: رَأيتُ رَجُلاً يَسْعى بَينَ الصَّفا وَالمَروَةِ وَهُوَ يَقولُ:
فَيا حَبَّذا سَعْيي إِلَيْها مُكاتِمًا = عَلى خِفْيَةٍ مِنْ حاسِدٍ وَمَراقِبِ
وَاللهِ لا أَنْسى تَكاتُمَنا الهَوى = إِذا ما جَلَسْنا بَينَ لاحٍ وَكاذِبِ
يُخاطِبُها طَرْفي فَيَفْهَمُ طَرْفُها = ولَيْسَ لَنا لَفظٌ بِغَيرِ الحَواجِبِ
"فَقلْتُ: يا هذا، وَما للهِ حَجَجْتَ! قالَ: وَهَلِ الحَجُّ إِلاّ لَهُ، وَلكِنّها فَيضَةُ صَدرٍ، بَحرٌ مِنَ الحُبِّ ما رَكِبَ فيهِ أحَدٌ إِلاّ غَرقَ، فَاعْذرْ مَنْ لَوِ ابْتُليتَ بِدائِهِ عَذَرَكَ، وَالله يا هذا، لقَدْ وَصَلَ إِلى قَلْبي مِنْ ذِكرِ لَذّةِ مَنْ أُحِبُّ في هذا المَوْضِعِ ما لَمْ يُوصِلْه إِليْه شَيءٌ مِنَ النّعيمِ، وَلَوْ خَلدتُ في نَعيمِ الدّنْيا كُلِّها إِلى انْقِضائِها، ثُمَّ أغْمِيَ عَلَيْهِ ساعَةً، ثُمَّ أفاقَ فَقلتُ: ما أَحَلَّ بِكَ ما أَرى؟ قالَ: تَوَهَّمْتُها جالِسَةً مَعي كَعادَتِها، ثُمَّ ذَكَرَتِ النَّوى فَأصابَني ما رأيتَ، هذا لِذِكْرِها عَلى البُعدِ، فَكَيفَ تَظُنّني وَالشّعبُ مُلتَئِم؟ قُلتُ: أَظنُّ أكْثرَ مِنْ هذا؟ قالَ: إي وَاللهِ بِما لا يُحصيهِ إِلاّ الرّبُّ تَبارَكَ وَتَعالى، قُلتُ: وَما يُبكيكَ وَهذا فَرَحُكَ؟ قالَ: أَخافُ انْقِطاعَ المُنى قَبْلَ اللِّقاءِ، فَعَذرْتُهُ عَلى الأَمْرِ، ثُمَّ انْصَرَفتُ وَأنا لَهُ راحِمٌ"( ).
وَقَدْ أَتى عَلى شَواهِدِ المَحبَّةِ وَعَلائِمِها الأَنطاكِيُّ فَقَسّمَها قِسمَينِ اثْنَينِ: أوّلُهُما أحْوالٌ يَتّصِفُ بِها البَدنُ، وَذلِكَ نَحو تَغيّرِ الأَلوانِ، وَالعَينَيْنِ، وَتَواترِ النَّبضِ، وَالخَفَقانِ، وَاعتِقالِ اللِّسانِ، وَربَّما ازْدادَتْ هذِهِ الأَعْراضُ عِندَ رُؤيَةِ المَحْبوبِ أَوْ سَماعِهِ، وَثانيها أحْوالٌ يَتّصِفُ بِها الفِكرُ، كَفَسادِ الذِّهنِ وَما يُشاكِلُه أَوْ يَنْشأُ عَنْه( ).
أَمّا ابنُ حَزْمٍ فقَدْ كانَ مِنْ أَكْثَرِ الذين طَرَقوا هذا البابَ، وَأوْسَعوا فيهِ القَولَ، وَقَدْ رَصَدَ لِلمَحَبّةِ عَلاماتٍ واشِيَةً بِها( )، وَالذي يَعْنينا في هذا المَقامِ ما كانَ مُنْتَسِبًا إِلى "لُغَةِ الجَسَدِ" انْتِسابًا دِلالِيًّا وَتَواصُلِيًّا، فَمِنْها النَّظْرَةُ وَهَيئَتُها، وَالخُشوعُ، وَالإِقْبالُ بِالوَجْهِ عَلى المَعْشوقِ، وَالإِنصاتُ لَهُ، وَالإِسراعُ بِالسَّيرِ نَحوَهُ، وَالتَّباطُؤُ في القِيامِ عَنْهُ، وَالحُمرَةُ التي تَتَجلّى في الوَجهِ، وَالنُّحولُ، وَالبُكاءُ، وَالسَّهَرُ.
وَالظّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ تِلكَ العَلاماتِ الجَسَدِيّةِ قَدْ غَدَتْ صُوَرًا مُتَوارَثَةً يَتَلَقّفُها الشُّعراءُ، وَيُتابِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فيها، وَقَدْ لا يَكونُ لَها أَصْلٌ في الحَقيقَةِ وَلا وَجْهٌ، فَضْلاً عَنْ كَوْنِها خارِجَةً عَنْ حَدِّ المَعْقولِ، وَإِنّما صارَتْ سَمْتًا أُسْلوبِيًّا مُتَّبَعًا، وَمِنْ ذلِكَ النُّحولُ، وَالبُكاءُ، وَالسَّهَرُ، وَقَدِ الْتَفَتَ ابْنُ حَزْمٍ إِلى مَجازِيّةِ هذِهِ الصُّوَرِ الجَسَدِيّةِ أحْيانًا، فَقالَ: "مِثْل الإِفْراطِ في صِفَةِ النُّحولِ، وَتَشْبيهِ الدّموعِ بِالأَمْطارِ، وَأَنّها تَرْوي السّفارِ، وَعَدَمِ النَّوْمِ البَتَّةَ، وَانْقِطاعِ الغِذاءِ جُمْلَةً، إِلاّ أنَّها أشْياءُ لا حَقيقَةَ لَها، وَكَذِبٌ لا وَجْهَ لَهُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ حَدٌّ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا"( ).
أمّا تَفصيلُ عَلاماتِ العِشْقِ عِندَ ابنِ حَزمٍ فَعَلى النَّحْوِ الآتي:
أوّلُ عَلاماتِ المَحبّةِ الجَسَديّةِ إِدْمانُ النَّظَرِ، وَقَدْ فَسَّرَ ذلِكَ تَفْسيرًا نَفْسِيًّا وَتَواصُلِيًّا فَقالَ: "وَالعَيْنُ بابُ النَّفْسِ الشّارِع، وَهِيَ المُنَقِّبَةُ عَنْ سَرائِرِها، وَالمُعبّرَةُ لِضَمائِرِها، وَالمُعْرِبَةُ عَنْ بَواطِنِها، فَتَرى النّاظِرَ لا يَطرفُ، يَتَنَقّلُ بِتَنقّلِ المَحْبوبِ، وَيَنْزوي بِانزِوائِهِ، وَيَميلُ حَيْثُ مالَ كَالحِرباءِ مَعَ الشَّمْسِ"( )، وَفي ذلِكَ قالَ شِعرًا:
فلَيْسَ لِعَيْني عِندَ غَيْرِكِ مَوْقِفٌ كَأَنَّكِ ما يَحْكونَ مِنْ حَجَرِ البَيْتِ
أُصَرِّفُها حَيْثُ انْصَرَفْتُ وَكَيْفَما = تَقَلَّبْتُ كَالمَنْعوتِ في النَّحْوِ وَالنَّعْتِ( )
وَقَدْ وَرَدَ عَلى هذا المَعْنى الشّعراءُ العُشّاقُ كَثيرًا، فَأَثبَتوهُ في أَشْعارِهِمْ، وَمِنْ ذلِكَ قَوْلُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ:
يا مَن يُسائِلُ عَن وَجْدي لأُظْهِرَهُ = إِنَّ المُحِبَّ لتَبْدو مِنهُ أَسْرارُ
فَاسْمَعْ مُناقَلَتي وَانْظُرْ إِلى نَظَري = إِنْ كانَ مِنْكَ لِما في الصَّدْرِ إِنْكارُ( )
وَمِثْلُ ما تَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ أيْضًا:
يَدُلُّ عَلى ما بِالمُحِبِّ مِنَ الهَوى = تَقَلَبُ عَيْنَيهِ إِلى شَخْصِ مَنْ يَهوى
وَإِنْ أَضمَرَ الحُبَّ الَّذي في فُؤَادِهِ = فَإِنَّ الَّذي في العَيْنِ وَالوَجْهِ لا يَخْفى( ).
وَقَولُ ابْنِ الدُّمَيْنَةِ:
أَفي كُلِّ يَوْمٍ أَنْتَ رامٍ بِلادَها = بِعَيْنَيْنِ إِنْساناهُما غَرِقانِ
إِذا اغْرَوْرَقَت عَينايَ قَالَ صَحابَتى = لَقَدْ أُولِعَتْ عَيناكَ بِالهَمَلانِ( ).
وَصَفوَةُ المُسْتَخلَصِ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ الخَرائِطِيِّ: "لَوْ لَمْ يَكنْ لِلمُحبّينَ شَهيدٌ عَلى أنْفُسِهمْ فيما يَدَّعونَ مِنَ المَحبّةِ إِلاّ مَلاحظةَ أَبْصارِهِم في اسْتِدراكِهِم مَواجيدَهمْ لَكَفاهُمْ"( ).
وَمِنْ عَلاماتِه الإِقْبالُ بِالحَديثِ، فَما يَكادُ يُقبِلُ عَلى سَوى مَحْبوبِهِ وَلَوْ تَعمَّدَ غَيرَ ذلِكَ، وَإنَّ التَّكلَّفَ لَيَستَبينُ لِمَنْ يَرمُقُهُ فيهِ.
وَمِنْها الإِسراعُ بِالسَّيرِ نَحوَ المَكانِ الذي يَكونُ فيهِ، وَالتّعمّدُ لِلقُعودِ بِقُربِهِ، وَالدّنّوُ مِنهُ، وَالتّباطُؤُ في المَشيِ عَندَ القِيامِ عَنْهُ، وَقَدْ قالَ في ذلِكَ شِعْرًا:
وَإِذا قُمتُ عَنكَ لَمْ أمْشِ إِلاّ = مَشْيَ عانٍ يُقادُ في نَحوِ الفَناءِ
في مَجيئي إِليْكَ أحْتَثُّ كالبَدْ = رِ إِذا كانَ قاطِعًا لِلسَّماءِ
وَقِيامي إِنْ قُمتُ كَالأَنْجُمِ العا = لِيَةِ الثّابِتاتِ في الإِبْطاءِ( )
وَمِنْها بَهْتٌ يَقعُ، وَرَوعَةٌ تَبدو عَلى المُحِبّ عِنْدَ رُؤيَةِ مَنْ يُحبُّ فَجْأةً، وَطُلوعِهِ بَغتَةً.
وَمِنْها اضطِرابٌ يَبْدو عَلى المُحِبّ عِنْدَ رُؤيَةِ مَنْ يُشبِهُ مَحبوبَهُ أَوْ عِنْدَ سَماعِ اسمِهِ فَجْأةً، وَقَدْ وَرَدَ عَلى هذِهِ العَلامَةِ العُشّاقُ مِنَ الشَّعراءِ، فَقالَ أبو صَخرٍ الهُذَليُّ:
وَإنّي لَتَعْروني لذِكْراكِ هِزَّةٌ كَما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلّلهُ القَطْرُ
فَما هُو إلاّ أَنْ أَراها فُجاءَةً فَأُبْهَت لا عُرْفٌ لَدَيّ ولا نُكْرُ( ).
وَقالَ عُروَةُ بنُ حِزامٍ:
وَإِنّي لَتَعْروني لِذِكْراكِ رِعْدَةٌ لَها بَيْنَ جِسْمي وَالعِظامِ دَبيبُ
وَما هُوَ إِلاّ أَنْ أَراها فُجاءَةً فَأُبْهَت حَتّى ما أَكادُ أُجِيبُ( )
وَقالَ عُمرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ:
وَإِنّي لَتَغْشاني لِذِكْرِكِ رَوْعَةٌ يَخِفُّ لَها ما بَيْنَ كَعْبي إِلى قَرْني( ).
وَمِنْ عَلاماتِهِ وَشَواهِدِهِ الظّاهِرَةِ لِكُلّ ذي بَصرٍ المُجاذَبَةُ عَلى الشَّيءِ يَأخذُهُ أحَدُهُما، وَكَثرَةُ الغَمزِ الخَفِيِّ، وَالمَيلُ بِالاتِّكاءِ، وَتَعمّدُ لَمْسِ اليَدِ عِنْدَ المُحادَثةِ، وَلَمْسُ ما أمْكَنَ مِنَ الأَعْضاءِ الظّاهِرةِ، وَالإِطْراقُ وَشِدّةُ الانْفِلاقِ، فَبينَما هو طَلقُ الوَجْهِ، خَفيفُ الحَرَكاتِ صار مُنطَبِقًا مُتَثاقِلاً، حائِرَ النَّفْسِِ، جامِدَ الحَرَكةِ، يَبْرَمُ مِنَ الكَلمَةِ، وَيَضْجَرُ مِنَ السُّؤالِ.
وَمِنْ علاماتِهِ نُحولُ الجِسمِ وَالحَقُّ أَنَّ مِثلَ هذِهِ العَلامَةِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" مُتَكاثِرةٌ، وَالأثَرَ بِها مُستَفيضٌ، وَقَدْ غَدَتْ سَمْتًا تَصْويرِيًّا مَجازِيًّا في شِعْرِ العُشّاقِ، وَقَدْ عقَدَ ابنُ داودَ لَها بابًا قائِمًا بِرأسِهِ سَمّاهُ "نُحول الجَسَدِ مِنْ دَلائِلِ الكَمدِ"، وَقَدْ ساقَ فيهِ نُتَفًا مِنَ الأَشْعارِ التي خاضَتْ في هذِهِ الظّاهِرةِ، وَقَدِ اسْتَفتَحَ هذا البابَ بِكلامٍ يُفسّرُ فيهِ صِحّةَ هذا القَوْلِ مِنْ جِهةِ الطّبِّ( )، ومِمَّنْ أتى عَلى هذِهِ العَلامَةِ مِنَ الشّعَراءِ:
ابْنُ الدُّمَيْنَةِ في قَوْلِهِ:
خَليلىَّ مَكْنونُ الهَوى صَدَعَ الحَشا فَكَيفَ بمَكْنونِ الهَوى تَرَيانِ
بَرَى الحُبُّ جِسْمى غَيْرَ جُثمانِ أَعْظُمي بَلِينَ وَإنّي ناطِقٌ بِلِساني( ).
والعَبّاسُ بنُ الأَحنَفِ:
إِنَّما أَبْكي عَلى جَسَدٍ قَدْ بَراهُ الشَّوْقُ وَالكَمَدُ( ).
وَكَذلِكَ قَولُهُ:
حَتّى بَرى جِسْمي هَواكِ فَما تُرى إِلاّ عِظامٌ يُبَّسٌ وَجُلودُ( ).
وَعُمرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ:
ما كُنْتُ أَحسَبُ أَنَّ حُبًّا قاتِلي حَتّى بُليتُ بِما بَرى جِسْمي
أَوْرَثتِني داءً أُخامِرُهُ أَسْماءُ بَزَّ اللَّحْمَ عَنْ عَظْمي( ).
وَبشّارُ بنُ بُرْدٍ:
كَفى خَليلَيَّ هَوًى شَفَّني لا يَعْدَمُ النّاصِحُ أَنْصاحا
قولا لِمَنْ لَمْ تَرَيا مِثلَهُ في مَحْفِلٍ جِسْمًا وَأَلْواحا( ).
وَأبو نُواسٍ:
جِنانُ أَضْنى جَسَدي حُبُّكُمْ فَلَيْسَ إِلاّ شَبَحٌ قائِمُ
وَلَيْسَ لي جَيْبُ قَميصٍ وَلا يَثْبُتُ في خِنْصَرِيَ الخاتَمُ( ).
وَصَريعُ الغَواني:
سَلَبَ الهَوى عَقْلي وَقَلْبي عَنْوَةً لَمْ يُبْقِ مِنّي غَيْرَ جِسْمٍ شاحِبِ( ).
وَابنُ الفارِضِ:
قُلْ تَرَكْتُ الصَّبَّ فيكُمْ شَبَحًا ما لَهُ مِمّا بَراهُ الشَّوْقُ فَيّْ
خافِيًا عَنْ عائِدٍ لاحَ كَما لاحَ في بُرْدَيْهِ بَعْدَ النَّشْرِ طَيْ
صارَ وَصْفُ الضّرِّ ذاتِيًّا لَهُ عَنْ عَناءٍ وَالكَلامُ الحَيُّ لَي
كَهِلالِ الشّكِّ لَوْلا أنَّهُ أَنّ عَيْني عَيْنَهُ لَمْ تَتَأيْ( ).
وَمِنْ عَلاماتِهِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" القَلَقُ وَالاضطرابُ النّاشِئُ عَنْ أحَدِ أمْرَيْنِ: أحَدُهما عِنْدَ رَجائِهِ مَلْقاةَ مَنْ يُحبُّ، فَيَعرِضُ عِنْدَ ذلِكَ حائِلٌ، فَيَصيرُ العاشِقُ قَلِقًا مُضطرِبًا جائِيًا وَذاهِبًا لا يَقرُّ بِهِ قَرارٌ، وَلا يَثبُتُ في مَكانٍ واحِدٍ، مُقْبِلاً مُدْبِرًا قَدِ اسْتَخَفّهُ السُّرورُ بَعْدَ رَكانةٍ، وَأَشاطَهَ بَعْدَ رَزانَةٍ( )، وَالثّاني عِنْدَ حادِثٍ يَحدُثُ بَيْنَهُما مِنْ عِتابٍ لا تُدْرى حَقيقَتُهُ إِلاّ بِالوَصْفِ، وَقَدْ تَجَلّى هذا المَعْنى في قَولِ إِبْراهيمَ المَوْصِلِيِّ في ذاتِ الخال، فقَدْ قيلَ لَها زَعْمًا بِأَنَّ حَبيبَها أَتاها مُعْرِضًا، فَلَمْ تَرَ في ذلِكَ ضَيْرًا؛ لأنّها تَمْلِكُ ما يُؤَرِّقُهُ وَيُقْلِقُهُ وَيُفْضي إِلى اصْطِكاكِ قَدَمَيْهِ:
وَقالوا لها: هذا حَبيبُكِ مُعرِضًا فَقالَتْ: أَلا إِعْراضُهُ أيْسَرُ الخَطْبِ
فَمَا هيَ إلاّ نَظْرَةٌ بِتَبَسُّمٍ فَتَصْطَكُّ رِجْلاهُ وَيَسْقُطُ لِلجَنْبِ( )
وَمِنْ عَلاماتِهِ السَّهرُ الذي هُو مِنْ أعْراضِ المُحِبّينَ، وَقَدْ أكْثرَ الشّعراءُ في وَصفِهِ، وَحَكَوْا أَنّهمْ رُعاةُ الكَواكبِ، وَواصِفو طولِ اللّيلِ، وَقَدْ أفْردَ لَهُ ابنُ داودَ في "الزُّهرة" بابًا خاصًّا سَمّاهُ "مَنْ قَصرَ نَومُهُ طالَ لَيلُهُ"( )، وَكَذلِكَ فَعلَ الخَرائِطيُّ في "اعْتلال القُلوبِ" في بابِ "ذِكر الاستِراحةِ إِلى البُكاءِ وَالعَجزِ عَنْ حَملِ الهَوى"( ).
وَمِنْ أَعْراضِهِ الجَزعُ الشَّديدُ، وَالحُمرةُ المُقطَّعةُ تَغلبُ عِنْدَما يُرى مِنْ إِعْراضِ مَحْبوبِهِ عَنْهُ، وَنِفارِهِ مِنْه( ).
وَمِنْ علاماتِهِ الزَّفيرُ، وَقِلّةُ الحَرَكةِ، وَالتّأوّهُ، وَتَنفّسُ الصّعداءِ، وَقَدْ وَقَفَ عِنْدَ هذِهِ العَلاماتِ الجَسَدِيَّةِ المُنْبِئةِ عَنْ عِشقِ صاحِبِها ابنُ داودَ في "الزُّهرة"، فَلِلْهَوى "دِلالاتٌ تَتَبيّنُ في الزَّفَراتِ، وَاللَّونِ، وَالنَّظَرِ، وَالإِشاراتِ،...، وَمُفتَقِدُها أيْضًا يَراها وَإِنْ لَمْ يَعرفْ لَها شَبيهًا عِنْدَ تَلاقي المُتَحابّينَ"( )، وَقَدْ وَرَدَ عَلى هذا المَعْنى الشّاعِرُ الذي تَردّدَ بَيْنَ تَعمِيةٍ بِالقالِ، وَتَجلِيةٍ بِالحالِ، وَكانَ السَّبقُ لِلأخيرِ، فَقالَ:
لا خَيْرَ في عاشِقٍ يُخْفي صَبابَتَهُ بِالقَوْلِ وَالشَّوْقُ مِنْ زَفَراتِهِ بادِ
يُخْفي هَواهُ وَما يَخْفى عَلى أَحَدٍ حَتَّى عَلى العيسِ وَالرُّكْبانِ وَالحادي( ).
وَالبُكاءُ مِنْ عَلاماتِ المُحِبِّ، وَلكِنّهمْ يَتَفاضَلونَ فيهِ، فَمِنهمْ غَزيرُ الدّمْعِ، هامِلُ الشُّؤونِ، تُجيبُهُ العَينُ، وَمِنْهُمْ جَمودُ العَيْنِ، عَديمُ الدَّمعِ، وَقَدْ عقَدَ لهذِهِ العَلامَةِ العِشقِيّةِ ابنُ داودَ في "الزُّهرة" بابًا جَمعَ فيهِ نُتَفًا مِنْ أَشْعارِ العُشّاقِ وَغَيرِهِم، وَقَدْ وَسَمَه بِأَنَّهُ بابُ "مَنْ غَلَبَ عَزاهُ كَثرَ بُكاهُ"( )، وَقَدْ قالَ ابنُ حَزْمٍ في ذلِكَ شِعرًا مُلْمِحًا إِلى سُهْمةِ العَيْنِ وَدُموعِها في إِبْداءِ العِشْق وَفَضحِهِ:
إِذا كَتَمَ المَشْغوفُ سِرَّ ضُلوعِهِ فَإِنَّ دُموعَ العَيْنِ تُبْدي وَتَفْضَحُ
إِذا ما جُفونُ العَيْنِ سالَتْ شُؤونُها فَفي القَلبِ داءٌ لِلغَرامِ مُبَرِّحُ( ).
وَمِنْ قَبلِ ابنِ حَزْمٍ صَوَّرَ العَبّاسُ بنُ الأَحْنَفِ مُحاوَلةَ طَيِّهِ ما يُلاقي مِنَ الهَوى، وَنَميمَ سَواكِبِ العَبَراتِ التي تَفضَحُ ما يُحاولُ طَيَّهُ:
لَقَدْ كُنْتُ أَطْوي ما أُلاقي مِنَ الهَوى حِذارًا وَأُخْفيهِ وَأَكتُمُهُ جُهْدي
فَنَمَّتْ عَلى قَلْبي سَواكِبُ عَبْرَةٍ تَجودُ بِها عَيْنايَ سَحًّا عَلى خَدّي
وَفي هَمَلانِ العَيْنِ أَعْدَلُ شاهِدٍ عَلى غَيْبِ ما يُخْفي الضَّميرُ مِنَ الوَجْدِ( )
وَالمَعْنى الذي قَرَّرهُ العَبّاسُ بنُ الأَحْنَفِ وَابنُ حَزْمٍ هو نَفسُهُ الذي أَتى عَلَيْهِ صَريعُ الغَواني، وَلكِنَّ الأَخيرَ غالَبَ دَمعَه وَداراهُ، فَلَمْ تَنكَشِفِ السّرائِرُ، لا وَلَمْ تُخَلْ:
لَوْلا مُداراةُ دَمْعِ العَيْنِ لاَنكَشَفَتْ مِنّي سَرائِرُ لَمْ تَظْهَرْ وَلَمْ تُخَلِ( )
والبُكاءُ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" باعِثُهُ شَيْئانِ أوّلُهُما الاشْتِياقُ، وَثانيهِما خَوفُ الفِراقِ، فَإنْ هُمُ نَأَوْا بَكى شَوقًا، وَإنْ هُمُ دَنَوْا بَكى خَوْفًا:
وَما في الأَرْضِ أَشْقى مِن مُحِبٍّ وَإِنْ وَجَدَ الهَوى حُلْوَ المَذاقِ
تَراهُ باكِيًا في كُلِّ وَقْتٍ مَخافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لاشْتِياقِ
فَيَبْكي إِنْ نَأى شَوْقًا إِلَيهِمْ وَيَبْكي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الفِراقِ
فَتَسْخنُ عَينُهُ عِنْدَ التَّنائي وَتَسخنُ عَينُهُ عِنْدَ التَّلاقي( )
وَقَدِ التَفتَ إِلى هذا المَعْنى أَبو نُواسٍ مُقَرِّرًا أَنَّ لِسانَهُ وَقلبَهُ يُحاوِلانَ كَتمَ الهَوى، وَلكِنَّ الوِشاياتِ التي تَتَخلّقُ مِنَ الدَّمعِ تَأبى ذلِكَ أنْ يَكونَ، وَإِذا ما اسْطاعَتِ العَيْنُ إِلى ذلِكَ سَبيلاً فَإنَّ عَلامَةَ النُّحولِ الجَسَديِّ تَشي بِحالِهِ العِشقِيّةِ، لِيَغدُوَ أَمْرُ العِشْقِ المُتَمكِّنِ في نَفسِهِ مَفْضوحًا ذائِعًا مَرئِيًّا بِما يُرى مِنْ عَلاماتٍ جَسَدِيَّةٍ واشِيةٍ:
لِساني وَقَلْبي يَكْتُمانِ هَواكُمُ وَلكِنَّ دَمْعي بِالهَوى يَتَكَلَّمُ
وَلَوْ لَمْ يَبُحْ دَمْعي بِمَكْنونِ حُبِّكِمْ تَكَلَّمَ جِسْمٌ بِالنُّحولِ يُتَرْجِمُ( ).
وَقَدْ وَرَدَ هذا المَلمَحُ العِشقِيُّ في قَولِ أَبي نُواسٍ أيْضًا:
فَمَنْ كانَ مِنّا عاشِقًا فاضَ دَمْعُهُ وَعاوَدَهُ بَعْدَ السُّرورِ نَحيبُ( ).
وَهذا هُو مَذهَبُ صَريعِ الغَواني القائِلِ بِأَنَّ الوَجدَ عَلامَتُهُ الإِفراطُ في البُكاءِ إِلى حَدِّ نَزيفِ العَيْنِ لِمائِها، وَخَفَقانِ الأَحشاءِ:
دَعاني وَإِفْراطَ البُكاء فَإِنَّني أَرى اليَوْمَ فيهِ غَيْرَ ما تَرَيانِ
فَلا وَجْدَ حَتّى تَنزِفَ العَيْنُ ماءَها وَتَعْتَرِفَ الأَحْشاءُ بِالخَفَقانِ( ).
وَمِنْ عَلاماتِهِ تَلوُّنُ العاشِقِ، وَحبسُ لِسانِهِ، وَخَفَقانُ قَلبِهِ، وَارتِعادُ مَفاصِلِه، وقد عقَدَ ابنُ أَبي حَجَلةَ في "ديوان الصَّبابَةِ" بابًا يَخوضُ في هذِهِ العَلامَةِ، وَهُوَ "اصْفرارُ لَونِهِ عِنْدَ رُؤيَةِ مَحْبوبِهِ، وَخَفَقانُ قَلبِهِ، وَطَيَرانُ عَقلِهِ"، وَكَذلِكَ في "تَزْيين الأَسْواقِ"، وَقَدْ وَسَمَه بـ"خَفَقان القَلبِ وَالتّلوينِ عِنْدَ اجتِماعِ المُحِبّينَ"( )، وَقَدْ جُمِعَتْ مَعًا في قَولِ القائِلِ:
لي في مَحَبَّتِهِ شُهودٌ أَرْبَعُ وَشُهودُ كُلِّ قَضِيّةٍ اِثْنانِ
خَفَقانُ قَلْبي وَارْتِعادُ مَفاصِلي وَصَفارُ لَوْني وَاعْتِقالُ لِساني( ).
وَقَدْ عَرَّجَ عَلى عَلامَةِ الخَفَقانِ البَهاءُ زُهَيرٌ فَقالَ:
وَمُشَبَّه بِالغُصْنِ قَلْ بي لا يَزالُ عَلَيْهِ طائِرْ
لا تُنْكِروا خَفَقانَ قَلْ بي وَالحَبيبُ لَدَيَّ حاضِرْ
مَا القَلْبُ إِلاّ دارُهُ ضُرِبَتْ لَهُ فيها البَشائِرْ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ الأَنطاكِيِّ وَقَدْ جَمَعَ في الاعتِذارِ بَيْنَ تَغيّرِ اللَّونِ وَالخَفَقانِ فَقالَ:
قالَتْ أَراكَ إِذا عايَنْتَني وَجِلاً عَديمَ لَونٍ بَهيجٍ كُنْتَ تَملكُهُ
وَالقَلبُ مِنكَ خَفوقٌ لا يُسَكِّنُهُ شَيءٌ فَيا لَيْتَ شِعْري ما يُحَرِّكُهُ
فَقلْتُ ما تَدْري إِنَّ الشَّمسَ إِنْ جُمِعَتْ بِالبَدرِ بَعْدَ تَمامِ النّورِ تُنْهِكُهُ
وَالطَّيْرَ إِنْ أَلِفَ الغُصنَ الرَّطيبَ وَقَدْ مادَتْ بِهِ الرّيحُ هَلْ يَخْفى تَحَرُّكُهُ( ).
وَكَذلِكَ إِشارَةُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ إِلى بُكاءِ العُشّاقِ، وَتَغيُّرِ أَلْوانِهمْ:
وَسَوابِقُ العَبَراتِ فَوقَ خُدودِهم دِرَرٌ تَفيضُ كَأَنَّها القَطْرُ
مُتَغَيِّرينَ مِنَ الهَوى أَلْوانُهُم مِمّا تُجِنُّ قُلوبُهمُ صُفرُ
صَرْعى عَلى جِسْرِ الهَوى لِشَقائِهِم يَتَصَبَّرونَ وَما بِهِم صَبْرُ
لَمْ يَشرَبوا غَيْرَ الهَوى فَكَأَنَّهُمْ بِهِمُ لِشِّدَةِ ما لَقوا سُكْرُ( ).
وَقَدْ جَمَعَ عُروَةُ بَيْنَ ثَلاثِ عَلاماتٍ عِشقِيّةٍ جَسَدِيَّةٍ في مُقطَّعةٍ، فَعرَّجَ عَلى نُحولِ الجَسدِ، وَخَفَقانِ القَلبِ، وَبُكاءِ العَينِ، فَقالَ:
أَغَرَّكُما لا بارَكَ اللهُ فيكُما قَميصٌ وَبُرْدا يَمْنَةٍ زَهَوانِ
مَتى تَكْشِفا عَنّي القَميصَ تَبَيَّنا بِيَ الضُّرَّ مِنْ عَفْراءَ يا فَتَيانِ
وَتَعْتَرِفا لَحْمًا قَليلاً وَأَعْظُمًا دِقاقًا وَقَلْبًا دائِمَ الخَفَقانِ
عَلى كَبِدي مِنْ حُبِّ عَفراءَ قَرْحَةٌ وَعَيْنايَ مِنْ وَجْدٍ بِها تَكِفانِ( ).
وَقَدْ وَرَدَ الشُّحوبُ وَالاصْفِرارُ في شِعْرِ كُثَيّرٍ:
تَقولُ ابْنَةُ الضَّمْرِيِّ ما لَكَ شاحِبًا وَلَونُكَ مُصْفَرٌ وَإِنْ لَمْ تَخَلَّقِ( ).
وَقَدْ فَسّرَ تَلوّنَ البَدَنِ تَفْسيرًا طِبّيًّا الأَنْطاكِيُّ، مُقَرِّرًا أَنَّ استيلاءَ سُلطانِ المَحبّةِ وَالعِشْقِ مِنَ المَعْشوقِ عَلى العاشِقِ أَعظَمُ استيلاءً مِنْ سُلطانِ القَهرِ وَالعَظَمَةِ وَالنّاموسِ السُّلْطانِيِّ( )، وَرَدَّ ظُهورَ عِلّةِ اصفِرارِ لَونِ العاشِقِ، وَارتِعادِ مَفاصِلِهِ، وَخَفَقانِ قَلبِهِ، إِلى حَرارَةٍ لَحْظيّةٍ تَنشَأُ فيهِ؛ لأَنَّ الاستِبْشارَ بِالاجتِماعِ الموجِبِ لِلفَرحِ المُنْتِجِ لِحَركَةِ الحَرارَةِ إِلى خارجٍ لَيُفْضي إِلى الحُمرَةِ، وَصَفارُ اللّونِ يُعارِضُهُ لِشدّةِ الشَّفَقةِ وَالخَوفِ مِنْ نَحوِ واشٍ، وَسُرعَةِ تَفْريقٍ، وَاليَأسُ الموجِبُ لإِخْمادِ الحَرارَةِ، أَوْ جَذبِها إِلى داخلٍ هُوَ المُنتِجُ لِصُفرَةِ اللَّوْنِ( ).
وَقَدْ أَضيفَ إِلى هذِهِ الشَّواهِدِ وَالعَلاماتِ العِشقِيّةِ الجَسَدِيَّةِ عَلاماتٌ خاصَّةٌ بِالنِّساءِ، وَمِنْ ذلِكَ:
- عَضُّها عَلى شَفَتِها السُّفْلى.
- وَدَمْعُ عَيْنَيْها.
- وَضَربُها بِيَدَيْها عَلى عَضُدَيْها وَثَدْيَيْها.
- وَإِظهارُ مَحاسِنِها لِمَنْ تَهْواهُ موهِمَةً بِأنَّها تُري ذلِكَ بَعْضَ أهْلِها.
- وَنَظَرُها إِلى أَعْطافِها.
وَالحَقُّ أَنَّ حَصرَ تِلْكَ الشَّواهِدِ وَالعَلاماتِ يَكثُرُ وَيَطولُ، وَقَدِ التَفَتَ إِلى ذلِكَ الحافِظُ مُغْلَطاي فَقالَ: "وهذِهِ المَعاني أوْسَعُ ذَرعًا مِنْ أَنْ تَبلُغَها مُذاكَرَةٌ، أَوْ تَحْويها مُحاوَرَةٌ، وَإِنِّما أخَذْنا بِها يَسيرًا مِنْ كَثيرٍ، وَثِمادًا مِنْ بُحورٍ"( ).
التَّراسُل والتَّواصُل الجَسَدِيّانِ في أدبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ:
لقَدْ تَضافَرتْ مَجموعَةٌ مِنَ العَوامِلِ التي أفْضَتْ بالجَسَدِ إِلى أَنْ يَكونَ ذا سُهمةٍ كَبيرَةٍ في التَّواصُلِ وَالإِبانَةِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ"، وَالحَقُّ أَنَّ أهْلَ العِشْقِ يُفْصِحونَ عَنْ حَواشي النّفوسِ، وَمَكْنوناتِ الضَّمائِرِ، مُعْتَمدينَ عَلى رافِدَي المَعْنى الرَّئيسَيْنِ: الكَلامِيّاتِ وَالصَّمْتِيّاتِ، أَمّا الكَلامِيّاتُ فَأمْرُها ذائِعٌ، وَأَشْهرُها أشْعارُ الغَزلِ وَالمَواجِدِ العِشقِيّةِ، وَأَمّا الصَّمْتِيّاتُ وَالحَرَكِيّاتُ فَعَلَيْها عَقدُ البابِ وَالمَوْضوعِ، وَقَدْ وَصَفَها الشّعَراءُ في أشْعارِهِم، وَرَسَموا تِلْكُمُ الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةَ الحَمّالةَ لِمَعانٍ بِالكَلماتِ، فَغَدتْ في أَحايينَ صُوَرًا ناطِقةً لأَحْداثٍ كَلامِيّةٍ، فَلِلأفْواهِ إِشارَةٌ بَلْ إِشاراتٌ، وَلِلحَواجِبِ غَمزٌ ذو دِلالَةٍ، وَلِلأجْفانِ تَكْسيرٌ، وَلِلكَفِّ تَسْليمٌ، وَلِلعُيونِ كَلامٌ إيمائِيٌّ جَسَديٌّ يَضيقُ عَنْهُ الوَصفُ في هذا المَقامِ، لقَدْ عَبَّرَ الشّاعِرُ عَنْ هذِهِ المَعاني فَقالَ مُتمِنّيًا أَنْ يَضمَّهُ وَمَعْشوقَتَه بَيتٌ، وَأَنْ يَكونَ تَواصُلُهُما بِالإِشاراتِ الجَسَدِيَّةِ، وَالإيماءاتِ المُعبِّرَةِ، لِما فيها مِنْ إِبانَةٍ عَنِ المَقاصِدِ، وَبَيانٍ بِلا لِسانٍ، وَمُسْتَغْنًى عَنِ الكَلامِيّاتِ في مَقامِهِ ذاكَ:
ألَيْسَ عَجيبًا أنَّ بَيْتًا يَضُمُّني وَإِيّاكِ لا نَخْلو وَلا نَتَكَلّمُ
سِوى أَعْيُنٍ تُبْدي سَرائِرَ أنْفُسٍ وَتَقْطيعِ أنْفاسٍ عَلى النّارِ تُضْرَمُ
إشارَة أفْواهٍ وَغَمز حَواجِبٍ وَتَكْسير أَجْفانٍ وَكَفّ تُسَلِّمُ
وَألْسُنُنا مَعْقودةٌ عَنْ شَكاتِنا وَأَبْصارُنا عَنْها الصَّباباتُ تُفْهِمُ( ).
وتِلْكَ أمْنيّةُ عاشِقٍ رَضِيَ بِالإِبانَةِ الآتِيةِ مِنَ الجَسَدِ، وَمِثُلُها أمْنيةُ آخَرَ كَفاهُ مِنْ مَعْشوقِهِ الضَّنينِ سَلامٌ بِعَينٍ، أَوْ بِحاجِبٍ، فَقالَ:
وَإِنَّ الَّذي أَرْضى بِهِ مِنْ نَوالِها عَلَيْها وَإِنْ ضَنَّتْ بِهِ لَيَسيرُ
سَلامٌ بِعَيْنٍ أَوْ سَلامٌ بِحاجِبٍ إِذا ما بِهِ لَمْ تَدْرِ كَيْفَ تُشيرُ( ).
التَّراسُلُ بِالوَجْهِ:
وَلَستُ بِمُبالِغٍ إِنْ قُلتُ إنَّ الوَجْهَ الأَداةُ الرَّئيسَةُ في التَّراسُلِ وَالتَّواصُلِ الجَسَديَّينِ في "أَدَبِ العِشقِ وَالعُشّاقِ"، وَالمُحتَكَمُ الرَّئيسُ في الإِبانةِ وَتَعيينِ المَقاصِدِ الجَوّانِيّةِ، وَالوَجْهُ –وَقَدْ تَقَدَّمَ فَضلُ بَيانٍ عَن هذا قَبْلاً– مُشتمِلٌ عَلى جَوارِحَ أُخْرى تَقعُ فيهِ، وَأهمُّها العَيْنانِ، وَالحاجِبانَ وَالفَمُ، وَفيهِ تَتَجَلّى المَعاني السّتُّ العالَمِيّةُ، وَقَدْ عوَّلَ العُشّاقُ مِنَ الشّعراءِ عَلَيْهِ كَثيرًا في التَّواصُلِ وَالتَّراسُلِ الجَسَدِيَّينِ، فَعَرَّجوا عَلى العَيْنِ، وَنَظَراتِها، وَهَيئاتِها، وَمَعانيها، وَالحاجِبَينِ، وَالمَعاني التي تَظهَرُ في الوَجْهِ، وَغَيرِ ذلِكَ مِمّا يَقومُ في النَّفْسِ مِنْ مَعانٍ تُقرِّرُها الهَيْئَةُ وَالرّؤيَةُ الحَيّةُ مِمّا "لا يُمْكنُ حَصْرُها في جِنْسٍ، وَلا ضَبْطُها في وَصْفٍ"( ).
التَّبَسُّمُ وَدِلالاتُهُ:
وَلِلتّبسّمِ دِلالاتٌ مُتَبايِنةٌ، وَأحْوالٌ مُتعدِّدةٌ، فَمِنْه تَبسّمُ المُتَعجِّبِ، وَتَبسُّمُ المُسْتَهزِئِ، وَتَبسُّمُ المُنكِرِ، وتَبسُّمُ المَسْرورِ، وَالحَقُّ أَنَّ ذلِكَ كُلَّه يُدرَكُ بِالمُعايَنَةِ وَالتَّبصّرِ، وَمِنْ أَمْثلَتِها في أدَبِ العِشقِ وَالعُشّاقِ أنَّ عاشِقًا دَخَلَ عَلى مَعْشوقَتِهِ مَرَّةً، فَأنْكَرَتْ عَلَيْهِ فِعلَتَه إِنْكارَ مُعاياةٍ وَمُناكَفَةٍ، وَأقْسَمتْ بَعيْشِ أَبيها، وَحُرمَةِ إِخْوَتِها إِنْ لَمْ يَخرجْ لَتُنَبِّهَنَّ عَلَيْهِ الحَيَّ، فَهَمَّ بِالخُروجِ مَخافَةَ يَمينِها، وَلكنّهُ انْثَنى عَنْ ذلِكَ وَفاءً بِما قَرَأَ في وَجْهِ مَعْشوقَتِه مِنْ رضًى وَتَدلّلٍ مَرْسومَيْنِ في ابتَسامَةٍ تَجلَّتْ في الوَجْهِ قائِلةٍ بِلِسانِ الحالِ الجَسَديِّ بِأَنَّ القَسَمَ ذاكَ ما هُو إِلاّ لِلدّعابَةِ، وَكَأنَّ وَجهَ المَعْشوقِ عامّةً، وَهَيْئَةَ التَّبَسُّم خاصّةً، قالا "ابْقَ حَيْثُ أنْتَ، فَما هي إِلاّ مُداعَبةٌ"، ولقَدْ صَوَّرَ هذا المَشْهَدَ الحَرَكيَّ التَّعْبيرِيَّ عُمَرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ فَقالَ:
فَقَعَدْتُ مُرتَقِباً أُلِمُّ بِبَيتِها حَتّى وَلَجتُ بِهِ خَفِيَّ المَوْلَجِ
قالَتْ وَعَيشِ أَبي وَحُرمَةِ إِخوَتي لأُنَبِّهَنَّ الحَيَّ إِنْ لَمْ تَخْرُجِ
فَخَرَجْتُ خَوْفَ يَمينِها فَتَبَسَّمَتْ فَعَلِمتُ أَنَّ يَمينَها لَمْ تَحْرَجِ( ).
وَفي مَشْهَدٍ آخَرَ يوصي العاشِقُ رَسولَهُ بِالتّلطّفِ وَحُسنِ التّأنّي في التّأَتّي لِلمَعْشوقِ، وَأَنْ يُكيِّفَ تَواصُلَه اللَّفظِيَّ المُنتسِبَ إِلى الكَلامِيّاتِ مَعَ ما يَرى في وَجْهِها مِنْ مَعانٍ تُنْسَبُ إِلى الصَّمْتِيّاتِ، فَإِنِ انْشَرحَ صَدْرُها، وَتَهلّلَ وَجْهُها بِالتَّبَسُّمِ وَالانْبِساطِ، زادَ وَأسْهبَ، وَقالَ قَوْلاً لَيّنًا، وَإِنْ هِيَ قَطَّبَتْ وَتَجهَّمتْ، وَإنْ هُو قَرَأ في وَجهِها مَعْنى الغَضَبِ وَالإِنْكارِ لِلرّسولِ وَلِلرّسالةِ فَعَلَيْهِ بِالمُغالَطةِ، وَالادِّعاءِ بِأَنَّهُ لا يَعرِفُهُ، وَصَوَّرَ ذلِكَ كُلَّه الوَأْواءُ الدّمِشقِيُّ فَأحسنَ إِذْ قالَ:
بِاللهِ رَبِّكُما عوجا عَلى سَكَني وَعاتِباه لَعَلَّ العَتْبَ يَعْطِفُهُ
وَحَدِّثاهُ وَقولا في حَديثِكُما ما بالُ عَبْدِكَ بِالهجْرانِ تُتْلِفُهُ
فَإِنْ تَبَسَّم قولا في مُلاطَفَةٍ ما ضَرَّ لَوْ بِوِصالٍ مِنْكَ تُسْعِفُهُ
وَإِنْ بَدا لَكُما في وَجْهِهِ غَضَبٌ فَغالِطاهُ وَقولا لَيْسَ نَعْرِفُه( ).
وتِلْكَ هِي حالُ مَعْشوقَةِ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ، فَلمَّا التَقَيا قَرَأت في وَجهِهِ مَعْنى السُّرورِ، وَكانَ مَصدَرُ تِلْكُمُ المَعرفَةِ التي قامَتْ في نَفسِها هَيْئَةَ تَبسُّمِ المَسْرورِ:
فَلَمّا التَقَيْنا باحَ كُلٌّ بِسِرِّهِ وَأَبدى لَها مِنّي السُّرورَ تَبَسُّمي( ).
وَمِنْ مَعاني التَّبَسُّمِ التي مِضْمارُها الوَجْهُ "التّعَجّبُ"، وَمِنْ ذلِكَ قَوْلُ عُمرَ بنِ أبي ربيعَةَ:
وَيَقولُ إِنَّكِ قَدْ عَلِمْتِ بِأَنَّكُمْ أَصبَحتُمُ يا بِشْرُ أَوْجَهَ ذي دَمِ
فَتَبَسَّمَتْ عَجَبًا وَقالَت حَقُّهُ أَلاّ يُعَلِّمَنا بِما لَمْ نَعْلَمِ( ).
التَّجهُّمُ وَالقُطوبُ:
وَكَما يَظهَرُ في الوَجْهِ التَّبَسُّمُ بِدِلالاتِهِ المُتبايِنةِ فَكَذلِكَ الأَمرُ بِالضّدِّ في مَقاماتٍ أُخَرَ، فَهناكَ التّجهّمُ وَالقُطوبُ، وَمِنْ أمْثلَةِ ذلِكَ ما كانَ يَراه كُثَيِّرٌ في وَجهِ المَعْشوقِ فَيَقرؤُهُ، فَتَنْتَصِبُ دِلالتُهُ في نَفْسِهِ:
أَراكُم إِذا ما زُرتُكُمْ وَزِيارَتي قَليلٌ يُرَى فِيكُم إِلَيَّ قُطوبُ( ).
وَمِنْ مِثْلِ الذي قَرَأَهُ كُثَيّرٌ ما جاءَ في شِكايَةِ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ مِنْ صَدٍّ بَعدَ وِصالٍ، وَتَمنُّعٍ بَعدَ عَطاءٍ، وَتَقْطيبٍ بَعدَ تَبسُّمٍ:
أَذاقَتكَ طَعْمَ الحُبِّ ثُمَّ تَنَكَّرَتْ عَلَيكَ بِوَجْهٍ لَم يَكُنْ يَعْرِفُ القَطْبا( ).

وَمِنَ البَواعِثِ عَلى التّجهّمِ المُباغَتَةُ فيما لا يُرْتَضى أَوْ يُتوقَّعُ، وَقَدْ أَتى عَلى هذا المَعْنى عُمَرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ لَمّا دَخَلَ عَليْها البَيتَ، فَتَجهَّمَتْ خائِفَةً، فَهَدَّأَ مِنْ رَوْعِها، وَخَفَّضَ جَأشَها تَودّدُهُ وتَلَطّفُهُ:
فَطَرَقْتُ بابَ العامِرَيَّةِ موهِنًا فِعْلَ الرّفيقِ أَتاهُمُ لِلمَوْعِدِ
فَتَجَهَّمَتْ لَمّا رَأَتْني داخِلاً بِتَلَهُّفٍ مِنْ قَوْلِها وَتَهَدُّدِ
ثُمَّ ارْعَوَتْ شَيْئًا وَخَفَّضَ جَأشَها بَعدَ الطُّموحِ تَهَجُّدي وَتَوَدُّدي( ).

وَقَدْ يَكونُ حالُ وَجْهِ المَعْشوقِ التّجهّمَ المُجتَلَبَ غَيرَ المَقْصودِ تَمنّعًا وَتَدلّلاً، وَهذا مَعْنًى أَتى عَلَيْهِ صَريعُ الغَواني، وَقَدِ التَفَتَ إِلى دِلالَةِ التّجهّمِ المُجتَلَبَةِ المُتكلَّفَةِ، وَإِلى الحُسنِ المَقْرونِ بِها، وَالمُتجلّي في وَجْهِها وَهِيَ عَلى هَيْئَةِ التّجهّمِ وَالتّمنّعِ المُتَكلَّفَتَيْنِ:
شَكَوْتُ إِلَيْها حُبَّها فَتَبَسَّمَتْ وَلَمْ أَرَ شَمْسًا قَبْلَها تَتَبَسَّمُ
فَقُلتُ لَها جودي فَأَبْدَت تَجَهُّمًا لِتَقتُلَني يا حُسْنَها إِذْ تَجَهَّمُ( ).
الحَياءُ وَالخَوفُ:
وَيَنْضافُ إِلى دِلالاتِ التّجهّمِ، وَالقُطوبِ، وَالتَّبَسُّمِ، وَالغَضَبِ، التي تتَجَلّى في الوَجْهِ دِلالَتا الحَياءِ وَالخَوْفِ، وَلكُلٍّ مِنْهُما لَونٌ خاصٌّ لا يَتعيّنُ إِلاّ في سِياقِهِ الحَيِّ، وَكَثيرًا ما وَرَدَ الشُّعَراءُ عَلى هذا المَعْنى الجَسَديِّ التَّعْبيرِيِّ في أشْعارِهِمْ، فَأشاروا إِلى لَوْنِ الحُمْرةِ في الوَجْهِ الدّالِّ عَلى الحَياءِ، وَإِلى الصُّفْرةِ الدّالّةِ عَلى البَهْتِ، أَوِ الخَوْفِ، أَوِ الأَرَقِ المُتَخلِّقِ مِنَ العِشْقِ وَأَحْوالِهِ وَأَهْوالِهِ، وَالشّائِعُ النَّمطِيُّ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" أَنْ تَكونَ المَعْشوقَةُ حَيّيَةً خَجولاً تَظهَرُ عَلَيْها إيماءاتُ الخَجَلِ وَعَلائِمُهُ في قَوْلِها، وَفِعْلِها، وَشَكْلِها، وَقَدْ جاءَ عَلى لِسانِ ابْنِ أَبي حَجَلَةَ:
زارَ الحَبيبُ وَوَجْهُ الوَرْدِ خَجْلانُ فَاصْفَرّ حينَ تَثَنّى قَدُّهُ البانُ( ).
وَمِنْ مِثْلِ ما تَقَدَّمَ قَوْلُ عَليِّ بْنِ الجَهْمِ:
طَلَعَتْ فَقالَ النّاظِرونَ إِلى تَصويرِها ما أَعْظَمَ اللهَ
وَدَنَتْ فَلَمّا سَلَّمَتْ خَجِلَتْ وَالتَفَّ بِالتُّفّاحِ خَدّاها( ).
وَإِذا كانَ هذا حالَ المَعْشوقِ وَحَظّه في مِثْلِ ذلِكَ المَقامِ فَإِنَّ وَجْهَ العاشِقِ يَغْدو أَحْيانًا أَصْفَرَ هَيْبَةً مِنْ جَلالِها، وَمِنْ لَطيفِ الجَمْعِ بَيْنَ وَصْفِ المَعْشوقِ بِالاحْمِرارِ، وَالعاشِقِ بِالاصْفِرارِ قَوْلُ ابنِ أَبي الحَديدِ مِنْ قَصيدَتِهِ التي أَوّلُها:
الصَّبْرُ إِلاّ عَنْ فِراقِكَ يَجملُ وَالصَّعْبُ إِلاّ مِنْ مَلالِكَ يَسْهلُ
يَصْفَرُّ وَجْهي حينَ أَنْظُرُ حُسْنَهُ خَوْفًا وَيُدْرِكُهُ الحَياءُ فَيَخْجَلُ
فَكَأنَّ ما بِخُدودِهِ مِنْ خَمْرَةٍ ظَلَّتْ إِلَيْها مِنْ دَمي تَتَنَقّلُ( ).
الوَجْهُ بَيْنَ الصَّكِّ وَالصّدِّ:
وَمِنَ الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةِ الدِّلالِيّةِ التي أَتى عَلَيْها العُشّاقُ مِنَ الشّعَراءِ "صَكُّ الوَجْهِ"، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلاً في بابِ القَوْلِ عَلى تَلمّسِ هذِهِ الظّاهِرَةِ عِندَ ابْنِ جِنّي حَديثُهُ المُعْجِبُ الذي تَجْتَمِعُ فيهِ الأَنْظارُ الدِّلالِيّةُ، وَالنَّفْسِيّةُ، وَالتّواصُلِيّةُ عَلى تَفسيرِ هذِهِ الحَرَكَةِ في قَوْلِ الشّاعِرِ:
تقولُ وَصَكّتْ وَجْهَها بِيَمينِها أَزَوْجيَ هذا بِالرَّحى المُتَقاعِسُ
فَقُلْتُ لَها لا تَعْجَبي وَتَبَيَّني بَلائي إِذا الْتَفَّتْ عَلَيَّ الفَوارِسُ( )
ولَيْسَ يَخْفى أَنّها اسْتِجابَةٌ حَرَكِيّةٌ لِباعِثٍ يَقومُ في النّفْسِ، أَوْ يَنقَدِحُ في الخاطِرِ؛ كَالتّعجُّبِ مَثَلاً، أَوِ التّخوّفِ، وَمِنْ أَمثِلةِ دِلالتِها عَلى التّعَجّبِ قَوْلُ الفَرزْدقِ:
تقولُ وَصَكَّتْ حرَّ خدَّيْ مَغيظةٍ عَلى الزَّوْجِ حَرّى ما تَزالُ تَلهَّفُ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ ابنِ أَبي رَبيعَةَ فيما هو مِنْ نَحوِ "الصّكِّ":
فَلَمْ يَرُعْها وَقَدْ نَضَّتْ مَجاسِدَها إِلاّ سَوادٌ وَراءَ البَيْتِ يَسْتَتِرُ
فَلَطَّمَتْ وَجْهَها وَاسْتَنْبَهَت مَعَها بَيْضاء آنِسَة مِنْ شَأْنِها الخَفَرُ( ).
هذا الصّكُّ، وَأَمّا الصّدُّ فَقَدْ يَعمِدُ أحَدُ قُطْبَيِ العِشقِ، وَكَثيرًا ما يَكونُ المَعْشوقُ، إِلى الصّدِّ بِالوَجْهِ ساعَةَ اللِّقاءِ، فَيَكونُ مِنْهُ نَأيٌ بِالجانِبِ، وَإِشاحَةٌ بِالوَجْهِ دالّةٌ عَلى شَيءٍ يَعتَمِلُ في نَفسِهِ، كَالحَياءِ، أَوِ التّمنُّعِ، أَوِ الرَّفْضِ، أَوِ الإِنْكارِ، أَوِ الإِغاظَةِ، وَفي الأَخيرِ قالَ الشّاعِرُ:
وَقالَتْ وَصَدَّتْ وَجْهَها لِتَغيظَنِي أبِالصَّدِّ تُجْزَى أمْ عَلى الذَّنْبِ توصَلُُ( ).
وَفي صَدِّ الحَياءِ قالَ ابنُ عَبْدِ رَبِّهِ:
بِنَفْسي التي ضَنّتْ بَرَدِّ سَلامِها وَلَوْ سَأَلَتْ قَتْلي وَهَبْتُ لَها قَتْلي
إِذا جُئتُها صَدَّتْ حَياءً بِوَجْهِها فَتَهْجُرني هَجْرًا ألَذَّ مِنَ الوَصْلِ( ).
وَفي صَدِّ التّمنُّعِ وَالتّدلّلِ قالَ عُمرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ:
ثُمَّ صَدَّتْ بِوَجْهِها عَمْدَ عَيْنٍ زَيْنَبٌ لِلقَضاءِ أُمُّ الحُبابِ( ).
هَزُّ الرَّأْسِ:
وَلِلرَّأسِ نَصيبٌ مِنَ الظُّهورِ في أَدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ، وَأكَثرُ صُورِ وُرودِهِ مِنْ وُجْهَةٍ دِلالِيّةٍ مُهْتَزًّا لِحاجاتٍ في النَّفْسِ شَتّى، وَمِنْها هَزُّهُ تَعجُّبًا، أَوِ اسْتِهْزاءً، أَوْ تَوعُّدًا وَوَعيدًا، أَوْ لَوْمًا، أَوْ إِغاظَةً وَمُناكَفَةً، وَقَدْ وَرَدَتْ جُلُّ تِلْكُم الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةِ في أَشْعارِهِمْ عَلى الهَيْئاتِ الآتِياتِ:
- هَزُّ الرَّاْسِ تَعَجُّبًا، وَمِنهُ قَوْلُ عُمرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ:
فَهَزَّتْ رَأسَها عَجَبًا وَقالَت مَنْ بِذا أَمَرَكْ
أَهَذا سِحرُكَ النِّسْوا نَ قَدْ خَبَّرْنَني خَبَرَك( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ العَرْجِيِّ:
فَهَزَّت رَأسَها عَجَبًا وَقالَتْ مازِحٌ مَزَحا
فَيا عَجَبًا لِمْوقِفِنا وَغَيَّبَ ثَمَّ مَنْ كَشَحا( ).
- هَزُّ الرَّاْسِ اسْتِهزاءً وَوَعيدًا:
تَقولُ وَهَزَّتْ رَأْسَها وَتَضاحَكَتْ سَتَعلَمُ يا مِسْكينُ مَنْ صاحِبُ الذَّنْبِ( ).
- هَزُّ الرَّاْسِ مُناكَفَةً وَإِغاظَةً:
وَقالَتْ وَهَزَّتْ رَأسَها لِتغيظَني أَبِالصَّدِّ تُجْزَى أمْ عَلى الذَّنبِ تُوصَلُ( ).
- هَزُّ الرَّاْسِ ضِرارًا:
وَلَوَتْ رَأسَها ضِرارًا وَقالَتْ إِذ رَأَتني: اختَرْتَ ذلِكَ أَنْتا
حينَ آَثَرْتَ بِالمَوَدَّةِ غَيْري وَتَناسَيْتَ وَصْلَنا وَمَلِلْتا( ).

- هَزُّ الرَّاْسِ لَوْمًا:
أَبيني لَنا كَيْفَ السَّبيلُ إِلى التي نَأَتْ غَرْبَةٌ عَنّا بِها ما تُلائِمُ
فَقالَت وَهَزَّت رَأسَها: لَوْ أَطَعْتَنا تَجَنَّبْتَها أَيّامَ قَلْبُكَ سالِمُ( ).
التَّراسُلُ بِالعَينِ:
وَللعَيْنِ ظُهورٌ جَليٌّ في "أدَبِ العِشقِ وَالعُشّاقِ"، وَنَصيبٌ كَبيرٌ مِنَ التّراسُلِ وَالتّواصُلِ، وَالحَقُّ أنَّها أكْثرُ أَعْضاءِ الوَجهِ ظُهورًا في هذا المِضْمارِ، وَسَيأتي بَعْدًا أَنّها نابَتْ عَنِ اللَّفْظِ، وَسَدَّتْ مَسَدَّه، وَأنّها في مَقاماتٍ أُخَرَ سانَدَتْهُ، وَأَنّها في مَقاماتٍ أُخَرَ ناقَضَتْه، فَغَدا لَها مَعْنًى مُخالفٌ لِمَعْنى اللَّفظِ، فَكانَ ثَمَّ عَينٌ مُتكلِّمَةٌ، وَأُخْرى مُسَلِّمَةٌ مُحَيِّيةٌ، وَثالِثَةٌ مُعاهِدةٌ وَفِيّةٌ، وَرابِعةٌ مُسِرّةٌ مُخْفِيةٌ، وَخامِسَةٌ سائِلَةٌ مُسْتَفهِمةٌ، وَسادِسَةٌ قائِلَةٌ مُجيبَةٌ، وَسابِعَةٌ واشِيَةٌ فاضِحَةٌ، وَثامِنةٌ باكِيَةٌ مَحْزونَةٌ، وَتاسِعَةٌ مَشوقَةٌ هائِمَةٌ، وَغَيرُ ذلك مِمّا وَرَدَ عَليْهِ العُشّاقُ مِنَ الشّعَراءِ فَوَصَفوهُ في أَشْعارِهِمْ، وَقَرّروهُ في أَحْكامِهِمْ، فَكانَتِ العَينُ عِنْدَهمْ مُظْهِرَةً لِعَلائِمِ العِشقِ، مُبْديَةً لِمَكْنوناتِ الضَّمائِرِ، قائِمَةً مَقامَ الأَلْسُنِ، وَقَدْ تَجلّى الحَديثُ عَنِ العَيْنِ في أَدَبِ العِشقِ وَالعُشّاقِ في شِعْبَينِ اثْنَيْنِ، أَوّلُهُما النَّظَريُّ النَّثْرِيُّ، وَثانيهما الشِّعْريُّ الإِبْداعِيُّ.
النّظَرِيُّ النَّثرِيُّ:
وَمِنَ الشَّواهِدِ عَلى "النَّظَريِّ النَّثرِيِّ" الفَصلُ الذي عَقَدَه ابنُ حَزْمٍ في "طَوق الحَمامَةِ" عَنِ العَينِ مُرْتَضِيًا لَه اسمَ "الإِشارَة بِالعَينِ"( )، مُعَرِّجًا فيهِ عَلى سُهْمَتِها في الإِبانَةِ وَالتّواصُلِ، وَقَدِ اسْتَفتَحَ كَلامَه عَنِ البابِ الثّامِنِ بِالتَّعْريضِ بِالقَوْل لِيَكونَ مِهادًا لِلبابِ الذي يَليهِ، وَهُوَ الإِشارَةُ بِالعَيْنِ، فَلا بُدَّ لكُلِّ مَطْلوبٍ مِنْ مَدْخَلٍ إِليْهِ، وَسَبَبٍ يُتَوصَّلُ بِهِ نَحْوَه، فَأوّلُ ما يَفيءُ إِليْهِ أهْلُ العِشْقِ في كَشفِ ما يَجدونَهُ إِلى أَحِبَّتِهمْ هُوَ التَّعْريضُ بِالقَولِ، إِمّا بِإِنْشادِ شِعْرٍ، أَوْ بِإِرْسالِ مَثَلٍ، أَوْ بِتَعمِيَةِ بَيْتٍ، أَوْ بِتَسليطِ كَلامٍ، فَإنْ رَأى العاشِقُ المُعرِّضُ أُنْسًا وَتَسْهيلاً زادَ، وَإِنْ عايَنَ ما هُو بِالضّدِّ تَراجَعَ وَتَحايَلَ مُغالِطًا وَمُعْتَذِرًا، وَقَدْ يَكونُ ذلكَ كُلُّه "إِمّا بِلَفظٍ، أَوْ بهَيْئَةِ الوَجْهِ، وَالحَرَكاتِ"( ).
ثُمَّ يَتْلو التَّعْريضَ بِالقَبولِ إِذا وَقَعَ الإِشارَةُ بِلَحْظِ العَيْنِ، "وَإِنّهُ ليَقومُ في هذا المَعْنى المَقامَ المَحْمودَ، وَيَبْلُغُ المَبْلَغَ العَجيبَ، وَيُقْطَعُ بِهِ وَيُتَواصَلُ، وَيوعَدُ وَيُهَدَّدُ، وَيُنْتَهَرُ وَيُبْسَطُ، وَيُؤْمَرُ وَيُنْهى، وَتُضْرَبُ بِهِ الوُعودُ، وَيُنَبَّهُ عَلى الرَّقيبِ، وُيضْحَكُ وَيُحْزَنُ، وَيُسْأَلُ وَيُجابُ، وَيُمْنَعُ وَيُعْطى، ولكُلِّ واحِدٍ مِنْ هذِهِ المَعاني ضَرْبٌ مِنْ هَيْئَةِ اللَّحْظِ لا يوقَفُ عَلى تَحديدِهِ إِلاّ بِالرّؤْيَةِ، وَلا يُمْكِنُ تَصْويرُهُ وَلا وَصْفُهُ إِلاّ بِالأقلِّ مِنْهُ، وَأنا واصِفٌ ما تَيَسَّرَ مِنْ هذِهِ المَعاني"( ):
- فَالإِشارَةُ بِمُؤْخرِ العَيْنِ الواحِدَةِ نَهيٌ عَنِ الأَمْرِ.
- وَتَفْتيرُها إِعْلامٌ بِالقَبولِ.
- وَإِدامَةُ نَظَرِها دَليلٌ عَلى التّوجُّعِ وَالأَسَفِ.
- وَكَسرُ نَظَرِها آيَةُ الفَرَحِ.
- وَالإِشارَةُ إِلى إِطْباقِها دَليلٌ عَلى التَّهْديدِ.
- وَقَلْبُ الحَدَقَةِ إِلى جِهةٍ ما ثُمَّ صَرْفُها بِسرْعَةٍ تَنْبيهٌ عَلى مُشارٍ إِليْهِ.
- وَالإِشارَةُ الخَفِيّةُ بِمُؤْخرِ العَيْنَيْنِ كِلتَيْهِما سُؤالٌ.
- وَقلبُ الحَدَقةِ مِنْ وَسَطِ العَيْنِ إِلى المُوقِ بِسُرعَةٍ شاهِدُ المَنْعِ.
- وَتَرْعيدُ الحَدَقَتَيْنِ مِنْ وَسَطِ العَيْنَيْنِ نَهيٌ عامٌّ، "وَسائِرُ ذلِكَ لا يُدْرَكُ إِلاّ بِالمُشاهَدَةِ"( ).
ثُمّ يُفسِّرُ ابنُ حَزْمٍ تَقْديمَ العَيْنِ وَأَسْبَقِيّتَها في هذا المَقامِ عَلى السَّمْعِ مُعَلِّلاً ذلِكَ بِفَضْلِها الحاصِلِ في جَوْهَرِها؛ ذلكَ أَنّهُ أَرْفَعُ الجَواهِرِ، وَأَعْلاها مَكانًا؛ لأَنَّها نورِيّةٌ لا تُدْرَكُ الأَلْوانُ بِسِواها، وَلا شَيءَ أَبْعدُ مَرْمًى، وَلا أنْأى غايَةً مِنْها؛ لأَنّنا نُدرِكُ بِها أجْرامَ الكَواكِبِ التي في الأَفْلاكِ البَعيدَةِ، وَنَرى بِها السَّماءَ عَلى شِدّةِ ارْتِفاعِها وَبُعْدِها، ولَيْسَ هذا لِشَيءٍ مِنَ الحَواسِّ؛ كَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ اللَّذَيْنِ لا يُدْرَكانِ إِلاّ بِالمُجاوَرَةِ، وَالسَّمْعِ وَالشَّمِّ اللَّذَيْنِ لا يُدْرَكانِ إِلاّ مِنْ قَريبٍ، "وَدَليلٌ عَلى ما ذَكَرْناهُ مِنَ النَّظرِ أنّكَ تَرى المُصَوِّتَ قَبْلَ سَماعِ الصَّوْتِ، وَإِنْ تَعمَّدتَ إِدْراكَهُما مَعًا، وَإِنْ كانَ إِدْراكُهُما واحِدًا لَما تَقَدّمَتِ العَيْنُ السَّمْعَ"( ).
الشِّعْرِيُّ الإِبْداعِيُّ:
أَمّا الشَّواهِدُ عَلى المِضْمارِ الثّاني لِلعَيْنِ في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ، وَهُوَ الشِّعْريُّ الإِبْداعِيُّ، فَهِيَ كَثيرَةٌ كَثيرَةٌ، وَقَدْ تَجلَّتْ في أَشْعارِ العُشّاقِ مِنَ الشّعَراءِ، وَفيما يَلي فَضْلُ بَيانٍ يَأخُذُ في أَنْحاءِ هذا المِضْمارِ وَيُجَلّيهِ:
أَتى العَبّاسُ بنُ الأَحْنَفِ عَلى الوَجْهِ عامّةً، وَالعَيْنِ خاصَّةً، فَبَيَّنَ أَثَرَها في التَّواصُلِ وَالإِبانَةِ في مَقاماتِ العِشْقِ، فَالعُشّاقُ سُكوتٌ، وَالهَوى هُو المُتَكلِّمُ، وَتَظهَرُ العَيْنُ ناطِقًا أَمينًا مُعبِّرًا عَمّا في الضَّمائِرِ، فَبِها يَظهَرُ الغَضَبُ، وَبِها يَظهَرُ الرِّضى، وَبِها يُتَكَلَّمُ، وَهِيَ تُجيبُ وَتُفْهِمُ، فَقالَ وَأجادَ:
تُحَدِّثُ عَنّا في الوُجوهِ عُيونُنا وَنَحْنُ سُكوتٌ وَالهَوى يَتَكَلَّمُ
وَنَغْضَبُ أَحْيانًا وَنَرْضى بِطَرْفِنا وَذلِكَ فيما بَيْنَنا لَيْسَ يُعْلَمُ
إِذا ما اتَّقَيْنا رَمْقَةً مِن مُبَلِّغٍ فَأَعْيُنُنا عَنّا تُجيبُ وَتَفْهَمُ( ).
أَمّا أَبو نُواسٍ فَقَدْ جَعَلَ لِلعَيْنِ لُغَةً خاصّةً، وَلَعَلَّ في شِعْرِهِ الذي لَمّا يَأْتِ بَيانُهُ بَعْدُ تَأْصيلاً لِهذا المُصْطَلَحِ الحَديثِ، وَهُوَ "لُغَةُ الجَسَدِ"، أوْ "لُغَةُ العُيونِ"، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ، وَأَتى عَلَيْهِ في مُقَطَّعَةٍ، ذاهِبًا إِلى أَنَّ هذِهِ اللّغاتِ مِنْ أَجَلِّ اللّغاتِ، بَلِ اللّغات كُلّها تَسْجدُ لِهذِهِ اللّغَةِ العالَمِيّةِ التّواصُلِيّةِ:
تَجْمَعُ عَيْني وَعَيْنَها لُغَةٌ مُخالِفٌ لَفْظُها لِمَعْناها
إِذا اقْتَضاها طَرْفي لَها عِدَةً عَرَفْتُ مَرْدودَها بِفَحْواها
ذي لُغَةٌ تَسْجُدُ اللُغاتُ لَها أَلغَزَها عاشِقٌ وَعَمّاها( ).
وَفي مَسارِحِ العِشقِ وَالعُشّاقِ تُظهِرُ العَيْنُ مَعانِيَ مُتَبايِنَةً كَالرِّضى، وَالغَضَبِ، وَالحُبِّ، وَالوَعْدِ، وَالوَعيدِ، وَالتَّحيّةِ، وَالخَوْفِ، وَالتّكلّمِ، وَالمُساءَلَةِ، وَالإِجابَةِ، وَبِكُلٍّ نَطقَ العُشّاقُ مِنَ الشُّعَراءِ كَما نَطَقَتْ عُيونُهمْ قَبْلاً فَتَواصَلَتْ وَتَراسَلَتْ، وَيَجمَعُ ذلِكَ قَوْلُ ابْنِ الدُّمَيْنَةِ:
إِذا كَبِدانا خافَتا صَرْفَ نِيَّةٍ وَعاجِلَ بَيْنٍ ظَلَّتا تَجِبانِ
يُخَبِّرُ طَرْفانا بِما فِى قُلُوبِنا إِذا استَعْجَمَت بِالمَنْطِقِ الشَّفَتانِ( ).
وَمِثْلُ ما تَقَدَّمَ اسْتِغْناءُ أحْمدَ بنِ طَيْفورٍ بِما حَدَّثَتْه بِهِ الأَبْصارُ، فَاسْتَغْنى بِها عَمّا يُردَّدُ في الكُتُبِ، وَرَأى مَعْنى العِشْقِ مَكْتوبًا في جِباهِ العاشِقِ وَالمَعْشوقِ، فَالمَعْنى قَدْ يُقتَنَصُ مِنَ الكَلامِيّاتِ، أَوْ مِنَ الصَّمْتِيّاتِ، أَوْ مِنْ كِلَيْهِما، وَمِنْ أَحَدِهِما اقْتَنَصَ المَعْنى، فَقالَ:
تُحَدِّثُنا الأَبصارُ ما في قُلوبِنا فَنَغْنى بِها عَمّا يُرَدَّدُ في الكُتبِ
عَلاماتُنا مَكْتوبَةٌ في جِباهِنا حَبيبانِ مَوْقوفانِ في سُبُلِ الحُبِّ( ).
لِنَرْجِعِ النّظَرَ في المَعاني التي أبْدَتْها عُيونُ العُشّاقِ فَوَصَفوها لَنا رَسْمًا بِالكَلِماتِ:
- العَيْنُ الهائِمَةُ العاشِقَةُ:
وَشاهِدُها قَوْلُ ابنِ داودَ:
نَظَرْتُ إِليْهِ نَظْرَةَ مُسْتَهامٍ فَأثَّرَ ناظِري في وَجْنَتَيْهِ
فَلاحَظَني وَقَدْ أثْبَتُّ وَجْدًا فَأثَّرَ في الفُؤادِ بِمُقْلَتَيْهِ( ).
وَمِثْلُها عَينُ ابْنِ زَيْدون:
كَمْ نَظْرَةٍ لَكَ في عَيْني عَلِمْتَ بِها يَوْمَ الزِّيارَةِ أَنَّ القَلْبَ قَدْ ذابا( ).
-العَيْنُ المُسلِّمَةُ المُتَكلِّمَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ أبي نُواسٍ:
فَدَيْتُ مَنْ كَلَّمَني طَرْفُهُ سِرًّا مِنَ النّاسِ وَمَنْ يَنْطِقُ
أَوْما بِعَيْنَيْهِ بِتَسْليمَةٍ وَقَلبُهُ مِنْ وَجَلٍ يَخْفِقُ
فَرُحْتُ مَسْرورًا بِما نِلتُهُ وَالقَلْبُ فيهِ جَمْرَةٌ تَحْرِقُ( )
وَكَذلِكَ قَوْلُ وَضّاح اليَمَنِ:
سَمَوْتُ إِلَيْها بَعْدَ ما نَامُ بَعْلُها وَقَدْ وسَّدَتهُ الكَفَّ في لَيْلَةِ الصَّرَدْ
أَشارَتْ بطَرْفِ العَيْنِ أَهْلاً وَمَرْحَبًا ستُعْطى الذي تَهْوَى عَلى رَغْمِ مَنْ حَسَدْ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ العَبّاسِ بْنِ الأَحْنَفِ:
وَمُراقَبٍ رَجَعَ السَّلامَ بِطَرْفِهِ وَمُحَيَّرٍ لَمْ يَسْتَطعْ تَسْليما( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ صَريعِ الغَواني:
بَعَثْنَ إِلى خُلانِهِنَّ تَحِيَّةً بِأَلْحاظِ أَبْصارٍ شَواهِدَ جُحَّدِ( ).
-العَيْنُ المُسِرَّةُ المُخْفِيَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ أحْمَدَ بنِ طَيْفور في مَشْهَدٍ حِوارِيٍّ أَلْفاظُهُ كَسْرُ العَيْنِ وَالجَفْنَيْنِ، وَتَورُّدُ الوَجْنَتَيْنِ:
كَتَبْتُ إِلى الحَبيبِ بِكَسْرِ عَيْني كِتابًا لَيْسَ يَقْرَؤُهُ سِواهُ
فَأَخبَرَني تَوَرُّدُ وَجْنَتَيْهِ وَكَسْرُ جُفونِهِ أَنْ قَدْ قَراهُ( ).
وَمِثلُهُ قَوْلُ النّاشِئِ الأَكْبَرِ:
فَلَمّا تَلاقَيْنا كَتبْنَ بَأَعْيُنٍ لَنا كُتُبًا أَعْجَمْنَها بِالحَواجِبِ
فَلمّا قَرَأناهُنَّ سِرًّا طَوَيْنَها حِذار الأعادي بِازْوِرارِ المَناكبِ( ).
- العَيْنُ الفاضِحَةُ الواشِيَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ أَبي نُواسٍ:
يَدُلُّ عَلى ما في الضَّميرِ مِنَ الفَتى تَقَلُّبُ عَيْنَيْهِ إِلى شَخْصِ مَنْ يَهْوى( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ بَشّارٍ:
فَاعْذُريني يا أُمَّ بَكْرٍ فَإِنَّ الْ حُبَّ في مَنْطِقي وَعَيْنَيَّ بادِ
لَيْسَ يَخْفى طَرْفُ المُحِبِّ وَلا كَسْ رَةُ عَيْنِ العَدُوِّ عَنْدَ اعتِيادِ( ).
وَكَذلِكَ قَولُ القُطامِيِّ:
نَظَرَتْ إِليْكَ بِمُقْلَةٍ مَكْحولَةٍ نَظَرًا يَكادُ بِطَرْفِهِ يَتَكَلَّمُ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ الأَحْوَصِ:
فَأبْدَتْ كَثيرًا نَظْرَتي مِنْ صَبابَتي وَأكْثرُ مِنْهُ ما تُجِنُّ الأَضالِعُ
وَلِلعَينِ أَسْرابٌ تَفيضُ كَأنّما تُعَلُّ بكُحْلِ الصابِ مِنْها المَدامِعُ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ أَبي نُواسٍ:
يا ساحِرَ الطَّرْفِ أَنْتَ الدَّهْرَ وَسْنانُ سِرُّ القُلوبِ لَدى عَيْنَيْكَ إِعْلانُ
إِذا امْتَحَنْتَ بِطَرْفِ العَيْنِ مُكْتَتَمًا ناداكَ مِنْ طَرْفِهِ بِالسِّرِّ تِبْيانُ
تَبْدو السَّرائِرُ إِنْ عَيْناكَ رَنَّقَتا كَأَنَّما لَكَ في الأَوْهامِ سُلْطانُ( ).
- العَيْنُ الحَديدُ: وَشاهِدُها قَوْلُ أَبي نُواسٍ:
وَيُعْمِلُ الطَّرْفَ نَحْوي إِنْ مَرَرْتُ بِهِ حَتّى لَيُخْجِلُني مِنْ حِدَّةِ النَّظَرِ( ).
- العَيْنُ الشّاهِدَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ النّاشِئِ الأَكْبَرِ:
عَيْناكِ شاهِدتانِ أنَّكِ مِنْ حَرِّ الهَوى تَجِدينَ ما أَجِدُ
بِكِ ما بِنا لكنْ عَلى مَضَضِ تَتَجَلَّدينَ وَما بِنا جَلَدُ( ).
وَمِثلُهُ قَوْلِ أَبي نُواسٍ:
عَيْنايَ تَشْهَدُ أَنّي عاشِقٌ لَكُمُ يا دُمْيَةً صَوَّروها في المَحاريبِ( ).
- العَيْنُ المُسلِّمَةُ الوَجِلةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ:
وَلَمّا التَقَيْنا بِالثَنِيَّةِ أَوْمَضَتْ مَخافَةَ عَيْنِ الكاشِحِ المُتَنَمِّمِ
أَشارَتْ بِطَرْفِ العَينِ خَشيَةَ أَهلِها إِشارَةَ مَحْزونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ
فَأَيقَنْتُ أَنَّ الطَّرْفَ قَدْ قالَ مَرْحَبًا وَأَهْلاً وَسَهْلاً بِالحَبيبِ المُتَيَّمِ( ).
- العَيْنُ الشّاكِيةُ المُتكلِّمَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ أَحمَدَ بْنِ طَيْفور:
عَرَفَتْ بِالسَّلامِ عَينَ الرَّقيبِ وَأَشارَتْ بِلَحْظِ طَرْفٍ مُريبِ
وَشَكَتْ لَوْعَةَ النَّوى بِجُفونٍ أَعْرَبَتْ عَنْ لِسانِ قَلْبٍ كَئيبِ
رُبَّ طَرْفٍ يَكونُ أفْصَحَ مِنْ لَفْ ظٍ وَأَبْدى لِمُضمَراتِ القُلوبِ( ).
وَمِنْ مِثْلِ ما تَقَدَّمَ قَوْلُ إبراهيمَ النَّظّامِ:
وَنَشْكو بِالعُيونِ إِذا التَقَيْنا فَنَفْهمُهُ وَيَعلمُ ما أَرَدْتُ
أَقولُ بِمُقْلَتي أَنْ مِتُّ شَوْقًا فَيُوحي طَرْفُهُ أَنْ قَدْ عَلِمْتُ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
يُكلِّمُ طَرْفي طَرْفَها حينَ نَلْتَقي وَإِنْ كانَ فينا لِلعِتابِ صُدودُ
فَإنْ نَحْنُ صِرْنا لِلفِراقِ تَلاحَظَتْ لَنا بِهَوانا أَعْيُنٌ وَخُدودُ
فَنَحْنُ كَأنَّا بِالقُلوبِ وَذِكْرِها إِذا ما افْتَرَقْنا حاضِرونَ شُهودُ( ).
- العَيْنُ المَشوقَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ:
فَعَرَفنَ الشَّوْقَ في مُقْلَتِها وَحَبابُ الشَّوْقِ يُبْديهِ النَّظَر( ).
وَكَذلِكَ قَولُهُ:
وَنَظَرْتُ نَظْرَةَ عاشِقٍ دَنِفٍ بادي الصَّبابَةِ عازِمٍ نَظَرُه( ).
- العَيْنُ المُنادِيَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ:
قومي تَصَدَّيْ لَهُ لِيُبصِرَنا ثُمَّ اغْمِزيهِ يا أُخْتُ في خَفَرِ
قالَتْ لَها قَدْ غَمَزتُهُ فَأَبى ثُمَّ اسبَطَرَّتْ تَسْعى عَلى أَثَري( ).
- العَيْنُ المُعاهِدةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ:
وَقَدْ أَبْدَتْ لَكَ العَيْنانِ أَنّي عَلى طولِ النَّوى لَكَ غَيْرُ قالِ
وَلَسْتُ وَإِنْ بَدَأتَ بِقَطْعِ حَبْلي عَلى حالٍ لِوَصْلِكُمُ بِسالِ( ).
وَمِثلُهُ قَوْلُ ابنِ أبي طاهِرٍ:
أُلاحِظُها خَوْفَ المُراقَبِ لَحْظَةً فَأَشْكو بِطَرْفي ما بِقَلْبي مِنَ الوَجْدِ
فَتَفْهَمُهُ عَنْ لَحْظِ عَيْني بِقَلْبِها فَتُومي بِطَرْفِ العَيْنِ أنِّي عَلى العَهْدِ( ).
وَمِثلُهُ:
أَشَرْتُ إِلَيْها هَلْ عَرَفْتِ مَوَدَّتي فَرَدَّتْ بِطَرْفِ العَيْنِ أَنّي عَلى العَهْدِ( ).
- العَيْنُ المَحْزونَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ:
نَظَرَتْ إِلَيكَ بِمُقلَةٍ مَحْزونَةٍ نَظَرَ الصَّحيحِ إِلى المَريضِ المُدْنَفِ
وَلَقَدْ رَفَعْتُ لَها الرِّداءَ مُوَدِّعًا بَعْدَ البُكاءِ وَبَعْدَ طولِ المَوْقِفِ( )
وَكَذلِكَ قَوْلُ الحُسَيْنِ بنِ مُطَيْرِ:
وَلي نَظْرَةٌ بَعْدَ الصُّدودِ مِنَ الجَوى كَنَظْرَةِ ثَكْلى قَدْ أُصيبَ وَليدُها( ).
- العَيْنُ الباكِيَةُ: وَشاهِدُها قَوْلُ الشّاعِرِ وَقَدْ جَعَلَ الدَّموعَ أَلْسِنَةَ القُلوبِ:
وَقائِلَةٍ وَقَدْ بَصُرَتْ بَدَمْعٍ عَلى الخَدَّيْنِ مُنْحَدِرٍ سَكُوبِ
دُموعُ العاشِقينَ إِذا تَوالَتْ بِظَهْرِ الغَيْبِ أَلْسِنَةُ القُلُوبِ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ:
وَإِنّي لَذو عَيْنَيْنِ: عَيْنٍ شَجِيَّةٍ وَعَيْنٍ تَراها دَمْعُها الدَّهْرَ ساجِمُ
أُعَذِّبُ عَيْني بِالبُكاءِ كَأَنَّني عَدُوٌّ لِعَيْني جاهِدًا لا أُسالِمُ( ).
وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ زَيْدون:
أَلا لَيْتَ شِعْري هَلْ أُصادِفُ خَلْوَةً لَدَيْكِ فَأَشْكو بَعْضَ ما أَنا واجِدُ
رَعى اللهُ يَوْمًا فيهِ أَشْكو صَبابَتي وَأَجفانُ عَيْني بِالدُّموعِ شَواهِدُ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ السَّرّاجِ في "مَصارِع العُشّاقِ":
يَطْوي أَحاديثَ وَجْدِهِ وَدُموعُ العَيْنِ في فَيضِهِنَّ تَنشُرُها( ).
وَحَسْبي بَعْدَ هذا العَرْضِ الدّالِّ بِالاقْتِضابِ، وَالخائِضِ في التّراسُلِ وَالتّواصُلِ بِالعَيْنِ في أَدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ قَولُ ابنِ حَزْمٍ عَنْها: "وَاعْلَمْ أنَّ العَيْنَ تَنوبُ عَنِ الرُّسُلِ، وَيُدْرَكُ بِها المُرادُ، وَالحَواسُّ الأَرْبَعُ أَبْوابٌ إِلى القَلْبِ، وَمَنافِذُ نَحْوَ النَّفْسِ، وَالعَيْنُ أبْلَغُها وَأَصَحُّها دِلالَةً، وَأَوْعاها عَمَلاً، وَهِيَ رائِدُ النَّفْسِ الصّادِقُ، وَدَليلُها الهادي، وَمِرْآتُها المَجْلُوّةُ التي بِها تَقِفُ عَلى الحَقائِقِ، وَتُمَيّزُ الصّفاتِ، وَتَفْهَمُ المَحْسوساتِ، وَقَدْ قيلَ: "لَيْسَ المُخْبَرُ كَالمُعايِنِ"، وَقَدْ ذَكَرَ ذلِكَ "أَفْليمون" صاحِبُ الفِراسَةِ، وَجَعَلَها مُعْتَمَدةً في الحُكْمِ"( ).
التَّراسُل بِالحاجِبَيْنِ:
وَمِمّا يَنْضافُ إِلى التَّراسُلِ بِالعُيونِ الحَواجِبُ التي أَشارَ العُشّاقُ مِنَ الشُّعَراءِ إِلى فَضْلِها في الإِبانَةِ وَالتّواصُلِ، فَكَثيرًا ما كانوا يَقْرنونَها بِالعَيْنِ، وَهِيَ كَذلِكَ حَقًّا، فَحَرَكةُ الحَواجِبِ لا تَنفَكُّ عَنْ حَرَكةِ العُيونِ، وَهِيَ بِهذا التَّقْريرِ المُتَقَدِّمِ بَيانُهُ عَونٌ لِلعُيونِ في التَّراسُلِ وَالتَّواصُلِ الجَسَدِيَّيْنِ، بَلْ تَتَشكّلُ مِنْهما وَحْدَةٌ دِلاليّةٌ تَأتَلِفُ مِنْ تَضافُرِهِما، وَمِنَ المَعاني التي أبْدَتْها الحَواجِبُ في "أدَبِ العِشقِ وَالعُشّاقِ" التَّحيّةُ، وَالتَّكلّمُ، وَالإِشارَةُ، وَالتَّوْديعُ، فَغَدَتْ مِمّا تُقْضى بِها الحَوائِجُ، وَتُنالُ الرَّغائِبُ، وَمِمّا قيلَ في وَصْفِ الدِّلالاتِ التي تُجَلّيها الحَواجِبُ في مَقاماتِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ:
لا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ أَيّامِ مَجْلِسِنا إِذْ نَجْعَلُ الرُّسلَ في ما بَيْنَنا الحَدَقا
وَإذْ حوَاجِبُنا تَقْضي حَوائِجَنا وَشَكْلُنا في الهَوى نَلقَاهُ مُتّفِقا( ).
وَكَما كانَتِ العُيونُ مَدْخَلاً مِنْ مَداخِلِ التَّواصُلِ في مَقاماتِ التَّعْمِيَةِ وَالرُّقَباءِ فَكَذلِكَ كانَتِ الحَواجِبُ:
إِذْ نَحنُ نَسْتَرِقُ الحَديثَ وَفَوْقَنا مِثْلُ الظَّلامِ مِنَ الغُبارِ الأَقْتَمِ
وَنَظَلُّ نُظْهِرُ بِالحَواجِبِ بَيْنَنا ما فِي النُّفُوسِ وَنَحنُ لَمْ نَتَكَلّمِ( ).

وَمِثلُهُ قَوْلُ أَبي العَبّاسِ النّاشِئِ مُعبِّرًا عَنْ هذا المَعْنى، مُصوِّرًا العُيونَ كاتِبَةً لِمَكْنوناتِ الضَّمائِرِ، وَالحَواجِبَ مُعْجِمَةً لتِلْكَ الكُتُبِ، وَالعاشِقَيْنَ قارِئَيْنِ لتِلْكَ المَعاني المَرْسومةِ بِالعَيْنِ وَالحاجِبِ:
فَلَمّا تَلاقَيْنا كَتَبْنَ بِأَعْيُنٍ لَنا كُتُبًا أَعْجَمْنَها بِالحَواجِبِ
فَلمّا قَرَأناهُنَّ سِرًّا طَوَيْنَها حِذار الأَعادي بازْوِرارِ المَناكِبِ( ).
وَمِنَ الدِّلالاتِ التي أَظْهَرَها الحاجِبُ في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ التَّسْليمُ في مَقامِ الوَداعِ، وَقَدْ صَوَّرَ هذا المَعْنى صَريعُ الغَواني فَقالَ:
أَحْيَيْنَ لَيلَتَهُنَّ بي وَبِمَجْلِسي في قَصْفِ قَيناتٍ وَعَزْفِ ضَوارِبِ
حَتّى إِذا وَدَّعْنَني أَهْدَيْنَ لي تَسْليمَهُنَّ بِأَعْيُنٍ وَحَواجِبِ( ).
التَّراسُلُ بِالكَفِّ وَالبَنانِ:
وَمِمّا عَوّلَ عَلَيْهِ أهْلُ العِشْقِ في تَواصُلِهمْ غَيرِ اللَّفظِيِّ عامّةً، وَلُغَةِ الجَسَدِ خاصّةً، البَنانُ وَالكَفُّ، وَقَدْ غَدا كُلٌّ مِنْهُما ناطِقًا أَمينًا، وَدالاًّ حَرَكِيًّا حَمّالاً لمَعانٍ تَتَعيّنُ في سِياقاتِها، وَبِاسْتِجْماعِ ثُلّةٍ مِنَ المُثُلِ التي وَرَدَتْ فيها الكَفُّ أَوِ البَنانُ، وَبِاستِشرافِ مَواضِعِها يَتَبيّنُ لِلمُتدبِّرِ بِروِيّةٍ وَلُطفِ نَظَرٍ أنَّها كَثرَتْ في مَقاماتِ التّخفّي، وَالتَّعْمِيةِ، وَحَذرِ الرُّقَباءِ، وَلَمّا كانَ التَّواصُلُ اللَّفظِيُّ مَحْظورًا في ذلِكَ المَقامِ، وَلَمّا كانَتِ الدَّواعي وَاللَّواعِجُ قَويّةَ التَّجاذُبِ لَهُمْ، لَمّا كانَ ذلِكَ كَذلِكَ، عَمَدوا إِلى العُدولِ عَنِ العِبارَةِ إِلى الإِشارَةِ، وَعَنِ التَّصْريحِ اللَّفْظِيِّ إِلى التَّلْويحِ الحَرَكِيِّ، فَغَدتْ لُغةُ الجَسَدِ في "أدبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" مَلْحَظًا فاقِعَ الدِّلالَةِ، جَليَّ الحُضورِ، وَمُحتَكَمًا رَئيسًا مِنْ مُحْتكَماتِ التَّواصُلِ، وَالتَّراسُلِ، وَالإِبانَةِ.
وَمِنَ المُثُلِ الدَّالّةِ عَلى ذلِكَ –وَما كانَ أَكْثَرَها في هذا المِضْمارِ- قَوْلُ كُثَيّرٍ عَشيّةَ نَهْيِها لَهُ عَنِ الكَلامِ بِإيماءَةٍ مِنْ يَدِها، فَكانَ مِنْها كَلامٌ بِلا كَلامٍ، وَبَيانٌ بِلا لِسانٍ:
عَشِيَّةَ أَوْمَت وَالعُيونُ حَواضِرٌ إِلَيَّ بِرَجْعِ الكَفِّ أَلاّ تَكَلَّما
فَأَعْرَضْتُ عَنْها وَالفُؤادُ كَأَنَّما يَرى لَو تُناديهِ بِذلِكَ مَغْنَما( ).
وَمِنَ المَعاني التي رَسَمَتْها حَركَةُ الكَفِّ أوِ البَنانِ التَّسْليمُ، وَالتّحيّةُ، وَالتّوديعُ، وَالكَفُّ، وَالنَّهيُ، وَالتَّحْذيرُ، وَإِشارَةُ التَّنْبيهِ لاستِجْلابِ الخاطِرِ، وَالتّكلّمُ، وَمِنَ الشَّواهِدِ عَلى بَعْضِ ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ قَوْلُ ماني المُوَسْوَسِ مُلتَمِسًا فَضْلَ البَنانِ في التَّراسُلِ وَالتّواصُلِ، مُعَرِّجًا عَلى جَواباتِها دونَ الكَلامِ:
بَنانُ يَدٍ تُشيرُ إِلى بَنانٍ تَجاوَبَتا وَما يَتَكَلَّمانِ
جَرى الإيماءُ بَيْنَهُما رَسولاً فَأَحْكَمَ وَحْيَهُ المُتَناجِيانِ
فَلَوْ أَبْصَرتَهُ لَغَضَضْتَ طَرْفًا عَنِ المُتَناجِيَيْنِ بِلا لِسانِ( ).
وَمِنْ شَواهِدِ البَنانِ عَلى التَّحيّةِ وَالتَّسليمِ قَوْلُ البُحترِيِّ وَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ إِلوائِها بِالسَّلامِ بِالبَنان الخَضيبِ، وَإِشارَتِها بِاللَّحظِ الطَّروبِ في قَولِهِ:
لَوَتْ بِالسَّلامِ بَنانًا خَضيبا وَلَحْظًا يَشوقُ الفُؤادَ الطَّروبا( ).
وَكَذلِكَ إِشارَةُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ إِلى دِلالةِ حَرَكةِ البَنانِ عَلى التَّحيّةِ في مَقامٍ لا يُبْدي المَقالَ لِسانٌ:
أَشارَتْ إِلَيْنا بِالبَنانِ تَحِيَّةً فَرَدَّ عَلَيْها مِثْلَ ذاكَ بَنانُ
فَقالَتْ وَأَهلُ الخَيْفِ قَدْ حانَ مِنْهُمُ خُفوفٌ وَما يُبْدي المَقالَ لِسانُ( ).
أَمّا حَرَكةُ البَنانِ الحَمّالةُ لِدِلالةِ التَّوديعِ في مَقاماتِ البَيْنِ وَالارْتِحالِ، فَمِنْها قَوْلُ الشّاعِرِ:
لَمّا أَناخوا قُبَيْلَ الصّبْحِ عيسَهُمُ وَثَوَّروها فَثارَتْ بِالهَوى الإِبِلُ
وَأَبرَزَتْ مِنْ خِلالِ السَّجْفِ ناظِرَها تَرْنو إِلَيَّ وَدَمْعُ العَيْنِ يَنْهَمِلُ
وَوَدَّعَتْ بِبَنانٍ خِلتُهُ عَنَمًا فَقُلتُ لا حَمَلَتْ رِجلاكَ يا جَمَلُ( ).
أَمّا حَرَكةُ البَنانِ الحَمّالةُ لِدِلالةِ التَّحْذيرِ في حَضْرَةِ الرُّقَباءِ وَالعُيونِ فَتتَجَلّى في قَولِ عُمرَ بنِ أبي رَبيعَةَ:
لَمَعَتْ بِأَطْرافِ البَنانِ لَنا إِنّا نُحاذِرُ أَعيُنَ الرَّكْبِ( ).
وَمِثلُها قَوْلُ ذي الرُّمّةِ في إِشارَةِ الأَصابِعِ ساعَةَ الوَداعِ:
غَدَوْنَ فَأَحسَنَّ الوِداعَ وَلَمْ تَقُلْ كَما قُلْنَ إِلاّ أَنْ تُشيرَ الأَصابِعُ
وَأَخْذُ الهَوى فَوْقَ الحَلاقيمِ مُخْرِسٌ لَنا أَنْ نُحَيّى أَوْ نُسَلِّمَ مانِعُ
وَخالَسْنَ تَبْسامًا إِلَيْنا كَأَنَّما تُصيبُ بِهِ حَبَّ القُلوبِ القَوارِعُ( ).
وَأَمّا حَرَكةُ البَنانِ الحَمّالةُ لمَعْنى الإِشارَةِ وَالتَّنْبيهِ وَاستِجْلابِ الخاطِرِ فقَدْ تَجلّتْ في الحِكايةِ التي يَرْويها العَبّاسُ بنُ الأَحنَفِ شِعرًا وَقَدْ كانَ في جنازَةٍ فَرَأى فَوزَ مَعْشوقَتَه، فَأشارَ إِلَيْها بِالبَنانِ لِتَلتفِتَ استِجْلابًا لِنَظرِها، وَتَنْبيهًا لَها، فَما كانَ مِنْها إِلاّ الإِعْراضُ، وَالتَّبَسُّمُ طَورًا، وَالتَّقْطيبُ طَورًا:
وَلي يَوْمَ شَيَّعْتُ الجِنازَةَ قِصَّةٌ غَداةَ بَدا البَدرُ الذي كانَ يُحْجَبُ
أَشَرْتُ إِلَيْها بِالبَنانِ فَأَعْرَضَتْ تَبَسَّمُ طَوْرًا ثُمَّ تَزْوي فَتَقْطِبُ
غَداةَ رَأَيْتُ الهاشِميَّةَ غُدْوَةً تَهادى حَوالَيْها مِنَ العَيْنِ رَبْرَبُ
فَلَمْ أَرَ يَوْمًا كانَ أَحْسَنَ مَنظَرًا وَنَحْنُ وُقوفٌ وَهيَ تَنْأى وَنَندُبُ( ).
وَأَمّا حَركَةُ الكَفِّ الحَمّالةُ لِمَعْنى التّرجّي وَإِرْجاءِ الرّحلَةِ فقَدْ تَجَلّى في قَولِ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ وَقَدْ جَعلَ الباعِثَ عَلى هذا المَعْنى مَلْحَظَينِ جَسَديَّيْنِ مُنتسِبَيْنِ إِلى الصَّمتِيّاتِ، وَهُما مَفيضُ العَبرَةِ، وَمَوْمى الكَفِّ، فَقالَ:
وَمَفيضَ عَبْرَتِها وَمَومى كَفِّها وَرِداءُ عَصْبٍ بَيْنَنا مَنْشورُ
أَنْ أَرْجِ رِحْلَتَكَ الغَداةَ إِلى غَدٍ وَثَواءُ يَوْمٍ إِنْ ثَوَيتَ يَسيرُ( ).
وَقَدْ تَتشَكّلُ حَرَكاتٌ مُركَّبَةٌ تَتَضافَرُ فيها الكَفّانِ مَعَ جارِحَةٍ أُخْرى لِتُشكِّلَ دِلالَةً واحِدةً مِنْ حَركَةٍ مُركَّبَةٍ مُؤتَلِفةٍ في صورَتِها التَّشْكيلِيّةِ مِنْ جَوارَحَ مُتبايِنَةٍ، وَمِنْ ذلِكَ عَضُّ الإِبْهامِ، وَصَكُّ الوَجْهِ، أَمّا الأَخيرةُ فقَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْها كَلامٌ في بابِ القَوْلِ عَلى التَّراسُلِ بِالوَجهِ، وَأَمّا الأولى فَهيَ حَرَكةٌ عالَمِيّةٌ دالّةٌ عَلى الخَوفِ أوِ النَّدَمِ أَوْ ما يَدورُ في فَلَكِ هاتَيْنِ الدِّلالتَينِ، وَقَدْ أَتى عَلَيْها عُمَرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ فَأكْثَرَ مِنْها في شِعْرِهِ، فَقالَ:
فَلَمّا تَقَضّى اللّيْلُ قالَتْ فَتاتُها أَرى قَبْلَ أَنْ يَستَيقِظَ الحَيُّ أَرْفَقُ
وَعَضَّتْ عَلى إِبهامِها وَتَنَكَّبَت قَريبًا وَقالَتْ إِنَّ شَرَّكَ مُلْحِقُ( ).
وَقالَ أَيْضًا:
دَخَلْتُ عَلى خَوْفٍ فَأَرَّقْتُ كاعِبًا هَضيمَ الحَشا رَيّا العِظامِ كَسولا
فَعَضَّتْ عَلى الإِبْهامِ مِنْها مَخافَةً عَلَيَّ وَقالَتْ قَدْ عَجِلْتَ دُخولا( ).
وَقالَ كَذلِكَ:
فَحَيَّيْتُ إِذْ فاجَأتُها فَتَوَلَّهَتْ وَكادَت بِمَخفوضِ التَحِيَّةِ تَجْهَرُ
وَقالَتْ وَعَضَّتْ بِالبَنانِ فَضَحْتَني وَأَنْتَ امرُؤٌ مَيْسورُ أَمْرِكَ أَعْسَرُ( ).
وَقالَ المَجْنونُ:
وَفي الظَّعْنِ بَيْضاءُ العَوارِضِ طَفْلَةٌ مُبتلَّةٌ يُصْبي الحَليمَ ابْتِسامُها
إِذا سُمْتَها التَّقْبيلَ صَدَّتْ وَأَعْرَضَتْ صُدودَ شَموسِ الخَيْلِ ضَلَّ لِجامُها
وَعَضَّتْ عَلى إِبْهامِها حينَ أَوْمَأَتْ أَخافُ عُيونًا أَنْ تَهُبَّ نِيامُها( ).
وَصَفوَةُ المُستخلَصِ مِنْ كُلِّ ما تَقَدَّمَ أنَّ لِلكَفِّ وَالبَنانِ أَثَرًا في التَّواصُلِ وَالتَّراسُلِ الجَسَديَّيْنِ، وَحَسْبي بَعدَ هذا العَرْضِ إِلماحَةُ العَبّاسِ بنِ الأَحْنَفِ إِلى فَضْلِهِما في الإِبانَةِ، وَقِيامِهِما مَقامَ الكَلامِ في حَضْرَةِ الرُّقَباءِ وَالعُيونِ:
يا مَن يُكاتِمُني تَغَيُّرَ قَلْبِهِ سَأَكُفُّ نَفْسي قَبْلَ أَنْ تَتَبَرَّما
سَأَكُفُّ عَنْكَ وَفي يَدَيَّ بَقِيَّةٌ مِنْ حَبْلِ وَصْلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَصَرَّما
يا لَلرِّجالِ لِعاشِقَيْنِ تَوافَقا فَتَخاطَبا مِن غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّما
حَتّى إِذا خَشِيا الوُشاةَ وَأَشْفَقا جَعَلا الإِشارَةَ بِالأَنامِلِ سُلَّما( ).
الرَّقيبُ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ":
وَفي مَسْرَحِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ تَظهَرُ شَخصِيّةُ الرَّقيبِ المُسْتَقبَحَةُ، وَقَريبٌ مِنْ هذِهِ الشَّخصِيّةِ الكاشِحُ، وَالعَذولُ، وَالواشي، وَغالِبًا ما يَكونُ الرَّقيبُ مِنْ مُعوِّقاتِ التَّواصُلِ وَالتَّراسُلِ بَيْنَ العُشّاقِ، وَلَمّا كانَ العاشِقُ يَتَوارى مِنْ عُيونِ الرُّقَباءِ، وَلَمّا كانَ الرُّقَباءُ مُلاحِظينَ وَمٌتابِعينَ لِلعاشِقِ أيْنَما وَلّى وَجْهَهُ، وَصَرَفَ بَصَرَه، لَمّا كانَ ذلِكَ كذلِكَ، وَجَبَ عَلى العُشّاقِ ابتِداعُ وَسائِلَ أُخْرى لِلتّواصُلِ وَالتَّراسُلِ في حَضْرَةِ الرُّقَباءِ، وَوَجَبَ عَلَيهمْ، مِنْ وُجْهَةٍ أُخْرى، التَّعْمِيَةُ عَمّا تُجنُّهُ نُفوسُهمْ، وَالتَّضْليلُ عَمَّا يَعتمِلُ في قُلوبِهمْ، وَسَبيلُهُمْ إِلى هذا المَأْمولِ الصَّعْبِ لُغةُ الجَسَدِ الصّامِتةُ، وَالبَيانُ بِلا لِسانٍ.
وَقَدْ أَتى عَلى ذِكرِ الرَّقيبِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" ابنُ داودَ، فَعقَدَ بابًا سَمّاهُ "مَنْ وَفى لَهُ الحَبيبُ هانَ عَلَيْهِ الرّقيبُ"( )، وَكَذلِكَ أفْرَدَ ابنُ حَزْمٍ بابًا مِنْ أبْوابِ "طَوْق الحَمامةِ" في هذا المَطْلَبِ( ) مُلْمِحًا إِلى سُهْمَةِ عَناصِرَ غَيرِ كَلامِيّةٍ في الإِبانَةِ وَالتَّواصُلِ وَالتَّراسُلِ في حَضْرَةِ الرُّقَباءِ، فَفي مِثلِ تِلْكُمُ المَواقِفِ تَتَوارى الكَلامِيّاتُ، وَتتَجَلّى الصَّمْتِيّاتُ وَالحَرَكِيّاتُ الدّالّةُ المُبينَةُ عَنْ حَواشي النُّفوسِ، وَإِذا لَمْ يَكنْ في الرَّقيبِ حيلَةٌ، وَلا وُجِدَ إِلى تَرَضّيهِ سَبيلٌ "فَلا طَمَعَ إِلاّ بِالإِشارَةِ بِالعَيْنِ هَمْسًا، وَبِالحاجِبِ أَحْيانًا، وَالتَّعْريضِ اللَّطيفِ بِالقَولِ، وَفي ذلِكَ مُتعَةٌ وَبَلاغٌ إِلى حين يَقنعُ بِهِ المُشْتاقُ، وَفي ذلِكَ أقولُ شِعْرًا:
عَلى سِيّدي مِنّي رَقيبٌ مُحافِظٌ وَفِيَّ لِمَنْ والاهُ لَيْسَ بِناكِثِ
وَيَقطَعُ أَسْبابَ اللُّبانَةِ في الهَوى وَيَفعَلُ فيها فِعْلَ بَعْضِ الحَوارِثِ
كَأَنَّ لَهُ في قَلبِهِ ريبَةً تُرى وَفي كُلِّ عَيْنِ مُخْبرٌ بِالأحادِثِ"( ).
وَمِنْ مِثْلِ ما أَشارَ إليْهِ ابنُ حَزْمٍ شِكايةُ "نُصَيْبٍ" لَمّا دَخَلَ عَلى عَبدِ العَزيزِ بنِ مَروانَ، فَقالَ لَهُ الأَخيرُ: هَلْ عَشقْتَ يا نُصَيبُ؟ فَقالَ: نَعمْ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، وَمِنَ العِشْقِ أَفْلَتَتْني إليْكَ البادِيَةُ. قالَ: وَمَنْ عَشِقتَ؟ قالَ: جارِيَةً لِبَني مدلِجٍ، فَأحْدَقَ بِها الواشونَ، فكُنْتُ لا أقدِرُ عَلى كَلامِها إِلاّ بِعينٍ، أَوْ إشارَةٍ، فَأجلِسُ عَلى الطَّريقِ حَتّى تَمرَّ بي فَأراها، فَفي ذلِكَ أَقولُ:
جَلَسْتُ لهَا كَيْمَا تَمرَّ لعَلّي أُخَالِسُها التَّسْليمَ، إِنْ لَمْ تُسَلِّمِ
فَلَمّا رَأَتْني وَالوُشاةَ تَحَدّرَتْ مَدَامِعُها خَوْفًا وَلَمْ تَتَكَلّمِ
مَساكينُ أهْلُ العِشْقِ ما كُنْتُ أشْترِي حَياةَ جَميعِ العاشِقِينَ بِدِرْهَمِ( ).
وَأشْنعُ ما يَكونُ الرَّقيبُ إِذا كانَ مِمَّن امْتُحِنَ بِالعِشْق قَبْلا، وَدُهِيَ بِهِ، ثُمَّ عُرِّيَ عَنْهُ بَعدَ إِحكامِهِ لِمَعانيهِ، فَعندَ ذلِكَ يَكونُ راغِبًا في صِيانَةِ مَنْ يُراقِبُه، عارِفًا بِأدْواءِ أهْلِ العِشْقِ وَسُبُلِهمْ في التَّواصُلِ وَالتَّراسُلِ الجَسديِّ، وَهُوَ عَلى تِلْكَ الحالِ بَلاءٌ –كَما يَصفُهُ ابنُ حَزمٍ- مَصْبوبٌ يَحِلُّ عَلى أهْلِ الهَوى، وَقَدْ قال فيهِ:
رَقيبٌ طالَما عَرَفَ الغَراما وَقاسى الوَجْدَ وَامْتَنَعَ المَناما
وَلاقى في الهَوى أَلَمًا أَليمًا وَكادَ الحُبُّ يورِدُهُ الحِماما
وَأَتْقَنَ حيلَةَ الصَّبِّ المُعَنّى وَلَمْ يُضِعِ الإِشارَةَ وَالكَلاما
وَأعْقَبَه التّسلّي بَعْدَ هذا وَصارَ يَرى الهَوى عارًا وَذاما
وَصَيَّرَ دونَ مَنْ أَهْوى رَقيبًا لِيُبْعِدَ عَنْهُ صَبًّا مُسْتَهاما
فَأيُّ بَلِيّةٍ صُبَّتْ عَلَيْنا وَأيُّ مُصيبَةٍ حَلَّتْ لِماما( ).
وَقَدْ أَتى عَلى مَسْرَحِ العُشّاقِ في حَضْرَةِ الرُّقَباء أهلُ العِشْق مِنَ الشُّعَراءِ، فَوَصَفوهُ لَنا مُسْتَشرِفينَ التَّواصُلَ غَيرَ اللَّفظِيِّ، وَمُحاولَةَ التّواري مِنَ الرُّقَباءِ، وَالتَّخاطبَ مَعَ مَعْشوقيهِم تَخاطُبًا مُنْتسِبًا إِلى الصَّمتِيّاتِ وَالحَرَكِيّاتِ، وَفي ذلِكَ المَسْرَحِ العِشْقِيّ، وَفي تِلْكَ الحَضْرَةِ؛ حَضْرَةِ الرُّقَباء، قَدْ تُضرَبُ المَواعيدُ، وَقَدْ تُلْقى التّحيّةُ، وَالسّلامُ، وَقَدْ يَقعُ التّشَكّي وَالتّشاكي، وَقَدْ يَكونُ التَّواصُلُ وَالتّراسُلُ، كُلّ ذلِكَ عِمادُهُ الجَسَدُ عامّةً، وَالعَيْنُ خاصّةً:
لِنَرجِعِ النَّظرَ في خَمْسةِ مَقاماتٍ وَرَدَتْ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ"، وَأَوّلُها مَشْهَدٌ وَصَفَهُ أَحْمَدُ بنُ طَيْفور، فَقالَ:
وَمُلاحِظٍ سَرَقَ السَّلامَ بِطَرْفِهِ حَذَرَ العُيونِ وَرِقْبَةً لِلحارِسِ
راجَعْتُهُ بِلِسانِ طَرْفٍ ناطِقٍ يُخْفي البَيانَ عَلى الرَّقيبِ الجالِسِ
فَتَكَلَّمَتْ مِنّا الضَّمائِرُ بِالَّذي نُخْفي وَفازَ مُجالِسٌ بِمُجالِسِ( ).
وَفي مَقامٍ آخَرَ مُشاكِلٍ يَفيءُ أهْلُ العِشْقِ إِلى العُيونِ لِتَكونَ مُترجِمَةً عَمّا في القُلوبِ، وَالحَواجِبِ لِتَخطَّ كَلِماتٍ مِنْ نَوعٍ حَرَكِيٍّ يُسَمّى "الغَمزَ":
إِذا خِفْنا مِنَ الرُّقباءِ عَيْنًا تَكلَّمَتِ العُيونُ عَنِ القُلوبِ
وَفي غَمْزِ الحَواجِبِ مُسْتَراحٌ لِحاجاتِ المُحِبِّ إِلى الحَبيبِ( ).
وَفي مَقامٍ ثالِثٍ تَناسَخَ المُراقَبانِ السُّطورَ التي كُتِبَتْ بِالجُفونِ وَعَلَيْها، فَغَدَوا مُتَكلِّمَيْنِ بِكلامٍ غَيرِ لَفظِيٍّ، وَمُتَراسِلَيْنِ تَراسُلاً إِشارِيًّا:
وَمُراقَبَيْنِ يُكاتِمانِ هَواهُما جَعَلا الصُّدورَ لِما تُجِنُّ قُبورا
يَتَلاحَظانِ تَلاحُظًا فَكَأنَّما يَتَناسَخانِ مِنَ الجُفونِ سُطورا( )
وَفي مَقامٍ رابِعٍ تَتَجَلّى التَّعْمِيَةُ في حَضْرَةِ الرَّقيبِ وَالحاسِدِ:
فَيا حَبَّذا سَعْيي إِلَيْها مُكاتِمًا عَلى خِفْيَةٍ مِنْ حاسِدٍ وَمُراقِبِ
وَاللهِ لا أَنْسى تَكاتُمَنا الهَوى إِذا ما جَلَسْنا بَيْنَ لاحٍ وَكاذِبِ
يُخاطِبُها طَرْفي فَيَفْهَمُ طَرْفُها ولَيْسَ لَنا لَفْظٌ بِغَيْرِ الحَواجِبِ( ).
وَفي مَقامٍ خامِسٍ نَجِدُ أَنَّ ثَمَّ عَينَيْنِ اثْنَتينِ: عَيْنًا لِلحَبيبِ تُخالِسُ، وَعَيْنًا لِلرَّقيبِ تُحارِسُ:
وَلي سَكَنٌ إِنْ غابَ أَوْ غِبتُ لَمْ نَجِدْ لِذي البَأسِ عِندَ البَأسِ إِنْسًا نُؤانِسُهْ
كِلانا يُناجي في الضَّميرِ حَبيبَهُ بِأَلْسُنِ عِشْقٍ لَفظُهُنَّ وَساوِسُهْ
وَمَهْما التَقَيْنا وَالوُشاةُ فَطَرْفُهُ يُخالِسُ نَحْوي بِالهَوى وَأُخالِسُهْ
لِعَيْنِيَ مِنْ عَيْنَيْهِ عَيْنٌ تَفَرَّدَتْ بِلَحْظي وَأُخْرى لِلرَّقيبِ تُحارِسُهْ( ).
التَّعْمِيَةُ وَالتَّضْليلُ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ":
وَمِنْ أَعْرافِ "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ مُحاوَلَةُ سترِ المَحبَّةِ وَإخْفائِها، وَعَدمُ التَّواصُلِ في حَضْرَةِ الوُشاةِ، وَالعُذّالِ، والرُّقَباء، وَلكِنَّ العاشِقَ أمْرُهُ مَفْضوحٌ، وَعَينُهُ بِهِ نامّةٌ، وَحَرَكاتُهُ وَسَكَناتُهُ عَلَيْهِ دالّةٌ، وَبِهِ واشِيَةٌ:
وارَحْمَةً لِلعاشِقينَ تَكَلّفوا ستْرَ المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاحُ( )
وَلِذا وَجَبَ أَنْ يُعمِّيَ عَنْ عِشقِهِ بِحَرَكاتٍ جَسَدِيَّةٍ ساتِرةٍ لِمَعْنى العِشْقِ المَرْكوزِ في نَفسِهِ، أَوْ ناسخَةٍ لَهُ ظاهِريًّا، وَقَدْ تَصدُرُ عَنْهُ حَرَكاتٌ جَسَدِيَّةٌ فاضِحةٌ لأَمْرِهِ وَعِشقِهِ، وَآنَ هذا يَعمِدُ إِلى الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةِ لتَضْليلِ النّظّارةِ مِنْ رُقَباءَ، وَعُذّالٍ، وَكُشَّحٍ، كَتْمًا لِلعِشقِ، وَصَوْنًا لِلمَعْشوقٍِ، وَمُراعاةً لِلضّميرِ وَالمَشاعِرِ، وَاللاّفِتُ لِلخاطِرِ أَنَّ فَواضِحَ عِشقِهِ إِنَّما يَأتي بَعْضُها مِنْ "لُغةِ الجَسَدِ"؛ كَالعَيْنِ، وَالنَّظْرَةِ، وَالدَّمْعةِ، وَأَنَّ سَواتِرَ العِشْقِ إِنَّما يَأتي بَعضُها مِنْ لُغةِ الجَسَدِ كَذلكَ، فَالضِّدّانِ: السّواتِرُ وَالفَواضِحُ، مَصْدَرُهُما واحِدٌ، وَأَداتُهُما في هذا السِّياقِ واحِدةٌ.
أَوّلاً: التَّعْمِيَةُ بِصَرْفِ النَّظَرِ تِلْقاءَ جِهَةٍ ما:
وَمِن الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةِ الفَواضِحِ إِدْمانُ النَّظرِ، وَصَرفُهُ تِلقاءَ المَعْشوقِ، وَلَعلَّ ذلِكَ مُفْضٍ إِلى تَعيّنِ شَخْصِ المَعْشوقِ وَمَكانِهِ وَمَقرِّهِ، وَلِذلِكَ أَوْصَتْ مَعشوقَةُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ عَلى لِسانِهِ أَنْ يَمنَحَ طَرفَ عَينَيْهِ غَيْرَها، وَأنْ يُولّي وَجهَهُ شَطْرًا غَيرَ شَطرِها، لِيَكونَ في هذِهِ الحَرَكةِ الجَسَدِيَّةِ التي هِيَ صَرفُ النَّظرِ عَنْها صَرفُ نَظَرٍ لِلنّظّارَةِ عَنْ شَخصِ المَعْشوقَةِ أَوْ مَكانِها، إِنّها إِذًا حَرَكَةٌ جَسَدِيَّةٌ حَمّالَةٌ في مَقْصِدِها الكُلّيِّ، وَمَغْزاها المَقامِيِّ، لِمَعْنى التَّضْليلِ وَالتَّعمِيَةِ:
إِذا جِئتِ فَامْنَحْ طَرْفَ عَينَيْكَ غَيْرَنا لِكَيْ يَحْسِبوا أَنَّ الهَوى حَيْثُ تَنظُرُ( ).
وَمِمّا يَسيرُ بِرَكْبِ ما تَقَدَّمَ قَولُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ مُعزِّزًا هذا المَعْنى، مُلتَمِسًا فَضْلَ لُغةِ الجَسَدِ في التَّعْمِيَةِ وَالاسْتِخفاءِ وَالتَّضْليلِ، وَنَصْبِ مَعْنًى مُخالِفٍ لِهَوى نَفسِهِ في نَفْسِ النّظّارَةِ أَوِ الرُّقَباءِ:
لَمّا دَخَلتُ مَنَحْتُ طَرْفي غَيْرَها عَمْدًا مَخافَةَ أَنْ يُرى رَيعُ الهَوى( ).
وَإِذا كانَتِ الوَصِيّةُ في قِصّةِ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ مِنَ المَعْشوقَةِ إِلى العاشِقِ، فَإنَّ الأَمْرَ بِالضّدِّ عِندَ آخَرَ؛ إِذْ إِنّهُ يَطلُبُ إِلَيْها أَنْ تَغضَّ جُفونَها عَنْهُ، وَأنْ تَنظُرَ أَمَمًا حِفْظًا لِهذا المَفْهومِ العِشْقِيِّ، وَخَوْفًا مِنَ افْتِضاحِ العِشْقِ، وَاحْتِراسًا مِنْ وِشايَةٍ قَدْ تَتخَلّقُ مِنْ هَيْئَةِ نَظْرتِها وَاتِّجاهِها:
غُضّي جُفونَكِ عَنّي وَانْظُري أَمَمًا فَإِنَّما افتُضِحَ العُشّاقُ بِالمُقَلِ( ).
ثانِيًا: التَّعْمِيَةُ بِصَرْفِ النَّظَرِ تِلْقاءَ السَّماءِ أَوِ الأَرْضِ:
وَما مِنْ رَيْبٍ أَنَّ النَّظْرَةَ، وَهَيئَتَها، وَاتّجاهَها، كُلّ ذلِكَ دالٌّ يُفاءُ إليْهِ في التّواصُلِ، وَيُعتَمَدُ عَلَيْهِ في إِقامَةِ الأَحْكامِ، وَتَقْريرِ الأَدلّةِ، وَقَدْ تَبايَنَ أهلُ العِشْقِ في ستْرِ ذلكَ، فَمِنْهمْ مَنْ سَتَرَ ذلِكَ بِمَنحِ طَرْفِ عَيْنيْهِ ناحِيةً ما، وَقَدْ تَقَدَّمَ هذا آنِفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أعْرَضَ عَنِ النَّظرِ إِلى المَعْشوقِ مُولِّيًا نَظَرَه إِلى الأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أعْرَضَ مُولِّيًا نَظَرَه إِلى السَّقْفِ، كُلّ ذلِكَ مِمّا يُعدُّ مُحاوَلَةً لِصَرفِ نَظَرِ الجُلَساءِ وَالرُّقَباءِ عَنِ المَعْشوقِ، وَاسْتِدراجِهِ إِلى غَيرِ مَكانِ نَظرِ القَلبِ، وَفي صَرفِ النَّظَرِ نَحوَ السَّقفِ تَعميَةٌ قالَ عَنْها أَحمَدُ بنُ طَيْفور:
إِذا ما التَقَيْنا وَالوُشاةُ بِمَجْلِسٍ فَلَيْسَ لَنا رُسلٌ سِوى الطَّرفِ بِالطَّرْفِ
فَإِنْ غَفَلَ الواشونَ فُزْتُ بِنَظْرَةٍ وَإِنْ نَظَروا نَحْوي نَظَرْتُ إِلى السَّقْفِ
أُسارِقُ مَوْلاها السُّرورَ بِقُرْبِها وَأَهْجُرُ أَحْيانًا وَفي هَجْرِهِم حَتْفي( ).
وَفي النَّظرِ إِلى الأَرْضِ قالَ الشّاعِرُ:
إِذا غَفِلوا عَنَّا نَطَقْنا بِأعْيُنٍ مِراضٍ وَإِنْ خِفْنا نَظَرْنا إِلى الأَرْضِ
شَكَا بَعْضُنا لَمَّا التَقَيْنا تَسَتُّرًا بِأَبْصارِنا ما في النُّفوسِ إِلى بَعْضِ( ).
وَقَدْ حاوَلَ ذلِكَ صَريعُ الغَواني حينَ ذَهبَ زائِرًا وَلَمْ يُحِدَّ نَظرَةَ عَينَيْهِ دَفعًا لِوَهمِ العاذِلِ، وَسترًا لِلعِشقِ ، وَلكنّهُ أيْقَنَ أَنَّ العَيْنَ فاضِحَةٌ أمْرَه، هاتِكةٌ ما يُحاوِلُ سَتْرَهُ:
ذَهَبتُ وَلَمْ أُحَدِد بِعَينِيَ نَظرَةً وَأَيقَنتُ أَنَّ العَينَ هاتِكَةٌ سَتْري( ).
ثالِثًا: التَّعْمِيَةُ بِصَدِّ الوَجْهِ وَإِعْراضِ الجَسَدِ:
وَقَريبٌ مِنْ حيلَةِ صَرْفِ النَّظَرِ عَنِ المَعْشوقِ الصّدُّ وَالإِعْراضُ بِالوَجْهِ وَالجَسَدِ دونَ القَلبِ وَالهَوى، وَفي ذلِكَ قالَ:
إِذا جِئتُها وَسْطَ النَّساءِ مَنَحْتُها صُدودًا كَأنَّ النَّفْسَّ لَيْسَ تُريدُها
وَلي نَظْرَةٌ بَعدَ الصُّدودِ مِنَ الجَوى كَنَظرَةِ ثَكْلى قَدْ أُصيبَ وَحيدُها( ).

وَمِنْ مِثْلِ ما تَقَدَّمَ أَنَّ عاشِقًا نَأى بِجانِبِهِ عَنْ مَعْشوقِهِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ إِعْراضًا جَسَديًّا مُجْتَلَبًا المَقْصِدُ مِنْهُ التّعميَةُ وَالإِخْفاءُ، فَقالَ في ذلِكَ واصِفًا الإِعْراضَ الجَسَديَّ، وَالإِقْبالَ القَلبِيَّ:
أَمُرُّ مُجَنِّبًا وَهَوايَ فيهِ وَطَرْفي عَنْهُ مُنْكَسِرٌ كَليلُ
وَقَلْبي فيهِ مُحْتَبِسٌ فَهَلْ لي إِلى قَلْبي وَمالِكِهِ سَبيلُ( ).
وَمِثلُهُ قَوْلُ آخَرَ:
حَبيبي حَبيبٌ يَكْتُمُ النَّاسَ أنَّهُ لَنا حينَ تَرْمينا العُيونُ حَبيبُ
يُباعِدُني في المُلْتَقى وَفُؤادُهُ وَإِنْ هُوَ أَبْدى لي البِعادَ قَريبُ
وَيُعْرِضُ عَنِّي وَالهَوى مِنْهُ مُقْبِلٌ إِذا خافَ عَيْنًا أَوْ أَشارَ رَقيبُ
فَتَخْرَسُ مِنَّا أَلْسُنٌ حينَ نَلْتَقِي وَتَنْطِقُ مِنَّا أَعْيُنٌ وَقُلوبُ( ).
وَفي مَقامٍ عِشْقِيٍّ آخَرَ يُوصيهِ أهْلُ خاصّتِهِ وَبِطانتِهِ بِإِخفاءِ الهَوى، وَعَدمِ البَوْحِ بِهِ، وَلكِنَّ هذِهِ المُحاوَلةَ المُنْتَسِبَةَ إِلى التَّعْمِيَةِ وَالاسْتِخفاءِ وَالتَّضْليلِ مَفْضوحةٌ بِالعَيْنِ الواشِيةِ بِالعِشقِ، وَالمُتَكلّمَةِ عَنْ صاحِبِها، وَالمُنْبِئةِ عَنْ ضَميرِهِ المَكْنونِ بِمَقالِهِ، وَالمَفْضوحِ بِأحْوالِهِ:
يَقولونَ لي أَخْفِ الهَوى لا تَبُحْ بِهِ وَكَيْفَ وَطَرفي بِالهَوى يَتَكَلَّمُ( ).
رابِعًا: تَعْمِيَةُ البُكاءِ وَإِخْفاؤُهُ:
- إِخْفاءُ البُكاءِ بِالتَّثاؤُبِ:
أَمّا البُكاءُ فقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلاً أَنَّهُ مِنْ عَلائِمِ المَحبّةِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ"، وَأَنَّ الشّعراءَ قَدْ أوْردوهُ كَثيرًا في أشْعارِهِمْ، وَأنّهُ، مِنْ وُجْهَةٍ ثالِثةٍ، مِمّا يَفضَحُ العاشِقَ، وَيذيعُ سِرَّهُ، وَلَمّا كانَ ذلِكَ كذلِكَ، كانَ لا بُدَّ لِلعاشِقِ مِنَ اصْطِناعِ حَرَكاتٍ جَسَدِيَّةٍ تَكونُ كَالدَّوافِعِ لَه، أَوِ السَّواتِرِ لِلعاشِق وَالمَعْشوقِ، وَمِنْ هذِهِ الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةِ التّثاؤُبُ المُجتَلَبُ الذي حاوَلَ الشّاعِرُ أنْ يَسترَ بُكاءً باعِثُهُ العِشقُ، وَعَيْنًا أَمَضّها النَّوى:
وَلَمّا أَبَتْ عَيْنايَ أَنْ تَكْتُما البُكا وَأَنْ تَحْبِسا سَحَّ الدُّموعِ السَّواكِبِ
تَثاءَبْتُ كَيْ لا يُنْكِرَ الدَّمعَ مُنْكِرٌ وَلكِنْ قَليلاً ما بَقاءُ التَّثاؤُبِ( ).

- إِخْفاءُ البُكاءِ بِالنَّظَرِ إِلى أَعْلى:
وَفي مَسْرَحٍ عِشْقِيٍّ آخَرَ غَدا العَبّاسُ بنُ الأَحْنَفِ بُكاؤُهُ دَليلٌ عَلى هَواهُ، وَلَمْ يَكنْ ثَمَّ بُدٌّ مِنْ سِتْرِ هذا الدّليلِ، أَوْ دَفعِهِ، فَعَمَدَ إِلى التَّعْمِيَةِ المُنْتَسِبَةِ إِلى "لُغةِ الجَسَدِ" مُقَرِّرًا وُجوبَ مُداراةِ الجَليسِ عَلى البُكاءِ، وَإِنْ غالَبه البُكاء فَلَمْ يَقوَ عَلى رَدِّه، فعَلَيْهِ أَنْ يَنظُرَ إِلى أفُقِ السَّماءِ طَويلاً:
أَمْسى بُكاكَ عَلى هَواكَ دَليلا فَامْنَعْ دُموعَكَ أَنْ تَفيضَ هُمولا
دارِ الجَليسَ عَلى البُكاءِ فَإِنْ بَدا فَانْظُرْ إِلى أُفُقِ السَّماءِ طَويلا( ).
- إِخْفاءُ البُكاءِ بِالبُرْدِ:
وَفي مَوقِفٍ عِشْقِيٍّ آخَرَ انْهَملَ دَمْعُ العاشِقِ في الرِّداءِ صَبابَةً، فَجَنحَ إِلى سَتْرِهِ بِبُردِهِ، وَإِخفائِهِ عَنْ صِحابِهِ، وَلكِنَّ أحَدَهمُ التَفَتَ إِلى ذلِكَ فَتَنبَّهَ لِمَعْناه، فَقالَ لَهُ مُكاشِفًا، فَأنْكَرَ الشّاعِرُ ذلِكَ سَتْرًا لِلعِشقِ، وَدَفْعًا لِظَنِّ جَليسِهِ، وَإِلْحاحًا عَلى إِبْرازِ جَلَدِهِ، جانِحًا إِلى أنّ البُكاءَ باعِثُهُ رَمَدٌ أَهاجَ العَيْنَ بِالتَّسْكابِ:
فَانْهَلَّ دَمْعي في الرِّداءِ صَبابَةً فَسَتَرتُهُ بِالبُرْدِ دونَ صِحابي
فَرَأى سَوابِقَ عَبْرَةٍ مُهَراقَةٍ بَكْرٌ فَقالَ بَكى أَبو الخَطّابِ
فَمَرَيْتُ نَظرَتَهُ وَقُلْتُ أَصابَني رَمَدٌ فَهاجَ العَيْنَ بِالتَّسْكابِ( ).
- إِخْفاءُ البُكاءِ بِالأَنامِلِ:
وَقَدْ يَعمِدُ العاشِقُ لِستْرِ هذا الفاضِحِ الجَسدِيِّ إِلى أَنامِلِهِ كَما هيَ حالُ صَريعِ الغَواني:
إِنّي لأَسْتُرُ عَبْرَتي بِأَنامِلي جُهْدي لِتَخْفى وَالبُكاءُ مُغالِبي( ).
خامِسًا: التَّعْمِيَةُ بِمَحْوِ الأَثَرِ الجَسَدِيِّ:
- التَّعْمِيَةُ بِمَحْوِ الأَثَرِ في التُّرابِ:
وَقَدْ تَكونُ التَّعْمِيَةُ سَبيلُها مَحوُ الأَثَرِ الجَسَديِّ أَوِ المَعنوِيِّ، كَآثارِ المِشيَةِ في التُّرابِ، أَوْ أَثَرِ الطّيبِ، أَوْ غَيرِ ذلِكَ مِمّا يَشيعُ في مُلتَقى العُشّاقِ، فقَدْ يُرى مِنَ العاشِقِ الزّائِرِ عَلاماتٌ وَآثارٌ مُنْبِئَةٌ عَنْ تَواصُلِهِ أَوْ وَصْلِه، دالّةٌ عَلى كَوْنِهِ قَدْ ألَمَّ بِدِيارِ المَعْشوقَةِ أَوْ بَيتِها، ولَيْسَ ثَمَّ بُدٌّ مِن مَحْوِ هذا الأَثَرِ وَدَرسهِ، وَقَدْ تَجلَّتْ هذِهِ الصّورَةُ في شِعْرِ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ غَيرَ مَرّةٍ، وَمِنْها:
يَسْحَبْنَ خَلفي ذُيولَ الخَزِّ آوِنَةً وَناعِمَ العَصْبِ كَيْلا يُعرَفَ الأَثَرُ( ).
وَمِثْلُها:
ثُمَّ قُمْنا لَمّا تَجَلّى لَنا الصُبْ حُ نُعَفّي أَثارَنا بِالتُّرابِ( )
وَمِثْلُها:
تُعَفّي عَلى الآثارِ أَنْ تُعْرَفَ الخُطى ذُيولُ ثِيابٍ يُمْنَةٍ وَمَطارِفُ( ).
- التَّعْمِيَةُ بِمَحْوِ أَثَرِ القُبْلَةِ في الخَدِّ:
وَمِنْ تَجلّياتِ "مَحْوِ الأَثَرِ" في أدِبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ مَسْحُ أثَرِ القُبْلةِ التي أَثَّرَتْ في الخَدِّ، وَقَدْ صَوَّرَ أبو نُواسٍ هذا المَشْهَدَ تَصويرًا فَنّيًّا قائِمًا عَلى كَونِ أثَرِها مِمّا يُرى في الوَجْهِ كَالخَطٍّ، فَيُعجَمُ، فَيُقْرَأ، وَلِذا وَجَبَ مَحْوُها بِالمَسْحِ، ولَيْسَ يَخْفى أنّهُ مَشْهَدٌ يَنتسِبُ إِلى التَّواصُلِ غَيرِ اللَّفظِيِّ عامّةً، وَلُغةِ الجَسَدِ خاصّةً:
يا ماسِحَ القُبْلَةِ مِنْ خَدِّهِ مِنْ بَعْدِ ما قَدْ كانَ أَعْطاها
خَشيتَ أَنْ يَعْرِفَ إِعْجامَها مَوْلاكَ في الخَدِّ فَيَقْراها
وَلَوْ عَلِمْنا أَنَّهُ هَكَذا كُنّا إِذا بُسْنا مَسَحْناها
فَصارَ فيها رَسْمُها باقِيًا يَعْرِفُها مَنْ يَتَهَجّاها
وَلا تَرَكناها عَلى حالِها وَلامُها مِنْها مَحَوْناها
فَكانَ باقي الإِسمِ لي قُبَّة بِالفَتْحِ في خَدِّكَ مَجْراها( ).
- التَّعْمِيَةُ بِإِقْلالِ الطِّيبِ:
وَمِنْ تَجَلّياتِ التَّعْمِيَةِ المُنْتَسِبَةِ إِلى "مَحوِ الأَثَرِ" إِقلالُ الطّيبِ؛ ذلِكَ أَنّهُ مِنَ المُتمِّماتِ المُسانَدَةِ الهادِيَةِ إِلى مَعانٍ مَخْصوصَةٍ، فَفي مَقامٍ عِشْقِيٍّ ظَهَرَ أنَّ الطّيبَ قَدْ يَفوحُ إِذا ما زارَ العاشِقُ وَقَدْ تَضَمّخَ بِهِ فَأكْثرَ مِنْهُ، فقَدْ يَقومُ في نَفسِ أهْلِها أنَّ ثَمَّ زائِرًا مُنْتابًا قَدْ ألَمَّ بِدارِها، وَهذا مِنَ التَّواصُلِ غَيْرِ اللَّفظِيِّ، وَلِذلِكَ وَصَّتِ المَعشوقَةُ بَشّارًا بِأَنْ يُقلَّ تَطَيّبًا خَشيَةَ فَوْحِ المِسكِ، فَتكونَ غَرَضًا لِلْعِدى:
لَمْ أَنْسَ ما قالَتْ وَأَترابُها في مَعْرَكٍ يَنْظِمْنَ مِسْباحا:
أَقْلِل مِنَ الطّيبِ إِذا زُرْتَنا إِنّي أَخافُ المِسْكَ إِنْ فاحا
لا تَترُكَنّا غَرَضًا لِلعِدى إِنْ كُنْتَ لِلأَهْوالِ سَبّاحا
لَمْ أَدْرِ أَنَّ المِسْكَ واشٍ بِنا إِنَّ حارَ بابُ الدارِ مِسْباحا( ).

المِشْيَةُ في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ:
تَتبايَنُ المِشيَةُ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" تَبايُنًا باعِثُهُ السِّياقُ الذي وَرَدَتْ فيهِ، وَلِلسِّياقِ، في الأَنْظارِ اللِّسانِيّةِ الحَديثَةِ، مَفْهومٌ عَريضٌ فَضْفاضٌ يَشتَمِلُ عَلى شُخوصِ الحَدَثِ الكَلامِيِّ، وَزَمانِهِ، وَمَكانِهِ، وَآثارِهِ، وَالأَنْظارِ الخارِجِيّةِ المُلابِسَةِ لَهُ، فقَدْ تَكونُ المِشْيةُ هَيئَتُها استِخْفاءٌ في سِياقٍ ما، واستِحْياءٌ في سِياقٍ آخَرَ، وَتَبَختُرٌ وَتَخايلٌ في سِياقٍ ثالِثٍ، وَتَفتّلٌ وَتَثنٍّ وتَأَوّدٌ في سِياقٍ رابِعٍ، وَإِسْراعٌ في خامِسٍ، وَقَدْ تَكونُ المِشيَةُ مِشيةَ رَجلٍ، وَقَدْ تَكونُ مِشيَةَ أُنْثى مِكْسالٍ تَمْشي الهُوَيْنا كَما يَمْشي الفَتى الوَجِلُ، وَلِلعاشِقِ مِشْياتٌ خاصَّةٌ في الثَّقافَةِ العَربِيّةٍ، وَلِلمَعْشوقِ مِشْياتٌ أُخْرى مُفارِقَةٌ في أَحْيانٍ، وَقَدْ أَتى العُشّاقُ مِنَ الشُّعَراءِ عَلى كُلِّ ما تَقَدَّمَ مِنْ أَوْصافٍ وَهَيْئاتِ مَشْيٍ، فَرَسَموها بِالكَلِماتِ في أَشْعارِهِمْ، وَجَسَّدوها بِصُوَرٍ مُتَخيَّلَةٍ جادَتْ بِها قَرائِحُهمْ، مُلتَفِتينَ في ذلِكَ إِلى دِلالاتِها مِنْ وُجْهَةٍ تَواصُلِيّةٍ، وَنَفسيّةٍ، وَاجتِماعِيّةٍ.
وَمِنَ الهَيْئاتِ التي شاعَتْ في أدَبِ العِشْقِ والعُشّاقِ مِشيَةُ المَرْأةِ المِكْسالِ المُتَهادِيةِ، وَمِشيَةُ الهُوَيْنا، وَمِشيَةُ الوَسْنى وَالنَّشْوى، وَمِشيَةُ الخائِفةِ المُسْتَخْفيَةِ، وَغَيرُ ذلِكَ، وَجِماعُ دِلالاتِ ما تَقَدَّمَ الرِّقّةُ وَالنُّعومَةُ مِنْ جِهةٍ، وَالتّنَعّمُ وَالرَّخاءِ مِنْ جِهةٍ ثانِيةٍ، وَالإِغْراءُ الجِنسِيُّ مِنْ جِهةٍ ثالِثةٍ.
لِنَنظُرْ فيما يَأتي مِنْ هَيْئاتٍ جَسَدِيَّةٍ مِضمارُها "المِشيَةُ":
-مِشْيَةُ التَّهادي وَالتّأوّدِ:
وَقَدْ أتى عَلى هذِهِ الهَيْئَةِ عُمرُ بنُ أبي رَبيعَةَ، فَقالَ:
بِكُلِّ كَعابٍ طَفْلَةٍ غَيْرِ حَمْشَةٍ وَتَمْشي الهُوَينا ما تُجاوِزُهُ فِتْرا
وَظَلَّتْ تَهادى ثُمَّ تَمْشي تَأَوُّدًا وَتَشْكو مِرارًا مِنْ قَوائِمِها فَتْرا( ).
وَمِثلُها ما جاءَ بِهِ ابنُ زَيدون:
تَهادى لَطيفَةَ طَيِّ الوِشاحِ وَتَرْنو ضَعيفَةَ كَرِّ المُقَلْ
مَشَيْنَ يُهادِينَ رَوْضَ الرُّبى بِيانِعِ رَوْضِ الصِّبا المُقتَبَلْ
فَمِنْ قُضُبٍ تَتَثَنّى بِريحٍ وَمِن قُضُبٍ تَتَثَنّى بِدَلّ( ).
وَمِنْ مِثْلِ ما تَقَدَّمَ مِنْ مِشْيَةٍ دِلالتُها التّنعّمُ وَالنّعومةُ قَوْلُ كُثَيّرٍ:
وَلَمّا تَدانى الصُّبحُ نادَوْا بِرحلَةٍ فَقُمنَ كَسالى مَشْيُهُنَّ تَأَوُّدُ( ).
وقَوْلُ القُطامِيِّ:
فأَقْبَلنَ ما يَمْشينَ إِلاّ تَأوّدًا حِسانُ الوُجوهِ ضافِياتُ الذَّوائبِ( ).
وقَوْلُ عُمرَ بنِ أبي رَبيعَةَ:
وَتَمْشي في تَأَوُّدِها هُوَينا المَشْيِ في بَدَدِ
كَما يَمْشي مَهيضُ العَظْ مِ بَعْدَ الجَبْرِ في الصَّعَدِ( ).
- مِشْيَةُ الوَجِلِ المُترقِّبِ:
وَفي مَسْرَحٍ عِشْقِيٍّ آخَرَ تَبْدو المَعْشوقَةُ خائِفةً مُترقِّبَةً تَنظُرُها أعْيُنُ الرُّقَباءِ، فَيَغْشاها ما يَغْشاها مِنْ خَوفٍ تَظهرُ عَلائِمُهُ عَلى الجَوارِحِ وَالهَيْئاتِ الجَسَديّةِ، فَتَغْدو المِشْيَةُ كَاستِخْفاءِ الوَجِلِ وَالمُترقِّبِ، وَمِمّا يُجلّي هذِهِ الهَيْئَةَ وَصفُ صَريعِ الغَواني لِهذا المَشْهَدِ الحَرَكِيِّ:
وَزائِرَةٍ رُعْتُ الكَرى بِلِقائِها وَعادَيْتُ فيها كَوْكَبَ الصُّبْحِ وَالفَجْرا
أَتَتْني عَلى خَوْفِ العُيونِ كَأَنَّها خَذولٌ تُراعي النَّبْتَ مُشعَرَة ذُعْرا
إِذا ما مَشَتْ خافَتْ نَميمَةَ حَلْيِها تُداري عَلى المَشْيِ الخَلاخيلَ وَالعِطْرا( ).
وَمِنْ مِثْلِ ما تَقَدَّمَ مِنْ مِشْيَةٍ هَيئَتُها الخَوفُ تَصويرُ القُطامِيِّ لمِشْيَةِ مَعْشوقَتِهِ بِمِشْيَة الأَفْعى المُنْحازَةِ جانِبًا مَخافَةَ الضّارِبِ:
فَسلَّمْتُ وَالتَّسليمُ لَيْسَ يَسُرُّها وَلكنّهُ حَقٌ عَلى كُلِّ جانِبِ
فَرَدَّتْ سَلامًا كارِهًا ثُمَّ أَعرَضَتْ كَما انْحازَتِ الأَفْعى مَخافَةَ ضارِبِ( ).
وَكَذلِكَ وَصْفُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ لِمِشْيَة مَعشوقَتِهِ في رِقبَةٍ مِنَ الخَوفِ:
فَجاءَت تَهادى عَلى رِقْبَةٍ مِنَ الخَوفِ أَحْشاؤُها تُرعَدُ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُهُ في مَقامٍ آخَرَ:
قامَتْ تَراءى عَلى خَوْفٍ تُشَيِّعُني مَشْيَ الحَسيرِ المُزَجّى جُشِّمَ الصَّعَدا( ).
-مِشْيَةُ التَّبخْترِ وَالاخْتِيالِ:
وَمِنَ الهَيْئاتِ الدّالّةِ عَلى الاخْتِيالِ وَالتّكبّرِ قَوْلُ عُمرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ:
لَمْ يُصِبْها نَكَدٌ فيما مَضى ظَبْيَةٌ تَخْتالُ في مِشْيَتِها( ).
- مِشْيَةُ الغِوايَةِ:
وَقَدْ تَكونُ دِلالةُ المِشْيَةِ الغِوايَةَ وَاستِدْعاءَ شَهوَةِ العاشِقِ، وَمِنَ المُثُلِ الدّالّةِ عَلَيْها قَوْلُ أَبي نُواسٍ مُصوِّرًا تَمايلَ المَرْأةِ وَتَثَنِّيَها وَهِيَ تُحاوِرُهُ:
قالَتْ وَقَدْ جَعَلَتْ تَمايَلُ لي كَتَمايُلِ الماشي عَلى الدَّفِّ( ).
وَفي أَخْبارِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ يَرْوي ابنُ حَزْمٍ أنَّ جارِيَةً اشتَدَّ وَجْدُها بِفَتًى مِنْ أَبْناءِ الرّؤَساءِ، وَهُوَ لا عِلمَ عِندَهُ، فَكَثرَ غَمُّها، وَطالَ أَسَفُها إِلى أَنْ ضَنِيَتْ بِحبِّهِ، فَلَمّا تَمادى الأَمْرُ، عَرَّضَتْ لَهُ بِالشِّعْرِ، فَلَمْ يَأبَهْ في كُلِّ هذا إِلى أنْ عيلَ صَبْرُها، وَضاقَ صَدرُها، وَلَمْ تُمْسِكْ نَفسَها في قَعْدَةٍ كانَتْ لَها مَعَه في بَعضِ اللَّيالي مُنْفَرِدَيْنِ، وَلَمّا حانَ قِيامُها عَنْهُ بَدَرَتْ إِليْهِ فَقَبّلَتْهُ، ثُمَّ وَلَّتْ في ذلِكَ الحينِ وَلَمْ تُكلِّمْه بِكَلمَةٍ، وَهِيَ تَتَهادى في مَشْيِها أَمامَه وَتَتَبخْترُ، فَوَصفَ ذلِكَ ابنُ حَزْمٍ قائِلاً مُصوِّرًا مَشْيَها في صُوَرٍ بَيانِيّةٍ عَذْبَةٍ:
كَأنَّها حينَ تَخْطو في تَأوّدِها قَضيبُ نَرْجسَةٍ في الرَّوْضِ مَيّاسُ
كَأنَّما خُلْدُها في قَلْبِ عاشِقِها فَفيهِ مِنْ وَقْعِها خَطَرٌ وَوَسْواسُ
كَأنَّما مَشيُها مَشْيُ الحَمامَةِ لا كَدٌّ يُعابُ وَلا بُطءٌ بِهِ باسُ( ).
تِلْكَ بَعضُ هَيْئاتِ مَشْيِ المَعْشوقِ في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ، وَلِمِشْيَةِ العاشِقِ صُوَرٌ أُخْرى عِندَهُمْ، فَكَثيرًا ما يَكونُ يَرقُبُ غَفلَةً مِنْ أهْلِها، أوْ مِنَ الرُّقَباءِ لِيَنالَ حَظًّا مِنْها، وَقَدْ يَتجاوَزُ أحْراسًا عَلَيْها وَمَعْشرًا حِراصًا لَوْ يُسرّونَ مَقْتلَه، فَتَكونُ مِشيَتُهُ في هذا المَشْهَدِ العِشْقِيِّ كمِشْيَةِ المُسْتَخْفي في اللّيْلِ، أَوِ السّارِبِ بِالنَّهارِ، وَمِنْ هذِهِ المَشاهِدِ التي تَجَلَّتْ في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ ما رَسَمَه صَريعُ الغَواني وَهُوَ يُقابِلُ بَيْنَ هَيئَتيْنِ: مِشْيَةِ المَعشوقِ الماشي الهُوَيْنا، وَمِشْيَة العاشِق المُرادِفِ الماشي في خِفْيةٍ وَاسْتِتارٍ:
قامَتْ تَمَشّى الهُوَينا نَحْوَ قُبَّتِها وَقُمْتُ أَمْشي خَفِيَّ الشَّخْصِ مُسْتَتِرا( ).
وَكَذلِكَ كانَتْ مِشْيَةُ عُمَرَ بنِ أَبي رَبيعَةَ مُنْضافًا إِلَيْها تَقنُّعُه وَقَدْ وَصَفَ نَفسَه بِأَنَّهُ أَخو الخَفاءِ في مِشيَتِهِ وَتَقنُّعِه:
فَأَتَيْتُهُم عِنْدَ العِشاءِ مُخاطِرًا حَذِرَ الأَنيسِ وَلَيْسَ شَيْئًا يَسمَعُ
أَقبَلْتُ أُخْفي مِشْيَتي مُتَقَنِّعًا وَأَخو الخَفاءِ إِذا مَشى يَتَقَنَّعُ( ).
وَفي مَشْهَدٍ ثالِثٍ مُضارِعٍ لِما تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مَشى عُمَرُ وَهُوَ يُخْفي وَطْأََهُ مَخافَةَ العُيونِ وَالنُّظّارِ، يَرفَعُ ذَيْلَ ثِيابِهِ حَتّى يُخْفِيَ آثارَه التي قَدْ يُهْتَدى بِها إِليْهِ، فَتكون عُنْصرًا مِنْ عَناصِرِ التَّواصُلِ غَيْرِ اللَّفظِيِّ:
ثُمَّ أَقبَلْتُ رافِعَ الذَّيْلِ أُخْفي الْ وَطْءَ أَخْشى العُيونَ وَالنُظّارا( ).
وَكَذلِكَ قَولُهُ:
فَقَعَدتُ مُرتَقِباً أُلِمُّ بِبَيْتِها حَتّى وَلَجْتُ بِهِ خَفِيَّ المَوْلَجِ( ).
وَقَولُهُ:
وَخُفِّضَ عَنّي النَّوْمُ أَقبَلْتُ مِشيَةَ الْ حُبابِ وَرُكْني خَشْيَةَ الحَيِّ أَزْوَرُ( )
مَقولاتٌ كُلّيّةٌ:
وَبَعْدَ هذا العَرْضِ الآخِذِ في اسْتِشرافِ مَلامِحَ مِنْ لُغَةِ الجَسَدِ في أَدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ يَقومُ في النَّفْسِ سُؤالٌ خائِضٌ في تَفْسيرِ شُيوعِ هذِهِ الظّاهِرَةِ وَتَكاثُرِها في هذا المِضْمارِ، وَيَبْقى حَقًّا عَلى الباحِثِ الإِجابَةُ عَنْه اسْتِكمالاً لِمُتَطلَّباتِ البَحْثِ، وَاسْتِشْرافًا لأَنْظارٍ تَفْسيرِيّةٍ تَجْمَعُ نثارَ ما تَقَدَّمَ، وَتَنْظمِهُ في عِقْدِ مَقولاتٍ كُلّيّةٍ جامِعَةٍ:
أَمّا أَوّلُها فَطَبيعَةُ هذِهِ الظّاهِرَةِ:
لَعلَّ مِنَ البَواعِثِ الرَّئيسَةِ التي أَفْضَتْ إِلى تَخَلّقِ هذِهِ الظّاهِرَةِ وَتَكاثُرِها في أَدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ طَبيعَةَ هذا المَوضوعِ الإِنْسانِيِّ العالَمِيّ، فَالعِشْقُ، وَهُوَ مَفْهومٌ مَعْنوِيٌّ مُجَرَّدٌ، لَهُ عَلاماتٌ وَأَماراتٌ تُصَدِّقُها الجَوارِحُ، وَالعاشِقُ، مِنْ وُجْهَةٍ أُخْرى، يُبرِزُ عِشقَهُ بِحالِهِ قَبْلَ مَقالِهِ، فَتَغْدو جَوارِحُهُ الجِسْميّةُ، وَحَرَكاتُهُ، وَهَيْئاتُهُ، شاهِدًا أَمينًا، وَناطِقًا مُبينًا، وَدالاًّ عَلى حالِهِ العشْقِيّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ في بابِ القَوْلِ عَلى عَلاماتِ العِشْقِ كَثيرٌ مِنَ العَلاماتِ الجَسَدِيَّةِ المُبينَةِ عَنْ حالِ صاحِبِها، وَالمُصَدِّقَةِ لِعِشْقِهِ، وَالفاضِحَةِ لِضَميرِهِ المُسْتَتِرِ، وَمِمَّنْ أَفْصَحوا عَنْ هذا المَعْنى مِنَ العُشّاقِ العَبّاسُ بنُ الأَحْنَفِ، وَهُوَ القائِلُ:
جَحَدتُ الهَوى حَتّى إِذا كَشَفَ الهَوى غِطاءَ جُحودي وَاسْتَنارَتْ حَقائِقُهْ
سَكَتُّ وَلَمْ أَمْلِكْ شَهاداتِ حُبِّكمْ وَنَمَّتْ عَلى وَجْهي وَجِسْمي نَواطِقُهْ
وَأَصْبَحتُ مَنْسوبًا إِلى العِشْقِ كُلَّما ذُكِرْتُ وَلا يَدْرونَ مَنْ أَنا عاشِقُهْ( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ أحْمدَ بنِ طَيْفور:
تَكلَّم عَمّا في الصُّدورِ عُيونُنا وَتَفْقَهُ عَنّا أَعْيُنٌ وَحَواجِبُ
فَمَنْ قالَ إِنَّ الحُبَّ يَخْفى لِذي الهَوى إِذا ما رَأى أَحْبابَهُ فَهوَ كاذِبُ( ).
وَأمّا ثانيها فَالعُرفُ العَرَبيُّ الاجْتِماعِيُّ:
وَمِنَ البَواعِثِ عَلى شُيوعِ هذِهِ الظّاهِرةِ، وَالمُفَسِّراتِ لَها، العُرفُ العَرَبِيُّ الاجتِماعِيُّ الذي رانَ عَلى قُلوبِ العَرَبِ، فَتَواصُلُ الذَّكَرِ مَعَ الأُنْثى وَاجْتِماعُهُما، وَتَجاذُبُهُما لَواعِجَ الهَوى، وَحُرقَةَ الجَوى، كُلّ ذلِكَ مِنَ المَحْظوراتِ التي لا يُبيحُها الدّينُ، وَلا يَرْتَضيها العُرفُ العَربِيُّ الاجتِماعِيُّ ذاكَ، وَلِذا كانَ عَلى مَنْ وَقَرَ العِشْقُ في قَلبِهِ أَنْ يَجِدَ بَديلاً يَسْتَعينُ بِهِ عَلى التَّواصُلِ وَالتّراسُلِ، فَكانَ التَّواصُلُ غَيرُ اللَّفظِيِّ عامّةً، وَلَغةُ الجَسَدِ خاصَّةً، مِمّا يُستَعان بِهِ عَلى هذا، وَمِمّا يَسنُدُ هذِهِ الوُجْهَةَ التَّفْسيرِيّةَ ما جَأَرَ بِهِ نُصَيْبٌ مِنَ الشَّكْوى في حَضْرَةِ عَبْدِ العَزيزِ بنِ مَرْوانَ، فقَدْ سَأَلَهُ الأَخيرُ قائِلاً: هَلْ عَشِقْتَ يا نُصَيبُ؟ فَكانَ جَوابُهُ بِالإيجابِ، مُلْمِحًا إِلى أَنّهُ لَمْ يَكنْ بِقادِرٍ عَلى التَّواصُلِ مَعَها قائِلاً: "فَما كُنْتُ أقْدِرُ عَلى كَلامِها إِلاّ بِعَيْنٍ، أَوْ بَنانٍ، أَوْ إِشارَةٍ عَلى طَريقٍ، أَوْ إيماءٍ"( ).
وَقَدْ رَسَمَ هذا المَعْنى أحَدُ أهْلِ العِشْقِ المُبْتَلَيْن قائِلاً:
أَشارَتْ بِعَيْنَيْها إِشارَة خائِفٍ حِذارِ عُيونِ الكاشِحينَ فَسَلَّمَتْ
فَرَدَّ عَلَيْها الطَّرْفُ مِنِّي سَلامَها وَأوْما إِلَيْها أسْكُني فَتَبَسَّمتْ
وَأوْمَتْ إِلى طَرْفي يَقولُ لِطَرْفِها بِنا فَوْقَ ما تَلْقى فَأشْجَتْ وَتَيَّمَتْ
فَلَوْ سُئِلَتْ أَلْحاظُنا عَنْ قُلوبِنا إِذَنْ لاشْتَكَتْ مِمّا بِها وَتَبَرَّمَتْ
وَما هكَذا إِلاّ عُيونُ ذَوي الهوَى إِذا خافَتِ الأَعْداءَ يَوْمًا تَكَلَّمَتْ( )
وَأمّا ثالِثُها فَشُيوعُ الرُّقَباءِ وَالعُيونِ:
وَمِمّا يَنْضافُ إِلى ما تَقَدَّمَ مِنْ أَنْظارٍ عُرْفِيّةٍ وَاجتِماعِيّةٍ شُيوعُ الرُّقَباءِ، وَالعُذّالِ، وَالوُشاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ في بابِ "الرَّقيب في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ" بَيانٌ خائِضٌ في تَفْسيرِ شُيوعِهِ وَأَثَرِهِ في تَجلّي ظاهِرَةِ التَّواصُلِ غَيرِ اللَّفظِيِّ في مَقاماتِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ، وَلَمّا كانَ ذلِكَ كذلِكَ غَدا عَلى العاشِقِ اسْتِفْزازُ طاقاتِ الجَسَدِ في التّواصُلِ، وَابْتِداعُ الوَسائِلِ لِلتّراسُلِ، وَالجُنوحُ في ذلِكَ كُلِّه إِلى التَّعْمِيَةِ وَالكِتْمانِ خَوْفًا مِنَ الرُّقَباءِ وَالعُيونِ، وَمُحاوَلَةِ التَّجافي عَنِ الوُلوجِ في مَزالِقِ الحَرَجِ الاجتِماعِيِّ، وَتَجاوُزِ العاداتِ وَالأَعْرافِ التي هَيِ مُحْتَكَمٌ رَئيسٌ في تَعْيينِ ما هُوَ مُتَقبَّلٌ حَسَنٌ، أَوْ مُسْتَقبَحٌ مَرْذولٌ، وَمِمّا يَسنُدُ هذِهِ الوُجْهَةَ مِنَ الأَنْظارِ المُفَسِّرةِ لِشُيوعِ هذِهِ الظّاهِرَةِ قَوْلُ الرَّقاشِيِّ:
إِذا نَحنُ خِفْنا الكاشِحينَ فَلَمْ نُطِقْ كَلامًا تَكَلَّمْنا بِأَعْيُنِنا سِرًّا
نَصُدّ، إِذا ما كاشِحٌ مالَ طَرْفُهُ إلَيْنا، وَنُبْدي ظاهِرًا بَيْنَنَا هَجْرا
فَإِنْ غَفلوا عَنّا رَأيْتَ خُدودَنا تَصافَحُ، أَوْ ثَغْرًا قَرَعْنا بِهِ ثَغْرا.
فَنَقْضي وَلَمْ يُعْلَمْ بِنا كُلُّ حاجَةٍ وَلَمْ نُظْهِرِ الشَّكْوى وَلَمْ نَهْتِكِ السِّتْرا
وَلَوْ قَذَفَتْ أَحْشاؤُنا ما تَضَمَّنَتْ مِنَ الوَجْدِ وَالبَلْوَى إِذَنْ قَذَفَتْ جَمْرا( )
وَأمّا رابِعُها فَالتَّقْليدُ وَالاتِّباعُ:
وَمِنَ المُفَسِّراتِ لِشيوعِ الظّاهِرَةِ مَلْحَظُ التَّقْليدِ وَاتّباعِ الشّعَراءِ لبَعْضِهمْ، وَجَرْيِهمْ عَلى مَأْلوفٍ مِنَ الصّوَرِ التي انْعَقَدَ عَلَيْها إِجْماعُهُم، فَشاعَتْ في أشْعارِهِمْ وَكَثُرَتْ، وَصارَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهمْ يُعَبِّرُ عَنْ ذلِكَ المَعْنى الجَمْعِيِّ بِأُسْلوبِهِ الفَرْدِيِّ، وَمِنْ هذِهِ الصّورِ الجَسَدِيَّةِ نُحولُ العاشِقِ وَفَناؤُهُ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُها في أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ، فَكانَتْ جَليّةَ الحُضورِ لا يَكادُ شاعِرٌ إِلاّ وَقَدْ أَتى عَلَيْها، وَقَدْ أشَرْتُ إِلى ذلِكَ في بابِ القَوْلِ عَلى عَلاماتِ العِشْقِ وَشَواهِدِه، وَكَذلِكَ صورَةُ العاشِقِ البَكّاءِ، وَمِشْيَة الهُوَيْنا وَالوَجِلِ الخاصَّةُ بِالنِّساءِ الظَّريفاتِ العَفيفاتِ، وَغَيرُ ذلِكَ كَثيرٌ كَثيرٌ.
وَأمّا خامِسُها فَالحَياءُ:
وَمِنَ البَواعِثِ المُنْتَسِبَةِ إِلى الأَنْظارِ النَّفْسِيّةِ، والمُفَسِّراتِ لِشُيوعِها، الحَياءُ الذي يَعْتَري المَعْشوقَةَ في الكَثيرِ الغالِبِ، فَالحَياءُ عاقِدٌ لِلسانِ، كاتِمٌ لِلبَيانِ، وَإِذا كانَ أَثَرُ الحَياءِ كَذلِكَ، فَلا بُدَّ مِنْ سَبيلٍ أُخْرى لِلْبَيانِ، وَالتَّواصُلِ، وَالتَّراسُلِ، وَقَدْ تَكونُ لُغَةُ الجَسَدِ، وَالإِشاراتُ، وَالإيماءاتُ، مِمّا يَقومُ مَقامَ البَيانِ بِاللّسانِ في مِثْلِ تِلكمُ المَقاماتِ. وَلَعلَّ خَيْرَ المُثُلِ المُجلِّيَةِ لِهذا المَلْحَظِ النَّفْسِيِّ صَمْتُ البِكرِ الدّالُّ عَلى رِضاها في مَقامِ التَّزْويجِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ رَسولِ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَنّهُ أَمَرَ أَنْ تُسْتَأمَرَ النِّساءُ في أَبْضاعِهِنّ، فَأشارَتْ عائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- إِلى أَنَّ البِكْرَ تَسْتَحْيي، فَقالَ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إِذْنُها صِماتُها، وَرُوِيَ: سُكوتُها رِضاها"( ).
وَكَذلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
وَمُتَرَّفٍ عَقَلَ الحَياءُ لِسانَهُ فَكَلامُهُ بِالوَحْيِ وَالإيماءِ( ).
وَأَمّا سادِسُها فَرِوايَةُ حَدَثِ العِشْقِ:
وَمِنَ البَواعِثِ كَذلِكَ رِوايَةُ حَدَثِ العِشْقِ رِوايَةً تَفْصيلِيّةً يَأْتي فيها العاشِقُ الشّاعِرُ، أَوِ الرّاوي عَلى تَفاصيلِ الحَدَثِ العِشْقِيّ وَما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ صَمْتِيّاتٍ، وَكَلامِيّاتٍ، وَحَرَكِيّاتٍ، فَيوقِفُ المُتَلقّي في الحَدَثِ المُرادِ نَقْلُهُ، أَوْ وَصْفُهُ، عَلى كَلامِ العُيونِ، وَإِشاراتِ البَنانِ، وَإيماءاتِ الحَواجِبِ في حَدَثٍ عِشْقِيٍّ كانَ قَدْ عايَنَه، فَوَصَفَه، فَوَفّاهُ حَقَّهُ في النَّقْلِ وَالتَّصْويرِ، فَيَكونُ ناقِلاً أَمينًا، وَشاهِدًا مُبِينًا، وَمِنَ الأَمثِلَةِ المُبينَةِ عَنْ ذلِكَ عُمَرُ بنُ أَبي رَبيعَةَ الذي كانَ مولَعًا في رِوايَةِ الحَدَثِ العِشْقِيّ روايَةً يَسْتَشرِفُ فيها شُخوصَ الحَدَثِ، وَزَمانَهُ، وَمَكانَهُ، وَالحَرَكاتِ الجَسَدِيّةَ، وَالإيماءاتِ، وَالإِشاراتِ.
وَمِنْ مِثْلِ هذِهِ الأحْداثِ العِشْقِيّةِ التي يُعْنى بِها العاشِقُ الشّاعِرُ بِرِوايَةِ الحَرَكَةِ في رِوايَةِ قِصّتَهِ قَوْلُ صَريعِ الغَواني:
لايَنْتُها بِاخْتِلاسِ اللَّحْظِ فَاِنْخَشَعَتْ لِلحُبِّ جارِيَةٌ أَقْسى مِنَ الحَجَرِ
أَتْبَعْتُها نَظَري حَتّى إِذا عَلِمَتْ مِنّي الهَوى قارَضَتْني الوَدَّ بِالنَّظَرِ
فَنَحْنُ مِنْ خَطَراتِ الحُبِّ في وَجَلٍ وَمِنْ تَقَلُّبِ طَرْفَيْنا عَلى خَطَرِ( ).
وَأمّا سابِعُها فَاسْتِجْلابُ الهَوى:
وَمِمّا يُفسَّرُ بِهِ شُيوعُ هذِهِ الظّاهِرَةِ تَعمُّدُ إِتْيانِ الحَرَكاتِ الجَسَدِيَّةِ في "أدَبِ العِشْقِ وَالعُشّاقِ"، وَمِنَ المَقاصِدِ المُتَعيِّنةِ مِنْ ذلِكَ لَفْتُ الأَنْظارِ، وَاستِجْلابُ الخَواطِرِ، وَهذا مَلْحَظٌ عَرَّجَ عَلَيْهِ ابنُ حَزْمٍ في "طَوق الحَمامَة" مُشيرًا إِلى أنّهُ شَيءٌ يَصِفُهُ لِلنّاظِرِ الذي يَراهُ عيانًا، فَما رَأى قَطُّ امْرَأةً في مَكانٍ تُحِسُّ أَنَّ رَجُلاً يَراها، أَوْ يَسمَعُ حِسَّها، إِلاّ وَأحْدَثَتْ حَرَكةً فاضِلةً كانَتْ عَنْها بِمَعزِلٍ، وَأتَتْ بِكَلامٍ زائِدٍ كانَتْ عَنْهُ في غُنْيةٍ، مُخالِفَيْن لِكَلامِها وَحرَكتِها قَبْلَ ذلِكَ، وَشَأنُ تِلْكَ المَرْأةِ هُو شَأنُ ذلِكَ الرّجُلِ، فَالرِّجالُ كذلِكَ إِذا أَحَسّوا بِالنِّساءِ، "وَإِمّا إِظهارُ الزّينَةِ، وَتَرْتيبُ المَشْيِ، وَإيقاعُ المَزْحِ عِندَ خُطورِ المَرْأةِ بِالرّجُلِ، وَاجْتِيازِ الرّجُلِ بِالمَرأةِ، فَهذا أَشْهرُ مِنَ الشَّمسِ في كُلِّ مَكانٍ، وَاللهُ -عَزَّ وَجلَّ- يَقولُ: "وَقُلْ لِلمُؤمنينَ يَغُضّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحفَظوا فُروجَهُمْ"، وَقالَ -تَقَدّسَتْ أسْماؤُهُ-: "وَلا يَضْربْنَ بِأرْجُلِهنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ"، فَلوْلا عَلِمَ اللهُ -عَزَّ وَجلَّ- بِرِقّةِ إِغْماضِهِنّ في السَّعيِ لإيصالِ حُبِّهِنّ إِلى القُلوبِ، وَلُطْفِ كَيْدِهنّ في التّحَيّلِ لاسْتِجلابِ الهَوى، لَما كَشَفَ اللهُ عَنْ هذا المَعْنى البَعيدِ الغامِضِ"( ).



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثبت المصادر والمراجع:
- إبراهيم أبو عرقوب، الاتصال الإنساني ودوره في التفاعل الاجتماعي، ط1، دار مجدلاوي، عمان، 1993م.
- إبراهيم مدكور، الفراسة عند العرب، ط1، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1982م.
- الآبي، منصور بن الحسين(421هـ)، الأنس والعرس، تحقيق إيفيلين فريد يار، ط1، دار النمير، بيروت، 1999م.
- أحمد اللقاني وأمير القرشي، مناهج الصم: التخطيط والبناء والتنفيذ، ط1، عالم الكتب، القاهرة، 1991م.
- الأحوص الأنصاري، عبد الله بن محمد(105هـ)، ديوانه، شرح مجيد طراد، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1994م.
- أرماند ماتيلار وميشيليه ماتيلار، نظريات الاتصال، ترجمة أديب الخضور، ط1، المكتبة الإعلامية، دمشق، 2003م.
- إكرام الأشقر، الرقص لغة الجسد، ط1، دار الفرات، بيروت، 2003م.
- أ. كوند راتوف، أصوات وإشارات: دراسة في علم اللغة، ترجمة إدور يوحنا، وزارة الإعلام، بغداد، (د.ت).
- الأنطاكي، داود بن عمر(1008م)، تزيين الأسواق في أخبار العشاق، تحقيق أيمن البحيري، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002م.
- أومبرتو إيكو، سيميائية وفلسفة اللغة، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2005م.
- بالمر، ف، ر.، علم الدلالة، إطار جديد، ترجمة ترجمة صبري السيد، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1992م.
- البحتري، الوليد بن عُبيد(284هـ)، ديوانه، شرح يوسف محمد، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م.
- بسام حجير، وحسين العورتاني، تعلم لغة الإشارة الأساسية للصم، الزرقاء، 1995م.
- بشار بن برد(167هـ)، ديوانه، شرح مهدي ناصر الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003م.
- البهاء زهير، زهير بن محمد(656هـ)، ديوانه، شرح عمر الطباع، ط1، دار الأرقم، بيروت، 1996م.
- بيز، ألن، مهارات تحقيق المبيعات الناجحة، ط1، الدار العربية للعلوم، بيروت، 1999م.
- بيل، جورج، نظام الشيفرة، ترجمة قسم الترجمة بدار الرشيد، ط1، دار الرشيد ودار الجديد، دمشق وبيروت، 1994م.
- ترنس هوكنز، البنيوية علم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطة، ط1، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986م.
- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر(255هـ)، البرصان والعرجان والعميان والحولان، تحقيق محمد مرسي الخولي، ط5، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1992م.
- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر(255هـ)، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1990م.
- جرير بن عطية(110هـ)، ديوانه، شرح محمد الصاوي، ط1، مكتبة الصاوي، القاهرة، د.ت.
- جرين، جوديث، علم اللغة النفسي: تشومسكي وعلم اللغة، ترجمة مصطفى التوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م.
- ابن أبي حجلة، أحمد بن يحيى(776هـ)، ديوان الصبابة، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، د.ت.
- ابن حزم، علي بن أحمد(456هـ)، طوق الحمامة في الألفة والألاف، ط3، ضبط أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003م.
- الحصري القيرواني، إبراهيم بن علي(453هـ)، المصون في سر الهوى المكنون، تحقيق النبوي عبد الواحد شعلان، دار العرب، 1989م.
- الخرائطي، محمد بن جعفر(327هـ)، اعتلال القلوب في أخبار العشاق والمحبين، تحقيق غريد الشيخ، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001م.
- ابن الخطيب، لسان الدين محمد بن عبد الله(776هـ)، روضة التعريف بالحب الشريف، تحقيق عبد القادر عطا، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003م.
- ابن الدمينة، ديوانه، (صنعة أبي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب)، تحقيق أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1959م.
- ديفيد كاوبر، المبيعات العملاقة: أسرار أحد أكبر رجال المبيعات، ترجمة رفيف محمود السيد، ط1، مكتبة العبيكان، الرياض، 2002م.
- روي آرمز، لغة الصورة في السينما المعاصرة، ترجمة سعيد عبد المحسن، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1992م.
- السرّاج، جعفر بن أحمد القارئ(500هـ)، مصارع العشاق، تحقيق محمد حسن إسماعيل، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م.
- السري الرفاء، السري بن أحمد الكندي(366هـ)، ديوانه، ط1، دار الجيل، بيروت، 1991م.
- سمير دبابنة، نافذة على تعليم الصم، مؤسسة الأراضي المقدسة(منشورات منظمة المبادرات “initiatives” لتعليم الصم)، السلط، ط1، 1996م.
- الشهاب الحلبي، محمود بن سلمان(725هـ)، منازل الأحباب ومنازه الألباب، تحقيق محمد الديباجي، ط1، دار صادر، بيروت، 2000م.
- العباس بن الأحنف(192هـ)، ديوانه، دار صادر، بيروت، 1978م.
- علي زيعور، اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظي في الذات العربية، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1991م.
- علي شلق، العين في الشعر العربي، ط1، دار الأندلس، بيروت، 1984م.
- عمر بن أبي ربيعة(93هـ)، ديوانه، تحقيق عبد أ. علي مهنا، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992م.
- غدويس وغروست، لغة الجسد، ترجمة هيلانة شقير، ط1، دار علاء الدين، دمشق، 2005م.
- فاطمة العزب، الأسس العلمية للتعبير الحركي، مطبعة رويال، القاهرة، 1988م.
- فاطمة العزب، التعبير الحركي الحديث بين النظرية والتطبيق، د. ن، الإسكندرية، 1993م.
- فؤاد الخوري، أيديولوجيا الجسد: رموزية الطهارة والنجاسة، ط1، دار الساقي، بيروت، 1997م.
- ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر(751هـ)، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، تحقيق عبد الله المنشاوي، مكتبة الإيمان، المنصورة، 2002م.
- كلود حجاج، إنسان الكلام: مساهمة لسانية في العلوم الإنسانية، ترجمة رضوان ظاظا، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2003م.
- كوكب عطا الله، ثقافة الجسد في المجتمع الأردني: بحث أنثروبولجي في مخيم البقعة الفلسطيني، جامعة الدول العربية، (رسالة دكتوراة)، 2003م.
- لينا عمر بن صديق، فاعلية برنامج مقترح في تنمية مهارات التواصل غير اللفظي للأطفال التوحديين، الجامعة الأردنية، رسالة دكتوراة، 2005م.
- ماجدة سيد عبيد، السامعون بأعينهم: الإعاقة السمعية، ط1، دار صفاء، عمان، 2000م.
- مارفين لوشكي، التمثيل الصامت: فهم وأداء الصمت المعبر، ترجمة سامي صلاح، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م.
- محمد كشاش، لغة العيون: حقيقتها، مواضيعها، أغراضها، مفرداتها، ألفاظها، ط1، المكتبة العصرية، بيروت، 1999م.
- محمد كشاش، اللغة والحواس، ط1، المكتبة العصرية، بيروت، 2001م.
- مصطفى السعدني، إستاطيقا الإشارة: دراسة بلاغية سيميوطيقية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1994م.
- مصطفى القمش، الإعاقة السمعية واضطرابات النطق واللغة، ط1، دار الفكر، عمان، 2000م.
- مغلطاي، علاء الدين مغلطاي بن قليج(762هـ)، الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين، تحقيق سيد حسن، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005م.
- مهدي عرار، سياق الحال عند الإمام الغزالي في المستصفى: دراسة دلالية تواصلية، مجلة العربية، ع 39، أمريكيا، 2002.
- مهدي عرار، ظاهرة اللبس في العربية: جدل التواصل والتفاصل، ط1، دار وائل، عمان، 2003م.
- مهدي عرار، لغة الجسم وأثرها في الإبانة: نماذج من التراث اللغوي والبلاغي، مجلة دراسات، المجلد 33، العدد 1، 2006م.
- نتالي باكو، لغة الحركات، ط1، ترجمة سمير شيخاني، دار الجيل، بيروت، 1995م.
- Adam Kendon, Gesticulation and Speech: Two Aspects of the Process of Utterance, 207-229, (The Relationship of Verbal and Nonverbal Communication, Edited by Mark R., Key, Mouton Publishers, Britain, 1980).
- Adam Kendon, Nonverbal Communication and Gestures (selctions from Semiotica), Volume Editer Adam Kendon, Mouton Publishers, Netherlands, 1981.
- Akmajian, Linguistics: An Introduction to Language and Communication, The MIT Press, Massachusetts, 1979.
- Alaa Halawani, Recognition of Gestures in Arabic Sign Language Using Neuro-Fuzzy System, M.A thesis, Jordan, 2000.
- Albert E., Scheflen, Alice Scheflen, Body Language and Social Order: Communication as Behavioral Control, Prentice-Hall, Englewood Cliffs, 1972.
- Albert Mehrabian, Silent Messages, Wadsworth Publishing California, 1971.
- Armstrong, D. F., Original Signs: Gesture, Sign, and the Source of Language, Gallaudet University Press, Washington, D.C., 1999.
- Armstrong, D. F., W. C. Stokoe and S. E. Wilcox, Gesture and the Nature of Language, Cambridge University Press, Cambridge, 1995.
- ASHA, Activities to Encourage Speech ad Language Development, 1997-2002.
- ASHA, How Does Your Child Hear and Talk, 1997-2002.
- Asma el-Ghazu, Interpretation of Body Language in Jordan, M.A thesis, Al-Yarmouk University, 1999.
- Crystal, D., A Dictionary of Linguistics and Phonetics, Blackwell Publishers, Massachusetts, U.S.A. 1991.
- David F. Armstrong, Original signs: Gesture, Sign, and the Sources of Language, Gallaudet University Press,S 1999.
- Daniel Chandler, Semiotics: The Basics, Routledge, London/New York, 2000.
- Desmond Morris, Peter Collett, Peter Marsh, Gestures: Their Origins and Distribution, Jolly & Barber, London, 1979.
- Downes, W., Language and Society, 2nd edition, Cambridge University, Cambridge, 1998.
- Feyereisen, P., The Competition Between Gesture and Speech Production in Dual-task Paradgims, Journal of Memory and Language 36, 13-33.
- Gibbs, F., Hmour as Experienced by Hearing Impaired women, Dissertation Abstract, The University of Arizona, 1996.
- Hess, E., The Tell-Tale Eye, Van Nostrand Reinhod, New York, 1975.
- Hopkins, W. D., Hand use and Gestural Communication in Chimpanzees, Journal of Comparative Psychology 112, 95-99.
- Jackson, H., Words and their Meaning, Longman, London, 1991.
- Jane Lyle, Understanding Body Language, Chancellor, London, 1993.
- Jean U., Sebeok, Silence is Golden, The Changing Role of Non-Talk in Preschool Conversations, 295-317. (The Relationship of Verbal and Nonverbal Communication, Edited by Mark R., Key, Mouton Publishers, Britain, 1980).
- Katamba, F., An Introduction to Phonology, Longman, New York, 1989.
- Katamba, F., Morphology, The Macmillan Press, London, 1993.
- Kindon, A., Sign Language of Aboriginal Australia, Cambridge University Press, 1988.
- Kramsky, J., The Phoneme: An Introduction to the History and Theories of A Concept, Munchen, Will helm, Finkverlag, 1974.
- Leech, G. N., A linguistic Guide to English Peotry, Longman, London, 1969.
- Lehiste, I., Suprasegmental, The MIT Press, Massachusetts, 1977.
- Loretta A. Malandro, Larry L. Barker, Deborah Ann Barker, Nonverbal Communication, McGraw-Hill, 1989.
- Mark L., Knnap, Nonverbal Communication in Human Interaction, Holt, Rinehart and Winston, New York, 1972.
- Mitchell,M. E., How to Read the Language of the Face, Macmillan, New York, 1968.
- Nida, A., Morphology: The Descriptive Analaysis of Words, The University of Michigan Press, 1965.
- Norman Ashcraft, and Albert E., Scheflen, People Space: The Making and Breaking of Human Boudaries, Anchor Press, New York, 1976.
- Paul, L., Visual Communication: Images with Messages, Wadsworth Publishing Company, California, 1995.
- Pease, A., Body Language: How to Read Others’ Thoughts by Their Gestures, Camel Publishing Company, Australia, 1990.
- Robins, R.H., General Linguistics, Longman, New York, 1989.
- Singh, S., Phonetics: Principles and Practise, University of Park Press, 1982.
- Soon, S., Lexical Ambiguity in Poetry, Longman Publishing, New York, 1994.
- Wallace, G., School Improvement: What can Pupils tell us? David Fulton Publishers, London, 1996.




" من الصوت إلى الصمت في أدب الحب والأحباب"
دراسة سيميائية
د. مهدي عرار- أستاذ اللسانيات والعلوم اللغوية
رئيس دائرة اللغةالعربية وآدابها
جامعة بير زيت

.
صورة مفقودة
 
أعلى