عزت السيد أحمد - الحبُّ والحياة

لا شكَّ في أنَّ مناهج العلوم الطَّبيعية هي المؤدِّية إِلى النَّتائج الأكثر وثوقيَّةً وضبطاً وقابليةً للقياس والتَّعميم والإعادة والتَّكرار... وثُمَّةَ من يؤكد أَنَّهُ من الممكن تطبيق هذه المناهج العلمية على مختلف الميادين والموضوعات في الوجود. قد يكون هذا صحيحاً، فثُمَّةَ من يعترض عليه، وثُمَّةَ من يرفضه رفضاً قاطعاً، ولكن مع افتراض صحَّة إمكانيَّة التَّعميم المطلقة هذه فإنَّ حقيقةً أخرى ستلازمها وهي أَنَّهُ إن كان من الممكن تطبيق المناهج العلميَّة تطبيقاً حرفيًّا في مختلف الميادين والموضوعات فإنَّ هذا التَّطبيق وإن كان سيوصل إِلى نتائج دقيقةً فإِنَّهُ سيشوِّه البعد الحيويَّ والتَّفاعليَّ لكثيرٍ من الموضوعات التي سيغرس مبضعه فيها، لأَنَّهُ سيحولها من كينونة بروح إِلى كينونة من غير روح.
الحبُّ واحد من هذه الموضوعات التي يمكن في الافتراض النَّظري أن يبسط كيانها على مشرحة البحث العلمي وتعرف طبيعتها وحقيقتها وأسرارها وآلياتها... ليس ثُمَّةَ ما يمنع ذلك منطقيًّا أو يحول دون تحققه. ولكن الحقيقة الأكيدة حَتَّى الآن على الأقل هي أنَّ إخضاع الحب وما يشبهه من موضوعات إنسانية لآلة البحث العلمي ومنهجه الصارم سيفقده متعة البحث فيه ومتعة معرفته الموشَّحة بلبوس الأحاسيس والمشاعر وحَتَّى تهويمات المخيلة. ومن حسن حظنا أن مادة العلوم الطبيعية هي المادة الجامدة الخالية من الحس والإحساس، فيما مادة العلوم الإنسانية هي المادة القائمة على الحس والإحساس.
كثيرون اليوم لا يفهمون من الحب إلا تلك العلاقة التي تربط بَيْنَ الذكر والأنثى، أو بَيْنَ الرجل والمرأة، على نحو يثير ضرباً من المتعة والنشوة المتلازمة بصورتها وطبيعتها لدى ذكر الطرف المحب الطرف المحبوب سواء أكانت العلاقة ثنائية الاتجاه أو أحاديته، ولكن الحب أمر أكبر من ذلك بكثير وأعظم حَتَّى مع اعترافنا بأن علاقة الحب العذرية أو الشهوية بَيْنَ الذكر والأنثى أكثرها ظهوراً واقتراناً بمفهوم الحب.
لم تكن محاولة أفلاطون هي الأولى قطعاً، ولا الوحيدة بالتأكيد، لأننا إذا رجعنا إِلى الفكر الأسطوري وجدنا محلمة جلجامش التي بنيت في نصفها الثَّاني على الحب وفاعليته. وإذا سرنا إِلى الأمام وجدنا الفيلسوف القديس إتين جلسون في القرن العشرين يقدم مقاربة للعلاقة بَيْنَ الحب والإبداع تحت عنوان: ربات الإبداع( ).
ما بَيْنَ هذه المحاولات حبَّر الفلاسفة والأدباء الكثير من الأقوال والمقالات والأبحاث في الحب وحده، وفي الإبداع وحده، وفي الجمال وحده. ولكن قَلَّت المحاولات التي تسعى لفهم الحب من خلال الإبداع أَو الإبداع من خلال الحب، وكذلك الأمر في العلاقة بَيْنَ الحب والجمال. أما العلاقة بَيْنَ الحب والحياة بالإطلاق فقد بقيت فيها المساحات الواسعة التي تستحق أن تملأ بالأبحاث والدراسات. ومحاولتنا هذه واحدة من المحاولات التي تسعى إِلى ملء بعض المساحات الفارغة من العلاقة بَيْنَ الحب والحياة.
على أيِّ حال ثُمَّةَ مدخل لا بُدَّ من ولوج الموضوع من خلاله، هذا المدخل هو مفهوم الحب، لأنَّ تحديد هذا المفهوم هو قطب الرحى من البحث كله، لأَنَّهُ المحور والأساس، وبعد ذلك يمكن الانتقال إِلى البحث في ماهية العلاقة بَيْنَ الحب والإبداع والحب والجمال والحب الحياة... وغيرها من الموضوعات أَو العلاقات، ناهيك عن أنَّ البحث في أيِّ من هذه الثنائيات هو مفتاح للثَّنائيات الأخرى، لتكون ثنائية الحب والحياة هي المصب الذي تنتهي عنده كل جداول الثنائيات.
في مفهوم الحب
إذا فتحنا لسان العرب وجدنا مادة طويلة للجذر الثلاثي حبب، ويبدأ المادة بقوله: «الحُبُّ: نقيض البغض. والحُبُّ: الوداد والمحبة، وكذلك الحِبُّ بالكسر»( ). ثُمَّ يتابع ابن منظور في تشريح المادة وتحليلها وتركيبها حَتَّى يأتي على مختلف دلالات هذا الجذر اللغوي باشتقاقاته المختلفة. ويظل ابن منظور محافظاً على رصانة اللغوية ومنهجيته في ضبط الجذر واشتقاقاته، من دون أن يتفلسف في هذه المادة الغنية، ولا يلام في ذلك فليس مثل هذا الموضع موضعاً لمثل هذا الفعل.
أحمد بن فارس كان أكثر تقنية في فلسفة المعنى من ابن منظور، فإذا فتحنا كتابه معجم مقاييس اللغة وجدناه يقف عند مادة (حب) وبدأها بقوله: «الحاء والباء أصول ثلاثة؛ أحدها اللزوم والثبات، والآخر الحبَّة من الشَّيء ذي الحَب، والثالث وصف القصر»( ). هذا التَّحديد للمعنى عند ابن فارس فيه تجاوز للمعاجم التَّقليديَّة لأَنَّهُ لا يتناول المعنى تناولاً تحريريًّا تقريريًّا وإنما يقدم مقاربة كليَّة للمعنى تشتق منها مختلف الدلالات الممكنة لمشتقات الجذر. فإذا تركنا الجهتين الثانية والثالثة للدلالة ووقفنا عند الأولى وهي التي تعنينا وجدنا يقول: «وأما اللزوم فالحُبُّ والمحبَّة، اشتقاقه من أحبَّه إذا لزمه»( )، والمصدر الأصل لهذه الجهة الدَّلالية للجذر هي وصفهم البعير «بالمحبِّ إذا حَسَرَ فَلَزِمَ مكانه»( ).
هذا التَّحديد مفيد لفهم المعنى، فنحن، في ثقافتنا العامة، حَتَّى اليوم لا نفهم من الحب إلا تلك الحالة التي تنتابنا عند ذكر الحبيب أو لقائه، على الرَّغْمِ من أنَّ نحو ثمانية أعشار الشعر العربي لم يغادر الحب وأحواله، وعلى الرَّغْمِ من أنَّ معظم الروايات العربية العالمية تجعل الحب محورها الأساس.
على أساس تحديد ابن فارس يمكن القول إنَّ أوَّل ما يميز الحب هو اللزوم، اللزوم الالتزام والالتصاق وليس لزوم النَّتيجة عن المقدمات. وليس ثُمَّةَ ما يلزم المرء الالتصاق بشيء أَو أمر أو إنسان إلا إذا كان فيه ما يفرض على المرء لزومه لزم الالتصاق من جهة ما يلتصق به، أو وجد المرء الملتصق بالشَّيء فائدة أَو متعة أَو حاجة تفرض عليه الالتصاق بهذا الشَّيء. فإذا ما نظرنا في أحوال العاشقين وما يجدونه من معاناة وألم ومتعة بهذه المعاناة والألم من اجل الحبيب، ونظرنا في طبيعة الإنسان من جهة تعلقه بأشياء الحياة وأمورها، وقارنَّا بَيْنَ التَّعلقين وجدنا أنَّ للحبِّ سلطة لا تعدلها سلطة أخرى، لأنَّ المحب يزداد تعلقاً والتصاقاً بالمحبوب مهما بلغت معاناته منه وألمه، بل وجدنا كثيراً من الشعراء أَو العشاق يتمثل قول الشَّاعر:
لِيْ لَذَّةٌ فِيْ ذِلَّتِي وَخُضُوْعِيْ = وَأُحِبُّ بَيْنَ يَدَيْكِ سَفْكَ دُمُوْعِيْ
ومثل هذا القول لا يعدُّ ولا يحصى في الشعر العربي وحده على الأقل، ناهيك بعد ذلك عن الحالات الواقعيَّة أو سلوكات العاشقين المماثلة لهذا الحال عند أمم الأرض كلها، وهذا ما تدل عليه الروايات والقصص والحكم والأمثال والأخبار... التي نقرأها في آداب الشعوب.
ما الذي نريد الوصول إليه من هذا التَّعلُّق والسُّلطة التي يمتلكها الحب؟
نحن نحاول في حقيقة الأمر تقديم مقاربةٍ لفهم الحب أكثر ما يمكن أن يكون من الفهم. ولكننا نجد أنفسنا بداية أمام عوائق تحول دون التقدم في هذه المقاربة، فالحب أمر يعاش أكثر من أن يفهم، ويستمتع بما يحققه من متعة من دون أن تدرك ماهيته، ولذلك عندما حاول ابن حزم الأندلسي تحديد مفهوم الحب وجد صعوبة في ذلك، وانتهى إِلى أن معانيه لجلالتها «أدق من أن توصف»( ). وبعد نحو ألف سنة جاء الفيلسوف الهندي أوشو ليقدم الفكرة ذاتها بنوع من الطرافة افتتح بها كتابه من الجنس إِلى أعلى مراحل الوعي فقال: «ما الحب؟»، وأجاب على الفور: «من السَّهل أن تشعر بالحب، أما أن تعرفه فذلك صَعَبٌ بالفعل»( )، ويضرب لنا مثالاً طريفاً مما يمتلئ التُّراث الهندي بمثله فيقول: «لو سألت سمكةً: ماذا يشبه البحر؟ فستجيبك: هذا هو البحر... إنَّهُ في كلِّ مكان، وهذا كلُّ شيء. ولكن إذا ألححت في السُّؤال: من فضلك عرِّفي البحر. عندئذٍ تصبح المشكلة أصعب بكثير»( ).
لم يكن الفيلسوفان وحدهما من طرح هذه الفكرة، أظنُّ أنَّ كلَّ من حاول الوقوف عند تحديد الحب وجد نفسه أمامها، ووجد من الجواب ما وجده الفيلسوفان، ووجد الحل فيما وجده الفيلسوفان. فما الحل؟
لم يمهل ابن حزم الأندلسي القارئ كثيراً ليفكر في الإجابة فعقَّب على الفور قائلاً: «لا تدرك حقيقته إلا بالمعاناة»( ). ومثله تماماً فعل أوشو عندما تابع كلامه قائلاً: «إنَّ أروع الأشياء في الحياة وأجملها هي التي يمكن أن تُعاش، والتي يمكن معرفتها، ولكن من الصَّعب وصفها، ومن الصَّعب تعريفها»( ).
ولكنَّ هذه الإجابة ليست شافيةً بعد، فهي لم تفسر لنا سبب التعلق تفسيراً كافيًّا، التجربة تجعلنا نشعر بالنَّتائج ولا نعرف الأسباب، حَتَّى أسباب اختيار المحبوب تظل غامضةً إِلى حدٍّ كبيرٍ، وعندما نحاول الكشف عنها فإنَّنا نقدِّم عريضةً بمظاهر حسيَّة أَو انطباعات قد لا تقترب من الحقيقة في شيء.
وفوق ذلك فإنَّ الدَّعوة إِلى التَّجريب والمعاينة دعوةٌ طريفةٌ مضحكةٌ في الجانب التَّطبيقي( )، لأَنَّها تعني أَنَّهُ كلما سألنا أحدٌ عن الحبِّ أجبناه بأن أمسكنا بيده وأخذنا إِلى مكان ينتقي فيه فتاة يحبها لكي يعرف الجواب!! أو ما يشبه ذلك.
الصوفيَّة فن خاصٌّ من فنون الحب، رُبَّما تكون الصوفيَّة الحب فقط مع ما يلزم عن هذا النوع من الحب الذي يقولون عنه إنَّهُ أصفى حب وأرقى حب وأسمى حب... لن نناقش ذلك الآن فهذا أمر يستحق وقفات مطولة وثُمَّةَ الكثير من مثل هذه الوقفات.
مهما كان ما يمكن أن يكون من أمر هذا الحبِّ فإنَّهُ تجربة وفلسفة كبرى يمكن أن يستفاد منها في فهم الحب عامَّةً. إذن دعونا نستعر من الصُّوفيَّة مفتاحاً نلج به إِلى مقاربتنا. يقول المتصوفة: «الأرواحُ أجنادٌ مجنَّدة، ما توافق منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف»( ).
هذا القول يفسر ظاهر التجاذب المتبادل بَيْنَ الحبيبين؛ العاشق والمعشوق، وكلاهما عاشق معشوق. إنَّهُ يقول إنَّ شيئاً ما مشتركاً بَيْنَ الأرواح يجعلها تنجذب إلى بعضها بعضاً أو تنفر من بعضها بعضاً. ولكن ما هذا المشترك بَيْنَ الأرواح الذي يجعلها تتجاذب أو تتنابذ على نحو شبه غريزيًّ؟
ابن خلدون التقط هذه الفكرة، واستند إِلى الإرث الصوفي وثقافته المتنوعة وقدَّم تفسيره، قال: إنك «تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبِّرون عن غاية محبَّتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب»( )، فيعيدنا بدايةً إلى سمة الحبِّ الأساسيَّة استناداً إِلى جذرها في اللغة العربية وهي التزام الثَّبات على الشيء أَو الالتصاق به، ولكِنَّهُ يضيف بعداً دلاليًّا جديداً وهو امتزاج روحي المحبوبين رغبةً أو إحساساً أَو كليهما. ويعيدنا إِلى التجربة والمعاينة مثل الآخرين فيقول: «وفي هذا سرٌّ تفهمه إن كنت من أهله»( ). ثُمَّ ينتقل بنا إِلى البعد الصُّوفي أو الفلسفي في تفسير سبب هذا الانجذاب والرغبة في الامتزاج أو الشُّعور به بل تحققه لدى مواصلة الحبيب، ويتابع مبيناً السبب قائلاً: «هو اتِّحاد المبدأ»( )، ولا يتوقَّف هنا بل يتابع الشرح موضحاً «إن كان ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحاداً في البداءة يشهد لك به اتحادكما في الكون، ومعناه من وجهٍ آخر أنَّ الوجود يشرك بَيْنَ الموجودات... فتودُّ أن يمتزج بما شاهدات فيه الكمال لتتحد به، بل تروم النَّفس حينئذٍ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة الَّتي هي اتِّحاد المبدأ والكون»( ).
حَتَّى نفهم هذه النِّهاية التي توقف عندها ابن خلدون علينا أن نرجع إِلى الوراء آلاف السنين، إِلى الديانة الهندوسيَّة، أَو البراهمية، أصل الدِّيانات الهندوسيَّة اللاحقة ومنبعها، ونقف عند المفهوم الأكثر شهرة فيها وهو النيرفانا ـ Nirvana. والنيرفانا في مفهومها الشائع أَو العام هي السعادة الأبديَّة، ولا يبتعد معناها الحقيقي عن ذلك، فالسعادة الأبدية تنجم عن العودة إِلى الاتحاد بالأصل، ذلك أنَّ «أرواح الكائنات تأتي من (خالق الكون) براهما، روح العالم. وعندما تنتهي الروح من دورة الحياة تعود إِلى روح العالم وتتحد مع (الخالق) براهما... وتلك أعظم سعادة يمكن أن تتمناها روح»( ).
ولكن كيف يمكن للإنسان أن يحقق السعادة الأبديَّة بالاتحاد بالمبدأ، بالأصل؟ أي كيف يدخل مرحلة النيرفانا؟
تختلف مذاهب العقيدة الهندوسية في الإجابة على هذا السؤال، ولكن الاختلاف الصورة لا في المضمون، فالهندوسي الأصل ترى أنَّ «على كلِّ النَّاس أن يحيوا حياة صالحة، وألاَّ يفعلوا الشر حَتَّى يمكن في النِّهاية أن يتَّحدوا مع روح العالم وأن يدخلوا النيرفانا»( ). أما البوذيَّة فترى الخلاص والاتحاد بالأصل من خلال الطريق ذي الشِّعب الثمانية وهي الرؤية الصحيحة، والتفكير الصحيح، والكلام الصحيح، والعمل الصحيح، والعيش الصحيح، والسعي الصحيح، والذكرى الصحيحة، والتأمل الصحيح»( ). أما ماهيفيرا مؤسس الجانتية فقد ذهب إلى أنَّ طريق الخلاص يكون من خلال «توبة تقشفية وامتناع عن إيذاء أي كائن حي مهما كانت ضآلته.. ونبذ الاستمتاع بأيِّ لذة خارجية.. لأن اللذة الحسية خطيئة دائمة»( ).
طرق الخلاص الثلاثة هذه للاتحاد بالأصل وتحقيق النيرفانا بضعٌ من عشرات الطرق التي قدمتها مذاهب العقيدة الهندوسية، ولكِنَّهَا كلها مهما اختلفت في الصورة فإنَّها تتفق في المبدأ. إنها كلها تقوم على الحب؛ حب الخالق والخلق، ولا يوجد ما يمكن أن يفسر مقاصد هذه الطرق إلا الحب، ألم يقل شاعرنا:
فَعَيْنُ الْحُبِّ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ = وَعَيْنُ البُغْضِ تُبْدِيْ لَكَ الْمَسَاوِيَا
أليس الحب هو الذي يجعل المرء يرى الأشياء الجميلة، الصحيحية؟ أليس الحب هو الذي يجعل المرء نبع عطاء؟
إذن حب الخلق والخالق حبًّا صادقاً صافياً منزهاً هو الذي يحقق السعادة الأبدية. هذا هو الحب بمعناه الواسع، العام، الذي يكون الحب الشهوي حالة صغيرة منه، ضئيلة، لن يكون خاطئاً بالضرورة، ولكنهه حالة جدُّ صغيرة من الحب بمعناه الواسع.
هنا نعود إِلى عبقرية اللغة العربية من جديد، لنجد فيها ما لا نجده في لغة من لغات العالم، ألم يكن التعبير الفطري الذي انتقل بمفردة الحب من سلوك الجمل إِلى السلوك الإنساني هو الأكثر تعبيراً عن روح المفردة؟
لقد بدا لنا ذلك جليًّا. ولكن عبقرية اللغة العربية لا تقف عند هذا الحد. لننظر إِلى هذه المفردة نظرة أخرى. للنظر إليها صوتيًّا. تتألف كلمة حب من حرفين هما الحاء والباء. تخرج الحاء من أول مخارج الأحرف، من عمق الصدر، وتخرب من الباء من آخر مخارج الأحرف، من آخر الشفتين.
أليس لهذا الأمر من دلالة؟
يبدو لي أنَّ العرب فطريًّا أرادت أن تقول إنَّ الحب هو كل الكلام، هو كل الحياة. من عاش الحب امتلك كلَّ الكلام، امتلك الحياة، أحب الحياة. أي بالمعنى الهندوسي امتلك كلَّ السبل المؤدية إِلى الاتحاد بالأصل.
هذه ميزة في اللغة العربيَّة امتلكها مفردة الحبِّ بفطريَّة اللغة، ولكِنَّهَا موجودة دلاليًّا في اللغات الأخرى، وقد عبَّر عنها الفلاسفة والمفكرون والشعراء والأدباء بأساليبهم المختلفة. ولكن اللغات كلَّها ظلت عاجزة أمام عبقرية اللغة العربيَّة. ولنؤكِّد ذلك أكثر تعالوا ننظر إِلى كلمة حب من زاوية أخرى. لنقلب هذه الكلمة، وهذه واحدة من ألعاب اللغويين العرب الذين اخترعوا الكثير من الطرائق في التعامل مع الكلام.
إذا قلبنا كلمة حب وجدنا أنفسنا أمام كلمة جديدة هي بح. ولا تستخدم كلمة بح في العربية هكذا بهذين الحرفين، مقلوب حب، إلا بلفظين فعل واسم، الاسم بالضم: بُح، وهي الأقداح التي يقامر بها، والثانية الفعل: بحَّ يبحُّ إذا لم يصفو صوته، وفي هذا يقول ابن فارس: الباء والحاء «أن لا يصفو صوت ذي الصوت»( ).
رُبَّما تكون مصادفةً، ولكِنَّهَا أعجب من عجيبة. ففي حِيْنِ أنَّ الحبَّ امتلاكٌ لكلِّ الكلام فإنَّ قلب هذا الكلمة يقلب المعنى تماماً، وكَأَنَّ عبقرية العربية أبت إلا أن تتم نعمتها، لأنَّ كلمة بح، مقلوب كلمة حب، تعنى أنَّ من لم يحب، أو من يكره، يفقد القدرة على الكلام، لا يكون كلامه مستوياً، في حين أن من أحب امتلك كل الكلام!!
بل إنَّنا إذا غيرنا الاستخدام من الفعل إِلى الاسم وجدنا أنفسنا أمام بلاغة أكبر، لأنَّ كلمة بُح بالضَّم يعني الأقداح التي يقامر بها، وكَأَنَّ المعنى يريد أن يكمل الدَّائرة الدَّلاليَّة ليقول: إنَّ من لا يحب، أو من يكره هو من يقامر بالحياة، في حين أنَّ الحبَّ هو امتلاك للحياة.
ولكن كيف يستطيع المحب امتلاك الكلام، أَو امتلاك الحياة؟
هنا قد بل من المؤكد أنَّنا سنكون أمام الكثير من الأجوبة التي قد تختلف أَو تتوافق. ولذلك لا نزعم أنَّنا نقدم الجواب النهائي في هذا الموضوع، ولكننا سنحاول تقديم مقاربة خاصَّة تأمل أن تكون منهجيَّةً بالقدر الذي يجعلها مقنعة. ولكن قبل ذلك أظن أَنَّهُ من المستملح الوقوف عند مراتب الحب ومستوياته نظراً لوثيق الارتباط بَيْنَها وَبَيْنَ ما نبحث فيه، ونظراً لعدم انفصالها عن مفهوم الحب.
مراتب الحب ومستوياته
أكثر ما يكون الكلام في تحديد الحب هو الكلام في مراتبه ومستوياته وتسمياته، ولا غرو في ذلك فإنَّ التَّسابق والتفنن يكون في استخدام مسمياته ومستوياته ادعاء للشعور بأعلى مراتب الحب تجاه المحبوب، وإرضاء له.
من أوائل اللغويين الذي وضعوا تصنيفاً لمراتب الحب ودرجاته فقيه اللغة الأشهر أبو منصور الثعالبي في كتابه فقه اللغة الذي افتتح المادة المعنونة بفصل في ترتيب الحب وتفصيله بقوله إنَّ هذه المادة منقولة عن الأئمة. أما مراتب الحب وفق ترتيب الثعالبي فهي:
1 ـ الهوى: أول مراتب الحب.
2 ـ العلاقة: وهي الحب اللازم للقلب.
3 ـ الكلف: وهو شدَّة الحب.
4 ـ العشق: وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب.
5 ـ الشَّعف: وهو إحراق الحبِّ القلبَ مع لذةٍ يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، فإنَّ تلك حرقة الهوى، وهذا هو الهوى المحرق.
6 ـ الشَّغف: وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهي جلدة دونه، وقد قُرِئتا جميعاً: شَغَفَها حبًّا وشعفها.
7 ـ الجوى: وهو الهوى الباطن.
8 ـ التيم: وهو أن يستعبده الحب، ومنه سمي: تيم الله، أي عبد الله، ومنه رجل متيم.
9 ـ التبتل: وهو أن يسقمه الهوى، ومنه: رجل متبول.
10 ـ التدليه: وهو ذهاب العقل من الهوى، ومنه: رجلٌ مدلَّهٌ.
11 ـ الهيوم: وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه. ومنه: رجلٌ هائمٌ( ).
هنا تنتهي محاولة الثعالبي في ترتيب مراحل الحب ومراتبه. ولأنَّ هذه المحاولة تقف في طليعة المحاولات النَّظيرة فمن البداهة بمكان أن تتلوها محاولات، وأن تكون أساساً ومصدراً لكلِّ المحاولات التالية، وأن يزيد التالون في المراتب والمستويات. وهذا ما كان في الواقع، ناهيك عن أنَّ هذه المحاولة قد أقدم عليها كثيرون، لا يقلون عن العشرين، ولكنَّهَا كلها كانت وفق النقاط التي أشرنا إليها قبل قليل. ومن ذلك على سبيل المثال أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني الذي جاء بعد الثعالبي بأكثر من ثلاثمئة سنة، فقد نسخ ترتيب الثعالبي إلى كتابه ديوان الصبابة من دون تغيير يستحق التلميح إليه، ومع ذلك نذكر هذا الترتيب للمقارنة:
1 – الهوى: وهو ميل النفس .
2 – العلاقة: وهو الحبّ الملازم للقلب .
3 – الكلف: وهو شدّة الحبّ وأصله من الكلفة وهي المشقّة .
4 – العشق: وهو فرط الحبّ ، والعاشقة وهي اللبلابة تخضرّ وتصفر وتعلق بالذي يليها من الشجر .
5 – الشغف: وهو إصابة شغاف القلب أي حبّة القلب .
6 – الشعف: (بالعين) وهو إحراق الحب للقلب .
7 – الجوى: وهو الهوى الباطن .
8 – التتيُّم: وهو أن يستعبده الحب ّ.
9 – التبتل: وهو أن يسقمه الهوى .
10 – التدله: وهو ذهاب العقل من الهوى .
11 – الهيام: أن يهيم على وجهه لغلبة الهوى عليه( ).
ما فعله التلمساني هو تبديل موضعي الشعف والشغف بالتبادل، وإضافة أصل الكلف لتعريف الثعالبي، واستبدال تعريف الهوى من أول مراتب الحب إلى ميل النفس. أما شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية الذي وضع كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين( ) في فترة التلمساني ذاتها تقريباً فقد كان أكثر معاينة وشرحاً واستفاضة في مراتب الحب خاصَّة، وفي الحب عامَّة، ليس أكثر من التلمساني والثعالبي وحسب بل أكثر من معظم من كتب في هذا الموضوع.
وزَّع ابن القيم كتابه هذا على تسعة وعشرين باباً أولها في أسماء المحبة، وثانيها في اشتقاق هذه الأسماء ومعانيها، وثالثها في نسبة هذه الأسماء بعضها إلى بعض، ورابعها في أن العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها، وخامسها في دواعي المحبة ومتعلقها، وسادسها في أحكام النظر وغائلته وما يجني على صاحبه، وسابعها في ذكر مناظرة بين القلب والعين، وثامنها في ذكر الشبه التي احتج بها من أباح النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به وأباح عشقه، وتاسعها في الجواب عما احتجت به هذه الطائفة وما لها وما عليها في هذا الاحتجاج، وعاشرها في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه، وحادي عشرها في العشق وهل هو اضطراري خارج عن الاختيار أو أمر اختياري واختلاف الناس في ذلك وذكر الصواب فيه، وثاني عشرها في سكرة العشاق، وثالث عشرها في أن اللذة تابعة للمحبة في الكمال والنقصان، ورابع عشرها فيمن مدح العشق وتمناه وغبط صاحبه على ما أوتيه من مناه، وخامس عشرها فيمن ذم العشق وتبرم به وما احتج به كل فريق على صحة مذهبه، وسادس عشرها في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين، وسابع عشرها في استحباب تخير الصور الجميلة للوصال الذي يحبه الله ورسوله، وثامن عشرها في أن دواء المحبين في كمال الوصال الذي أباحه رب العالمين، وتاسع عشرها في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال، وعشرونها في علامات المحبة وشواهدها، وحادي عشرينيها في اقتضاء المحبة إفراد الحبيب بالمحب وعدم التشريك بينه وبين غيره فيه، وثاني عشرينيها في غيرة المحبين على أحبابهم، وثالث عشرينيها في عفاف المحبين مع أحبابهم، ورابع عشرينيها في ارتكاب سبل الحرام وما يفضي إليه من المفاسد والآلام، وخامس عشرينيها في رحمة المحبين والشفاعة لهم إلى أحبابهم في الوصال الذي يبيحه الدين، وسادس عشرينيها في ترك المحبين أدنى المحبوبين رغبة في أعلاهما، وسابع عشرينيها فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا أو أعاضه الله خيرا منه، وثامن عشرينيها فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام، وتاسع عشرينيها في ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المني وسميته روضة المحبين ونزهة المشتاقين والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه فإنه علقه في حال بعده عن وطنه وغيبته عن كتبه فما عسى أن يبلغ( ).
مع هذا الكتاب نحو أمام رؤية شاملة وفلسفة متكاملة في الحب، أما مراتب الحب فقد جعل الباب الأول لسردها من دون تعريف، ذكر منها خمسين مرتبة وقال إن السابقين وضعوا أكثر من شتين مرتبة، وفي ذلك يقول: «اجتمعت هذه المعاني الثلاثة في الحب فوضعوا له قريباً من ستين اسماً وهي المحبَّة والعلاقة والهوى والصَّبوة والصَّبابة والشَّغف والمقة والوجد والكلف والتَّتيُّم والعشق والجوى والدَّنف والشَّجو والشَّوق والخلابة والبلابل والتَّباريح والسدم والغمرات والوهل والشَّجن واللاعج والاكتئاب والوصب والحزن والكمد واللذع والحرق والسُّهد والأرق واللهف والحنين والاستكانة والتبالة واللوعة والفتون والجنون واللمم والخبل والرَّسيس والدَّاء المخامر والود والخلة والخلم والغرام والهيام والتَّدليه والوله والتَّعبُّد وقد ذكر له أسماء غير هذه وليست من أسمائه وإنَّما هي من موجباته وأحكامه فتركنا ذكرها»( ).
لن نقف عند تحديداته الدَّلاليَّة لهذه المراتب والتَّسميات فهذا أمرٌ سيطول بنا، ولكن حسبنا أن نبين أن هذه المستويات والتَّسميات للحبِّ تكشف عن اتساع ميدانه وشموله وتنوع موضوعاته وتعددها، على نحو يؤكِّد ما انتهينا إليه من أنَّ الحبَّ هو ضرب من ضروب امتلاك للحياة، بل الأكثر أهمية وخطورة منها. وبهذا المعنى جاء معجم لاروس الكبير لينتقل من مراتب الحبِّ إلى أنواع، بعدما حدَّد الحبَّ بأَنَّه «ميل القلب نحو شخصٍ أو شيء يجذبه إليه»( ). وبيَّن أنَّ الفلاسفة القدماء «لم يروا في الحبِّ إلاَّ الرَّغبة الجسديَّة، ولكن سقراط وأفلاطون وأرسطو والفلاسفة الرِّواقيين وبلوتارك رأوا فيه عواطف أكثر رفعةً ورِقَّةً»( ). لينتقل بعد ذلك إلى الكلام في أنواع الحب وهي:
1 ـ حُبُّ الوطن: وهو الحبّ الأول بعد حبّ الله كما يقول فيرلين.
2 ـ الميل الطَّبيعي أو العاطفي الذي يدعو أحد الجنسين إلى الجنس الآخر.
3 ـ الحبُّ الحرُّ: وهو الذي لا يتقيَّد بإنسانٍ واحدٍ ، بل يجد ما يرضيه في كلِّ جسد.
4 ـ الحبّ اللحمي أو الشَّهواني: الذي لا يرى في المحبوب إلاَّ الجسد واللحم.
5 ـ الحبُّ الصُّوفيُّ: وهو الذي يتجه إلى الله بدلاً من الاتجاه إلى الأرض.
6 ـ حبُّ الإنسانية: وهو الذي يسمو عن المصالح الفردية والطبقيَّة ويرتفع إلى الإنسان في كلِّ مكان.
7 ـ حبُّ الذَّات: وهو العاطفة التي تدفعنا إلى حفظ ذاتنا وتطوّر فرديتنا ، وهو في شكله السَّامي يَحُثُّنا على إرضاء أكثر ميولنا غيريَّة واجتماعيَّة، وليس حُبُّ الذَّات مناقضاً لحبِّ الآخرين( ).
كمنمملبنمك

الحب والحياة
نعود الآن إلى تساؤلاتنا عن العلاقة بين الحب والحياة. لقد بات أمر هذه العلاقة أكثر وضوحاً مع تحديد الأبعاد الدَّلالية للحب ومراتبه وأنواعه. ومع ذلك فإنَّ المشكلة مازالت قائمة حتى الآن، على الأقل في الذهنيَّة الشَّائعة التي يكاد يكون فيها سواء عامة النَّاس والمثقفين، وهي اقتران الحب بالحب الشَّهوي أو ما يسمى الميل الطبيعي أو العاطفي بَيْنَ الجنسين.
هذا الترابط التلازمي الذي يشبه الترابط الاشتراطي بَيْنَ الحب والميل الشهوي أو العاطفي بين فردين أحدهما ذكر والآخر أنثى، ميلاً متبادلاً أو من طرف واحد، هو الذي حال فهم الحبِّ ببعده العام ومداه الأوسع، في علاقته مع الجمال، مع الإبداع، مع الحياة، على الرَّغْمِ من أنَّ الحبَّ الشَّهوي ذاته يكشف للمحبِّ آفاقاً هائلة من القدرات على اكتشاف الجمال والحياة.
إنَّ علاقة الحب بالحياة علاقة معقدة ولكنها سهلة، يمكن أن توصف بالوصف كثير الشيوع الدال على الواضح الصَّعب الفهم، وهو أنَّ فهمها من السهل الممتنع. ربما ينطوي هذا الحد على نوع من التناقض، ولكن هذه هي حقيقة علاقة الحب بالحياة، ولمثل ذلك قالت العرب: «من أشد المعضلات توضيح الواضحات».
علاقة الحب بالحياة تعني علاقة الحب بكلِّ ما في الحياة من دون استثناء، وإذا أردنا التخصيص قلنا علاقة الحب بحياة الإنسان، قنا بمعنى آخر علاقة الحب بالإنسان، وسينفتح أمامنا أفق ما يجعل الإنسان إنساناً، والإنسان إنسان بالطبع، ولكننا نعني ما عنته الفلسفات الكثيرة التي تحاول الحديث عن الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو متمايز به في كينونته عن الحيوان والجماد والنبات وحسب بل بما يحقق إنسانيَّته.
كثيرون يساوون بَيْنَ الحب والحياة، ولكن هل يجوز أن نساوي بَيْنَ الحب والحياة؟ وإن جاز فكيف يمكن أن نساوي بَيْنَهُما، وإن لم يجز فكيف يمكن أن نفهم العلاقة بَيْنَ الحب والحياة؟
بالمجازات ومخيلات الشُّعراء والأدباء يسهل الرَّسم بالكلمات، وتنساب على اللسان العبارات كما تنساب بيد الرَّسام على اللوحة الفرشاة، وإذا كان ثُمَّةَ من يتنطَّع لوسم نواتج مخيلات الشُّعراء والأدباء بالتَّهويم والتَّحليق فوق الواقع، فإنَّ هناك من يحاول إرجاع هذه التهويمات والتَّحليقات فوق الواقع إِلى حقيقتها وواقعيتها ليسبر من خلالها أصولها وأسبابها، ليؤكد في المحصلة أنَّ المخيلة مهما سَمَقَتْ في تحليقها فإنَّ لها جذوراً واقعيَّة لا يمكن أن تنفصل عنها.
إذن مهما تباينت وجهات النَّظر في الرَّبط بَيْنَ الحب والحياة فإنَّ لها أصولاً في الواقع الفعلي، ستختلف من ناظرٍ إِلى ناظرٍ، ومن ممارسٍ إِلى ممارسٍ، ولكنَّهَا تشترك بخيط تجعل منها نسيجاً سداه من الحب والحياة.
وأيُّ حبٍّ هو الذي نتحدث عنه؟
إذا كانت العامة تكاد تجمع على ألاَّ تفهم من الحب إلاَّ أَنَّهُ العلاقة القائمة بَيْنَ شاب وشابة غالباً ما يكون مراهقين، من طرف واحد أو من طرفين، فإنَّ الفلاسفة والأدباء لا يختلفون في أنَّ الحب ليس محصوراً في تلك العلاقة الغريزية بَيْنَ ذكر وأنثى متقدي المشاعر والانفعالات.
اتِّقاد المشاعر والانفعالات أبرز معالم الحب؛ مقدِّمات ونتائج. وهذا الاتقاد في المشاعر والأحاسيس سواء أكان في المقدمات أو في النَّتائج يعني بالضَّرورة تجاوز رتابة الحياة في أيِّ ميدان كان فيه اتقاد المشاعر والأحاسيس، على الأقل. ويعني على نحو مباشر أيضاً انعطافاً في الحياة، وعلى هذا الأساس نفهم كيف غَيَّرَ الحبُّ مسارات حياة الأشخاص، وكثير منهم تحوَّل بهذا الحب، اتقاد الانفعالات، من شخصٍ إِلى علمٍ، إِلى تاريخ.
جوانب كثيرة يمكن أن ندرس من خلالها علاقة الحب بالحياة. وقفت بعض الدراسات والأبحاث عند بعض الجوانب، وبقيت جوانب أخرى مهمة بعيدة عن أضواء الباحثين.
وقفنا عند الجانب اللغوي والأبعاد الدَّلاليَّة التي أوصلتنا إلى فهم معنى الحب، ومعنى الحب هو الذي قادنا إلى أَنَّهُ بطبيعته امتلاك للحياة، وأَنَّهُ اختصار للغة، لكل الكلمات، ولكن هذا المعنى لم يبيَّن كيفية امتلاك الحياة.
لننظر إلى الأمر نظرة علمية محض. الإنسان بعد الروح فكر ومادة، المادة هي كلُّ ما عدا الدِّماغ في الجسم، والدماغ هو العقل، هو الفكر. ولكنَّ الدماغ قبل أن يكون عقلاً وفكراً ليس إلا كتلة من اللحم / الدهن لا تختلف من جهة المبدأ، وحَتَّى التَّركيب إلى حدٍّ ما، عن أيِّ قطعة لحم أخرى من الجسم.
يتحول الدماغ من كونه كتلة دهنية إلى عقلٍ من خلال عمليةٍ معقَّدةٍ بقدر ما هي سهلة، هي ما يسميه طوني بيوزان أغذية العقل، يقول: «يحتاج الدِّمَاغ إلى أربعة أغذية أساسيَّة:
أولاً: يحتاج للتغذية الجيدة.
ثانياً: يحتاج للأوكسجين.
ثالثاً: يحتاج للمعلومات كي يكون حيويًّا نشيطاً.
رابعاً: يحتاج للحبِّ والاهتمام»( ).
إذا نظرنا إلى الموضوع بشيء من التَّروِّي والتفكير الهادئ وجدنا أن طوني بيوزان لم يأت بجديد. ولكن ما كان هذا الحكم ليكون لولا أننا قرأنا ما كتبه بيوزان، بات الأمر سهلاً عندما فتح أمامنا أفق النَّظر إلى الموضوع من هذه الزَّاوية. صحيح أنَّ الأمر ليس فيه اختراع ولكنه كشف مهمٌّ فتح أمامنا مدخلاً مهماً لفهم كيفية تكون العقل وفعله.
سنعيد بطريقتنا بناء هذه الأغذية التي يحتاجها الدِّماغ كي يصير عقلاً، ويصير الجسم البشري إنساناً.
الغذاء الأول الذي يحتاجه الدماغ هو الغذاء البيولوجي، مثله مثل أي قطعة أخرى في الجسم، هو السكر. ولكنَّ السكر يحافظ على الدماغ كتلة حية كما تحافظ الأغذية على السلامة البيولوجية للعضلات والغدد والأعضاء الأخرى. فإذا اقتصر الدماغ على السكر اقتصر على كونه كتلة بيولوجية، دهنية فقط.
الغذاء الثاني الذي هو الأوكسجين لا يختلف من جهة العقل والمبدأ عن الغذاء الأول، فالأوكسجين كما يلزم كلَّ الكائنات الحية للتنفس كذلك يلزم للدماغ للبقاء حيًّا.
الغذاء الثالث الذي هو المعرفة هو أول غذاء ينتقل بالدماغ من كونه كتلة دهنية، لحمية، إلى عقل. عندما يمتلك الدماغ المعرفة يصير عقلاً. العقل لغة هو الربط، والمعرفة لا تكون معرفة إلا بالرَّبط بمختلف معانيه. هذه المرحلة من التحول هي التي يمر الإنسان بالإطلاق طالما هو موجود في مجتمع، بَيْنَ النَّاس، لنَّ تلقي المعرفة غالباً ما يكون إلزاميًّا، قسريًّا، طالما هو موجود بَيْنَ النَّاس.
الغذاء الرَّابع الذي هو الحب هو الذي يرتقي بالعقل إلى مستوى الفكر، وبحصول العقل على هذا الغذاء يصبح صاحب العقل صاحب هويَّة، وغالباً صاحب رسالة، فالحب المقصود ليس الحب الشَّهوي وحسب، بل النظر إلى الوجود؛ الله، الإنسان، الطبيعة... بحب، النظر إلى الوجود مثل النظر إلى المحبوب. ولنعد إلى طوني بيوزان الذي يشرح هذه الفكرة بطريقته، يقول: «فكِّر في الألم، أو اليأس الذي يسيطر عليك عندما تحرم من الحب…»( )، وحتى يدفع أيِّ لبس عن علاقة العقل الحب والمشاعر يعقب قائلاً: «إنَّ الدِّمَاغ هو مركز الشـعور، وليس القلب. وعندما تُشْبَعُ حاجته إلى الحب ستكتشف أن معظم عناصر السيطرة على الذات، وتطويرها، ستتحقق على نحوٍ أفضل»( ).
إذن أول ما ينتج عن تناول العقل ما يكفيه من الحب السيطرة على الذات والثقة فيها وتطويرها. ولكن السؤال الذي يفرض ذاته هنا هو: ما جهة الحب؟
يبدو أنَّ جهة الحب هنا هي من الخارج إلى الداخل، ليكون العقل متلقيًّا للحب لا مصدراً له. هذا صحيح إلى حدٍّ ما، لأنَّ أهميَّة أن يكون المرء محبوباً لا تقل عن أهميَّة أن يكون مُحبًّا. ومع ذلك فإنَّ اتجاه الحب من الداخل إلى الخارج لا يقل قدرة عن اتجاه الحب من الخارج إلى الداخل، ولا يختلف عنه تأثيراً من جهة المبدأ. لا ندري أيهما أكثر فاعليَّة، الأمر فيما أظن مرتبط بالإنسان الفرد، بالشَّخص، وبالفروق الفرديَّة. ومن هذا الباب نتفق مع طوني بيوزان في أنَّ الحبَّ بهذا المعنى «يشغل الحواس كلها، ويمنح الجسد حيويَّةً رائعة، ويزوِّدُ الدِّمَاغ بغذائه المهم. وكلُّ شخصٍ يقوم بمجهودٍ واعٍ في سبيل تحسين لياقته، يكون قد اتخذ خطوة أساسية نحو تطور حياته كلِّها... وستلاحَظ بعدها زيادةٌ في الذكاء والإبداع، وزيادة في القدرة على الاحتمال، مع انخفاض في معدِّل التَّوتُّرِ والقلق...»( ). لأنَّ هذا الحبَّ الذي نرسله أو نتلقاه، والأفضل أن يكونا معاً، يعزز ثقتنا في أنفسنا، على الأقل، انطلاقاً من ثقتنا في الآخرين وحينا لهم وحبهم لنا.
تحدَّثنا في هذا المستوى من العلاقة بَيْنَ الحبِّ والحياة عن علاقة مطلقة، تصحُّ أحكامها على العلاقة بَيْنَ الحب وأيِّ موضوع من موضوعات الحياة. كلام أفلاطون في العلاقة بَيْنَ الحب والفن والجمال يندرج في هذا الباب أكثر ما يندرج في غيره، ذلك أنَّه بما قدَّمه الفيلسوف اليوناني على هذا الصَّعيد استحقَّ أن يعدَّ كما رأت أميرة مطر «من أعظم من استطاع التَّعبير عن موقف الإنسان حِيْنَ يجد نفسه ممزَّقاً بَيْنَ وجوده الأرضي في عالم الصَّيرورة والتَّغيُّر، وتطلُّعه إلى العالم الأعلى حيث يتمثَّل له فيه الجمال والكمال والخلود»( ). بل ثَمَّةَ الكثيرون الذين يرون أنَّ أفلاطون إن امتاز بخلق فكرة المثاليَّة وعالم المثل فإِنَّهُ امتاز أكثر بكونه فيلسوف الحب والجمال، لأنَّ الجمال إحدى دعامات عالم المثل الثَّلاث، والحب هو الصِّلة الحقيقيَّة الواصلة بَيْنَ العالم الحسيِّ وعالم المثل؛ بَيْنَ الإنسان والآلهة.
انطلق أفلاطون في فهمه الحبَّ وتقديسه له من أنَّ الحبَّ الأسمى هو الحبُّ الذي يكون مُنَزَّهاً عن المصالح الرَّخيصة الخسيسة الدنيويَّة، بعيداً عن الرَّغبات والنَّوازغ الغريزيَّة، ولذلك فإنَّ الحبَّ بَيْنَ الرَّجل والمرأة لن يكون مقصوداً بهذا التَّحديد، فالحبُّ بَيْنَ الرجل والمرأة محكوم دائماً بالرَّغبة واللذة، وهذا ما يُفْقِدُ الحب السَّامي وظيفته ودوره. ورُبَّمَا استمدَّ هذا الفهم من معلمه سقراط الذي «كان يحبُّ في الفتية نفوسهم ويتسامى بحبِّه لهم فينشد بهذا الحبِّ تحقيق الخير والفضيلة، ويوجِّه من أحبَّهم إلى المعرفة الفلسفيَّة»( ).
الحبُّ الذي يستطيع أن يتسامى فوق اللذائذ الدُّنيويَّة الزَّائلة إذن هو ما يقوم بَيْنَ شابين، بَيْنَ رجلين، لأنَّ هذا الحبَّ سيكون خالياً من دوافع اللذة أَو النَّشوة أَو المتع العَرَضيَّة.
ولكن أفلاطون لم يسلم من الطَّعن من هنا كما لم يسلم من الطعن في غير هذا المكان، من خلال فهمٍ إمَّا هَدَفَ إلى الإساءة عمداً، أَو نَتَجَ عن جهلٍ وسوء قراءة وانعدام فهم، فقد زَعَمَ هؤلاء أنَّ أفلاطون إذ يقدِّس هذا الحبَّ فإِنَّهُ يدعو إلى الرَّذيلة من خلال تشجيعه الجنسيَّةَ المثليَّةَ، بل ذهب بعضهم إلى أَنَّهُ كان شاذًّا، وهذا في حقيقة الأمر لا يعدو كونه خبط جاهلٍ أَو إساءة حاقدٍ، لأنَّ أفلاطون لم يكن كذلك أبداً، ولم يدع إلى ذلك أبداً، بل لَعَلَّ مما دفع أفلاطون إلى ارتقاء بهذا الحبِّ بهذه الطَّريقة ونقل الحبِّ بَيْنَ الرَّجل والرَّجل، والمرأة والمرأة، إلى هذا المستوى من القداسة هو الشُّذوذ الذي كان سائداً في اليونان في عصره، أراد أن يحارب هذا الشُّذوذ بدفع النَّاس إلى الارتقاء والتَّسامي بالمشاعر للوصول إلى الاتِّحاد بالعالم العلوي.
أمَّا العامل الثَّاني الذي أفاد منه أفلاطون في التَّأسيس لهذا الحب السَّامي فهو أنَّه كان موجوداً على نحوٍ قريب في كلٍّ من إسبارطة وكريت، إذ كان لكلِّ غلامٍ صديق يكبره سنًّا، يدرِّبه ويعلمه، ويكون مسؤولاً عن كلِّ تصرفاته. وما يؤكِّد هذه الحقيقة التي استلهمها أفلاطون ما اشتهر عن مثل هذه الفرق المحبة من تعاضد وتآزر واستماتةٍ في الدِّفاع عن الوطن، ومن هذه الفرق فرقة طيبة ـ The Thebean Band «المكونة من أفرادٍ يرتبط كلٌّ منهم بعلاقة الحبِّ، وكانوا يحاربون جميعاً جنباً إلى جنبٍ، ويضربون أمثلة في الشَّجاعة، ويحرزون النَّصر تلو النَّصر، ولم يهزموا أبداً حَتَّى موقعة خيرونا ـ Chaeronea. وعندما استعرض فيليب قتلى المعركة ورأى الثلاثمئة قد قتلوا جميعاً، وعلم أنَّهُم أفراد فرقة المحبين قال عبارته الشَّهيرة: لعن اللهُ من ظنَّ أنَّ في إمكان هؤلاء عمل أيَّ شيء مشين»( ).
يتحدَّد الحبُّ وَفْقَ أفلاطون بموضوعه وغايته، وقد وَجَدَ الفيلسوف أنَّ غاية الحبِّ هي الجمال والخير. أن يكون الجمال غاية الحبِّ فهذا أمر قابل للفهم من دون تفسيرٍ، ولكن لم كان الخير غايته أيضاً؟
الحقُّ أنَّ العلاقة بَيْنَ النَّافع والجميل في الفلسفة اليونانيَّة لم تكن متمايزةً، ولن تجد تمايزها الكافي إلا بعد مئات السِّنين. فإذا كان الحبُّ هو «الميل إلى الجمال والخير»( )، كان من الطَّبيعي أن يكونا غايته. وإذا كان الجمال والخير معاً هما غاية الجمال فهذا يعني بالاستنتاج المنطقي أَنَّهُ «لا يمكن أن يكون القبح ولا الشَّر غاية له»( ).
الحبُّ إذن رغبةٌ، ولكِنَّهَا رغبةٌ ساميةٌ بالتَّأكيد لأنَّهَا تجعل موضوعها وغايتها عالم المثل عالم الحقائق الأبديَّة، وترنو إلى الاتِّحاد بهذا العالم الإلهيِّ، ولما كان العالم الإلهي هذا ممثلاً بأقطاب المثل الثَّلاثة؛ الحق والخير والجمال، وكان الخير والجمال هما موضوع الحبِّ وغايته، فإنَّ النَّتيجة اللازمة عن هذا الحبِّ هي الخلق الفنِّيُّ والجماليُّ وتحقيق الخير.
هذا يعني أنَّ الحبَّ إذا دخل القلب بأيٍّ من جهتيه فإنَّ سيجعل المرء قادراً على إبداع الحياة، هو لن يبدعها من جديد، ولكنها يعيشها وكأَنَّهُ يبدعها، وسنقف في الفقرة التالية عند أنموذج يصح أن يسمَّى أنموذجاً تطبيقيًّا، نتناول فيه العلاقة بَيْنَ الحب الجمال بمعناها الأوسع، وكيف يمكن للحب أن يجعل الحياة أجمل.
الحب يجعل الحياة أجمل
الحبُّ عند أفلاطون إذن هو المعادلة السَّليمة للخلق الفنِّي الأصيل الصَّافي الذي يحاكي عالم المثل مباشرة وليس عن طريق العالم الحسي الذي هو نسخة ثانية من العالم الأصلي. وهذا يعني من ناحية ثانية أَنَّهُ كُلَّما سما الحبُّ أكثر، وتسامى عن عالم الحسِّيات والرَّغبات الحسيَّة الدُّنيويَّة كان الإبداع أكثر أصالة، أكثر تعبيراً عن عالم الحقائق الأبدية، وكان من ثمَّ أكثر جمالاً.
المحب دائماً يرى الأشياء أجمل، أيَّ شيء نحبه نراه أجمل من غيره، ونرى كلَّ ما يتعلق به أجمل من غيره. هذه المسألة حقيقة نفسيَّة مقرَّرة بالمعاينة والتجربة والمعارف المتناقلة. ومن هذا الباب كان جواب الأعرابي، أو رُبَّمَا مجنون ليلى عندما سئل عن كيفية رؤيته جمال محبوبته فقال: «أرى الشَّمس على جدار بيتها أجمل منها على جدار بيت غيرها». ومن ذلك أيضاً كان الشِّعر الشَّهير جدًّا للشَّاعر عبد الله بن معاوية الذي قال:
فَلَسْـــتُ بِرَاءٍ عَيْبَ ذِيْ الوِدِّ كُلَّهُ = وَلا بَعْــــضَ مَا فِيْهِ إِذَا كُنْتُ رَاضِيَا
فَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ = وَلكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
عبد الله بن معاوية قدَّم لنا في هذين البيتين أثر الحب في المرء من الجهتين؛ جهة الإرسال وجهة التَّلقِّي، فهو لا يرى عيب من هو يكن له الود ولا عيب من يكن هو له الود. ومثل ذلك أيضاً ما قاله الشَّاعر إلياس فرحات:
الْحُبُّ يَذْهَبُ بِالفَوَارِقِ كُلِّهَا = وَيُحَبِّبُ الشَّقْرَاءَ وَالسَّمْرَاءَ
وَيُجَمِّلُ الشَّوْهَاءَ حَتَّى لا تَرَى = عَيْنُ الْمُحِبِّ حَبِيْبَةً شَوْهَاءَ
لن نتتبع أمثال هذه الأشعار والأقوال لأنها أكثر من أن تحصى في التراث العربي وتراث الشُّعوب الأخرى، وهي كلها تؤكِّد حقيقة واحدةً هي أنَّ الحب يجعل المرء يرى الحياة أجمل، يرى المحبوب أجمل من غيره، سواء أكان المحبوب إنساناً أم شيئاً ماديًّا أو معنويًّا. ولَعَلَّهُ من هذا الباب أيضاً كان قول الجاحظ «إنِّي رُبَّما رأيت الرَّجل متماسكاً وفوق المتماسك حَتَّى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيته متهافتاً وفوق المتهافت»( ).
هذا القول للجاحظ يكشف لنا عن مدى ما يلزم عن الحب من مرونة وحنان وحساسيَّة تجاه من وما نحب. قد يصعب تفسير ذلك تفسيراً شافياً، ولكن الحقيقة المؤكدة هي أنَّ المحب يضعف أمام ما ومن يحبه، يرضخ له وفق ما هو عليه لا وفق ما يريده هو.
ثَمَّةَ نظريَّةٌ تحاول أن تفهم ذلك من الزاوية المقابلة، تفترض هذه النظرية أنَّ المرء عندما يحب أحداً أو شيئاً فإنه يحبه لأنه يراه محقِّقاً لشروطه ومتطلباته ومعاييره، عندما ينظرُ المرءُ إلى الموضوع بعين الحبِّ فإنَّه يراها قريبةً من معاييره الجماليَّة موافقةً لها. هذه الحقيقة يقرِّها بعضٌ وبعضٌ لا يدرها وبعض ٌآخر يرفضها، ويمكن القول إنَّ العُشَّاقَ يدركونها ويعيشونها، وما أَكثر ما قيلَ في ذلك. لننظر في قول قيس بن الملوَّح في عشقه معشوقته ليلى:
أَمــــرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْــلَى = أُقبِّـلُ ذَا الجدارَ وَذَا الجـِـــدَارَ
وَمَا حُبُّ الدِّيارِ شَغَفْـنَ قَلْبِي = وَلكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيارَ
يتَّجهُ العاشق في هذه الحال إلى إضفاء لبوسٍ ذاتيٍّ على الموضوع الجماليِّ، يرى من خلاله مُثُـلَه وقيمه الجماليَّة العليا متحقِّقةً في هذا الموضوع على رغم أَنَّه قد يكون مفتقراً إليها في الواقع والحقيقة، أَو ربَّما تكون موجودةً فيه فعلاً.
هذا يعني أَنَّ المرء، المتلقي، يجرِّد الموضوع أَو الأثر الجماليَّ من خصائصه الموضوعيَّة، الواقعيَّة، أَو لنقل إنَّهُ يتجاهل ما يتصف به الموضوع أَو الأثر الجمالي من خصائص وسمات ومعالم... ويقوم بإسقاط المقومات والخصائص الجماليَّة التي يرها مثلاً أعلى على الموضوع أَو الأثر المحبوب، حَتَّى يبدو الموضوع وكأنَّهُ يحمل فعلاً الصفات والخصائص والمزايا التي يفضلها المرء ويحبها، فلا يرى المرء الموضوع المحبوب على حقيقته وإِنَّمَا يراه ما كما يريد أَو يتمنَّى أن يراه. ولَعَلَّنَا نذكر هنا ليلى العامريَّة التي فُتن النَّاس بها من وصف قيس لحسنها حَتَّى استدعاها الخليفة ليرى هذا الحسن الذي أبدع به قيس روائع الشِّعر العربيِّ، وعندما رآها دهش من بعدها عن الوصف فقال لها:
لست كما وصفك قيس!!
فقالت: لأَنَّك لم ترني بعيني قيس.
هذه القصَّة، وهي ليست نادرةً على الإطلاق، بل هي الأكثر تكراراً في حياتنا، تبدي لنا كيف أنَّ الذَّات لا تبالي بخصائص الموضوع أَو الأثر الجماليِّ لأَنَّها تنظر إليها بعين المحبَّة وتسقط عليها كل الخصائص والمزايا والسِّمات التي تحبُّها الذَّات وتفضِّلها، لأنَّ مشاعر الحبِّ الجيَّاشة تدفع المرء للاندماج بالمحبوب، أَو الاتحاد فيه، فإذا حدث ذلك يختلط على المرء ما يراه وما يريده، وما هو في الموضوع وما هو عنده، وهذا ما عَبَّرَ عنه ابن خلدون بقوله الذي أشرنا إليه قبل قليل: «ولهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبَّة يعبِّرون عن غايةِ محبَّتهم وعشقهم بامتزاج أَرواحهم بروح المحبوب، وفي هذا سرٌّ تفهمه إن كنتَ من أَهله، وهو اتِّحاد المبدأ»( ).
هذا ليس مقتصراً على العاشق والمعشوق بالمعنى الدَّارج، الشَّائع، وحسب، بل على كلِّ ما بَيْنَ المرء وما يحبُّه من الموضوعات على اختلاف مضامينها وتباين أَشكالها.
وفي المقابل من ذلك فإنَّ مشاعر الكره أو المشاعر السلبية تجاه الموضوع تقوم بوظيفة مماثلة ولكنها معكوسة الفعل، فإذا كانت انفعالات الحب تدفعُ الإنسان إلى رؤية كلِّ المحاسن في المحبوب وفاقاً لما ارتسم في مخيِّلته من معاني الجمال السَّامية، وغضِّ النَّظرِ عن المعايب أَو عدم رؤيتها، فإنَّ انفعالات الكره أو الرفض تقوم بنزع الصفات الإيجابية والحسنة والجميلة عن الموضوع، وربما تشويهه، بل إلى تشويهه في أغلب الأحيان إن لم تكن كلها.
يقول أَبو الطَّـيِّب المتنبِّي واصفاً إسحق بن إبراهيم بن كيغلغ الذي تربطه به عداوةٌ وكراهيَّةٌ قديمة:
وَجُفُوْنُهُ مَا تَسْتَــــقِرُّ كأَنَّها = مَطْرُوْفَةٌ أَوْ فُتَّ فِيْها حُصْرُمُ
وَإِذَا أَشَــارَ مُحدِّثاً فكأَنَّه = قِـْردٌ يُقَهْــــقِهُ أَوْ عَجــوزٌ تَلْطُمُ
يبدو جليًّا أَنَّ الانفعالات المنفِّرة لا تجنح بصاحبها إلى انتزاع صفاتِ الحسنِ من الخصم وتعريته منها وحسب، بل تقود إلى تصوير الخصم على نحوٍ مَسْخِيٍّ (كاريكاتيري)، أَي تجريد الشَّيء/ الطَّرف المكروه من خصائصه الجماليَّة ورؤيته بمنظار المسخ حيناً وحيناً بمنظار التَّناقضات.
إنّ المرء في هذه الحال يجرِّد الموضوع من خصائصه وسماته ومزاياه الجماليَّة، خاصَّةً منها المحاسن، ليسقط على الموضوع بديلاً عنها كلَّ مكروهٍ وممجوجٍ ومنبوذٍ، بدرجةٍ من الدَّرجات، هو لا يفهم الموضوع من النَّاحية الجماليَّة فهماً مقلوباً وحسب، وإِنَّمَا يقلب فقط الخصائص الإيجابيَّة ويحلُّ محلَّها قيماً سلبيَّة بطريقةٍ من الطُّرق التي تتناسب مع شخصيَّتِهِ وعقليَّتِهِ وثقافته. ولكِنَّها على أيِّ حال عمليَّة تشويهٍ للخصائص الجماليَّة للموضوع لتبدو متناقضةً، مضطربةً، قلقةً. وهذا ما نجده على نحوٍ واضحٍ في الآثار التَّهكُّميَّة اللاذعة التي خلَّفها لنا الجاحظ والتَّوحيدي وبرناردشو وموليير وغيرهم، وهذا ما نجده في حياتنا العملية مع كل إنسان يكره إنساناً أو شيئاً؛ إنَّه بسبب مشاعر الكره التي يكنها لا يستطيع أن يرى الموضوع على نحو يجد فيه شيئاً جيِّداً أو جميلاً أو محبوباً، لا يرى في الموضوع شيئاً يحبه لأنه لو مجد ما حيه فيه لأحبه أو لم يكرهه.
إنَّ مشاعر الكره، بغض النظر عن صوابية أسبابها أو عدمها تحرم المرء من كلِّ فرص التعامل المثمر مع الموضوع المكروه، خلاف مشاعر الحب التي تفتح أمام المحب كلَّ آفاق الرؤية الإيجابية الخلاقة، وتمنحه كثيراً من فرص الفهم الصحيح.
قد يكون الحب عاملاً في الفهم الخاطئ، ولكن من المؤكد أن البغض سيؤدي إلى فهم خاطئ، وقلما ندم محب على أنَّ الحب أدى به إلى فهم خاطئ، ولكن هيهات تجد من اكتشف خطأ له أدى إليه الكره ولم يندم على خطئه.

خاتمة
نتساءل بعد كلِّ ما تحدثنا فيه: ما الذي نختاره؟
أنختار الحب أم نختار الكره؟
لَعَلَّهُ من السذاجة بمكان أن نتساءل هذا السؤال، فالكل يعرف ويكرر حقيقة أنَّ مشاعر الحب والكره لا تتخذ بقرار، إنها مسألة مرتبطة بالبنية الشخصية لكل امرء على حدة، ولتجربته في حياته، وللأشخاص والموضوعات في حياته.
ولكن مع ذلك لا يمكن إلا القول دعونا نجرب. إن التجربة والمحاولة غالباً ما تؤدي إِلى نتيجة، إِلى تغيير ولو طفيفٍ، وأيُّّ تغيير ولو طفيف مكسب إيجابي يستحق المحاولة. ولنتذكر هنا المثل الشعبي القائل: «سئل المسمار: كيف تستطيع الدخول في الجدار؟ فقال: من كثرة الضرب على رأسي».
إنَّ أسعد النَّاس هم العاشقون، المحب دائماً سعيد مرتاح البال مهما كانت تجربته مع من وما يحبه، والكارهون يستحقون الشفقة من شدَّة ما يعانون، ولذلك تجد الحكماء يقولون دائماً: يجب أن نشفق على الحاقد والحسود لا نلعنهم لأنهم يتعذبون أكثر مما يسببونه من عذاب للآخرين.


ـــــــــــــــــــ
ــــــــــــ
ـــــ

الحبُّ والحياة
الدكتور عزت السيد أحمد


.

صورة مفقودة
 
أعلى