عمر محمود سالم - هَحْ من بعيدْ: تنويعاتْ التأوّه المُفارقة

لي عشراتُ الأسئلة حول الرغبة، رغبتي، ولا أملكُ جواباً واحداً. لا يُبيّن هذا فقط أن الرغبة تحتفظ بذلك المظهر اللغزيّ، العصيّ على الفهم، بقدرما يُبيّن أنها تسعى دائماً لتكون مجهولة: لا نحملُ عنها أدنى فكرة، نُطاردها عبثاً. وحين نُطاردها تتمادى في الهروب حتى أقصى حدٍّ متوقع. تُريد الرغبة منّا أن نفهمها، على نحوٍ واحد، في حين أنها متشعبة التجليّات. وهي إذ تُريد تضليلنا أنها واحدة، تعمل على تشتيتنا شظايا عدّة. بأحاديّتها الحصريّة تُريد أن تخلق فينا تعدديّة لانهائيّة، بذلك نتيه قليلاً عنها في خضّم أنفسنا، فتجدَ هي فجوةً تخرج منها هاربةً إلى مصيرها الهارب. حين يظهر أنّ تجسيدات رغبتنا هي في المقام الأول طريقتنا الخفيّة للتعرّف عليها: تبدو الرغبة هنا جنساً لا يُفهم إلاّ من خلال نفسه. بالتالي النتيجة هي أنّ الرغبة، تنجح دائماً، حتّى من خلالنا، ونحنُ نفشلُ دائماً. والرغبة هي موضوع انفصالٍ، انقطاعٍ مُطلق. لا تبدو لصيقة بنا، إلاّ وهي ترقصُ مزهوةً بنجاحها علينا. يالِ لْمعلونة!

رغبتي هي تلك الرغبة التي تُغالبني فأغالبها. أمرٌ يدفعك للتفكير في قدريّة وجود الغين التراجيدية هذه. والغينُ حرفُ زهوٍ، تتدرج في مقاماتِ الانتهاء المُشرفة. رغبتي هي تلك الرغبة التي تُباغضني وأباغضها. من يحبُّ رغبته؟ لا أحدَ قطعاً. وإنْ وُجدَ، ذلك الأحد، وأحبَّ حقاً، فلاشكَّ أنه حب عبوديّة تحققت وقتَ خضوعه لها. أنا أبغض رغبتي. بغضٌ يظهر واضحاً حين يُبصق غضيبي آخر المبارزة ريق روحه المغلوبة. بغضٌ متأفِفٌ، متغطرسٌ، غير متذلل أبداً. بغض يشبه المحبة في سموها.

ذات مرّة، في معركة مُغالبة مع الرغبة، فكّرَ أحد أصحاب النبي محمد بقطع ذكره، تجنباً للفتنة، أي الرغبة. فنهره النبي إثر تفكيره ذاك ناهياً. مرةً أخرى بعد ذلك جاء صوفيّ زاهد، كما في حكاية يرويها ابن عربيّ، ورضخ ذكره بين حرجتيْن، خوفاً على نفسه من جمال امرأةٍ كانت ترافقه بعد أن انقذها من غزو الموحدين. هاتيْن الحادثيْن تشيرانِ بوضوحٍ إلى خوفٍ من الرغبة فينا، هو في نفس الوقتُ عنصر وجودها الطاغي. لا رغبة بدون خوفٍ، يبدو عميق التجذر فينا. هوية الرغبة، رغم تحوّلها المستمر، هي الخوف الكامنِ فيها. هنا يبدو أنّ قطع القضيب أو رضخه بين حجريْن هو نفسه نوعٌ من الرغبة. فالرغبة من شدة الاحتيال تُعبّر عن نفسها بطرقٍ لا تُحصى كُلّما كُشفت ازدادت كثرةً.

الرغبة ليست حقيقيّة إلاّ وقتَ غيّابها. هي مشكلةٌ في كلِّ شيءٍ. بدايةً من فرويد وحتّى ترامب الذي يبدو أن سائله المنوي يُعاني تعرقلاً شديداً. اختلاط الرغبة العجيب-الرغبة اللعينة. جميع الطغاة والأنبياء والمُبدعين هم نتاج رغبةٍ مأزومة. الرغبة في تحقيقٍ ذاتيّ كان مصيره التعثّر.

منافذ للفم منها ينادي

الفم للنداءِ، على منبر مهتزّ. فمٌّ له وضعيّات الجذب الكُبرى. وضعيّات الانفتاح الأخيرة. فمٌ له منافذٌ منها يُنادي نفسه حين يصيبُ الصمم كل الأشياء. منافذٌ هي بوصلة سدرة المُبتدى.

*

فمي يُنادي برعشةٍ كرعشة الشهيد عند رؤيته ما يتخيّله حورَ عيْنٍ أو يوتوبيا. وأنا أرتعشُ حقاً حينُ اتصلُ بـ”أحلامْ”: حبيتي التي ضللتُ الطريقَ نحوَ كلّ شيءٍ حاشاها. تعرفُ أحلامَ عبء أن يُنادي لساني منافذها كلّ تلك النداءات المستحيلة الاستماع، لذلك تُقابلني بمزيدٍ من الاسترخاء. استرخاءٌ شبيهٌ باسترخاء القدير الأعلى على عرشه وفي يده تهتزُّ مفاتيح شؤون الكون كاملاً- أصل الجلسة البيروقراطيّة الحديثة. تسترخي أحلامْ لأنها تمتلكُ مفاتيح منافذ ندائيّ الفمويّ. منافذٌ لا تستجيب إلاّ بعد الكثير من الطّرقْ المُلّح.

لأوّل مرةً حين تقابلنا قلتُ لها: “اشتقتُ لكِ كثيراً” فردّتْ عليَّ تبكي بحرقةٍ: “أنا أكثر”. شرعنا معاً نُجهّزْ الأرضَ لاستقبالنا ومن عينيْها الصافيّتيْن باتساعٍ مُدهشٍ يتساقط دمعٌ شديد الحرارة. دمعٌ لم يُفارقْ عينيْها إطلاقاً. دمعٌ به تُرطب تعبيرها فيضفي ذلك على وجودي فرحاً.

كانت ترتدي ملحفةً بنيّة اللّونْ مع ميلٍ لسوادٍ خفيف. ملحفةٌ مُعتقة بالعطور التقليديّة ذات الرائحة التي تجعل المرء يتخيّل نفسه ورقةً عشبٍ طائرة. خفةٌ حلوة. أسألها عن الملحفة وتجيب أنها هدية من جدّتها. في عيْنها كحلٌ خفيف بدتْ به فاتنةً كشمسٍ على وشكِ الغروب في عناقٍ مع شراع سفينةٍ في البحر. تقتربُ مني فأشعرُ بنفحٍ عميق يخرجُ من شعر رأسها. أشدها إليَّ فتنجذبُ سهلةً وهي مغمّضة العيْنيْن. قبلٌ عنيفة نتبادلها وكأنّنا في انتظار أن يتمّ طيّ الأرض تحتنا لأنّ العالم قد انتهى قيّامة. فجأةً أشعرُ بدموعها حارةً على وجنتيَّ فأدركُ أنّها مشتاقة جداً: هذه الفتاة دمعةٌ على وشك السقوط. تتحركْ يدايَ بلا إرادةٍ مني وتتحسّسْ جسمها الصريح في تعبيره: عنقٌ جميل. ثديانِ نافرانِ رغبةً بحلمَتيْنِ مُشاكستان. بطنٌ مفعمٌ بالحياةِ دوماً. مؤخرةٌ هي كوكبٌ أنيق قابلٍ لأن تُعاشَ فيه الحياة- كوكبٌ في كونها طالما تمنّيتُ المكوث فيه دوماً. فخذانِ كسولانِ من شدّة الهيجان. وفرْجٌ للكربِ مزهوٌ بنفسه. مرةً أخرى أخبرها أني مشتاقٌ لها فتسقيني بدموعها الحارّة. تتحسّسْ يديَّ وهما تتجوّلانِ في جنانها. تربتُ عليهما تشجيعاً ثم ترجعُ لتُدخلَ يدها في مقدمة سرواليّ الواسع. تسمكُ بقضيبي وتُخرجه ثم تنزلُ له.

ترضعني حتّى أكادُ أموت. فمها شهيٌ بشكلٍ لا يُوصف. تُغمعم لي أثناء ذلك أنّني حلوٌ جداً. أنا واقفٌ و يداي مُشبكتانِ وراء رأسي. بعد دقائق تنتهي ثم تصعدُ نحوي. تقبلني بعنفٍ مرةً أخرى فأشعرُ من طعمِ لسانها المُمتزج بي أنني حلوٌ حقاً. أسرُّ لها في أذنها أنني سأنتقمُ منها فتضحك. ضحكتُها مريحة جداً.

أخلعُ ملحفتها مُباشرةً، وبتعجُّلٍ شديد هذه المرّة. أتذّكر أنّ هذا ليس من عادتي، مُبرراً إيّاه بتميّزها: هذا الجسد الفاتن يتطلّب كل مُطاردةٍ عجولة. تُساعدني في خلع رقبة محلفتها. أشكرها بخبثٍ لتجيب ساخرةً: العفو!. جسمها بعد الملحفة واضحٌ جداً. قميصٌ خفيف وفيزونٌ فاجر. تخلعُ القميص وتتركُ لي الفيزون. أتقصدُ خلعه ببطءٍ. مؤخرتها فيه تبدو مهتاجة. عندما خلعتُه انتابني شعورٌ بعدم الثقة: أنْ تستحق جسداً فاتناً كهذا. أتوكل على نفسي وأمضي حتى آخر المعركة.

الآنَ وبعد أن أصبحتْ عاريّة، أطلبُ منها أن تكون فوقي. أحذّرها، على سبيل الفكاهة، من أن يلجَ قضيبي معابرها مادام منتصباً ومعابرها مفتوحة. ثدياها الآنَ فوق فمي. تقولُ أنني أتعامل مع ثدياها بالعضِ لا التقبيل، ولكنني أنفي ذلكَ كاملاً، مُفصِّلاً بأمانةٍ أنّ عضي لثدياها مُطعمٌ بتقبيلٍ بلسميّ. أسألها من أينَ أتتْ بهذيْن الكنزيْن؟ فتجيب: أمتلكتهما بفعل انتظاركَ!. أثناء العض التقبيليّ للثديانِ أُمرر أصابعي على معابرها-منافذها بتهيّجٍ ساحر متشركٍ بيننا. فرجها لذيذٌ ومؤخرتها أكثر لذّة. تقوم بوضع قضيبي في فتحات المؤخرة كنوعٍ من اللّعب فأوافق مادام لعباً. فتحات مؤخرتها حارّة جداً. أطلبُ منها أن تفعل ذلك بلطفٍ فتمانع. في تلك الأثناء، وبعدْ أن أصبحتُ غير قادرٍ على الصّبر، أنسحبُ من تحتها. فجأةً أجدني في خلفها مُباشرةً. واضعاً يديَّ على ظهرها أطلبُ منها الانحناء. تنحني بسهولةٍ فتبدو كنوزها الخلفيّة بارزةً. كنوزٌ برائحةٍ شهيّة. أبدأ بتمرير لسانها على المنافذٍ بدقةٍ عاليّة. تتأوّه بجنونٍ. أنبهها أن تخفض صوتها قليلاً حتى لايسمع جارنا الحسّاسْ النبيه البال ذلكَ، لكنها تُمانع مرةً أخرى: أريدهم أن يأتوكَ وأن تقتلني! تقولُ متأوّهة. أطلب من لسانيّ أن يكون قاتلاً على قدر التوقع. بين عمق مؤخرتها وفرجها يتجوّل لساني بوجعٍ عميق. هذا اللسان، صاحبه أيضاً، يُقتُل هو الآخر. كلانا يفهم ذلكَ دون حديثٍ مع تصعيدٍ شديد لجبهات القتال. كنوزها جعلتني ألفظ أنفاثي لهاثاً.

لثواني قليلةٍ قمتُ بعضّ صخرة مؤخرتها. الصخرة التفاحة- تفاحة الرغبة. أتخيّل عضَّ صخرة؟ مادامتْ الصخرة كهذه فهذا شيءٌ ممتع جداً. تتأوّه حتى تصبحْ شبه منبطحةً. تطلبُ مني إرجاع لسانيّ إطفاءً للنار المتقدة داخل الكنوز. فوراً أستجيب. تفهمُ أني تعبتُ قليلاً فتلتفت وترميني بعنفٍ على ظهري. أصبحتْ مستلقياً على ظهري وهي جالسةٌ بكنوزها المفتوحة على وجهي. فمي وأنفي أصبحا داخلها: أنا أتنفس منها. أستمدُّ أوكسجين حياتيّ منها. أطلبُ منها التمهل قليلاً فترفض. إنها تسحقني تحتَ معابرها هذه المُشتعلة إلى حدٍّ بعيد. تتأوّه بقوّة شديدة و أذنها اليسرى على قضيبي المُمدّدِ من شدّة التعب. تنصتُ لها، للنداءات الخافتة التي تخرجُ منها. أفهمُ أنّها على وشكِ الوصول، مثلي تماماً. فجأةً، في تلك الأثناء الحارّة جداً، أبدأ في تريد اسمها مع إضافةٍ حلوة: “أحلامي، أحلامي”. تسمعني فتتأوّه كنوعٍ من الاستجابة: “آه، آه”. فجأةً تبدأ حركة جسدها، تدريجياً، في الهدوء. هاقد هدأتْ بارتعاشٍ عظيم. لقد وصلت. لقد “جابتْ رّفتها” أيْ حققّت رغبتها. أشعرُ بها تنسحبُ للأمام عن وجهي ثم قامتْ. قامتْ ورجعتْ تفترشُ جسدي المُنهك قائلةً، وفي هي تشرعُ في تقبيلي من جديد: “هذا الفمّ له دينٌ عليّ، لا بدَّ أن أقضيه الآنَ”.

في تخيّل فرج حواء

يقولون أحياناً، في الثقافة الحسانيّة الصحراويّة، على سبيل القياسْ المُقارن لطعمِ شيءٍ ما، إذا ما كان لا طعمَ فيه: “امسَخْ من تينَةْ حواء”. أيْ ما ترجمته في الفصحى، على وجه التقريب ضرورةً: ” أكثر مراراةً من فرج حواء”. يصحُّ ذلكَ على كلِّ شيءٍ، لم نجدْ طعماً فيه. إنَّ فرج حواء، وفي هذه عمقٌ تخيّليّ هرطوقيّ طافح، لاطعمَ فيهَ: هو فرج غير حُلْوٍ، لا سخونةَ للرغبة فيه. فرجٌ باردٌ، كسولٌ، منكمشٌ، مبلولٌ. و”التينه” في الحسانيّة، لهجياً، تُطلق على الفرج، فرج المرأة عموماً. ولا يُستبعد هنا أن يكون الخيال الإيروتيكي الثقافيّ للمتحدثين بتلك اللّهجة سعى إلى تشبيه الفرج بشجرة التين التي أقسمَ بها القرآن، مع العلم أنَّ شجرة التين لا توجد، على حدِّ المعروف، في المجال الجغرافيّ العامّ لأولئك المتحدثين؛ لكنه الخيال، حين يُدفع دفعاً، عبر هاجسٍ إيمانيّ-ديني طاغٍ في الخفاء.

القرآن كما الفرج حياتان خلاّقتانِ في هذه الرقعة من الأرضِ. بمعنى أنهما منغرسانِ في التجربة الحياتيّة للناس انغراساً كلياً، له ميزة الخلق والتأثير. ولا يفوتُ هنا أنَّ الأساس المرجعيّ الذي بنى عليه الخيال الإيروتيكي مقولته تلك، عن فرج حواءِ الذي لا طعم له، في حالِ المُقارنة القياسيّة، هو القرآن نفسه، باعتباره المصدر الوحيد، الذي يسودُ ويُخبر عن ذلك هنا. أي باعتباره مرجع الاعتقاد الأول لدى الناس، والذي يخبر بوقائع استُنتجَ منها أساس تلك المقولة الطريفة والهرطوقيّة بشكلٍ إبداعيّ فاتن.

لفظة “مسخ”في اللهجة الحسانية تُشير غالباً لمعنًى غير المعنى الذي نجده في الفصحى. لكنَ هناكَ معنىً شديد الأهميّة هنا. وهو معنىً يُطابق المعنى اللغويّ لـ”مسخ”. إنه التحوّل-الزيف. التحوّل ذلك الذي نفهمُ منه أنّ فرج حواء أصبحَ بعد أن كان في صيغةٍ مختلفة: فرجها الذي كان لذيذاً مُسخَ تماماً بعد الاقتراب من الشجرة اللعينة. عقوبة العصيان هي هذا المسخ التشوهي. وفجأةً أصبحت نتيجة ذلك المسخ مُعايرةً ثقافية هرطوقيّة ولكنها إيمانيّة عمقياً في نفس الوقت بما هي تسليمٌ بقدر-استحقاقيّة العقوبة. وفي الحقيقة، وإنصافاً لفرج الأمّ حواء، من جهةٍ عمياء، ربّما المشكلة ليستْ في حواء. فهنالك تفسيراتْ أخرى: ربّما كان المُعاقب على العصيان يشتهي حوّاء لكنها ترفض. أو هو ربّما كون آدمَ كان عنيناً في تلك المرحلة التي يُشرفُ فيها على إنتاجِ الكارثة من نفسه. أو هو ربّما كون أصحاب هذه المقولة، بفعل ظروفٍ معينة، وجدوا أنفسهم خيالياً ينكحون حواء عبثاً.

…عموماً لحواء “الماسخة” الفرج حقٌ تقدير محفوظ في إرشيف التأوّه.


.

صورة مفقودة
 
أعلى