هدية الأيوبي - لغة الجسد

لغة الجسد شغلت حكاية التفاحة التي أخرجت أول البشر من الجنة حيزا واسعاً في الدراسات الأسطورية والنصوص الأدبية عبر العصور. وإن كان ثمة نظرية تقول إنها تفاحة المعرفة فالسؤال يبقى :ماذا أرادا أن يعرفا؟ إلا أن رمز التفاحة للخطيئة الأولى بقي الأكثر ترجيحاً.ولماذا هي خطيئة؟ هل حرّم عليهما اكتشاف جسديهما؟ هل كان يجب أن يصمت الجسد وتتكلم الروح؟ هل النكاح الذي أحل بينهما هو نكاح روحي كالملائكة، ولما اكتشفا جذوة الحواس الأولى طردا من النعيم؟

كل هذه الأسئلة تبقى أجوبتها افتراضية تخييلية لأن لا وثائق وصلتنا عن تلك الفترة-ما قبل العالم الأرضي- سوى ما روي في الكتب المقدسة.


أصل العالم كلمة. ولكن أصل الخطيئة ليس تفاحة. ففي ذلك الوقت لم يكن هناك المفهوم الديني للخطيئة ،ولم يكن هناك أديان.التفسير الوحيد أن أصل الإنسان هو كلمة أي لغة. حين تحاور جسدان كان الإنسان.

وبقيت اللغة هي المحتوى المثالي لتعابير الجسد وانفعالاته الروحية والشهوانية.


في الحضارات القديمة كانت الأسطورة متنفساً لتدوين تفاعلات الشعوب مع الطبيعة ومع البشر .لم يكن هناك مناص من كتابة أفعال الجسد الإنساني ومشاعره.

منطقياً /سبقت الغريزة العقل وعمل العقل كان لإرضاء الشهوات وإشباعها كونها تولد في الجسد ومن الجسد .ويبدو أن عمل العقل الإنساني قد بدأ عمله من خلال غريزة البقاء. لذا يمكن القول إن أول لغة نطقها الإنسان هي لغة الجسد. فتح عينيه على العالم، دهش فتأوه. تألم، صرخ، متأوهاً. التذ بالطعام والشراب فتأوه.غضب فتأوه. حزن فتاوه. ارتعش جسده الرعشة الأولى لما التصق بالحبيبة فتأوه. أيكون الوجود الإنساني مجموعة من الأحاسيس المترجمة بشكل آهات؟

قبل القوانين والأعراف والدساتير والأديان، كان الجسد حراً يتكلم كما يشاء.هكذا كان للمرأة حرية التعبير وللرجل حرية التصرف. هكذا وصلت إلينا نصوص أسطورية قيل إنها إيروتيكية لكنها في الواقع كانت تعبيراً فطرياً عن حاجات ورغبات الجسد الإنساني.


الجسد كالروح تماماً، يفكر ويتأمل ويتألم ويتبصر وهو الذي يحرك الروح وليس العكس. يولد الإنسان أولاً كجسد. وتبدأ أول ردات فعله الطبيعية من فرح وحزن، من بكاء أو ضحك، من خلال نداء حاجاته الأولية الطبيعية من فوق إلى تحت .لهذا فإن الجسد سابق للفكر والبصر سابق للبصيرة.وبمرور السنوات وتقدم الحضارات تهذبت الحاجات البشرية وتغيرت طرق التعبير عنها، أي تقولبت ووضعت ضمن أنظمة. فالتربية للطفل هي تعويده على طاعة النظام الذي وضعه الكبار. وجاءت الأديان والقوانين لتخضع حاجات الجسد الأنثوي لمعايير أرادوا تطبيقها على جميع النساء بالطريقة نفسها دون مراعاة الاختلافات في طبيعة كل جسد.


عند الإغريقيين، إيروس، Eros هو إله الحب و ايميروس Himéros هو إله الرغبة، وهما الإلهين المرافقين لأفروديت إلهة الخصب، منذ ولادتها.


وأول من تحدث أدبياً عن إيروس هو أريستوفان اليوناني450/ - 385ق.م.، في مسرحية " العصافير".

حيث ولد إيروس من بيضة من الليل، له جناحان ذهبيان وهو أصل البشرية.

تحدث أريستوفان عن قوة إيروس .فهو أجمل وأبهى الآلهة. إنه يمشي ويرتاح على أكثر الأشياء حميمية .ويبتعد عن القلوب القاسية. وهو موهوب لأنه يجعل شاعراً كل من يتبعه.


وجاء أفلاطون/427 - 348ق.م.في "المائدة "ليحكي فلسفياً عن إيروس.

فهو ألوهة أولية، يصنع الأفضل للبشر، ويمنحهم القوة والشجاعة وهو الأكثر قدرة على جعل الإنسان سعيداً و خلوقاً في الحياة وبعد الموت.

أما سقراط فرأى أن إيروس هو الحب، حب أي شيء أو أي إنسان.


في الكنيسة المسيحية يعتبر إيروس رمز الحب والارتقاء. رأى سان أوغستين أن إيروس هو الطريق الوحيد إلى السلام الروحي ولإبقاء العلاقة وطيدة مع السماء، يقول: "لا يمكنني أن أنظر إليكَ دائماً، بالعكس، في لحظات ضعفي يجب أن أعود إلى أشيائي الحميمة".ويعتبر سانت أوغستين أن الإحسان الذي يميز إيروس السماوي هو الطريق الوحيد إلى الله.

أما فرويد فقد رأى أن إيروس هو الحافز إلى الحياة الذي يقطن كل إنسان، لمواجهة الحافز التدميري او الحافز إلى الموت.


ثمة حقيقة علمية فطرية، منذ بدء الخليقة، أن الوجود الفعلي للجسد هو الحركة. حركة الجسد تدخل في جوهر مسيرة الإنسانية جمعاء. الجمود موت بالتأكيد. يتحرك الجسد في اتجاهات شتى: العمل، العبادة، اللهو، الحب...لكن الحب هو أول حركة أداها الجسد قبل وبعد خروجه من الجنة.ربما كان العمل هو المحرك للحضارات الإنسانية لكن الحب أيضاً فعل حيوي لا يكتمل بدونه الوجود الإنساني الفردي والجماعي. فعل الحب هو الموحي والدال والمبدع للفنون والعلوم والثورات...


الجسد البشري مخلوق من رغبات وشهوات. وما الأحاسيس والمشاعر سوى الترجمة الروحية للغة الجسد التي تبقى ناقصة دون ترجمة حركية.

كل حجب أو منع أو كبت لفعل الحب الجسدي هو خيانة للإرادة الإلهية التي خلقت هذا الجسد ليس فقط ليعمل ويصلي بل أولاً ليحب ويتناسل ويمارس وظائفه الحيوية بشكل طبيعي. كل تقنين لرغبات الجسد يعني موت لغة الجسد مع الوقت. كل لغة لا ينطق بها تموت. كل لغة يقل عدد المتكلمين بها تموت. لكن الأنانية الذكورية احتفظت لنفسها بحق ممارسة لغة الجسد، كي تبقى الأنثى تابعة لا متبوعة-وإن جرى إيهامنا بعكس ذلك-، وجعلوا المرأة هامشاً لا متناً، متاعاً يشرى ويباع، وسيلة للإمتاع دون متعة خاصة بها. تعاملت العنجهية الذكورية مع الجسد الأنثوي كوعاء للذرية أو كسلة مهملات. لم تكترث الذكورة بإمتاع الأنوثة ولم تسمح للمرأة بالتعبير عن رغباتها وشهواتها، لم تكن مشتهاة بقدر ما كانت مصدراُ لتفريغ الشهوات.


على مر العصور، تمت عملية تطبيع الجسد الأنثوي حفاظاً على مقام الذكورة العائلية والاجتماعية والدينية والسياسية. هكذا جرت عملية كتم صوت الجسد الأنثوي وتصفيده لتصفيره-من الصفر- وإلغاء لغته من أجل فرض لغة أحادية النبرة، لا صوت يعلو فوق صوتها .بدءاً من السبي والزواج والطلاق وتعدد الزوجات والعشيقات وسوق الجواري والختان والحجاب والعيب والحلال والحرام والممنوع، تم إخضاع جسد الأنثى للمحظورات والعقوبات الذكورية.


ولما استيقظ هذا الجسد من سبات عميق وحرك الروح الإبداعية الأنثوية اتهم بالإباحية والرذيلة والإيروتيكية.

لم يتعود الذكر أن يكون



عن موقع الف لحرية الكشف في الكتابة والانسان
.
large_1238151099.jpg
 
أعلى