السيد نجم - «طَوْق الحمامة» تشريح الحب بمبضع الأدب

ألف في الفقه، وأصوله، وشرح منطق أرسطو، وأعاد صياغة الكثير من المفاهيم الفلسفية، وفي الحديث، والتاريخ، والأدب. وبلغت مخطوطاته نحو 400 مجلد، تشتمل عَلَى حوالي 80 ألف ورقة! لكنه اشتهر عند العامة والأدباء، بكتابه “طوق الحمامة”، والذي يمثل صنفاً ابداعياً يشرح الحب بمبضع الأدب.

ملامح
يصنف كتاب “طوق الحمامة في الألفة والآلاف”، على انه من أطرف وأهم كتب الأدب، ليس في الأندلس – حيث ولد ومات الكاتب على أرضها-، بل في كل المنجز الأدبي العربي في العصور الوسطى.
قال البعض إن الكتاب هو سيرة الكاتب الذاتية. وواقع الحال أن التناول الأدبي والتحليل الفكري لفكرة “الحب” في هذا الكتاب، يحيلاه إلى فن الأدب أكثر من فنون السيرة أو الاعتراف وغيره. فقد جمع ابن حزم في هذا المخطوط فكرة “الحب” بمفهومها الفلسفي، وانطباعات الواقع، مع البعد التاريخي والتوثيقي. ولعله أبرز أحوال “المرأة” في تلك الفترة في جوانب عدة، ما أضاف أهمية أخرى للكتاب.
رحلة المخطوط
تعاقبت الأيادي على نسخ مخطوط العمل. ففي القرن السابع عشر، نهض الهولندي فون وارنر بدراسة المخطوطات العربية، ومن بينها: “طوق الحمامة”، ثم نقله وحفظه في مكتبة ليدن/هولندا، طوال 175 عاماً. وفي مطلع القرن التاسع عشر، أصدر الهولندي رينهارت، أول طبعة لفهرس المخطوطات العربية في جامعة ليدن، فعَرَف العالم “طوق الحمامة”.
وذلك إلى أن بادر الروسي د. ك. بتروف، الى نشره بعدها. ومن ثم طبع في مطبعة بريل العربية في ليدن عام 1914م. وبعد سبعة عشر عاماً، صدرت طبعة قدمها محمد ياسين عرفة، في دمشق، ثم صدرت الثالثة عام 1949م، على يد الفرنسي ليون برشيه في الجزائر، وبعدها بعام واحد: 1950م، طبعه حسن كامل الصيرفي، في القاهرة، ولكثرة الأخطاء في الطباعة السابقة، ضبطه الطاهر أحمد مكي وحرر هوامشه، وصدر عن دار المعارف المصرية في العام 1975م. كما نشر عام 1993م في بيروت (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).
حوادث
بعد اغتيال الخليفة المهدي في 400هـ/1010م، صودرت أموال عائلة ابن حزم، بل وسجن الأب. وكان لهذه النكبة أثرها السيئ على الفتى الصغير (ابن حزم). إذ زادت من حزنه، واعتبرها البعض أحد أسباب حدته التي تظهر أحياناً في مصنفاته.
كما كان لحادثة خلافه الفكري مع ابن عمه أبو المغيرة عبدالوهاب، أثرها النفسي عليه، كونهما كانا يتبادلان الرسائل بالمودة.
جرأته وحرق مخطوطاته
وصف ابن القيم الجوزيه، ابن حزم، بمنجنيق العرب. وكانت الناس تضرب المثل في لسان ابن حزم، فقيل : “سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان”. إذ كان ابن حزم شديداً في نقده مع العلماء، وهذه الحدة أورثت نفوراً في قلوب البعض وكثر أعداؤه في الأندلس. وتمكن هؤلاء أن يؤلبوا عليه المعتضد بن عباد، أمير اشبيلية، فأصدر قراراً بهدم داره ومصادرة أمواله وحرق كتبه، وفرض عليه ألاّ يغادر بلدة أجداده “منت ليشم”.
أقسام وشؤون
يقع الكتاب في 30 باباً، ويبدأ بتعريف الحب: “الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بمعاناة. وليس بمنكر في الأديان، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل”. ثم أورد ابن حزم الكثير من قصص حب الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين وحكام الأندلس. بل قصص عن بعض العلماء الصالحين والفقهاء.
ماهية وجوهر
يعرف ابن حزم الحب في كتابه: ” هو اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة.. ولقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأبا يستدعي شكله، والمثل مثله ساكن.. فليست العلة في الحب بحسن الصورة الجسدية (الجمال) أو في الأخلاق بل هو في ذات النفس …”.
ويحصر ” أنواع الحب “: “المتحابين في الله- محبة القرابة- محبة الألفة- في الاشتراك في المطالب- محبة التصاحب والمعرفة- محبة البر- محبة الطمع في جاه المحبوب -محبة المتحابين لسر يجمعهما ويلزم عليهما ستره- محبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر (الشهوة الجسدية)- محبة العشق التي هي اتصال النفوس). ويشير ابن حزم الى ان كل هذه الأنواع ناقصة ومنتهية بانقضاء أسبابها، إلا محبة العشق فهي لا تنقضي إلا بموت صاحبها.
أما عن “علامات الحب”، فيقول :” إدمان النظر إلى المحبوب، الانذهال عند رؤيته فجأة، اضطراب المحب لدى ورود ذكر المحبوب، الإقبال للاستماع إليه، تصديقه حتى ولو كذب، دعم أقواله حتى ولو جار، عدم الرغبة في مغادرة المكان المتواجد فيه. أما إذا تمكن الحب يصبح الحديث همساً، مع الانبساط الزائد، وكثرة الغمز، وتعمد ملامسة المحبوب، والاتكاء عليه، وشرب فضلة ما أبقى من إناء شرابه”.
أحوال المحبين
يدرج الأديب الأندلسي، جملة تعاريف ودراسات توضيحية، عن الحب واحواله وشؤونه، في ابواب الكتاب، فيطلعنا على سمات وتعاريف عديدة، للمحبين وللحب. وبذا يجد في شأن .. من أحب من نظرة واحدة: “.. وهو عشق إنسان لا تعرف من هو أو من أين أتى، ووقوعه دليل على قلة الصبر، وهو كحال الأشياء التي تأتي بسرعة وتنتهي بسرعة”.
ويستفيض بشأن: من لا يحب إلا مع المطاولة: “المطاولة، هي كثرة اللقاءات وتنامي الشعور بالحب، فما دخل عسيراً إلى القلب، لا يخرج منه بشكل يسير، فيبقى الحب في القلب”. ويقول حول “من أحب في النوم”: “وهذا الباب هو من أبعد أسباب الحب، إذ يحلم المحب بمحبوبة ويذهب قلبه به ويعتريه الهم، ويشغل نفسه بوهم نتيجة تعلقه بشخص غير موجود”.
وعن: “من أحب صفة”: “يقع المحبون في حب أناس يتميزون بصفة معينة، حتى ولو كانت غير مقبولة، كقصر القامة وقصر الرقبة وما إلى ذلك”. ويحدد توصيفاً لـ” من أحب بالوصف”: “وهو من أغرب الأبواب في أصول الحب، إذ يقع المحب في حب محبوبة فقط على الوصف أو لصفة ما يتمتع بها أو لسماع صوته، فيبدأ الهم والوجد، فيكون المحب كمن بنى بناء بغير أساس، والنساء أثبت من الرجال في هذا النوع من الحب”.
ويتابع عن “المراسلة”: “تنوب الرسائل عن المحب في سرد ما يشعر به تجاه المحبوب، كما تنوب عن رؤيته”.
سيرة
الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي: (384 – 456هـ، 994 – 1063م). يُعد من أكبر علماء الإسلام تصنيفاً وتأليفاً، بعد الطبري، وهو فقيه وأديب وشاعر، وناقد محلل، بل وصفه البعض بالفيلسوف. عمل وزيراً لبني أمية، وتعرض في أواخر أيامه للكثير من العنت والأضرار، حتى أنه فر إلى إحدى القرى وتُوفيّ بها وحيداً.
يحوز مخطوط “طوق الحمامة”، ومنذ أكثر من 11 قرناً، لدى الخاصة والعامة، منزلة رفيعة. وكيف لا يصبح هكذا وهو دراسة في الحب، والتعرف على أبعاده الإنسانية، وقدرته على سبر طبائع البشر وأغوارها؟!
كما ان مُؤلَّفه، الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، صاحب الآراء الفقهية، المجتهد، وله ردود كثيرة على اليهود والنصارى وغيرهم.


_____________
*(البيان)


صورة مفقودة
 
أعلى