سفيان الشورابي - ظاهرة البغاء في تونس: بين الإجتمـاعي و القـانوني

كثر في المدة الأخيرة الحديث عن عمليات مداهمة أمنية لمحلات استعملت لتعاطي البغاء سريا، سواء كان ذلك في محلات أعدت للسكن في بعض الحالات أو مراكز أعدت "مبدئيا" للعلاج الطبيعي والتمسيد الخ..

تعج مختلف الصحف التونسية بقضايا اجرامية مرتبطة بشكل أو بآخر بمسألة ممارسة الجنس بمقابل بشتى أوجهها، وتعد الملفات القضائية من قبيل تفكيك "شبكات دعارة" في مختلف المدن التونسية أو إلقاء القبض على عدد من الاشخاص يمارسون الجنس بمقابل... وهذه الأخبار التي تميل اليها كثيرا بعض الصحف حيث أنها الأكثر قراءة من قبل الباحثين عن الاثارة والتشويق في مثل هذه الموضوعات. ولمحاولة تسليط بعض الضوء على ظاهرة البغاء بصفة عامة في بلادنا، اتصلنا بعدد من المختصين في علم الاجتماع وفي القانون، كما قمنا ببحث ميداني فكان هذا الريبورتاج.

يتناقل عموم الناس بشكل دوري ومستمر أنباء عن قصص ومغامرات أولئك الذين مروا بمختلف دور الخناء. وبالرغم من مجهودات المصالح الأمنية للحد من هذه الظاهرة، فإن استفحالها متواصل وبعض الأمثلة المنشورة على أعمدة وسائل الاعلام السيارة تطرح الكثير من التساؤلات حول التجاوزات التي قد تحدث في صورة بقاء الحال كما هو عليه.

أحد تلك الأمثلة تعود تفاصيله الى 3 سنوات خلت، عندما قبضت مصالح الأمن على 12 متهما ومتهمة من بينهم تلاميذ وتلميذات لا تتجاوز أعمارهم الـ15 سنة بتهمة الانتماء الى شبكة للدعارة بمدينة مارث جنوب البلاد، والتي من المعروف عنها طغيان تقاليدها المحافظة، حيث قام أولئك الصبية تحت تأثير مادة "اللاقميŒ بتصوير واستنساخ أشرطة إباحية وممارسة الجنس بشكل جماعي.

ثاني الأمثلة المثيرة للانتباه في نفس السياق، ما جاء في احدى الصحف المصرية التي ذكرت أن ضباط أمن مصريين بمدينة الاسكندرية تمكنوا من ضبط عصابة دولية للدعارة تقوم باجراءات سفر للنسوة الى تونس بعد استخراج أوراق مزيفة منسوبة لنقابة المهن الموسيقية على أساس أنهن يعملن فنانات استعراضيات وأنه سوف يتم تشغيلهن بأحد الملاهي بتونس، وشهدت احدى المتهمات أنها تستقطب النساء المصريات للعمل بالدعارة في تونس وممارسة البغاء السري مقابل أجر مادي كبير تتحصلن عليه.

ولا يمكن حصر الأمثلة المشابهة التي تكشف عن حقيقة قضية البغاء في تونس التي يمكن اعتبارها مسألة قائمة الذات الى حد اليوم ولا يمكن غض الطرف عنها، بل من المفيد تسليط الضوء على مختلف جوانبها قصد ايجاد الحلول لها أو على الأقل التقليل من اتساع مداها.
وتوجد عدة تصورات مقترحة من طرف عدد من الدارسين لمعالجة مختلف جوانب بروز ظاهرة الدعارة في العالم، خصوصا أن المداخيل المتأتية منها بلغت أرقاما خيالية تجاوزت 80 مليار دينار حسب بعض الاحصائيات تذهب منها ما بين 7 و10 مليار دينار الى جيوب عصابات الجريمة المنظمة وشيكات المافيا الدولية. وكان تقرير أصدرته منظمة الأمم المتحدة أشار الى أن ما لا يقل عن 4 مليون شخص يعملون في ميدان الدعارة كل سنة.

وتتعدد أشكال عرض الجسد امام الحرفاء، وأهم ما هو منتشر في تونس نذكر أشكال جذب واغراء الحرفاء في الحانات الشعبية والنزل المتواضعة، حيث تقوم خلالها المومس بتقديم جسدها عدة مرات لحرفاء من متوسطي الدخل لقاء مقابل مالي بسيط، أما الشكل الثاني فهو الدعارة على الأرصفة، ولو أنه في جل الاحيان يصعب اثبات التلبس على المومسات من هذا الصنف حيث أنهن يعتمدن أسلوب الإيحاءات والاشارات من دون أن يظهر بالضرورة من خلال ملابسهن ما يوحي بكونهن يعملن في الدعارة، وهن يتواجدن بالاساس في بعض الأحياء الراقية وفي المدن السياحية على مقربة من النزل الفاخرة.

أما الشكل الثالث المعروف فهو تعاطي البغاء في منازل وشقق سكنية يقع استئجارها لمدة محددة لمثل هذه العمليات، اضافة الى الدعارة داخل الملاهي الليلية.

وطبعا تنعدم في تونس انواع أخرى من وضع الجسد الأنثوي على ذمة العموم على غرار عرض النساء لأنفسهن في "معلبات" بلورية مطلة على الشارع أو تعاطي الدعارة من خلال الاتصال عن بعد أو ما يسمى بـ"الارقام الوردية" وغيرها من الوسائل التي تعرف رواجا في بلدان أخرى.
هناك 3 اتجاهات ممكنة في التعامل مع ظاهرة البغاء، أولها ترى أنه من الضروري إلغاء الدعارة تدريجيا، ويستند هذا الاتجاه الى اعتبار الدعارة ليست سوى عملية ابتزاز واستغلال فاحش للانسان، ومس من الكرامة البشرية، وما المشتغلون في هذا المضمار الا ضحايا للفقر والجهل والتهميش وينبغي زجر ومعاقبة "الحرفاء" الذين يبتزون أولئك الضحايا اللاتي لا ذنب لهن، أما الاتجاه الثاني فيدعو الى الصرامة والحزم القانوني لمواجهة كلا الطرفين سواء الحرفاء أو المشتغلات، بينما يحث الاتجاه الثالث على تقنين وتنظيم ظاهرة البغاء لاستحالة استئصالها نهائيا من المجتمع، ويرى أنه من واجب الدولة تأطير هذا "القطاع" باعتبار أن ذلك من أحد وظائفها الرئيسية.

وفي تونس نلاحظ أن هناك رغبة من الدولة في حصر هذه الظاهرة تفاديا لتآكل المجتمع من دون أن تضع على رأس أولويات أجندتها القضاء عليها جذريا، وذلك من منطلق أنه من الصعب جدا التخلص من ظاهرة متواجدة منذ القدم وفي جميع المجتمعات، حتى في أكثرها محافظة على النواميس الاجتماعية والتعاليم الدينية.

الإطار القانوني

يشكل قرار وزير الداخلية المؤرخ في 30 أفريل 1942 والمتعلق بتنظيم البغاء العلني، الاطار القانوني الأساسي الذي ينظم هذا القطاع ويحفظ حقوق وواجبات العاملين فيه، وعلى ضوئه تم تخصيص الماخور العلني بالمدينة العتيقة الموجود بنهج "عبد الله قشŒ لنشاط المومسات الراغبات في الاشتغال في الدعارة العلنية والقانونية.

وماخور "عبد الله قش" هو عبارة عن مجموعة من الغرف الفردية والمحلات الصغيرة الموزعة على أنهج سيدي عبد الله قش وسيدي العجمي وسيدي العباسي، قبل أن تقرر بلدية تونس غلق هذه الأنهج لأسباب أمنية وأخلاقية، مبقية على منفذ وحيد يمر عبر نهج زرقون.

ويتركب الماخور من 25 محل دعارة و50 غرفة فردية تشغل حوالي 130 مومسا، منهن 51 مومسا يشتغلن لحسابهن الخاص بغرف فردية و79 مومسا يشتغلن لحساب 25 مشرفة على محلات الدعارة.

وحسب تصريح لمسؤول من بلدية تونس، تمثل الشريحة العمرية للمومسات المرسمات من 20 الى 30 سنة نسبة 40% ، في حين تتوزع بقية النسب على النحو التالي:
- 40% من 30 الى 40 سنة
- 20% من 40 الى 50 سنة

وتتوزع نسب المستويات التعليمية للمومسات المرسمات على النحو التالي.

- 30% أميات
- 60% مستوى تعليم ابتدائي
- 10% مستوى تعليم ثانوي

إن معظم المومسات في الماخور هن بالأساس مطلقات .بنسبة 70%. وتتركب نسبة 30% المتبقية من العازبات، في حين لا توجد مومسات متزوجات.

ويضيف محدثنا أن المراقبة الصحية للمومسات تعد أهم ما يشغل بال المصالح البلدية التي تسخر امكانيات كبيرة لمنع ظهور الأمراض المنقولة جنسيا، حيث يوجد على عين المكان مستوصف للوقاية من الامراض التناسلية وهو مفتوح كامل أيام الأسبوع يستقبل يوميا حوالي 40 مومسا.

كما أفاد محدثنا أنه يقع اخضاع كل مترشحة للعمل كمومس بالماخور العلني قبل انتدابها بصورة رسمية ولغاية التأكد من سلامتها من بعض الأمراض المعدية الى فحص سريري وكشف بالأشعة للصدر وتحاليل للدم. وقد أثبتت نتائج المراقبة الصحية لسنة 2008 على سبيل المثال سلامة المومسات العاملات بالماخور من مرض نقص المناعة المكتسبة، في حين لم تتجاوز نسبة اللواتي تعرضن لمرض الزهري 4.2%.

وهكذا يتبين أن الماخور العلني تمكن ولو نسبيا من الحد من نسبة انتشار الامراض الخطيرة، وسحب البساط من تحت العصابات الاجرامية، الا أنه لا مفر من القول إن تأثيره مازال محدودا ما لم تعمل الدولة على مزيد الاحاطة بمجال البغاء في تونس، تفاديا لتحول بلادنا الى قطب للسياحة الجنسية، خاصة أنه يروج على نطاق واسع أن وافدين من بلدان عربية مجاورة يقصدون بلادنا بحثا عن المتعة الجنسية.
 
شهادة فتاة تعمل بالماخور العلني بالمدينة العتيقة

أردنا اعطاء الكلمة الى النساء اللاتي يتعاطين البغاء في هذه المحلات فلم يكن من السهل التحدث اليهن ويرجع ذلك الى انتفاء تقاليد التعامل مع وسائل الاعلام في مجتمعنا بشكل أساسي، وثانيا للاحراج الذي تتعرض له المشتغلات في الماخور اللواتي يتحاشين الصحفيين والدعاية بشكل عام، وبعد مجهودات ومحاولات متعددة، وبعد بذل بعض المال للمسؤولة عن الماخور ولاحدى الفتيات العاملة به، تمكنا من اجراء حديث قصير معها.

تحدثت بصوت خافت وقالت إنها فقدت عذريتها على يد أحد الشبان من سكان حيها الشعبي في الضواحي الغربية للعاصمة قام باغتصابها، وهي لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، ففرض عليها والداها كتمان السر درءا للفضيحة التي قد تلحق العائلة. وقد أثرت الصدمة النفسية التي حصلت لها جراء عملية الاغتصاب وتكتم عائلتها التأثير السلبي على نتائجها الدراسية حتى تم طردها نهائيا من المعهد وهي في سن السابعة عشر. ومنذ ذلك الحين، كان عالم البغاء السري والفساد هو الفضاء الوحيد الذي استطاع استيعابها، فكانت تقضي معظم وقتها تعاقر الخمر مع مجموعات مختلطة الى أن وجدت نفسها غارقة الى حد النخاع في هذا الميدان، وفي سن العشرين، وبعد أن لفظتها عائلتها وأصبحت الفتاة معروفة لدى سكان الحي بممارسة الجنس بمقابل ولم يعد أي رجل يقبل الزواج منها، آنذاك قررت امتهان البغاء السري بصورة دائمة، فتنقلت بين مختلف نزل وحانات العاصمة تقدم "خدماتهاŒ الجنسية لمن يطلبها، الى أن صادف يوما أن قضت ليلة مع رجل تقول أنه من "المسؤولين"، فأشفق على حالها وتوسط لها لدى الدوائر البلدية لتشغيلها في الماخور العلني.

وبعد سردها لقصتها، تنهدت بكل أسى وقالت إنها كرهت العمل في ميدان الدعارة، وأصبحت صورة الرجل تمثل في مخيلتها وحشا كبيرا يسعى لتحقيق متعة جنسية دون أن يعنيه كثيرا شخصية من تمارس معه الجنس.

ولما سألناها في الختام عما تتطلع اليه في المستقبل، لم تتمكن من الاجابة، حيث سمعنا دقات "البطرونة" على الباب ايذانا بأن حرفاء آخرين ينتظرون دورهم...
 
أعلى