علي نصوح مواسي - النّسويّة في النّقد الأدبيّ – محاضرة قدّمت في الجامعة الأردنيّة –

مصطلح ” النّسويّة “:
هو المقابل العربيّ للمصطلح الانجليزيّ Feminism، ويشير إلى الفكر الّذي يعتقد أنّ مكانة المرأة أدنى من تلك الّتي يتمتّع بها الرّجل في المجتمعات الّتي تضع كلا الجانبين ضمن تصنيفات اقتصاديّة أو ثقافيّة مختلفة(1).
فالمرأة في نظر النّسويين لا تعامل بقدم المساواة ولا تحصل على حقوقها في مجتمعاتٍ تنظّم شؤونها وتحدّد أولويّاتها وفق رؤية الرّجل واهتماماته، لا لشيئ سوى أنّها امرأة؛ وفي ظلّ هذا النّموذج الأبويّ، تصبح المرأة كلّ شيئ لا يميّز الرّجل، أو كلّ ما لا يرضاه لنفسه، فالرّجل يتّسم بالقوّة والمرأة بالضّعف، والرّجل بالعقلانيّة والمرأة بالعاطفيّة، والرّجل بالفعل والمرأة بالسّلبيّة، وما إلى ذلك(2)..
ذلك المنظور يقرن المرأة في كلّ مكانٍ بالسّلبيّة وينكر عليها الحقّ في دخول الحياة العامّة وفي القيام بدورٍ في ميادين الثّقافة والسّياسة والاقتصاد كما الرّجل وبالتّساوي معه، ومن هنا يمكن القول مجدّدا: إنّ النّسويّة حركة تعمل على تغيير هذه الأوضاع لتحقيق تلك المساواة الغائبة، وهي لا تزعم أنّ النّساء يمتلكن الحقيقة، بل تحاول القول إنّ الرّجال لا يستأثرون بها(3).
وتصرّ النّسويّة على أنّ هذا الظّلم ليس أمرًا ثابتًا أو حتميّا، وأنّ المرأة تستطيع أن تغيّر النّظام الاجتماعيّ، الاقتصاديّ، والسّياسيّ عبر العمل الجماعيّ، وبالتّالي فإنّ مساعي النّسويّة ترمي إلى تحسين وضع المرأة في المجتمع.
أمّا الفكرة الّتي مفادها أنّ الرّجل يمكنه تبنّي موقفٍ نسويٍّ فهي محلّ خلاف؛ فتانيا مودلسكي مثلاً تميّز بين إسهام الرّجل الّذي ينطوي على تحليل وتفكيك السّلطة الذّكوريّة، وبين الرّجل الّذي يقوم بالحديث نيابةً عن المرأة أو انطلاقًا من موقف المرأة.
وفي مجال دراسة الأدب والثّقافة والسّينما، يتّخذ النّقد النسّويّ صورة تحليل آليات الانتاج والاستهلاك المتعلّقة بنصوصٍ أو ممارساتٍ بعينها من منظور نسويّ، علمًا أنّ هناك طرقًا مختلفة للتّناول، جميعها نسويّة، وكلّها تسمح بالتّعدّد في إطار المعارف المختلفة وفي إطار النّسويّة نفسها. تقول ماجي هام في مقدّمة كتاب ” الاتّجاهات النّسويّة: مجموعة مقالات ” ( 1992 ): تعتبر النّسويّة حركةً متعدّدة الجوانب من النّاحية الثّقافيّة والتّاريخيّة، وقد لاقت أهدافها تأييدًا في شتّى أنحاء العالم، ويمكن تقييم مدى فعاليّة النّسويّة إذا نظرنا إلى الخطاب النّسويّ وإلى مدى تغلغله في التّفكير على مستوى الحياة اليوميّة(4).
وكان الظّهور الأوّل لمصطلح ” النّسويّة – feminism ” في أدبيّات الفكر الغربيّ عام 1895، أمّا مفهوم المصطلح المتمثّل في فعل نسويّ مطالب بحقوق المرأة فقد بدأ مع نهايات القرن الثّامن عشر..
أمّا اعتماد مصطلح النّسويّة في حقول العلوم الانسانيّة فقد بدأ رسميّا عام 1910، وذلك في مؤتمر دوليّ ساهمت في عقده النّسويّة البارزة كلارا زاتكين، حين أعلن الثّامن من آذار عيدًا عالميّا للمرأة، وهو التّاريخ الّذي اعتمدته عصبة الأمم لإحياء ذكرى العصيان المدنيّ الّذي قامت به العاملات في نيو يورك علم 1895 احتجاجًا على الأوضاع البائسة الّتي كنّ يعانين منها، وقد ماتت فيه بعض هؤلاء العاملات(5).
النّظريّات النّسويّة ومدارسها:
ليست النّسويّة حركةً أحاديّة صمّاء، بل هي مذاهب واتّجاهات، تلتقي أحيانا في أسسٍ مبدئيّةٍ وتفترق في فروع منهجيّة، أو تختلف في الأسس المبدئيّة أحيانا أخرى؛ ولها على اختلافها دورٌ في تكوين النّظريّة النّسويّة في الأدب والنّقد الأدبيّ النّسويّ، نقوم هنا بعرض أهمّها.
أوّلا – النّسويّة اللّيبيراليّة: يعدّ هدا الاتّجاه من أقدم الاتّجاهات النّسويّة، وهو يعتمد على الفكر اللّيبيراليّ عامّة في معالجة المسألة النّسويّة، يشترك في ذلك مع سائر الاتّجاهات النّسويّة الأخرى، ويتّخذ هذا الاتّجاه من الفلسفة الفرديّة وما تستتبعه من تنافسيّة بين الأفراد مرتكزًا ومرجعًا، فنجد الكاتب المنتميَ له يتمسّك بشعار المساواة بين الرّجل والمرأة وكلّ البشر في توفير فرص عملٍ وتحقيق تكافؤ فرصٍ، وتقييم الأعمال دونما تفرقة على أساس لون أو نوع.
وممّا يميّز هذا الاتّجاه أنّ أصحابه يؤمنون بوجوب معالجة المسألة النّسويّة من وجهة نظرٍ واقعيّة، فلا يفضّلون الانخراط في نقاشات حول مسبّبات وأصول التّفرقة النّوعيّة بين الرّجل والمرأة على مستوى العالم وعبر التّاريخ، وإنّما يفضّلون التّعامل مع هذا الوضع بوصفه وضعًا راهنًا.
ومّما يؤخذ على هذا التّيّار، أنّه يؤسّس لانتشار الفلسفة الفرديّة عالميّا، ومن ثمّ فهو تفضيلي قصريّ، ينادي بتوجّهه دون غيره من فلسفات، كما يؤخذ عليه تبسيطه للأمور ونزوعه إلى تخطّي القضايا الشّائكة، مثل قضيّة الاختلافات الثّقافيّة والتّحليل التّاريخي للمشكلات(6).
ثانيًا – النّسويّة الرّاديكاليّة: يدعو هذا التّيّار الأصوليّ المتشدّد إلى الانفصال عن عالم الرّجال والامتناع عن التّعامل معهم وبناء مجتمعٍ للنّساء فقط؛ وهو كما النّظرة الذّكوريّة، يبني توجّهاته انطلاقًا من جسد المرأة، فيقيّم المرأة ويعالج عالمها عبر جسدها.
فبينما يعتبر الذّكوريون الجسد الأنثوي علامةً تدلّ على ضعف المرأة في شتّى الكفاءات والمجالات، مستدلّين بالضّعف العضليّ للإشارة إلى حالة ضعفٍ عامٍّ تنسحب على جميع القدرات العقليّة والثّقافيّة والعلميّة والاجتماعيّة لدى المرأة، فإنّ النّسويين الرّاديكاليّين يرونَ أنّ الجسد الأنثويّ دليل تفوّق المرأة على الرّجل، فهي حافظة الحياة لقدرتها على الإنجاب، تلك العمليّة البيولوجيّة المحتاجةُ قدراتٍ عضليّة فائقةٍ لا يمكن لرجلٍ تحمّلها، وتتمثّل في الحمل والولادة.
نجد أنّ هذا التّيّار يوظّف نفس الأدوات الذّكوريّة في معالجته لثنائيّة الذّكر \ الأنثى، مع فارق أنّه بقلب هذه الثّنائيّة ليثبت أفضليّة المرأة؛ ولهذا نجد كثيرًا من النّسويينَ يرفضون هذا التّوجّه لتكريسه حالة الصّراع بين الذّكور والإناث وإبقائه على الفكر الّثنائيّ التّفضيليّ، الأمر الّذي يؤثّر سلبًا في الحياة الاجتماعيّة.
ويعتمد هذا التّيّار على فكرة ” الحتميّة البيولوجيّة ” الّتي تذهب إلى أنّ أجسادنا، والّتي لا حيلة لنا في تشكّلها، هي الّتي تتحكّم بمدى نجاحاتنا في حيواتنا، وتحدّد حجم الفرص الّتي يجب أن تتوفّر أو تمنع عن أيّ شخص بسبب بنيته البيولوجيّة وشكله الخارجيّ، سواء كان رجلاً أو امرأةً، أبيضًا أو أسودًا، الأمر الّذي دعا نسويين كثرًا لرفضه والابتعاد عنه.
في مقابل هذا التّيار يتّجه الغالبية العظمى من النّسويين إلى كشف نسق التّفكير والتّركيبات الاجتماعيّة، والثّقافيّة، والاقتصاديّة، والسّياسيّة الّتي أسّست وتكرّس لسياسات التّفضيل النوعيّ والعنصريّ، والمصالح الّتي تخدمها هذه الأفكار والتّركيبات؛ ومن هنا كان إصرارهم على أنّ هذه التّفرقة هي نتاج ثقافي وليس بيولوجيّا، أي أنّ المشكلة لا تكمن في اختلاف أجساد الإناث والذّكور أو لون بشرة البيض والسّود واختلاف أشكالهم، وإنّما تكمن في إسقاطنا بعض الصّفات التّقييميّة الدّاعمة أو المقصية على هذه الأجساد لخدمة مصالح المنتفعين من ذلك الخطاب.
وتتبنّى كلّ من التّيارات النّسويّة الثلاثة التّالية وجهة النّظر هذه القائلة إنّ التّفرقة مبنيّة على المفاهيم الثّقافيّة التي تشكّل المجتمعات، وأنّها ليست حتميّة، وبالتّالي يمكن تغييرها بما يسمح بتحقيق مساواة بين كلّ المجموعات الاجتماعيّة(7).
ثالثًا – النّسويّة الماركسيّة: يؤكّد أصحاب هذا الاتّجاه على البعد الاقتصاديّ في التفضيل النّوعي، ويرون أنّه يخدم مصالح الرأسمالية المستغلّة، فالقول بعدم كفاءة النّساء يسمح باستغلالهنّ من خلال إدخالهنّ وإخراجهنّ إلى ومن سوق العمل بسهولةٍ بدعوى عدم كفاءتهنّ، بينما يكون هذا التّلاعب بأقواتهنّ لخدمة رأس المال؛ كذلك يرى الكتّاب المنتمون لهذا التيّار أن الرّجال عمومًا قد أعادوا إنتاج هذا النّظام المستغلّ في المجال الخاصّ، فالكثير ممّا يقال عن دور المرأة كزوجة وأم يهدف في الأساس إلى تسخيرها للعمل في المنزل دون تقاضي أيّ أجرٍ عن مجهوداتها ووقتها، ويرون أنّ الإنجاب يقوم على شراكة المرأة والرّجل، وبالتّالي فعليهم أيضًا الاشتراك في تنشئة الأبناء، وهم، بطبيعة الحال، يختلفون مع الرّاديكاليين حول هذه القضيّة، فلا يرون أن النساء يستأثرن دون الرّجال بمهمّة الابقاء على الحياة من خلال الإنجاب، وبالتّالي لا يفضّلون طرفًا على الآخر، وإنّما يدعون إلى أن تنسحب هذه الشراكة والمساواة على كلّ ما يقومون به من أعمالٍ ومهامّ في النّطاقين العام والخاصّ، كما يطالبون بضرورة المساواة في الأجور وساعات العمل بين الرّجال والنّساء وعدم إقصاء أيّ منهم من أيّ مجال انتاجيّ بسبب نوعه، والكفّ عن توزيع بعض مجالات العمل حسب النّوع فيدفع الرّجال لأن يكونوا أطباء مثلاً، ويقتصر مجال التّمريض على النّساء(8).
رابعًا – النّسويّة ما بعد البنيويّة: ترى معظم المنتميات إلى هذا التيار أن التفرقة النوعية لا هي بيولوجية طبيعبية ولا هي في الأساس اقتصادية استغلالية، وإنما هي كامنة في اللّغة، ما يبرّر انتشارها في شتّى المجالات.
فاللّغة هي الّتي تقوم بعمليّة التّأنيث والتّذكير لكلّ شيئ بما في ذلك الصّفات والجماد والمجرّدات، ومن ثمّ فهي مهد الانقسام، ويتبع هذا الانقسام اللّغوي ويبنى عليه سياسات تفصيليّة متعلّقة بعلاقات القوّة؛ كما ترى المنتميات لهذا التّيّار أنّ ” الكيان الواحد “، سواءً كان فردًا أو ثقافةً أو مجتمعًا أو غيره، هو في الأساس كيان جامع لصفات اصطلحنا لغويًّا وثقافيًّا على تأنيثها أو تذكيرها كالذّكاء والحساسيّة مثلاً، والتي درجنا على إلصاقها بالرّجال والنّساء على التّوالي.
في مقابل هذه الرّؤية، ترى الكاتبات من هذا التيار أن الأفراد يمكن أن يجمعوا بين الذّكاء والحساسية مع كونها صفات مجنسة لغويّا، وهنّ يرون أنّ القسمة اللّغويّة الثّقافيّة هي نسق قهريّ يدمّر بعض جوانب الشّخصيّة لكلّ من النّساء والرّجال على حدّ سواء، فمطالبة الرّجل بعدم البكاء لتكتمل رجولته مجتمعيّا، لهو أسلوب كابت قاهر للرّجل، حيث أنّه في الأصل يشترك مع النّساء في القدرة على الإحساس، وبالتّالي فمن حقّه التّعبير عن مكنونه، كذلك هو الأمر عند مطالبة النّساء بعدم التّفكير وإقصائهنّ عن المشاركة في حلّ المشاكل الّتي تتطلّب تعاملاً عقلانيّا، ففي ذلك أيضًا صيغة قهريّة إقصائيّة، فهنّ شأنهن شأن الرّجال، يمتلكن قدرات قد تبدو لغويّا وثقافيّا متناقضة.
وترى نسويات هذا التيار ( وهو الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في الوقت الحالي )، الخروج من ثنائيّة الرّجل / المرأة، إلى ساحة ثالثة جامعة يتمّ فيها الاعتراف بكلّ الصّفات وتقديرها جميعًا دون تمييز، وإقرار إمكانيّة وجود ما قد يبدو متناقضًا. ولذلك نجدهنّ يركّزن على فكرة قبول الاختلاف كنسق ذهني يعمل على التّعايش ويعطل سياسات الصّدام والصّراع، سيما أنهنّ يُعرّفن ساحة الاختلاف هذه التي توجد فيها الأضداد على أنّها الكيان، وهذا الكيان قد يكون التركيبة السيكولوجيّة للفرد أو الثّقافة أو المجتمع أو خلافه؛ فقبول الاختلاف والاعتراف بكلّ جوانب الشّخصيّة دون تمييز يبشّر بحياةٍ أفضل للفرد سواء كان ذكرًا أو أنثى. وهنّ مقتنعات أنّ التّمييز النّوعي وما أنتجه من إشكاليّات اجتماعيّة ونفسيّة هو نسقٌ ثقافيّ ذهنيّ لا علاقة له من قريب أو بعيد بالاختلاف البيولوجيّ بين الذّكور والإناث، والّذي تمّ إسقاط معانٍ كثيرة عليه دون أن تنطق به لا أجساد النّساء ولا الرّجال(9).
خامسًا – النّسويّة السّوداء ونسويّة العالم الثّالث: تبنّت عدد من النّسويّات الملوّنات في الولايات المتّحدة ومن العالم الثّالث، المنظور ما بعد البنيويّ المقرّ بحقّ الاعتراف بالمختلف دون أي حاجة إلى إقصائه أو مواراته أو إبراز الجوانب الأكثر قبولاً على غيرها، عملاً بمعايير ثقافيّة ومجتمعيّة إقصائيّة مجحفة، وركّزن في تعاطيهنّ مع هذه القضيّة على المختلف ثقافيّا.
وهنا يجب التّشديد على أنّ هذا الانتماء هو انتماء اختياريّ غير قصريّ، فليست كلّ امرأة سوداء أو من العالم الثّالث من النّاشطات في هذا التيار بالضّرورة، بسبب ” حادث ميلادهنّ ” في بلد دون غيره أو بلون دون آخر.
هاجمت النّسويّات المنتميات لهذا التيار كل الحركات النسويّة المنادية بخلق مظلّة واحدةٍ، وأجندة عالمية تشترك فيها وتعمل على تحقيقها كل نساء العالم، سواء كانت هذه الأجندة ليبيرالية أو ماركسية أو راديكيالية، وقد أكدت هده النساء على أن تجاربهن وتورايخهن وقناعاتهنّ الثقافيّة تختلف عن تجارب وتواريخ وقناعات النّساء الغربيّات، فقهرهنّ كان قهرًا مضاعفًا من نتاج ثقافة مجتمعاتهنّ والاستعمار الغربيّ معًا، وهو استعمارٌ نفّده كلّ من الرّجل والمرأة البيضاء، فتاريخيّا مارست المرأة البيضاء القهر على شقيقاتها الملوّنات والجنوبيّات لتبني الأولى تراتبيّة ثقافيّة قائلة بأفضليّة الثّقافة الغربيّة على ما سواها من ثقافات، فحرصت على المشاركة في تصديرها وفرضها على النّساء الملوّنات بدعوى رغبتها بالنّهوض بهنّ، ومن هنا كانت شريكةً كاملة للرّجل الأبيض في استعمار الشّعوب واستعباد الملوّنين.
ولكن يجب التّنويه بأنّ هدا الرّفض لا يعبّر عن ردّ فعل انفعاليّ ” أنثويّ ” يرمي فقط إلى تصفية الحسابات، إنّما هو توجّه نظريّ في المقام الأوّل، ينطلق من رفض السّياسات القصريّة والتّفضيليّة تحت أيّ مسمّى نهضويّ، فمهما كانت مساحة الاتّفاق على أهميّته، لا يجوز فرض الحلول على الجميع.
وتؤكّد المنتميات لهذا التّيار على خصوصيّتهنّ الثّقافيّة وعلى ضرورة احترام هذه الخصوصيّة، خاصّة وأنّ النّسويّة تقرّ بحقّ الاختلاف مبدأً، وتنادي بحقّ الاختلاف عن الرّجل في حالة الرّاديكاليّات، كما تؤكّد وجود المختلف في الكيان الواحد كما هو الحال مع ما بعد البنيويّات، كذلك تستدعي الكاتبات من هذا التّيّار مفهوم سياسات الموقع، والّتي تقول بأهمّيّة الموقع الثّقافي للمتّحدّث في تشكيل رؤيته أو رؤيتها، فالفكر نتاج اختلاط المفكّر بواقعه.
وتوظّف نسويّات العالم الثّالث والملوّنات هذا المفهوم للتّأكيد على أنّ رؤاهنّ وأطروحاتهنّ المتأثّرة قطعًا بموقعهنّ الثّقافيّ ستنتج رؤى مختلفة، وبذلك سيكون لهنّ دور في إثراء الحركة النّسويّة ذاتها بطرح ما قد لا تراه الغربيّات النّاظرات من زوايا ومواقع ثقافيّة متشابهة، وإن لم تكن واحدة(10).
وهناك مدارس نسويّة أخرى عديدة جدّا، لا يسعنا ذكرها لأنّها لم تكن ذات أثرٍ يلحظ في حقول الأدب والنّقد الأدبيّ، على عكس المدارس السّابقة الّتي أشرنا إليها بشيء من التّفصيل، ومن تلك المدارس: النّسويّة الفوضويّة، النّسويّة المسيحيّة، النّسويّة اليهوديّة، نسويّة البراري، النّسوية الفرنسيّة، والنّسويّة الأمريكيّة، مع أنّ الأخيرتين يمكن أن يضمّا مدرسة أو أكثر من المدارس المشار إليها سابقًا(11).
حول مصطلح النّقد الأدبيّ النّسويّ ومفهومه الأوّل:
كان لآراء النّاقدة الأمريكيّة إيلين شوالتر – Showalter Elain أكبر أثرٍ في إيجاد هذا المصطلح وترسيخه، وذلك في كتابها ” نحو بلاغة نسويّة ” (1979)، والّذي تصف فيه طرق تصوير المرأة في النّصوص الّتي يكتبها الرّجل، أو حذف هذه الصّورة منها، مستخدمةً مصطلح ” النّقد النّسويّ – Feminist Critique ” أثناء معالجتها تلك المفاهيم)12).
كما يشير البعض إلى جهود فيرجينيا وولف – Virginia Woolfفي هذا السّياق، معتبرًا إيّاها أم النّقد النّسويّ الغربيّ، لأنّها أوّل من ساهم في تحديد مفاهيمه الأولى، ففي كتابها ” A Room Of Ones Own “، والّذي نشر عام 1919، دعت وولف النّساء إلى الشّروع في تأسيس هويّة خاصّة بهنّ، والخروج على البناء الاجتماعيّ القائم، مشيرةً إلى أنّ فقدان الموهبة لدى النّساء ما هو إلاّ نتيجةٌ طبيعيّةٌ لموقف ذلك البناء الاجتماعيّ السّلبيّ من المرأة، وراحت تحثّ النّساء على معالجة مشكلاتهنّ الاجتماعيّة والاقتصاديّة بأنفسهنّ، والتّغلب عليها في سبيل تحرير طاقاتهنّ الابداعيّة والتّعبير عن عاطفتهنّ الانثويّة بصدق من خلال استحضار تجاربهنّ الخاصّة(13).
ويمكن القول إنّ النّقد الأدبيّ النّسويّ هو ذلك النّقد الّذي يهتمّ بدراسة تاريخ المرأة وتأكيد اختلافها عن القوالب التّقليديّة الّتي توضع من أجل إقصاء المرأة وتهميش دورها في الإبداع، ودراسة كيفيّة تأثّر المتلقّي بالصّور الاقصائيّة والاختزاليّة للمرأة(14).
كما يهتمّ بقراءة الأدب بصفة عامّة، ويتتبع ما فيه من صور لكلّ من الرّجل والمرأة، بغية الكشف عمّا فيه من الانسجام مع الأيدولوجيا الأبويّة أو الاختلاف(15).
ومن ذلك كلّه تظهر محدوديّة النّقد النّسويّ في رأي شوالتر، فهو ومع أنّه عظيم الفائدة، يظلّ محدودًا إذا ما قصر على دراسة القوالب التّقليديّة لصورة المرأة، والتّحيّز لجنس الرّجل عند النّقّاد الرّجال، والأدوار المحدودة الّتي تلعبها المرأة في تاريخ الأدب، وبالتّالي لن يسمح لنا بمعرفة شيء عمّا تشعر به المرأة وتعايشه، ولن نعرف إلاّ الصّورة الّتي يعتقد الرّجل أنّ المرأة يجب أن تكون عليها، لذلك تدعو شوالتر إلى نقدٍ أدبيّ نسويّ يركّز على المرأة من خلال تناول نصوصٍ تكتبها المرأة بنفسها؛ وهو نقدٌ يتحقّق لدى شوالتر منذ اللّحظة التي نتحرّر فيها من المنطلقات الخطّيّة الموجودة في تاريخ الأدب الذّكوريّ، فنركّز حينها على العالم الّذي لم يتكشّف للعيان بعد، ألا وهو عالم ثقافة المرأة(16).
إذا فالنّقد الأدبيّ النّسويّ، ومنذ شوالتر، يصبح مهتمًا بمتابعة دور المرأة في إغناء العطاء الأدبيّ، والبحث في الخصائص الجماليّة والبنائيّة واللّغويّة في هذا العطاء(17).
قراءةٌ مضّادة للقراءة الأبويّة:
لا يمكن فصل النّقد الأدبيّ النّسويّ عن الحركة النّسويّة، إذ تمكّنت النّسويّة من التّوحيد بين ما هو سياسيّ وثقافيّ أو أدبيّ، مؤكّدة الرّأي القائل إنّ كلّ نظريّة نقديّة هي نظريّة سياسيّة أصلاً، ذلك أنّ كلّ نظريّة تسعى دائمًا للسّيطرة على الخطاب والتّحكّم به، وبذلك يفسّر ارتباط الظّهور الأوّل للنّقد النّسويّ بنشوء الموجة الأولى من الحركة النّسويّة(18) في الولايات المتّحدة أواخر ستينيّات القرن العشرين(19)، إذ ظهرت حينها دعواتٌ واضحةٌ تنادي بمنح المرأة دورًا أكثر تأثيرًا في النّتاج الأدبيّ، كتابةً وقراءةً، كما استخدمت مصطلحاتٌ جديدةٌ في وصف الأدب النّسويّ أسلوبًا وفحوى، ورافق هذا التّوجّه التفاتٌ نحو التّراث النّسويّ واستخدامٌ لوسائل العلوم الانسانيّة في إبراز التّجربة النّسويّة في مجالات السّياسة، والاجتماع والثقّافة؛ فنجد النّقد الأنجلو – أمريكي يهتمّ بدراسة إبداع المرأة والتّأكيد على خلوّه من كلّ ما ألصق به من خصائص تتعلّق بالعرضيّ والسّطحيّ والهامشيّ، والبعد عن كلّ ما هو جوهريّ، وقد نهضت بهذا الجانب كاتباتٌ متخصّصاتٌ في التّاريخ الحضاريّ والثّقافيّ، فضلاً عن علم الاجتماع وعلم النّفس التّحليليّ، ومن أشهر الكتب الّتي ظهرت في هذا السّياق، كتاب ماري إلمان “التّفكير بالمرأة ” (1968)، وكتاب فيلس شيلو ” النّساء والجنون “، و كتاب كاتي ميلليت ” السّياسة الجنسيّة ” (1977)، وقد ذهبت أولئك النّاقدات وغيرهنّ إلى أنّ النّقد النّسويّ ردّة فعلٍ لفعل الصّمت الذّكوريّ المتعمّد الّذي قوبل به إبداع المرأة (20).
ومن مهام النّقد الأدبيّ النّسويّ إقصاء القراءة الأبويّة ( ( patriarchal واستبدالها بقراءة أخرى أكثر صحّة من المنظور النّسويّ، يكون لها حضورٌ مساوٍ للقراءة البطريركيّة الّتي تعكس رؤية الرّجل فقط، إضافةً إلى قيامه بتحليل أدب المرأة وتطوير نماذج وأشكال نقديّة حديثة قائمة على دراسة أدب المرأة وخبرتها بعيدًا عن النّظريّات النّقديّة الّتي وضعها الرّجال، إذ لا يعترف هذا النّقد بالارث النّظريّ، ويصفه بالذّكوريّة، ويسعى إلى إيجاد خطاب أنثويّ حرّ غير مقيّد بذلك الارث، وهو ما تؤكّد عليه شوالتر – Showalter اعتقادًا منها أنّه لا يجوز تبنّي أيّ نظريّة توافق عليها المؤسّسات الاكاديميّة إطلاقًا، فالنّظريّات في تلك المؤسّسات ذكوريّة تمامًا في رأيها(21).
وتذهب النّسويّات إلى أنّ النّظريّات النّقديّة ومنظومات القيم الّتي ينتجها رجال، تمنحهم امتيازاتٍ ليس بمقدورهم التّنازل عنها بسهولة لصالح المرأة، ولذلك يدعون إلى توخّي الحذر أثناء التّعامل مع كلّ نظريّة نقديّة ينتجها رجل، وإن كان بعضها يعالج قضايا المرأة إيجابيّا(22)؛ وبما أنّ كلّ نظريّة نقديّة هي نظريّة سياسيّة، فكلّ واحدة من تلك النّظريّات تحاول السّيطرة على الخطاب والتّحكّم به، كما ترى ماري إيجلتون – Eaglton Mary، وهو رأي يستهوي النّقد النّسويّ عادة، ترفض النّسويّة النّظريّات القديمة وتسعى إلى إيجاد نظريّة خاصّة بهنّ في الأدب أو غير الأدب(23).
ومن هنا جاء نقد النّسويّات لكثير من النّظريّات الأدبيّة، مثل نظريّة نقيضة التّمركز حول القضيب \ Phallo-centric، لـفرويد -Frued، وغيرها، والدّعوة إلى النّظر في مقاييس الأدب القديمة، ومعاييره، وإعادة تشكيلها مع كلّ تغيير في موازين القوى، بين النّاقدات والنّقّاد، ومع كلّ جديد يظهر في نظريّة الجنس، إذ لا يمكن لهذا النّقد أن يعتمد نظريّةً ما على نحو شامل، وثابت، وكلّيّ(24).
وتخلّصًا من سلطة ما يسميّه بـ ” النّظريّة الذّكوريّة “، اعتمد النّقد النّسويّ على طروحات جاك دريدا في ” الكتابة والاختلاف “، فالنّقد التّفكيكيّ أوّل من بدأ التّشكيك بمبدأ ” الارث النّظريّ ” في النّقد الأدبيّ، مؤكّدًا أنّ المعنى في أيّ خطاب أدبيّ ناتجٌ عن العلاقة الخلافيّة بين ثنائيّة الحضور والغياب، والتي تسمّى أيضًا بـثنائيّة المعنى المتحقّق والمعنى المرجأ، وانطلاقًا من ذلك راح النّقد النّسويّ يتصدّى لتأويل الأعمال الابداعيّة وإعادة قراءة الأدب بصفة عامّة بدلاً من الاستسلام للتقّويم النّظريّ، متتبّعا صور كلّ من الرّجل والمرأة في تلك الأعمال بغية الكشف عمّا فيها من انسجام أو اختلاف مع الخطاب الأبويّ؛ فمثلاً توضح دراسة أجرتها كاتي ميلليت – kate millet، أنّ الهيمنة الجنسيّة الذّكوريّة تتجلّى في قصص كتّاب غربيين مثل لورنس، وهنري ميللر، وجان جينيه من خلال استعمالهم مفردات ووحدات سرديّة يتبيّن منها أنّ الكاتب يوجّه كلامه إلى قارئ من جنس واحد، ألا وهو الذّكر(25).
وترى كاتي ميلليت أنّ النّتاجات الأدبيّة والنّقديّة، طوال العصور الأدبيّة الماضيّة، قامت على التّفريق بين كاتب وآخر على أساس الجنس، ممّا قاد إلى إغفال أدب المرأة وتهميشه، وتجنّب النّظر إليه عند اشتقاق نظريّات جماليّة، ونقديّة، لاعتماد كلّ تلك النّظريّات على أدب من نتاج الرّجال؛ وبما أنّ المعنى في العمل الأدبيّ غير ثابت، وغير نهائيّ، فيما يذهب إليه جاك دريدا، فإنّه يمكن تجاوز جلّ المعايير والقوالب الجامدة وإيجاد معايير أخرى جديدة، أيّ قراءات جديدة(26).
ولذلك ذهبت ميلليت إلى اعتبار أنّ مقولة ” الجنس – Sex ” لا تعدو أن تكون مقولة ذكوريّة ونظريّة قديمة عفا عليها الزّمن، ويجب أن تستبدل بها مقولة أخرى هي ” الهويّة الثّقافيّة ” أو ” الجندر –” Gender ، فالجنس يتحدّد بيولوجيّا، أمّا الجندر فهو مفهومٌ ثقافيّ مكتسب، فلا يهمّنا في رأيها إن كان الكاتب ذكرًا أم أنثى بيولوجيّا، لكن الّذي يهمّنا هو كيف نستخلص هويّة المرأة الثّقافيّة من النّصّ، ولذلك نجدها تهاجم علماء الاجتماع الّذين يتناولون الصّفات الانثويّة المكتسبة ثقافيّا، كالسّلبيّة، بوصفها صفات بيولوجيّة طبيعيّة، وتعترف بأنّ المرأة تساهم أحيانًا في ترسيخ هذه الاتّجاهات(27).
لكن ثمّة رأيّ نسويّ يخالف الاجماع النّسويّ على كيفيّة التّعامل مع نظريّات الرّجال، فمن النّسويّات من يرين أنّ خدمة قضايا المرأة لا تتأتّي إلاّ بالانخراط في حقل النّظريّة الموجودة والمستقرّة أوّلا، ثمّ الانطلاق منها نحو خلق وتطوير خطاب معرفيّ ومنهجيّ خاصّ بالمرأة، بل تذهب بعض النّسويّات إلى أبعد من ذلك فيطالبن باستثمار الارث النّظريّ في خدمة النّظريّة الأدبيّة النّسويّة والنّقد النّسويّ، منهنّ الكاتبة توريل موي – Toril Moi، إذ ترى أنّه لا تتوافر احتمالات وخيارات تنظيريّة كثيرة يمكن أن تنبثق منها نظريّة نسويّة منقطعة تمامًا عن نظريّات الرّجال، ثمّ إنّ النّظريّات الرّجاليّة لديها، سيميائيّة أو ماركسيّة، بنيويّة أو نفسيّة أو غيرها، مفيدةٌ جدّا للنٌّقد الأدبيّ النّسويّ، ويجب استغلالها(28).
الوقوع في النّقيض:
ومن المفارقة أنّه ومع شدّة تأكيد النّسويّات على تحرير خطاب المرأة من التّراث النّظريّ النّقديّ الذّكوريّ، إلاّ أنّ كثرًا منهنّ قد وقعن في نقيض ما يدعون إليه، فنجد سيمون دي بوفوار مثلاً، صاحبة مقولة (( الواحدة منّا لا تولد امرأة، بل تصير امرأة ))، متأثّرة في كتابها “الجنس الثّاني ” بآراء سارتر الوجوديّة إلى حدّ بعيد(29)، كما نجد النّاقدة توريل موي متأثّرة بآراء ماركس، الّذي استبعد أن تكون النّسويّة من القضايا الرّئيسيّة في فكره، وقد تحدّثت النّاقدة الامريكيّة، هايدي هارتمان، عمّا وصفته بالزّواج التّعيس بين الماركسيّة والحركة النّسويّة، إذ تقدّم الأولى قضايا الصّراع الطّبقيّ على قضايا النّوع، فتهمل معالجة المرأة وشؤونها، والنّسويّة لم تعد قادرة على انتظار تحقّق الثّورة ليتمّ تناول قضايا النّوع جدّيّا، بل إنّ بعض النّسويّات يعتقدن بأنّ الثّورة لن تقوم إلاّ إذا حلّت قضايا النّوع أوّلاً، ثمّ إنّ الشّيوعيّة قد تحالفت مع القوى الأبويّة، ممّا أدّى بالنّسويّات اللّائي كنّ منتميات لها إلى شنّ هجمة قتال عنيفة ضدّها(30).
كما نجد كاتي ميلليت تعتمد كثيرًا على آراء جاك دريدا، صاحب النّظريّة التّقكيكيّة(31)، ونجد ماري وول – Mary Woll متأثّرة بكتابات مفكّري الثّورة الفرنسيّة، فتطوّع كتابتهم لخدمة قضايا المرأة، ومنهم جان جاك روسو، مع أنّ له مواقف جدّ سلبيّة تجاه المرأة(32)، كما أنّ لاكان، الفيلسوف وعالم النّفس، لقي حظوة كبيرة في أوساط النّسويّات الفرنسيّات والفرنكفونيّات، وقد اعتمدن على آرائه في طروحاتهنّ النّسويّة، وقد وصفته جان جالوب بالدّيك وسط دجاجات يسعين لإرضائه، ثمّ سرعان ما بدأن هجومهنّ عليه(33)، وقد اعتبرت النّاقدة هيلين سيسو -Helen Cixous النّظريّة النّفسيّة الفرنسيّة للاكان رؤية ذكوريّة للعالم، تفترض سيطرة الذّكر، وتدعم النّظام القائم على الذّكورة باعتبارها دلالة قوّة، وتوافق النّاقدة لوسي إريجاري زميتلها سيسو في رأيها ذلك، إلاّ أنّنا نجد الأولى تعتمد على آراء لاكانحول مفهوم الخياليّة، وذلك في محاولة إثباتها تميّز العقل النّسائيّ من باب أنّ خياليّته أكثر حيويّة وخصوبة وحركيّة ممّا هي عليه في لدى الرّجل(34).
وتعبّر ماري جاكوب في كتابها ” قراءة المرأة ” عن تأثّر النّسويّات بنظريّات الرّجال تأثّرًا كبيرًا، إذ تقول إنّه كان من النّادر كتابة نقد أدبيّ نسويّ في الثّمانينيّات دونما اعترافٍ بتأثير النّقّاد الفرنسيين أو الفرانكفونيين(35).
ولعلّ أكثر ما يدهش، ما وقعت فيه شوالتر من تناقض ما بين التّنظير والتّطبيق، فهي معروفة بشراسة تهجّمها الّذي يبلغ حدّ التّهكّم على النّسويّات لاعتمادهنّ على نظريّات الرّجال، فقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على آراء عالميّ الاجتماع إيدوين وشيرلي آردينير – Edwin & Shirly Ardener من جامعة أوكسفورد، واللّذين اعتبرا النّساء جماعة صامتة تتطابق ثقافتها وحقيقتها مع ثقافة وحضارة جماعة الرّجال المهيمنة، ولم ينظرا إليهنّ باعتبارهنّ مواطنات لهنّ أجواؤهنّ المنفصلة، وهي الّتي جعلت الموضع الثّقافيّ محدّدًا للهويّة الأدبيّة النّسائيّة؛ ويؤخذ عليها أيضًا اعتمادها على نص جيفري هارتمان(36).
مراحل الكتابة النّسويّة:
جعل الباحثون للكتابة النّسويّة الغربيّة أربع مراحل أساسيّة، وذلك وفقًا لتطوّر أشكال التّصدّي للّثقافة والسّلطة الذّكوريّتين، هي(37):
1. مرحلة ” التّأنيث – Feminine ” ( 1840 – 1880 ): وقد قلّدت الكاتبات النّسويّات خلال هذه المرحلة الرّجال في كتاباتهم، وذلك عن طريق امتصاص المعايير الجماليّة الذّكوريّة المهيمنة كالاحتشام والالتصاق بالحلقة الاجتماعيّة العائليّة، وتقبّل القيود الفنّيّة والاجتماعيّة في التّعابير الادبيّة تجنّبا للفظاظة والمجون.
2. مرحلة ” النّسويّة – Feminist ” ( 1880 – 1920 )، وفيه طالبت المرأة بالمساواة بين الجنسين وتحسين ظروف العمل ومنحهنّ حقوقهنّ المدنيّة، وبالمشاركة السّياسيّة، وما إلى ذلك..
3. مرحلة ” الأنثويّة – Female ” ( 1920 فصاعدًا )، وفيه اتّضح التّمايز في الوعي والتّجربة النّسويّة تجاه وعي الذّكورة وتجاربها، ، ففي هذه المرحلة ركّزت النّسويّة على الفروق بين الجنسين، وعلى إسهامات النّساء الحضاريّة المميّزة، وخصوصيّة لذّتهنّ الجنسيّة، وخصوصيّة كتابتهنّ، فالنّساء يكتبن على نحو مختلف لا لاختلافهنّ بيولوجيّا أو نفسيّا عن الرّجال، بل لاختلاف تجاربهنّ الاجتماعيّة.
وتضيف جوليا كريستيفا لتلك المراحل الثّلاث، والّتي تعتبرها إيجابيّة، مرحلةً رابعة سلبيّة، هي: مرحلة الانزلاق الدّوغمائيّ اليساريّ في تشكيل نواة سطلويّة نقديّة تنتظم حول امرأة ” زعيمة ” لا تختلف عن أيّ زعيم رجل(38).
ما الكتابة النّسويّة؟
يحاول النّقد الأدبيّ النّسويّ إيجاد تعريفٍ علميّ ودقيق لما يسمّى ” كتابةً نسويّة “، إلاّ أنّه لم ينجح في بلوغ ذلك إلى الآن، ذلك أنّ تصوّر مفهوم تلك الكتابة أمرٌ عسير، لأنّ هويّة المرأة نفسها غير قابلة للحصر، متمدّدة ومتشعّبة ومتنوّعة، وبالتّالي فإنّ أيّ كتابة يمكن أن توصف بالنّسويّة لا يمكن لها أن تحيط بتلك الهويّة، وإن افترضنا لتلك الكتابة وجودًا حقيقيّا فإنّنا نكون قد قيّدناها بتعريفاتٍ قد تضيق عنها، ويستخدم لتوصيف هذه الاشكاليّة عادةً مصطلح ( اللاّ ممكن تحديده Undecidability – )، وهو مصطلح نقديّ.
من أهمّ من يطرح ذلك الرأّي النّاقدة لوسي إرجاري وجوليا كريستيفا، وهما تذهبان أيضًا إلى أنّ محاولة تحديد مفهوم للكتابة النّسويّة يؤدّي إلى وضع المرأة والرّجل في إطار تكوينيهما البيولوجيّين، وهو أمر غير مقبول أبدًا لدى النّسويّات المعارضات للماهويّة البيولوجيّة(39).
ويذهب النّقد الأدبيّ النّسويّ إلى تخطئة وصف الأعمال الأدبيّة المتعلّقة بالمرأة بأنّها نسويّة لمجرّد إقبال المرأة على قراءتها، فمنها ما لا يتعاطف أبدًا مع المرأة بل ويتّخذ مواقف ضدّها، ومع ذلك نجد كثيرًا من النّساء يقبلن على قراءتها، كذلك لا يمكن وصف الأعمال الّتي تكتبها النّساء أو الّتي تكتب عنهنّ بالنّسويّة للسّبب ذاته(40).
ويمكن معرفة أهمّ سمات ما يسمّى بـ ” الأدب النّسويّ ” من خلال الوقوف على ما جاء في كتاب النّاقدة النّسويّة ماري إيجلتون: “النّظريّة الأدبيّة النّسويّة “، إذ يعتبر الأدب نسويّا إذا عبّر النّصّ الأدبيّ عن تجربة المرأة الخاصّة وواقع حياتها بشكل صادق ومخالف للأنماط الّتي صوّرت بها المرأة طويلاً، والّتي تنافي إلى حدّ بعيد الحقيقة والواقع.
ونجد أنّ النّصوص الّتي تقتبسها إيجلتون وتوظّفها في كتابها، أو تلك الّتي تكتبها بنفسها، تستخدم عددًا من المصطلحات الّتي يمكن اعتبارها مهمّة عند الحديث عن أدب نسويّ، منها:
الموثوقيّة – Authenticity، الحقيقة – Truth، التجربة – Experience، واقعيّ – Realistic، هويّة – Identity، أصيل – (41)Authentic.
وإذا كان النّقد النّسويّ يرى وجوب تناول موضوعات المرأة بطريقة تساهم في بيان التّجربة الانثويّة وتعريف النّاس بها، فإنّ أبلغ من يتحدّث في الموضوعات الخاصّة بالمرأة في رأيه، هي المرأة نفسها، إذ إنّ النّساء وحدهنّ يعانين تجارب الحياة الانثويّة النّوعيّة، وهنّ وحدهنّ اللائي بمقدورهنّ الحديث في شؤون بنات جنسهنّ بتفاصيلها الفكريّة والانفعاليّة الخاصة بهنّ، فالمرأة ترى الأشياء من منظورٍ مختلفٍ مرتبطٍ بذاتها وبتجربتها الّتي تعيشها بنفسها وليس كما ينظر إليها الرّجل، وتختلف مشاعرها وأفكارها إزاء ما هو مهمّ وغير مهمّ، ولذلك يجب أن يقرأ الأدب قراءة نسويّة تدرس التّمثيل الأدبيّ لتلك الاختلافات في كتابة المرأة، ويكون بمقدورها تمييز الجوانب الّتي لم يكن النّاقدُ معنيّا بها أو بملاحظتها أصلاً، على أن تكونَ قراءةً متحرّرةً من تحكّم الرّجل في الخطاب، ومتحرّرةً من الضّعف، والتّردّد، والتّركيز على المبتذل والتّافه، وهي سمات الخطاب النّسائيّ السّائد كما جاء لدى روبين لاكوف(42)، ويطلق على من يقوم بقراءة الأعمال الأدبيّة تلك القراءة اسم ” ناقد\ة الخصائص النّسويّة “(43).
كما تؤكّد باتريشا سباكس – Patricia Spacks على أنّ النّقد النّسويّ هو ذلك النّقد الّذي يهتمّ اهتمامًا كبيرًا لطبيعة التّجربة الانثويّة داخل النّصّ(44).
وعلى ضوء ذلك يمكننا القول إنّ التأكيد على التجربة الانثويّة الخاصّة لدى النّقادات النّسويّات يعدّ معلمًا واضحًا من معالم الأدب النّسويّ.
فمعالجة موضوعات مثل الزّواج والاستقرار والطّلاق، والعذريّة والأمومة وقضايا الأرامل والاغتصاب والإنجاب ورعاية المنزل، وما إلى ذلك من أمور تتعلّق بالمرأة، هو ما تريده النّاقدات النّسويّات من النّصّ الأدبيّ، واللّائي يدعون النّساء للإقبال على قراءة المرأة كونها امرأة، ويطالبن النّاقدات النّسويّات بتوجيه القارئات ومساعدتهنّ على الاستمتاع بقراءة الأدب النّسويّ، وممّن يذهبن إلى ذلك النّاقدة النّسويّة ماغي هوم – Maggie Humm في كتابها: ” النّقد النّسويّ: المرأة كناقدة معاصرة “، بينما ترفضه أخريات رفضًا مطلقًا مثل شولميت فايرستون – Shulamith Firestone، الّتي تذهب في كتابها ” جدل الجنس ” إلى رفض التّأكيد على طبيعة الاختلاف الانثويّ على اعتبار أنّ أيّ شيء يفرّق بين المرأة والرّجل مؤدّاه اللاّ مساواة والقمع، ولذلك نجدها تتمنّى أن يأتي يومٌ يتمكّن فيه التّطوّر العلميّ إعفاء المرأة من الانجاب على الإطلاق لتتحقّق المساواة التّامّة بين الذّكر والأنثى(45).
ما الكتابة الانثويّة؟
لا مفرّ من الدّخول في ثنائيّة البيولوجيا والبعد الاجتماعيّ متى دار الحديث عن كتابة الرّجل وكتابة المرأة، فنجد الذّكوريين يركّزون على الجوانب البيولوجيّة سعيًا منهم لإبقاء المرأة في مكانتها، بينما تركّز عليها بعض النّسويّات الرّاديكاليّات للإعلاء من شأن الصّفات البيولوجيّة للمرأة بوصفها مصادر للتّفوّق لا الدّونيّة، فنجد أنفسنا لا نزال في نفس الأجواء المتطرّفة الاقصائيّة، وفي ذلك تناقضٌ كبيرٌ مع مبادئ الفكر النّسويّ الليبيراليّ الّذي يدعو إلى احتواء الآخر والانفتاح عليه(46).
تؤكّد النّسويّة الرّاديكاليّة على الفضيلة الانثويّة والأمومة والمؤهلات البيولوجيّة الخاصّة بالمرأة، إذ تعتقد أنّ الاختلافات الجنسيّة هي ما تجعل الحياة الانسانيّة متوازنة، ولذلك نجدها تحتفي بعلاقة المرأة بالطّبيعة وبصورة الخصب المرتبطة بها دومًا لدورها في التّناسل والانجاب، وبالتّالي فهي تفترض وجود أنوثة جوهريّة يمكن استحضارها في النّصّ الأدبيّ، وأنّه من الممكن التمييز بين الكتابة الانثويّة والأشكال اللّغويّة الأخرى على أسس غرائزيّة وفطريّة(47).
وقد تطرّقنا سابقًا إلى رأي كاتي ميلليت حول التّأكيد والتّركيز على الاختلافات البيولوجيّة، إذ تجد ذلك أمرًا خطيرًا جدّا، خاصّة حين تستخدم تلك الاختلافات مبرّرًا لمعاملة الأنثى على أنّها أدنى من الذّكر منزلةً، فيحجر على النّساء في الحياة المنزليّة والأسريّة بممارسة القوّة ضدّهنّ، ولذلك نجدها تدعو إلى الخروج على القوالب الجنسيّة وأدوار الجنس في المجتمع الّتي تعبّر عن علاقة غير متكافئة ركناها سلطةٌ وتبعيّة، والّتي كانت سببًا في إخضاع النّساء لعصورٍ طويلة (48).
وتميّز النّاقدة النّسويّة هيلين سيسو – Helen Cixous بين رؤية ذكوريّة وأخرى أنثويّة في اللّغة والأدب، وترى أنّ هناك ما يسمّى بروح نسائيّة يمكن أن تتواجد في نصوص ينتجها رجال، مع تأكيدها على أنّه من النّادر أن يكتب رجلٌ بنمط يعارض الرّغبة الذّكوريّة في السّيطرة ودوام التّفوّق؛ وهي كما ميلليت، تعارض بشدّة التّوجّهات القائمة على أساس بيولوجيّ، وترفض الاعتراف بوجود لغتين إحداهما للذّكر وأخرى للأنثى يحتّمهما الجنس، فهي تخشى أيضًا من أنّ التّرويج للغة أنثويّة لها علاماتها ومحدّداتها البارزة، قد يمنح للذّكوريين المزيد من الفرص لاضطّهاد المرأة وإلقاء اللّوم عليها(49).
جوليا كريستيفا أيضًا تضيف صوتها إلى جماعة المعارضات للتّوجّه النّسويّ الرّاديكاليّ في تحديد مفهوم ” الأنثويّة – feminity”، فالآراء التّفكيكيّة الّتي تتبنّاها تجعلها تخرج على مفهوم الهويّة نفسه، فلا اعتراف لديها لا بهويّة ذكريّة ولا بهويّة أنثويّة، فمفهوم الهويّة المطلق أمر ينتمي إلى مرحلة ما قبل التّفكيكيّة، مهما كانت ماهيّة الهويّة، جنسيّة، اجتماعيّة، أو نفسيّة، وبالتّالي فالانثويّة برأيها من نتاج منظومة الفكر الأبويّ الذّكوريّ الّتي تحكّمت دائما بعلاقات القوى الاجتماعيّة وحدّدتها بما يتلاءم معها، والّتي أرادت دومًا أن تظلّ المرأة في موضع هامشيّ ضمن علاقات القوى الرّمزيّة في المجتمع الابويّ، وما الاختلافات الّتي تظهر بين الجنسين إلاّ نتاج الجدل بين آليّات التّوليد اللّغويّة وحركة القوى الحاكمة التي تظهر هذه الاختلافات وتحرص على تأكيدها وتكريسها(50).
أمّا التّمييز الّذي تفضّله النّسويّات عمومًا بين الكتابة الذّكوريّة والانثويّة، فيعتمد على معيار (( السّلطة Authority – )) في التّشخيص، وهو عنصر من عناصر الخطاب، وليس أمرًا بيولوجيّا ولا علاقة له بالجنس، ولذلك فالنّسويّات الرّافضات الاعتراف بوجود كتابتين على أساس الجنس، مذكّرة ومؤنّثة، يوافقن على هذا التّمييز.
نجد ماري إلمان – Mary Ellman و نورمان ميلر – Norman Mailer يشخّصان الكتابة من خلال توظيف معيار السّلطة، فتصف إلمان كتابة النّاقدة سيمون دي بوفوار بالذّكوريّة بسبب نبرتها السّلطويّة الواضحة، فهي ترى أنّ الصّوت الذّكوريّ ليس محصورًا في جنس الذّكور، كما هو الحال أيضًا مع الصّوت الانثويّ، فهو ليس محصورًا في جنس النّساء، ولكن عادةً ما تكون النّبرة السّلطويّة غائبة تمامًا في الخطاب الأنثى وبالتّالي في كتابتها(51).
أمّا ميلر فيحاول تحديد مميّزات للكتابة الانثويّة غير غياب معيار السّلطة منها، فيقول إنّها مزيج من حكمة وطيش وبعد نظر وتهوّر وجرأة وتهكّم، ونجده يشجّع ويثني على الكتابة الّتي تضع نفسها في مواجهة صداميّة مع خطاب السّلطة المميّز للكتابة الذّكوريّة(52).
أدّت تلك الآراء بالنّقد النّسويّ للاعتقاد أنّ الكتابة الانثويّة تسعى إلى هدم الخطاب الأبويّ المسيطر منذ آلاف السّنين، وطالما أنّه ارتبط دومًا بالرّجل، فمن الطّبيعيّ أن ترتبط الكتابة الانثويّة بالمرأة بالدّرجة الأولى، مع أنّ ذلك لا يمنع وجود كتابات للرّجال يمكن وصفها بالانثويّة وإلحاقها بها، وقد وظّفت النّسويّات نصوصا لأولئك الرّجال لدعم رفضهنّ الاعتراف بلغة تخصّ المرأة، وبالتّالي حصر الكتابة الانثويّة في المرأة وحدها(53).
هناك من يرى أنّ للمرأة أساليب وطرائق خاصّة في صياغة المجازات وانتقاء الصّور، والبعض يرى أنّ تلك الأساليب الخاصّة نابعة من بيولوجيّة المرأة، خصوصًا أتباع النّقد الأمريكي، فيجعلون للمرأة ميلاً غريزيّا لصور معيّنة أو أشكال لغويّة محدّدة، وفي المقابل نجد من يطرح تفسيرات اجتماعيّة وثقافيّة لخصوصيّة استعارات المرأة ومجازاتها، مثل أن نجد صورة الطّائر تتكرّر في روايات المرأة، أو صورة العصفور في قفص، محاولين الرّبط بين الكتابة الانثويّة وتلك الصّور(54).
أمّا ” الكتابة الانثويّة ” مصطلحًا نقديّا في المعجم النّسويّ، فيقتصر على نوع معيّن من الكتابة النّقديّة النّسويّة التي نبعت من نسويّة النّاقدات الفرنسيّات المعاصرات، مثل لوسي إريجاري وهيلين سيسو وجوليا كريستيفا، ويتميّز هذا الشّكل من النّقد النّسويّ باعتقاده أنّ هناك مجالاً لإنتاج النّصوص يمكن أن يسمّى ( إنتاجًا أنثويّا )، ولكنّه مستترٌ تحت سطح الخطاب المذكّر ولا يظهر إلاّ من حين لآخر على صورة انشطارٍ في اللّغة المذكّرة، وثمّة افتراض آخر بأنّ المرأة تعطى هويّة معيّنة في إطار البنيات الذّكوريّة للّغة والسّلطة وأنّها يجب أن تسعى للتّصدّي لهذه الهويّة المفروضة(55).
زيادة وعي المرأة وتحقيق مبدأ التّآخي:
يطالب النّقد الأدبيّ النسّويّ بتوظيف الأدب لزيادة وعي العنصر النّسائيّ، فيوفّر العمل الرّوائيّ مثلاً، مساحةً تسمح للمتلقّيّة أن تقارن مشكلاتها مع مشكلات الشّخصيات في الرّواية، من دون أن تطرح المؤلّفة حلولاً صريحةً من خلال تلك الشّخصيّات، بل يترك الأمر للمتلقّية لتحلّل وتشخّص أسباب المشكلات من خلال المقارنة، ثمّ تتّخذ حلاّ مناسبا.
ولتحقيق ذلك، ينصح النّقد النّسويّ الرّوائيّات بصياغة شخصيّات من واقع حياة النّساء، تتماهى معها الأخيرات ويحسسن بالتجارب المشتركة لدى الطّرفين، وينصح كذلك بالاستغناء عن المبالغة في تصوير اضطّهاد النّساء وقمعهنّ وإظهارهنّ بصورة الضّحيّة المتألّمة دومًا، لدرجة يغدو معها من الصّعب تصديق ما يقرأ وبالتّالي لا يحصل أيّ تعاطف بين القارئ والشّخصيّات، فلا يمكن قبول كلّ رواية واعتبارها نسويّة لإظهارها المرأة ضحيّة عاجزة، كما تقول إريكا يونغ – 56)Erica Jong).
كما تطمح النّسويّة لخلق مجتمع إنسانيّ متآخ، وإقصاء التّوتّر والضّغينة من منظومة العلاقات البشريّة، وخصوصًا العلاقات بين النّساء، إذ لاحظت فرجينيا وولف أنّ علاقات النّساء في عالم الأدب يسودها الاضطّراب وتداخلها الكراهيّة الّتي قد تكون نابعةً من عزلة النّساء أو المنافسة فيما بينهنّ.
وتحقيق ذلك ممكن باللّجوء إلى الأدب وأدواته، إذ يمكن للأدب أن يخلق رابطة قويّة تجمع ما بين المتلقّية والكاتبة من جهة، والمتلقّية الواحدة وباقي المتلقّيات من جهة ثانية، وذلك من خلال تقديم تجارب مشتركة لديهنّ جميعًا، تولّد لديهنّ ردود فعل مشتركة تجاه العمل الّذي يتلقّينه، فيخرجن بمواقف متقاربة توحّد بينهنّ، فالمرء منّا يقرأ ما يماثله على حدّ تعبير هارولد بلوم -Harold Blom(57).
وعي الجسد الانثويّ:
اختلفت المدرستان النّسويّتان، الفرنسيّة والامريكيّة، حول هذا المفهوم ومدى شرعيّة وعمليّة المناداة به وتطبيقه في حقول الأدب والنّقد النّسويين.
فالمدرسة الفرنسيّة ترى استحالة إقصاء الجسد الانثويّ أو إهماله أثناء الحديث عن التّجربة الانثويّة الحقيقيّة، إذ هو مصدرٌ من مصادر الكتابة الانثويّة في نظرها، فالمرأة بكتابتها عن جسدها ذهبت إلى التّعبير عن نفسها لإدراكها حقائق ذلك الجسد إدراكًا واعيًا واكتشافها له، ولذلك نجد النّسويّات الفرنسيّات يشجّعن النّساء للبحث عمّا هو مختلفٌ لديهنّ عن الرّجال واكتشاف جنسهنّ انطلاقًا من بيولوجيّة أجسادهنّ، وأن يبرزن ما قامت الذّكوريّة بقمعه، فوعي الجسد يعني بالضّرورة وعيًا للذّات الانثويّة الّتي غيّبت أو أسيء تمثيلها في الخطاب الذّكوريّ.
أمّا النّسويّة الامريكيّة فترفض ما تطرحه النّسويّة الفرنسيّة لأنّ الأخيرة تحاول فرض صوت شهوانيّ واحد للتّعبير عن كلّ نساء العالم، لا يحاول إيجاد مفاهيم نسويّة عالميّة، وفي ذلك تجاهلٌ لخصوصيّات الشّعوب والمجتمعات الثّقافيّة والدّينيّة والاجتماعيّة، إذ تتفاوتُ مسألة ” وعي الجسد ” لدى نساء العالم وفقًا للطّبقة والجنس والثّقافة، ولذلك لا يمكن أن تكون البيولوجيا الانثويّة منفذًا للخروج على الذّكوريّة وعزلها للنّساء(58).
صورة المرأة في كتابات الذّكور من المنظور النّسويّ:
ركّز النّقد الأدبيّ النّسويّ جهوده الأولى على دراسة الصّورة الّتي تُقدّم بها المرأة في الأعمال الّتي كتبها مؤلّفون رجال، محاولاً إثبات وجود قوالب نمطيّة ثقافيّة ضيّقة في تلك الأعمال، يتمّ وضع المرأة داخلها، ومبيّنًا كيفيّة تكريس تلك الصّور للقمع الّذي تتعرّض له المرأة في المجتمعات الذّكوريّة، فنرى مثلاً أنّ تقديم المرأة في صورة أداة للمتعة الجنسيّة لا في صورة تتمتّع بالسّلطة السّياسيّة، يجعل المرأة تستقبل صورةً محدودة دائمًا للأنوثة ولكيان المرأة، ومن ثمّ فإنّها تحدّ من قدرات المرأة(59).
وقد نشرت في نهايات ستينات القرن العشرين وبداية السّبعينات ثلاثة كتبٍ أعادت جذب انتباهِ النّساءِ، النّاقادات والكاتبات، إلى مشروع إعادة قراءة النّصوص الّتي كتبها رجال، فبدأن بذلك محاولات كشف مدى إساءة تمثيل الكتّاب الذّكور للنّساء في التّراث الأدبيّ بأكمله، وتلك الكتب هي: كتاب ماري إيلمان، ” التّفكير في النّساء ” (1968)، وكاتي ميلليت، ” السّياسات الجنسيّة ” (1969)، وجريمين جرير، ” المرأة المخصيّة ” (1970)(60).
وقد أصبح هذا النّهج معتمدًا في الدّراسات الأكاديميّة، فدرست النّسويّات كلّ ما أمكن بدءًا من أعمال تشوسر وشكسبير وصولاً إلى الأعمال المعاصرة، إمّا لنقد صور المرأة الضّحيّة أو صور سلبيّة تضعها في قوالب نمطيّة، وإمّا احتفاءً بالخروج جذريّا على تلك القوالب(61).
تناقش إيلمان في كتابها نطاقًا واسعًا من الكتابات الأدبيّة والنّقديّة لتوضح ما الّذي يفعله التّعصّب الجنسيّ المنتشر في البيت الأدبيّ، فترينا كيف أنّ تفكير كبار الكتّاب والنّقّاد الذّكور في النّساء، يتميّز بالمزاعم النّمطيّة الّتي تسيئ تمثيل النّساء وكتاباتهنّ وتصفها بأنّها بلا شكل، وأنّها انفعاليّة وينقصها التّحكّم والطّابع الثّقافيّ، وأنّ تلك الأفكار تصوّر النّساء وأعمالهنّ في الأدب على أنّه كلّ شيئٍ منافٍ لما هو عليه الرّجال(62).
أمّا كتاب ” السّياسات الجنسيّة ” لكاتي ميلليت فقد أثار ضجّة أكبر، وسرعان ما أصبح أكثر الكتب مبيعًا، فلهجته كما تصفها بام موريس، أكثر مشاكسةً، والقطع الأدبيّة الّتي يناقشها أكثر حساسيّة؛ وقد صدم القرّاء بهجومه الشّديد على بعض الكتّاب الذّكور المعروفين والّذين يحظون بتقدير رفيع، مثل هنري ميللير، ونورمان مايلر، ود. هـ. لورانس، وانتقاده تركيزهم أساسا على التّمثيل الوسواسيّ للعلاقات الجنسيّة في أعمالهم.
ومفاد ما تقوله ميلليت في كتابها ذلك، إنّ القوّة الأبويّة تستمر وتفعل فعلها عن طريق تحكّم الرّجال في العلاقة الجنسيّة، وهذا الاحتياج للمحافظة على الهيمنة الجنسيّة يفسّر تكرار تصوير النّساء في النّصوص الأدبيّة بأسلوب فيه كراهيّة لهنّ في جميع الأحوال، على أنّهنّ عاهرات أو عذراوات، باردات أو مفرطات الشّبق عفيفات أو فاسقات، وترى ميلليت أنّ لهذه الصّور وظيفة، وهي أنّها تبرّر الهيمنة الجنسيّة للذّكور، والإكراه والعنف اللّذين يستخدمونهما للحفاظ على تلك الهيمنة(63).
وتقول جريمين جرير: هناك قيود صارمة على التّنويعات في استخدام القوالب النّمطيّة الموجودة، إذ يجب ألاّ يتدخل أي شيئ في وظيفة المرأة كأداة للمتعة الجنسيّة، فلها أن ترتدي الملابس الجلديّة طالما أنّها لا تعرف كيف تتعامل فعلاً مع الدّرّاجة البخاريّة، ولها أن ترتدي الملابس المطاطيّة، لكن هذا لا يعني أنّها خبيرة في الغوص أو الانزلاق على الماء، أمّا لو ارتدت الملابس الرّياضيّة، فالغرض من ذلك هو بيان عدم تمتّعها بالقدرات الرّياضيّة، ولها أن تعتلي صهوة جواد بشرط أن تبدو عليها سمات النّعومة والرّقّة وألاّ تنحني نحو رقبة الجواد ليظهر عجزها سافرًا في الهواء(64).
وفي عبارات جيرمين تلك، إشارة إلى أنّ الكتابة الذّكوريّة أكّدت دومًا على سلبيّة المرأة وتشييئها.
وترى النّسويات أنّ الكتابة نادرًا ما تتمّ تحت التّحكم الواعي التّام للكاتب، وعادة ما تحتوي نصّا تحتيّا لما لا يمكنه أن يقوله أو يجرؤ على قوله، وهذا أمر قد لا يعيه الكاتب، ومن هذا المنطلق يرين أنّ صور النّساء في نصوص الرّجال تعتبر دليلاً على وجود مناطق ضعف ومساحات من عدم الأمان تتحكّم في عمليّة التّمثيل الّتي يقوم بها الرّجال(65).
فهنّ يعتبرن إساءة تمثيل الرّجال للنّساء، واحدة من أهمّ الوسائل التّقليديّة الّتي برّر بها الرّجال إخضاعهم للنّساء، وبالتّالي فإنّ رسم هويّة المرأة سلبًا على أنّها ” ما ليس في الرّجال “، يسمح لهم بقراءة أيّ صفة يريدون على محمل ” المؤنّث “، خاصّة تلك الّسلبيّة، ذلك أنّهم يعكسون أحلامهم ومخاوفهم على صورة المرأة(66).
وبما أنّ الرّجال في مجتمعات العالم الذّكوريّة هم النّوع السّائد وفق ما ترى النّسويّة، فإنّ المعيار هو تمثيلات الرّجال الّتي تجاز باعتبارها ” الحقيقة ” والرّأي الصّواب الّذي تتّفق عليه الانسانيّة جمعاء، ولذلك تذهب النّسويّة إلى وجوب إعادة قراءة قراءات الرّجال وكتاباتهم عن النّساء لكي تتمكّن النّساء من بناء سبل قراءة نسائيّة، الأمر الّذي يمكنه أن يكشف مخاوف الرّجال وقلقهم، لا الاكتفاء بتحديد أنماط قراءاتهم وحسب(67).
ومن أبرز الصّور النّمطيّة للمرأة في كتابات الرّجال، والّتي حاولت النّسويّات تقديم تفسيرٍ لتوظيف الرّجال لها(68):
أ‌. صورة المرأة المغوية: يأتي هذا التّمثيل السّلبيّ للنّساء على أنّهنّ مغريات جنسيّا للرّجل، ليبرّر نزوع الذّكوريّة إلى السّلطويّة من خلال فرض رقابةٍ أخلاقيّةٍ على المرأة ومعاقبتها، وذلك لخوف الرّجال الدّائم من فقدان القوّة وقدرة التّحكّم في الفعل الجنسيّ.
ب‌. صورة القوارير الضّعيفة: ترى النّسويّة أنّ الرّجل يدرك حقيقة كون إنجاب المرأة أمرٌ سائد ومضمون، على عكس ما هو لدى الرّجل، وهذا مصدر آخر لقلق الذّكور، الأمر الّذي يؤدّي بهم إلى اعتبار الابداع والمعرفة خصائص شبه إلهيّة تخصّ صنف الرّجال من وجهة النّظر الذّكوريّة، والّتي تصرّ على أنّ النّساء دائمات الاتّكال على الرّجال، وذلك في سبيل تعويض النّقص لديهم.
ت‌. صورة المرأة الكاملة \ العفيفة: العفّة والخضوع هما دائمًا فضيلة النّساء، المتزوّجات منهنّ والعزباوات، هذا ما وجدته النّسويّة في قراءتها لأعمال الرّجال حول النّساء؛ وقد ذهبت في تفسير توظيف تينك الخصلتين في أعمال الذّكور إلى أنّهم يلجئون إلى ذلك لأنّهم لا يرون النّساء إلاّ بشروط نمطيّة تعيق معرفتهم بهنّ المعرفة الحقيقيّة، فإقصاؤهم الدّائم لهنّ جعلهم يجهلوهنّ، ولهذا فهم دائمًا يشعرون بالخوف وعدم الأمان ناحيتهنّ، فينشدون امرأة كاملةً لا تخطئ أبدًا، عفيفةً طاهرة خاضعة مذعنة.
ث‌. صورة النّساء المشاكسات الوقحات: ترى النّسويّة أنّ توظيف هذه الصّورة النّمطيّة للمرأة في كتابات الرّجال نابعةٌ من اعتقادهم بأنّ النّساء اللّواتي لا يمكن إخضاعهنّ بسهولة، وغير المغويات لهم بأنوثتهنّ السّلبيّة الخاضعة، يشكلن تهديدًا أكبر على سلطة الرّجال من كلّ أصناف النّساء الأخريات، ولهذا فهنّ نشازٌ ويستحققن العقابَ، وبحاجة إلى رجل قادر على ضبطهنّ.
أسئلة النّقد النّسويّ:
يحاول النّقد النّسويّ الإجابة على مجموعةٍ كبيرة من الأسئلة على اختلاف المناهج المتّبعة في المعالجة النّسويّة، وهي أسئلة إمّا يطرحها على نفسه، أو يطرحها المشكّكون أو الحائرون عليه، منها:
1- هل لجنس الكاتب علاقة بصورة المرأة في النّصّ؟
2- ما الأدوار الّتي تقوم به المرأة في النّصّ، وهل الشّخصيّات الأنثويّة مركزيّة أم ثانويّة فيه؟ ولماذا جعلت المرأة في تلك الأدوار؟
3- هل يعبّر النّصّ عن أي خصائص تنميطيّة للمرأة، وكيف يفعل ذلك؟
4- ما المواقفُ الّتي تتبنّاها الشخصيّات الذّكور تجاه المرأة، وما هو موقف المؤلّف \ المؤلّفة تجاه المرأة في المجتمع؟ وهل ترتبط مواقف الشّخصيّات الذّكور في النّصّ مع موقف المؤلّف؟
5- كيف تؤثّر ثقافة المؤلّف \ المؤلّفة في موقفه \ موقفها من المرأة؟
6- هل يحتوي النّصّ صورًا مؤنّثة؟ وإن كان الأمر كذلك فما أهميّة مثل هذه الصّور؟
هل هناك اختلافٌ في شكل الخطاب ونوعه بين الإناث والذّكور في النّصّ ؟ كيف ذلك، وما هي نسبه؟(69).
8- ما هي الكتابة الانثويّة وما هي الكتابة الذّكوريّة؟ وما خصائص كلّ من الكتابتين؟
9- هل للمرأة لغة تختلف عن تلك الّتي للرّجل؟ وإن كان كذلك فعلاً، فما الفرق بين اللّغتين؟
10 – ما علاقة كتابة المرأة بالحرّيّة والتّنفيس عن القهر والغضب؟
11- هل يختلف خيال المرأة عن خيال الرّجل في الأعمال الابداعيّة، على اعتبار أنّ الأدب ابن الخيال؟
12- وإذا كانت المرأة تبدع ضمن منطق الأجناس الأدبيّة أو الفنيّة المتعارف عليها بين النّقّاد والقرّاء، فهل كتابتها قادرة على أن تحوّل هذه الأجناس من حيث هي أجناس أدبيّة أو فنيّة إلى أجناس أخرى خاصّة بالمرأة؟
13- هل يفيد تميّز الابداع النّسائيّ أو النّظرة الجنسويّة إلى الإبداع في تعزيز الطّاقات الابداعيّة للمرأة؟ وإذا كان موضوع الابداع النّسائيّ يطرح من وجهة نظر اجتماعيّة، فهل يؤدّي هذا الابداع الّذي تقدّمه المرأة إلى دعم موقفها في المجتمع وإلى حلّ مشكلاتها، أم يكرّس وضعها المتردّي؟
14- هل تنتفع قضايا المرأة الاجتماعيّة من الطّرح النّسويّ إن لم تستفد قضاياها الابداعيّة؟(70)
النّقد النّسويّ السّحاقي، الأسود، والطّبقيّ:
خلال ثمانينيّات القرن العشرين وما بعدها، ونتيجةً لانتشار النّظريّة ما بعد البنيويّة، ثارت، ولا تزال، جدالات حول تكوين التّراث الأدبيّ ومعضلة الهويّة، وسياسات القوالب التّجريبيّة مقابل الواقعيّة، وكان من أبرز المعبّرين عنها وأسرعهم إلى ذلك النّساء السّحاقيّات، والسّوداوات والمنتميات للطّبقة العاملة(71).
وقد سجلّت الآراء النّقديّة النّسويّة ملاحظات عديدة حول نتاجات تلك الفئات أدبًا وفكرًا وفعلاً سياسيّا واجتماعيّا، وذلك من خلال تفكيك الخطابات المتبنّاة في أعمال الرّجال؛ ومن تلك الملاحظات:
* بدأ النّقد النّسويّ السّحاقيّ بإدراك الاحتياج إلى إعلان هويّة سحاقيّة إيجابيّة لمقاومة ما هو سائد اجتماعيّا من ربط السّحاق بالخطيئة والمرض، إذ تمّ بناء تراث أدبي سحاقي لتعزيز هذا التّراث الأدبيّ غير الرّسميّ، وقد دعت الكتابات السّحاقيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في سبعينيّات القرن العشرين إلى نزعة انفصاليّة راديكاليّة تقوم على أساس مشترك، أو ” متّصل سحاقيّ “(72) مدرك في جميع خبرات النّساء(73).
وبحلول منتصف ثمانينيّات القرن العشرين، فكّكت النّظريّة ما بعد البنيويّة وجهة النّظر الجوهريّة عن الذّات، وأدّت إلى إثارة معضلة الهويّة لدى النّاقدات السّحاقيّات، ليثار لديهنّ السّؤال الآتي: كيف يمكن الحفاظ على دوام تراثٍ أدبيٍّ باعتباره جزءًا من جدول العمل السّياسيّ لمقاومة رهاب الجنسيّة المثليّة إذا كانت الهويّة تدرك على أنّها تعدديّة وغير محدّدة(74)؟
وقد تغلّبت بعض الكتابات الابداعيّة السّحاقيّة على تلك المشكلة بالجمع بين التّقنيّتين، الواقعيّة والتّجريبيّة، في بناء ” شخصّيات ” سحاقيّة إيجابيّة يتعاطف معها المتلقّي وجدانيّا، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى طابعها الخياليّ الرّوائيّ(75).
* أمّا الكاتبات السّوداوات فيرين أنّهنّ يعانين من قهر مزدوج سببه انتماؤهنّ العرقيّ ونوعهنّ الاجتماعيّ، على عكس النّساء من البيض اللّواتي لم يعانين من اضطّهاد عرقيّ بأدوات استعماريّة، بل شاركن في اضطّهاد النّساء السّوداوات بنات جنسهنّ بصفتهنّ شريكات في العمليّة الاستعماريّة أو الكولونياليّة، وهي ذات طابع ذكوريّ محض(76).
وقد نظرن إلى حركة الوعي الأسود الّتي قامت في سبعينيّات القرن العشرين على أنّها كانت غالبًا شوفينيّة لاحتفائها بالرّجولة السّوداء، ممّا اضطرّ النّساء السّوداوات وفي ردّة فعلٍ للتخلّص من قيود اللاّ مساواة والقهر إلى إنشاء تراث أدبيّ خاصّ بهنّ، يظهر منه أنّهنّ أكثر تردّدًا من الرّجال النّقّاد والأدباء السّود في الإقبال على تفكيك السّواد، المصدر للهويّة، فـ ” الأسود ” بالنّسبة للرّجال الكتّاب السّود ليس إلاّ مفهومًا يجب تفكيكه في علاقته الثّنائيّة بـ ” الأبيض “، أمّا النّساء الكاتبات السّوداوات فقد أظهرن تمسّكًا بـ ” الأسود ” على أنّه مشكّل للذّات والهويّة(77).
ولاحظت النّسويّة السّوداء أنّ وجود النّساء في تاريخ النّقد الأدبيّ الآفرو – أمريكيّ مثلاً، والممتدّ عبر أربعين سنة يكاد يكون معدومًا تمامًا، فلا تظهر النّساء حتّى أحدث مراحل التّاريخ، فهو تاريخ لنقد وكتابات الذّكور، وهو يمحو وجود النّساء، تمامًا كما يفعل التّراث الأدبيّ الّذي يبنيه الذّكور(78).
ومن أبرز النّاقدات السّوداوات الكاتبة باربارا سميث، الّتي كتبت مقالا عنوانه: ” نحو نقد نسويّ أسود ” (1971)، أدّى إلى وضع قواعد أولى للنّقد النّسويّ الأسود(79).
* أمّا كاتبات العالم الثّالث، فواقعاتٌ هنّ أيضًا في قفص القهر المزدوج لانتمائهنّ العرقيّ من ناحية ولنوعهنّ الاجتماعيّ من ناحيةٍ ثانية، وقد أعطت حركات النّضال من أجل التّحرّر الوطنيّ والقوميّ مكانةً متقدّمةً للأدب باعتباره وسيلةً لإعادة بناء هويّة قوميّة معارضة للصّور الامبرياليّة المهينة والماسّة بكرامات الشّعوب القوميّة.
ويلاحظ النّقد النّسويّ أنّ الكثير من تلك الكتابات الأدبيّة تمثّل النّساء بطريقة نمطيّة جدّا، وأنّ النّظريّات القوميّة تضفي طابعًا أسطوريّا على النّساء باستخدام استعارات مثاليّة مثل ” الأرض الأمّ ” و” اللّغة الأمّ “، بينما النّساء مهمّشات من حياة الأمّة الفعليّة، لهذا نجد نسويّات العالم الثّالث لا يحتفين كثيرًا بنتاجات فرانز فانون وإدوارد سعيد مثلاً، إذ يرين أنّ ذينك وغيرهما قد تجاهلا خبرة ودور النّساء ضدّ الاستعمار تجاهلاً تامًّا، وأنّ كتابات ما بعد الكولونياليّة التي كتبها ذكور بهدف إعادة بناء الاحساس بالتّاريخ القوميّ والهويّة القوميّة، مثّلت النّساء بأساليب مفرطة في التّنميط(80).
وحول قراءات رجال من العالم الثّالث لأعمال نساء من العالم الثّالث، واللّواتي يظهرن معارضةً لمنظوماتهنّ، الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة، وجدت النّسويّة أنّهم يتّهمونهنّ بـ ” تقليد الغرب “، وبأنّهنّ لا يتعاطفن مع القيم والتّقاليد القوميّة، إضافة إلى أنّهنّ في محاولتهنّ بناء هويّة قوميّة إيجابيّة للنّساء، يقمن بتفكيك صورة الأنوثة الجوهريّة القوميّة، والّتي تتمثّل في الخصوبة، والأرض الأمّ، والأرض الحبيبة، وما إلى ذلك… وهي كلّها استعاراتٌ ترفضها النّاقدات ما بعد الكولونياليّات من باب أنّ الوطن وإن تحرّر، فإنّ المرأة في ذلك الوطن لا تزال مقموعةً، ولا تحرير للأوطان إلى بتحرير المرأة(81).
* ترى النّسويّة أنّ الماركسيّة ما بعد البنيويّة الفرنسيّة عملت على تحرير النّقد الأدبيّ الماركسيّ من ارتباطه بالواقعيّة، وبالتّالي تحويل الانتباه من المحدّدات الاقتصاديّة والماديّة للهويّة الطّبقيّة إلى أهميّة الآيدولوجيّة واللّغة ( الخطاب ) في بناء الذّوات، كما تذهب إلى أنّ نظريّة ” التّحليل النّفسيّ ” للاكان(82)، والّتي جعلها الفيلسوف الماركسيّ لويس آلتوسير تقريرًا ماركسيّا عن ” البنية الآيدولوجيّة للذات ” ساهمت في جعل النّقد الماركسيّ مفيدًا في تطوير نقد أدبيّ نسويّ ماركسيّ ذي توجّه نحو النّوع الاجتماعيّ(83).
وحول تراث الطّبقة العاملة، لاحظت النّسويّة أنّه عبارة عن قصّة تعتبرُ الهويّة الجمعيّة ذكوريّةً، وأنّه لا اعتراف ولا اهتمام في ذلك التّراث بمشكلة الهويّة المتمثّلة في احتياج نساء الطّبقة العاملة إلى بناء ” ذات “، وبالتّالي فإنّ نساء الطّبقة العاملة نادرًا ما وجدنَ صوتًا أدبيّا يعبّر عنهنّ، ولهذا يحكم النّقد الأدبيّ النّسويّ الماركسيّ على النّتاجات الأدبيّة المتعلّقة بالطّبقة العاملة وشؤونها بأنّه ذكوريّ وإقصائيّ تجاه المرأة في أغلب الأحيان(84).
النّسويّة واللّغة:
نتيجةً لآراء النّسويّة في اللّغة، نشأ فرع من فروع الدّراسات البينيّة يعرف بـ ” اللّغة والنّوع “، مردّ نشوئه يعود إلى أنّ النّسويّات، وعندما قمن بالبحث في الدّراسات الأكاديميّة الموجودة حول المرأة والرّجل واللّغة، لم يجدن إلاّ القليل منها، وذلك القليل تميّز بتركيزه على الذّكور دون الإناث؛ ومع بدء علوم اللّغات بالاهتمام بتغيّر اللّغة وتطوّر علومها، حاولت النّسويّات تقديم دراسات حول إسهام المرأة في تغيير اللّغة، وهي دراسات لم تتعدّ التّعبير عن تحيّز الكتّاب وتأكيدهم على القوالب النّمطيّة الّتي سادت في فترة احتكارهم الكتابة وحدهم، فنقدنَ مثلاً ما جاء في كتاب أوتو جيسبرسن: ” اللّغة، طبيعتها وتطوّرها ” (1922)، والّذي يرى فيه أنّ إسهام المرأة في اللّغة هو الحفاظ على ” نقائها ” من خلال نأيها بحكم غريزتها عن التّعبير الفظّ والسّوقيّ، أمّا إسهام الرّجل فيتّسم بالعنفوان والخيال والإبداع، ويواصل جيسبرسن الزّعم بمزيد من التّفصيل وجود فروق بين لغة المرأة ولغة الرّجل، الأمر الّذي يكرّس أهميّة الرّجل وذكاءه وحمق المرأة وتفاهتها(85).
وعلى أساس مثل هذه الافتراضات العلميّة حول اللّغة في الدّوائر الأكاديميّة الأبويّة، صاغت جينيفير كوتس قاعدة التّحيّز للرّجل، وذلك في كتابها ” المرأة والرّجل واللّغة ” (1986)، ومفاد تلك القاعدة: يعتبر السّلوك اللّغويّ للرّجل متوافقًا مع رأي الكاتب عمّا يراه مرغوبًا أو جديرًا بالإعجاب، أمّا المرأة فيلقى عليها باللّوم لأيّ حالة لغويّة أو تطوّر لغويّ يعتبره الكاتب سلبيًّا أو مثيرًا للاستياء.
كما وجّهت النّاقدات النّسويّات انتقادًا آخر، لا إلى الدّوائر الأكاديميّة الّتي اهتمّت بدراسة لغة المرأة والرّجل، بل إلى نسق المعنى في اللّغة الانجليزيّة واستعمالاتها، فقد لاحظت المعترضات على التّحيّز اللّغويّ على أساس الجنس أنّ هناك استخدامات لغويّة تكرّس فكرة ( الرّجل المعيار )، مثل الاستخدام شبه العمومي للفظ Man ، بمعنى الإنسان رجلاً كان أم امرأة، ومن أبرز من تناولن هذه القضيّة النّاقدةميورييل شولتس، فنجد لها مقالةً عنوانها ” الاستهانة بالمرأة على مستوى المعاني ” (1975)، وهي ترى أنّ المصطلحات الّتي توصف بأنّها مؤنّثة في اللّغة الانجليزيّة، تتعرّض بصورة منهجيّة للحطّ في المكانة(86).
ولنا أن نقول إنّ النّسويّات في نقدهنّ للتّحيّز اللّغويّ المبني على الجنس، يلجأن إلى تسييس التّصنيفات الّتي كانت تعتبر تصنيفات طبيعيّة من قبل، وقد لقي هذا الاتّجاه مقاومة شديدة في الدّوائر الأكاديميّة وفي الإعلام، لأنّ نقده للاستعمالات الحاليّة واقتراح بدائل جديدة يؤدّي حتمًا إلى وضع الخطاب النّسويّ المعني بالتّحيّز اللّغوي للرّجل موضع النّقد السّليط، ولذلك ظهر خطاب قويّ مضاد لهذا النّقد، وهو الّذي أشارت إليه ديبرا كاميرون في كتباها: ” الصّحّة اللّفظيّة ” (1995)(87).
كما انتقدت عالمات اللّغويّات الاجتماعيّة، مثل ديبرا كاميرون وجينيفير كوتس ومارجريت ديوكر، الدّراسات الّتي تتناول التّفاوتات الاجتماعيّة، وخصوصًا دراسات التّقسيم الطّبقيّ الاجتماعيّ الّتي تستند إلى بيانات متعلّقةٍ باللّهجات الاجتماعيّة والّتي تعتبر الجنس متغيّرا اجتماعيّا لغويّا، إذ لاحظن أنّ هذه الدّراسات، والّتي أجريت على نطاق واسع، تركّز على جوانب النّطق والنّحو، وتحدّد نمطًا غريبًا من الفروق بين الجنسين يقضي بأنّ المرأة تميل دائمًا إلى نوعيّة راقية ومعياريّة من اللّغة أكثر من الرّجل، وذهبن إلى أنّ هناك خلل عميق في كلّ من المنهج والتّفسير الّذي تطرحه هذه الدّراسات، فالظّاهرة الّتي تعتبر في حاجة إلى الدّراسة هي استخدام المرأة لقدر أكبر من الصّيغ المعياريّة، لا استخدام الرّجل لقدر أقلّ منها(88).
ويعتبر كتاب روبين لاكوف: ” اللّغة ومكانة المرأة ” (1975)، من الأعمال المبكرة المؤثّرة في مجال النّوع واللّغة من منظورٍ نسويّ، وفيه تستكشف المؤلّفة جانبين، هما: التّحيّز للرّجال في اللّغة الانجليزيّة، واستعمال المرأة للّغة، ولكنّ من المفارقة أنّها، وكما الدّراسات الأنجلو – أمريكيّة النّسويّة المتناولة للموضوع، تستخدم نفس القاعدة المتحيّزة للرّجل، والّتي تعتبر أنّ الرّجل هو المعيار، تماما كما هي الحال في الدّراسات السّابقة على ظهور النّسويّة.
ومن هنا نجد أنّ لاكون تعتبر لغة الرّجال معيارًا لا ترقى إليه المرأة، وإن ظهر ذلك ضمنيّا لديها دون تصريحٍ مباشر منها؛ فتقول إنّ الطّريقة الّتي تستخدم بها المرأة بعض الصّيغ اللّغويّة تدلّ على القلق ونقص الثّقة والضّعف، مثل ” كما تعلمYou Know – “، و ” يعني كذاSort of – “، أو تعابير التّلطّف المجازيّ، وبالمقابل تظهر ناقدات نسويّات يحاولن تفنيد مثل تلك الأقوال مثل جينيفير كوتس وديبرا كاميرون(89).
النّقد الأدبيّ النّسويّ في العالم العربيّ:
لا يسعنا قول الكثير عن النّقد الأدبيّ النّسويّ في العالم العربيّ، إذ لا نتاجات أدبيّة، بحثيّة أو أكاديميّة، كمّا وكيفًا، تجعل من هذه الموضوعة ظاهرةً نقديّة حاضرة بقوّة في السّاحة النّقديّة العربيّة الحديثة النّاقلة عن الغرب وغير المنتجة أصلاً، لا على مستوى التّنظير ولا على مستوى التّطبيق، لا بل إنّ النّسويّة نفسها فكرًا وحركةً تحرير للمرأة، لم تنتج شيئًا كثيرًا ومهمًّا في العالم العربيّ ممّا قد يخلق نقاشًا وحوارًا حول ما تطرح، فلا نسمع ولا نقرأ إلاّ عن تجارب ذاتيّة غير ممأسسة هنا أو هناك، سرعان ما رفضت أو قمعت إثر ظهورها.
وإن أردت تناول النّسويّة في العالم العربيّ، اضطررت إلى اللّجوء لمئات المصادر والمراجع غير العربيّة الّتي تتحدّث عمّا يسمّى بـ ” النّسويّة ما بعد الكولونياليّة ” أو ” نسويّة الموجة الثّالثة ” ، وقليلٌ جدّا منها ما هو مترجمٌ إلى العربيّة، ثمّ إنّك تلحظ أنّ الدّراسات والأبحاث العربيّة حول الموضوع، وهي عادةً مقالات أو دراسات قصيرة تنشر في المجلاّت، أو شذرات صفحات وفصول في كتب متعدّدة، تعتمد كلّ الاعتماد على المصادر غير العربيّة في الإنشاء دونما إتيان بجديد أو أصيل إلاّ فيما ندر.
ونتيجة لذلك، أي لقلّة الانتاج ومحدوديّة الفاعليّة النّسويّة في العالم العربيّ، بسبب قمعها ومحاربتها والتّنكّر لها واتّهامها بالعداء للموروث والعمالة للغرب وما إلى ذلك، وهي تهمٌ جاهزةٌ دومًا لمجابهة أيّ جديد مهما كان، نجد أنّ النّسويّة في معاقل نشوئها في الغرب بلغت في أيّامنا مرحلة ما يسمّى بـ ” ما بعد النّسويّة “، بينما في العالم العربيّ فإنّها لم تحقّق بعد منجزات الموجة النّسويّة الأولى في الغرب.
ومع ذلك فإنّنا نجد أنفسنا، ولأغراض البحث، مضطّرين أن نستأنس بالقليل المتاح، مسجّلين بعض الملاحظات حول النّقد النّسويّة في العالم العربيّ.
كما في الغرب، بدأت الحركة النّسويّة في العالم العربيّ بكتابات وجهود لرجال دعوا إلى تحرير المرأة من القيود الاجتماعيّة ومنحها حقوقها المدنيّة بالتّساوي مع الرّجل، كحقّها في التّعليم والخروج من البيت والعمل والمشاركة السّياسيّة، ومن أشهر أولئك رفاعة رافع الطّهطاوي وقاسم أمين وأحمد فارس الشّدياق ومحمّد عبده وغيرهم، وسرعان ما بدأت بعد ذلك مرحلة تأنيث قضيّة المرأة، لنشهد أسماء مثل ملك حفني ناصف، وهدى الشّعراوي، ومنيرة ثابت ودريّة شفيق وغيرهنّ، يتناولن قضايا المرأة كتابة وفعلاً سياسيّا واجتماعيّا(90).
يطلق على المرحلة الّتي وجد فيها كلّ هؤلاء بـ ” عصر النّهضة العربيّة “، وكان ثقلها الأكبر في مصر، إذ ترتبط تلك المرحلة بحملة نابوليون بونابارت على مصر وبلاد الشّام، ثمّ بانفتاح الأسرة العلويّة الحاكمة في مصر على الغرب، وخصوصًا فرنسا، وإرسال البعثات العلميّة إلى أوروبا للاستفادة من الثّقافة والعلوم الغربيّة، لتسير على نهجها بعد ذلك أقطار عربيّة عديدة، فكان لا بدّ أن يتأثّر أبناء تلك المرحلة بالتّفاعلات السّياسيّة والثّقافيّة في أوروبا، ومنها الدّعوات والتّنظيمات المطالبة بتحرير المرأة ومنحها حقوقها(91).
وقد بدأت المرأة العربيّة الكتابة الفعليّة مع بداية النّهضة، فمارست مستويات الابداع كافّة، وقد أنشأت الرّائدات في سبيل إبراز قضيّة المرأة العربيّة مجلاّت نسويّة بين عاميّ 1892 و 1950، يبغ عددها حوالي خمسين مجلّة، ساعدت على التّأسيس لانتشار الكتابة النّسويّة، وتطوّر أفكار النّساء التّحرريّة، وكتابة بعض الرّوايات والأشعار التّعليميّة، والأبحاث المتنوّرة(92).
إذا فبواكير النّسويّة العربيّة، بدأت بعد مرور ستين عامًا تقريبا على بواكير النّسويّة الغربيّة، فكان ظهور الأولى في منتصف القرن التّاسع عشر مع رفاعة الطّهطاوي وأحمد فارس الشّدياق(93)(94)، وكان ظهور الثّانية في تسعينيّات القرن الثّامن عشر مع ماري ولستونكفورت، وتحديدًا عام 1792، إذ أصدرت كتابها: ” دفاعا عن حقوق المرأة “(95).
يلاحظ إذًا أنّ المدّة الفارقة بين الانطلاقتين للنّسويّة، الغربيّة والعربيّة، ليست بطويلة نسبيّا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ظروف البلدان العربيّة المتردّية والمتهافتة مقارنة مع الأوروبيّة في ذلك الزّمان، إن كان على مستوى القوى السّياسيّة والاقتصاديّة والحراكات الثّقافيّة والعلميّة والصّناعيّة، ممّا يعني أنّ التّواصل العربيّ الغربيّ كان سريع التّأثير؛ لكن ثمّة فرق جوهريّ بين التّجربتين، وهو أنّ الموجة النّسويّة الأولى في أوروبا والّتي انتهت في أواخر عشرينيّات القرن الماضي وبدايات الثّلاثينيّات، تمكّنت من مأسسة نفسها والخروج بمنجزات قانونيّة ودستوريّة وباعترافات رسميّة، أمّا في العالم العربيّ، فلم تحقّق شيئًا رسميّا ملموسًا يذكر حتّى خمسينيّات القرن العشرين(98)، وكانت حينها النّسويّة الغربيّة قد قطعت شوطًا طويلاً نحو ما يسمّى بـ ” الموجة النّسويّة الثّانية ” والّتي بدأت في ستينيّات القرن العشرين(97).
فرقٌ جوهريّ آخر، بين انطلافة النّسويّتين، العربيّة والغربيّة، أنّ الأولى كانت مذكّرة في بداياتها، إذ كان الدّاعون والفاعلون لمنح المرأة حقوقها رجالا، ثمّ أنّثت بعد ذلك، أمّا النّسويّة الغربيّة، فهي ومنذ البداية نسائيّة الفعل والحراك.
ومع اقتحام النّسويّة للأوساط الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتّحدة، وفرض نفسها حقلاً من حقول العلوم الانسانيّة، والاعتراف بها منهجًا فكريًّا ونظريّةً لها قواعد وأسس وتاريخ وملامح واضحة ومنظّرين معروفين ومريدين، وتأسيس الآلاف من الجمعيّات والمؤسّسات الّتي تعرّف نفسها بالنّسويّة، ومن ثمّ ظهور ما يسمّى بالنّقد الأدبيّ النّسويّ على يد جوليا كريستيفا وشووالتر، وذلك في أواخر سبعينيّات وبداية ثمانينيّات القرن العشرين(98)، بدأت تظهر في عالمنا العربيّ تأثيرات ذلك التّيّار في حقل الفكر والأدب والنّقد، فتطالعانا أسماء لكاتبات نسويّات مثل كوليت خوري، ونوال السّعداوي، وغادة السّمان، وليلى العثمان وفاطمة المرنيسي، وجميعهنّ متأثّرات بالموجة النّسويّة الثّانية في الغرب، وقد ركّزن في كتاباتهنّ لمحاربة الثّقافة الذّكوريّة المسيطرة في المجتمعات العربيّة(99).
ويلاحظ أنّ الحركة النّسويّة العربيّة بمجمل طروحاتها وتوجّهاتها، لا تختلف عمّا هو موجودٌ في أدبيّات الحركة النّسويّة الغربيّة، ممّا جعل الباحثين يجمعون على جوهريّة التّواصل الثّقافيّ العربيّ النّسويّ مع كتابات النّسويّات الغربيّات(100)، حتّى أنّ بعضهم يتّهم النّسويّة العربيّة بتغريب قضايا المرأة العربيّة، ويتّهمها بالنّقل عن الغربيّة وتقليدها دونما مراجعات حقيقيّة للوارد فيها، الأمر الّذي لا يراعي خصوصيّات المرأة الثّقافيّة والاجتماعيّة في المجتمعات الشّرقيّة، ويدعون إلى مناقشة قضايا المرأة العربيّة بعيدًا عن التّغريب(101).
وقد يفسّر ذلك كثرة توظيف الكتابات النٌّقديّة النّسويّة العربيّة لمقولات وأفكار النّسويّة الغربيّة في متونها، فالتأثّر شديد، والأعمال النّظريّة العربيّة الأصيلة الّتي يمكن الاعتماد عليها حول هذا الموضوع شحيحة ممّا يضطّر النّسويّات العربيّات الأخذ عن الغربيّات(102).
وفي المقابل نجد آراء تذهب إلى وجود خصوصيّة معيّنة في الكتابات النّسويّة العربيّة، سببها أنّ الكاتبة العربيّة لا يمكنها إلغاء شخصيّتها وثقافتها، فهي تنتمي إلى منظومة ثقافيّة واجتماعيّة لها تراث طويل، لا بدّ وأن تفرض نفسها أثناء عمليّة الكتابة، وبالتّالي فإنّ أيّ حكم يصدر على الكتابة النّسويّة في هذا الشّأن، دون محاولة بحث عن تلك الخصوصيّة والإشارة إليها، يعدّ تهميشًا وظلمًا(103).
أمّا الباحثة سعاد المانع، فتذهب في دراستها: ” النّقد الأدبيّ النّسويّ في الغرب وانعكاساته في النّقد الأدبيّ المعاصر ” إلى وجود مستويين في الدّراسات النّقديّة النّسويّة العربيّة الموظّفة للمقولات النّقديّة النّسويّة الغربيّة، بعضها معتدل في التّفاعل مع هذه المقولات والتّحمّس لها، وبعضها وهو الكثير، يبدو فيه سعي حثيث لاستعمال شواهد من التّراث أو من اللّغة لإثبات صدق مقولة من المقولات(104).
ويمكن تقسيم الكتابات العربيّة النّسويّة إلى ثلاثة مراحل وفق ما يرى د. حسين المناصرة، مستعيرًا هذا التّوزيع من رامان سلدنوجوليا كريستيفا في حديثهما عن أطوار الكتابة النّسويّة الغربيّة، والّذي أشرنا إليها سابقًا في هذا البحث، وهي:
1. كتابة المرأة بوعي قلم الذّكورة في عصور ما قبل النّهضة، ومثالها الخنساء وليلى الأخيليّة ورابعة العدويّة وولاّدة بنت المستكفي.
2. كتابة الأنثى الباحثة عن التّحرّر والمساواة، ومثاله معظم رائدات النّهضة، والكثير من الرّوائيّات والشّاعرات ما بين الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، حيث برزت كتابة المرأة معاناتها الذّاتية ومطالبتها ببعض حقوقها برومانسيّة ” مؤدّبة “غير متمرّدة أو ثائرة.
3. الكتابات النّسويّة العربيّة المحاربة للسّلطة الأبويّة، والّتي لم تبلغ مستوى الكتابات الغربيّة في التّطرّف، ومثالها كتابات كوليت خوري، ونوال السّعداوي وغادة السّمان، وسحر خليفة، وليلى العثمان، وفاطمة المرنيسي(105).
والتّقسيم نفسه يمكن تطبيقه على النّقد النّسويّ العربيّ:
1. ” نقد المرأة المتماثل مع النّقد الذّكوريّ في رؤاه وجماليّاته، إذ يمكن الاشارة إلى أغلب الدّراسات النّقديّة الأكاديميّة والرّسائل الجامعيّة المعالجة لإشكاليّة المرأة.
2. النّقد الانثويّ المساواتيّ الّذي يرى خصوصيّة المرأة في بعض قضاياها الذّاتيّة والرؤيويّة والمحتوى، والمساواة فيما عدا ذلك، وهذا النّقد هو المكتوب بأيدي أغلب الكاتبات المبدعات للتّعبير عن رفضهنّ للخصوصيّة النّسويّة، والمناديات بالتّوحّد إنسانيّا وجماليّا، ويشارك في هذا النّقد بعض النّقّاد المنادين بوحدة اللّغة.
3. والنّقد النّسويّ الآيدولوجيّ الجماليّ، وهو الّذي يقرّ بانفصال الكتابة النّسويّة عن الكتابة الذّكوريّة.(106)”
كتب نقديّة نسويّة عربيّة:
قليلةٌ هي الكتب والدّراسات العربيّة الّتي تعالج موضوعة النّسويّة وعلاقتها بالأدب والنّقد، وأكثرها صادرٌ في تسعينيّات القرن العشرين، ويبدو التّأثّر بالنّسويّة الغربيّة فيها واضحًا تمام الوضوح كما أشرنا سابقًا، وهي لا تدلّ على وجود منهجيّة نسويّة عربيّة متكاملة وموحّدة في مواجهة الأبويّة أو في قراءة الأدب، ولكن يمكن اعتبارها نواةً تواصليّة ما بين الثّقافتين، العربيّة والغربيّة، منها:
1. الحميدي: أحمد جاسم: المرأة في كتاباتها – أنثى برجوازيّة في عالم الرّجل؛ 1986.
2. أفاية، محمّد نور الدّين: الهويّة والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش؛ 1988.
3. ناجي، سوسن: المرأة في المرآة – دراسة نقديّة للرّواية النّسائيّة في مصر؛ 1989.
4. دوغلاس، فدوى مالطي: كلمة المرأة، جسد المرأة: الهويّة الجنسيّة والخطاب في الكتابة العربيّة الاسلاميّة؛ 1990.
5. بنمسعود، رشيدة: المرأة والكتابة، سؤال الخصوصيّة، بلاغة الاختلاف؛ 1994.
6. دوغلاس، فدوى مالطي: الرّجال والنّساء والآلهة: نوال السّعداوي وفنّ الأدب النّسويّ العربيّ؛ 1995.
7. ناجي، سوسن: صورة الرّجل في القصص النّسائيّ؛ 1995.
8. الأعرجي، نازك: صوت الأنثى – دراسات في الكتابة النّسويّة العربيّة؛ 1997.
9. شعبان، بثينة: مئة عام من الرّواية النّسائيّة العربيّة؛ 1999.
10. الغذّامي، عبدالله: المرأة واللّغة؛ 2000.
مآخذ على النّقد الأدبيّ النّسويّ:
1. يجعل النّقد النّسويّ من الكتابة أمرًا يخضع لأهدافٍ وأفكارٍ محدّدةٍ مسبقًا، الأمر الّذي يخالف نظرة المناهج النّقديّة الأدبيّة عمومًا تجاه الكتابة باعتبارها إبداعًا لا يجدر بنا قولبته في إطار نظريّ معدّ مسبقًا، وإلاّ ضعفت وتخلخلت، فالمعروف أنّ الكتابة حصيلة مؤثّراتٍ متعدّدة، بعضها مرتبطٌ بقناعاتٍ أيدولوجيّة معيّنة، ولكنّها لا تقتصر عليها ولا تحصر بها(107).
2. لم يتمكّن النّقد النّسويّ إلى الآن من طرح أيّ أمر جوهريّ يجعله يبدو مختلفًا عن المذاهب النّقديّة الأدبيّة الأخرى، وهو ومنذ بدايات ظهوره لم يشكّل طرحًا موحّدًا واضح المعالم، مع أنّ عمره يكاد يتجاوز الأربعين عامّا، فنجده في حالة تجدّد وتغيّر دائم على مستوى المفاهيم، وذلك لاختلاف وتعدّد منطلقات أصحابه الفكريّة والثّقافيّة، وإن كان التّجدّد والتّطوّر أمرًا يستحسن في العلوم والفكر، فإنّه إذا تحوّل إلى حالة عدم استقرارٍ دائمٍ يصبح عيبًا وعائقًا، خاصّة في حقول النّقد الأدبيّة، ذلك أنّنا نكون بحاجةٍ إلى قواعد منهجيّة واضحة وبيّنة، متكاملة وشاملة ودقيقة الأدوات، يمكننا تطبيقها على نصّ أدبيّ، أمّا في حالة النّقد النّسويّ فنكادُ لا نجد ذلك.
3. قام النّقد النّسويّ عمومًا بسلخ نفسه عن النّظريّات النّقديّة السّابقة كونها نتاجات ذكوريّة أبويّة لا تراعي للمرأة وجودًا وخصوصيّة، فأقصى بذلك المرأة وعزلها في جزيرةٍ خاصّة، الأمر الّذي يناقض طروحات النّسويّة وأخلاقيّاتها بالانفتاح على الآخر واحتوائه وتعزيز مبادئ المساواة والمشاركة والتّعاون بين البشر.
4. مع أنّ النّاقدات النّسويّات طالبن دومًا بإيجاد نظريّة نقديّة أدبيّة بعيدة عن سلطة الخطاب الذّكوريّ، والأبويّة والبطريركيّة، تراعي شؤون النّساء وتخلّصهنّ من قيود نظريّات الرّجال، فإنّنا نجد أهمّ النّاقدات النّسويّات، ومن حيث لا يعلمن متأثّرات فيما يكتبن بنظريّات من نتاجات الرّجال، مثل ماركس وسارتر وفرويد ولاكان وسوسير وغيرهم، فيهاجمنهم ويلجأن إليهم في الوقت ذاته(108).
5. يناقض النّقد النّسويّ نفسه في أكثر من قضيّة، منها أنّه ينكر تقسيم الأدب إلى أنثويّ وذكوريّ، في الوقت الّذي يحاول فيه إقناعنا بوجود معايير وأقيسة فنيّة وجماليّات خاصّة بالأدب النّسويّ، وأخرى خاصّة بالأدب الذّكوريّ(109)، ومنها أيضًا أنّه يعتقد وجود كتابة أنثويّة من منطلقات بيولوجيّة، ويهاجم في الوقت نفسه أيّ تمييز بين الرّجل والمرأة على أساس بيولوجيّ.
خاتمة
ولد النّقد الأدبيّ النّسويّ من رحم الحركة النّسويّة الغربيّة، وهي حركة سياسةٌ واجتماعيّة بالدّرجة الأولى، اهتمّت إلى حدّ كبير بمعالجة الأدب وتناوله لإيمانها أنّه يعبّر عن خبرة ثقافيّة وتجربة حضاريّة تراكميّة مؤثّرة في البشر أفرادًا ومجتمعات، تجسّدت عبر آلاف السّنين على شكل مؤسّسات قويّة سيطر عليها الذّكور، وبالتّالي فإنّ تفكيك ذلك الأدب والنّظريّات النّقديّة الّتي عالجته وإظهار دوره في قمع المرأة وتهميشها واضطّهاد إبداعها، يعتبر ضربةً قاسمةً للنّظام الأبويّ على مستوى العالم في رأي النّسويّة، إذ لطالما كان الأدب أداةً مهمّةً في يد الذّكوريّة وخطابها.
وصحيحٌ أنّ النّسويّة، حركةً اجتماعيّة وسياسيّةً، قد أنجزت الكثير غربيّا، وزحفت لتقتحم أنحاء العالم كلّها، فنجد آلاف الجمعيّات والمؤسّسات النّسويّة منتشرةً في كلّ دول العالم الغربيّ وغير الغربيّ، لها حراكها الاجتماعيّ والسّياسيّ والمدنيّ، وأنّها تمكّنت في الغرب من تحسين ظروف المرأة نسبيّا عمّا كانت عليه مع بدايات القرن العشرين، قانونيّا ودستوريّا ومدنيّا، وأنّ لها جمهورًا كبيرًا وواسعا يؤازرها في دعواتها، وأنّ الكتّاب والكاتبات النّسويين الغربيين عددهم كبيرٌ جدّا، ونتاجاتهم في حقول العلوم الانسانيّة أيضًا كبير، وأنّها تمكّنت من فرض نفسها فكرًا وحقلاً علميّا في الأوساط الأكاديميّة تحت مسمّيات عدّة مثل ” دراسات المرأة ” أو ” علوم المرأة ” وما إلى ذلك، إلاّ أنّ النّسويّة مع كلّ ذلك لم تحقّق شيئًا كثيرًا على مستوى الأدب ونقده، ولم تأت بجديد مختلف فريد عمّا سبقها، وبالتّالي لم تستقطب جمهورًا أدبيّا ونقديّا يناصرها ويتبنّى طروحاتها ويطبّقها، مع أنّنا نجد الكثير من الدّراسات الأجنبيّة الّتي تتحدّث عن علاقة النّسويّة بالأدب، يظهر من خلالها أنّ هناك أدبٌ نسويّ وإبداع نسويّ وكتابة نسويّة، ونقد نسويّ ونظريّة أدبيّة نسويّة ( نقصد هنا بالنّسويّة الفكر وليس النّسائيّة، الجنس )، ممّا قد يجعل المرء يتوهّم وجود منهج نقديّ أدبيّ نسويّ واضح المعالم والسّمات والرّؤى.
ويمكننا وصف النّقد الأدبيّ النّسويّ بالمراهق في هذه المرحلة، فهو بالإضافة إلى حداثة عهده، إذ كتب له الظّهور الأوّل غربيّا في أواخر السّبيعينيّات وأوائل الثّمانينيّات من القرن الماضي، لم يبلغ مرحلة النّضوج والاكتمال والرّشاد التّام بعد، فهو متردّد حائر، لا أهداف واضحة له، ولا خطّة منهجيّة متكاملة ورصينة، غاضب ثائر، خارجٌ على مفاهيم البشريّة المتشكّلة عبر آلاف السّنين، كثير الاضطّرابات، يتبنّى مجموعةً من الآراء حينًا، ثمّ يتخلّى عنها أحايين أخر، نتاجه قليل، وتطبيقاته أقلّ، ولم تتكوّن له بعد شخصيّة ناضجة مستقلّة، انتقل من مرحلة إلى مرحلةٍ قفزًا، فكان سريع التّحوّل، لم يمنح فرصةً كافيةً لينمو طبيعيّا، فالمدارس النّسويّة كثيرة، متباينة الآراء، تجدها متضاربةً في كثيرٍ من الأحيان، تفنّد وتهاجم بعضها، كالمدرستين الفرنسيّة والأمريكيّة مثلاً اللّتين عاشتا حالة صراعٍ لم تنتهي لدى بعض النّسويّات إلى الآن، أو بين نسويّات العالم الثّالث والسّوداوات من جهة والنّسويّات الغربيّات من جهةٍ أخرى، وكلّ الاتّجاهات النّسويّة تحدّثت عن المرأة وإبداعها وكتابتها مقابل أدب الرّجال وكتابتهم، وراحت كلّ واحدة منها تضع تفسيراتها الخاصّة حول الأدب والّتي تغاير بها ما جاء لدى اتّجاهات نسويّة أخرى، الأمر الّذي يحدث اضطّرابًا وتشتّتًا لدى أيّ باحثٍ يريد الوقوف على هذه القضيّة.
وقد أدخلت النّسويّة نفسها في جدالات ونقاشات كثيرة حول دور جسد المرأة في الكتابة، وخصوصيّة كتابة المرأة، واللّغة المذكّرة واللّغة المؤنّثة وما الفوارق بينهما، وأمور كثيرة أخرى، وذلك من دون أن تخرج بشيء واضح يمكن أن يقال إنّه ” منهج نقديّ نسويّ “.
ويمكننا القول إنّ النّسويّة، كما غيرها من المذاهب الفكريّة الّتي هاجمتا لأبويّتها، كالماركسيّة مثلاً، استغلّت الأدب لتدعم طروحاتها ونظريّاتها، وبالتّالي أخضعته لمقولاتها النّظريّة مثقلةً كاهله بذلك، فلم تتناوله إلاّ من زاويةٍ ضيّقة جدّا، ألا وهي دراسة أثر الأبويّة في الأعمال الأدبيّة وكيفيّة محاربة الأخيرة عبر الأدب وتفكيك خطابها والانتصار للمرأة، متقصيةً أيّ إشارة في النّصوص الأدبيّة يمكنها استعمالها كدليل على صحّة ما تذهب إليه، فلم تعالج مثلاً الجماليّات الأدبيّة وتاريخ الأدب وتطوّراته لدى مختلف الأمم والشّعوب، ولا أسباب إبداع الأديب، ومصدر اللّذّة والنّشوة في الأدب، واللّغة الأدبيّة، وبلاغة وأسلوب ونحو وصور العمل الأدبيّ، إنّما قصرت معالجتها للأدب على جزئيّة واحدة، ألا وهو خطاب النّصّ، أهو أبويّ أم غير أبويّ، فحتّى الدّراسات النّسويّة الّتي بحثت في صور المرأة في الأعمال الأدبيّة مثلاً، أرادت من ذلك إثبات أو نفي أبويّة الخطاب الأبويّ لدى كاتب معيّن.
أمّا عن النّقد الأدبيّ النّسويّ في العالم العربيّ، فقد بينّا حقيقة أنّه شحيحُ النّتاج، لا يتعدّى بعض كتب ومقالات قليلة، وبالتّالي فلا يمكن قول الكثير عنه، وذلك يعود إلى أنّ النّسويّة في العالم العربيّ لم تتمكن من إنجاز شيء نوعيّ يذكر، لا على المستوى الرّسميّ ولا الشّعبيّ، كما أنّ النّاقدات النّسويّات العربيّات متأثّرات جدّا بالغربيّات، يعتمدن على آرائهنّ اعتمادًا كبيرًا في طروحاتهنّ، الأمر الّذي لا يمكننا من ادّعاء خصوصيّة عربيّة للنّقد النّسويّ، بل هو منتمٍ إلى حركة نسويّة عالميّة تقودها نساء غربيّات.
ومع كلّ ذلك، فإنّ النّسويّة ساهمت بطروحاتها في فتح باب واسع لدراسات أغنت العلوم الانسانيّة عمومًا، ومن ضمنها تلك المتعلّقة بالأدب واللّغة، بجوانب لم تكن تعالج إلاّ نادرًا ما قبل مرحلة النّسويّة، فدراسة صورة المرأة في الأعمال الأدبيّة وفي السّينما والمسرح، والتّركيز على الإبداع النّسائيّ وخصوصيّاته، ونقد النّظريّات النّقديّة الحديثة، وتوظيف الأدب في معركة المرأة من أجل حرّيتها وحقوقها، وإعادة قراءة الأعمال الكلاسيكيّة والنّصوص المقدّسة وتفسيرها من جديد، وإعادة صياغة المفاهيم حول الجنس والهويّة والمجتمع، هي أمورٌ تغني العقل البشريّ وترفده بما يدفعه إلى أن يكون في حالة بحث دائم، مطوّرا نفسه ومجدّدا؛ هذا إضافة إلى أنّ دعوات النّسويّة ساهمت كثيرًا في تشجيع النّساء على الخروج من قوقعة الصّمت والشّروع في الكتابة والإبداع وأخذ دور في كلّ مجالات الحياة.
المصادر والمراجع
1. إبرهيم، حنان: مساهمة النّساء في تطوير مناهج الفكر؛ مجلّة تايكي، ع12 ، عمّان، الأردن.
2. إبراهيم، رزان محمود: النّسويّة في الأدب والنّقد؛ المجلّة الأردنيّة في اللّغة العربيّة وآدابها، ع 1، مجلّد 4، عمّان، كانون الثّاني 2008.
3. الأعرجي، نازك: صوت الأنثى – دراسة في الكتابة النّسويّة العربيّة؛ الأهالي، ط1، دمشق، سورية، 1997.
4. بام، موريس: الأدب والنّسويّة؛ تر: سهام عبد السلام – المشروع القومي للتّرجمة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة، مصر، 2002.
5. تود، جانيت: دفاعًا عن التّاريخ الأدبيّ النّسويّ؛ تر: ريهام إبراهيم – المشروع القومي للتّرجمة، المجلس الأعلى للثّقافة، ط1، القاهرة، مصر، 2002.
6. بنمسعود، رشيدة: المرأة والكتابة – سؤال الخصوصيّة \ يلاغة الاختلاف؛ أفريقيا الشرق، ط2، الدار البيضاء، المغرب، 2009.
7. الثّامري، علي: النّقد النّسويّ بالضّد من الثّقافة الأبويّة؛ مجلّة دروب الالكترونيّة (http://www.doroob.com )، أكتوبر، 2007.
8. جامبل، سارة: النّسويّة وما بعد النّسويّة؛ تر: المشروع القومي للتّرجمة، المجلس الأعلى للثّقافة، ط1، القاهرة، مصر، 2000.
9. حافظ، صبري: أفق الخطاب النّقديّ؛ دار شرقيّات، ط 1، القاهرة، مصر.
10. خليل، إبراهيم: الذات الانثويّة في ثلاثة نماذج من السّرد النّسويّ – فصل من كتاب “خصوصيّة الابداع النّسويّ “؛ وزارة الثّقافة، ط1، عمّان، 2001.
11. خليل، إبراهيم: في الرّواية النّسويّة العربيّة؛ دار ورد الأردنيّة، ط1، عمّان، الأردن، 2007.
12. خليل، إبراهيم: النّقد الأدبيّ الحديث من المحاكاة إلى التّفكيك؛ دار المسيرة، ط1، عمّان، 2009.
13. خريس، سميحة: الخصوصيّة النّسويّة وتجلّياتها الابداعيّة – تجربة جواهر الرّفايعة؛ مجلّة أفكار، ع 127 – 128، عمّان، الأردن، تشرين أوّل 1996.
14. الخولي، يمنى طريفي: النّسويّة وفلسفة العلم؛ عالم الفكر، مجلّد 34، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر – ديسمبر 2005.
15. روزليندر، آن: كتابة الحسد – محاولة فهم الكتابة النّسويّة؛ تر: أحمد صيرة، مجلّة نوافذ، ع 33، سبتمبر 2005.
16. سلدن، رامان: نظريّات النّقد المعاصرة؛ تر: جابر عصفور، دار الفكر، القاهرة، ط1، 1991.
17. سلدن، رامان: النّقد النّسويّ؛ تر: سعيد الغانميّ، مجلّة الآداب الأجنبيّة، بغداد، ع 1، س 12.
18. سيم، ستيورات و فان لووف، بورين: النّظريّة النّقديّة؛ تر: جمال الجزيري، المجلس الأعلى للثّقافة، القاهرة، مصر، 2005.
19. الصدّة، هدى: أصوات بديلة – المرأة والعرق والوطن في العالم الثّالث؛ تر: هالة كمال -المشروع القومي للتّرجمة، المجلس الأعلى للثّقافة، ط1، القاهرة، مصر، 2002.
20. الغذّامي، عبد الله: ثقافة الوهم – مقاربات حول المرأة والجسد واللّغة؛ المركز الثقافي العربي، ط2، الدار البيضاء، المغرب، 2000.
21. كريستيفا، جوليا: الانثويّ، ذلك الغريب فينا؛ حوار مع أرواد أسبر، مجلّة مواقف، ع 73 – 74، 1993 – 1994.
22. المريني، محمّد: نحو تأصيل وعيٍ جديدٍ للمسألة النّسويّة؛ مجلّة الإنسان، ع 7، س 2، آذار 1992.
23. المناصرة، حسين: النّسويّة في الثقّافة والابداع؛ عالم الكتب الحديث، ط1، إربد، الأردن، 2007.
24. المانع، سعاد: النّقد الأدبيّ النّسويّ في الغرب وانعكاساته في النّقد العربيّ المعاصر.
25. Showalter, Elain: The Female Tradition, feminism.
26. Eaglton, Mary: Feminist Literary Theory; Blackwell, C

.


صورة مفقودة
 
أعلى