يسري الخطيب - الرومانسية في الإسلام

ساحرٌ يلقفُ ما دونه.. يمرقُ بين نمنماتِ الروح ، فيطرب القلبُ على دفوف الهوى وملمس الحرير.. يسمو بك كطائرٍ يرفُّ على ضفاف الغدير.. فَـتُراقِص أزهارَ النفس.. وتداعبُ نسمات الفؤاد..

إنه جليسُ مَن لا جليس له.. وأنيسُ من لا أنيس له..

إنه الساحرُ الأعظم الذي يشدك إلى صروحِ الأحلامِ الممتعة.. وجواذبِ أرض المحبوب.. يحتويك.. فلا ترى إلا ما تحب أن تراه !

وعندما قيل لـ[يحيى بن معاذ]: إن ابنك يحب فلانة، قال: الحمد لله الذي صيّره إلى طبع الآدمي)..


إن الموضوع الذي أطرحه هنا ليس للترفيه أو لدغدغة الغرائز، وإنما للوصول إلى جوهر الحب في المنظور الإسلامي..انطلاقاً من قوله تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)


سمع سيدنا سليمان -عليه السلام- عصفوراً يقول لعصفورة: (لو قبلتِ لنقلتُ لكِ عرش سليمان بمنقاري).. فابتسم سيدنا سليمان وقال: (كم يُزَيّن العشق للعاشقين كلاماً )..

كلمةٌ من حرفين.. أطاحت بعروشٍ وصنعت أمجاد أمم.. وتهاوت هامات عمالقة ذليلة منكسرة..

كلمةٌ من حرفين دفعت بفطاحل إلى الجنون ، وبعظماء إلى الانتحار..


فَقَد (قيس بن الملوح) عقله.. وضحّى (أنطونيو) بعرشه.. وتحول (نابليون) إلى طفل صغير..

ساحرٌ يفضحُ مَن يسكنه.. فهناك شيئان لا يمكن أن يخفيهما أي إنسان كائناً مَن كان مهما بلغت قدرته على الكتمان.. كونه مخموراً وكونه عاشقاً..

فأفلام السينما ومسلسلات التليفزيون ،وشطحات الشعراء والكتّاب .. كل هؤلاء الجناة دفعوا بالكلمة إلى الغوص في الوحل.. فنسارع إلى انتشالها ووضعها أمام نافذة الإسلام..


ما هـو الحُبّ؟

يروي ابن القيم في (الجواب الكافي).. إن الحُبّ يُشجّع جنان الجبان ويُصَفّي ذهن الغبي ويُسَخِّي كف البخيل ويُذل عزّة الملوك ويُسَكِّن توافر الأخلاق.


أما الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه (مشكلة الحُبّ) يؤكد أن كل الفلاسفة في أنحاء العالم عجزوا عن وضع تعريف واحد للحب..

أما الفيلسوف الفرنسي المسلم (روجيه جارودي) يقول: لا يستطيع أحد أن يعرف ما هي الأسباب التـي تدعوه إلى حُبّ امرأة بالذات..

أما الكاتب (محمد إبراهيم مبروك) فيقول في كتابه (موقف الإسلام من الحُبّ): إن الحُبّ هو شيء يعجز عن إدراكه البشر، مثله في ذلك مثل كل الروحانيات وهو شعور لا إرادي بالانجذاب الشديد نحو شخص ما.


أما الدكتور عبدالرحمن جيرة، المدرس بكلية أصول الدين بالقاهرة فيقول: الحُبّ أسمى ما في الوجود من معانٍ!! .. لكي نحب لابد أن نكره..


لكي نحب العدل لابد أن نكره الظلم أولاً.. لكي نحب الجمال لابد أن نكره القُبح أولاً.. ولكي نحب الإخلاص لابد أن نكره الرياء والنفاق.. لكي نحب كل معنى جميل لابد أن نكره كل معنى قبيح.. وإذا كان الكُره أبغض ما في قواميس اللغة من ألفاظ.. فإن الحُبّ أسمى ما في الوجود من معنى.. وأسمى معاني الحُبّ وأرقها حُبّ الإنسان لربّه، ومعناه أن يتبع شريعة الإسلام ولا يعصي لربه أمراً.. قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) - 31 آل عمران.


وقد يحب الإنسان المال ويحب الشهوات.. وهذا الحُبّ الممقوت (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) 14 آل عمران.


وحب الرجل لزوجته هو أرقى من أن يكون قاصراً على حُبّ الشهوات، ولذا لا يعبّر القرآن الكريم عن هذه العلاقة بين الرجل وزوجته بكلمة (حُبّ) التـي استعملت في علاقة الإنسان بالأشياء المادية كحب المال والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وإنما عبّر عن هذه العلاقة بـ(المودة والرحمة) فتلك أرقى درجة.. لأن المودة والرحمة تربط كلا الزوجين بالآخر، وتكون في السراء والضراء ، في الصحة والمرض، في الغنى والفقر.. إنها مودة ورحمة نابضة دائماً، وحيّة في قلب كل منهما تجاه الآخر باستمرار.


وحب الآباء لأبنائهم إنما هو فطرة وغريزة مركوزة فيهم، فهم يحبون لذاتهم وليس لصفاتهم، ثم يتطور هذا الحُبّ الأبوي إلى أن يصبح حباً للصفات، عند ذلك تنعكس القضية.. ويصبح الراعي رعية.. ويصبح الطفل رجلاً والأب شيخاً.. فيحب الآباء أبناءهم بدرجات متفاوتة لما يتصفون به من صفات، وقد يثير هذا كراهية بعض الأبناء لبعض كما حدث من أخوة سيدنا يوسف- عليه السلام- بعد أن أصبحوا في الدرجة الثانية من درجات الحُبّ .. (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)


ولكي يحب الإنسان أخاه لابد أن يبتعد عن كل ما يضر به ولو كان من قبيل الغيبة والنميمة ، فقد يَهوَى الإنسان غيبة أخيه ويحب أن يسعى بين الناس بالنميمة.. وتتأصل في دمه مجالس الغيبة والنميمة وتصبح عادة مذمومة..


لا يقدر أن يتخلى عنها.. وهنا شبّه القرآن الكريم حال هذا الإنسان بمن يأكل لحمه وهو ميت ، فقال تعالى( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) 12 الحجرات.

أي فكما كرهتم أكل جثته وهي منتنة فكذلك اكرهوا أكل لحمه وهو حيّ.. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ).


الحُبّ الأول:

يقول الدكتور محمد إسماعيل علي: لو كان الحُبّ الأول حقيقة لكان معنى ذلك أن هناك (حباً ثانياً وثالثاً) وهكذا.. الحُبّ هو الأول والأخير.. لذلك فالصدمة فيه صاعقة مخيفة تزلزل حياة وليد وحيد.. وخصوصاً البنات.. لأننا في الحُبّ نتوسد الشوق والحلم.. فنحن في لهاث وراء السعادة ، فعندما تحب فإن معيار الحساب للأزمنة يتغير تغيراً حاداً ويُصبح يوم الغياب عاماً ثقيل الوطأة يضغط على الصدر فتصعد الروح إلى السماء.. كأن نهر الحياة قد توقف عن السير.. ولقاء الحبيب الغائب يعقد اللسان ويُسقط الحبيبان في بئر من صمت العتاب ليرفعهما إلى سماء من وهج الشوق والعذاب.. إن الحُبّ بوهجه ولهبه هو (الحُبّ الأول) دائماً.. مهما تكرر ومهما طال العمر.. إن عبرة الأول هنا ليست بالتكرار لكنها بالشعور والإحساس.. فالحُبّ حين يبدأ ؛ تبدأ مرحلة جديدة من حياة الإنسان.. فيها الحُبّ الأول.. فالحُبّ والحياة صنوان متلازمان.. يبدآن معاً وينتهيان معاً.. وحين يقول لك صديقك إنه يعيش الحُبّ .. قل له إنه الحُبّ الأول.. إنه بداية مرحلة جديدة من العمر.. لذلك هو دائماً.. الحُبّ الأول.


موقف أئمة الإسلام من الحب

عندما كان الإمام الشافعي ذات مرة بالحج قدّموا إليه رجلاً قد التصق لحمه بعظمه فسأل عنه فقالوا: مريض بالعشق.. فقال الإمام الشافعي: (هذا مرض عضال ليس له دواء إلا الحبيبة أو الموت)


وقد أورد محمد إبراهيم مبروك في كتابه حديثاً يقول (مَن عشق وكتم وعف وصبر ثم مات فهو شهيد) ونحن نشكك في صحته لضعف إسناده..


موقف عبدالله بن عباس: (من فتاوى ابن عباس عن أحد الرجال: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود)


موقف الإمام ابن حزم:

يقول: إن الحُبّ أوله هزل وآخره جد ليس بمحظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عز وجل.. ونمضي في كتاب طوق الحمامة لـ ابن حزم إذ يقول: إن رجلا قال لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- : يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها.. فقال عمر: ذاك مما لا يملك.. وكان عمر يردد دائماً: لو أدركتُ (عفراء) و(عروة) لجمعت بينهما.


موقف الإمام ابن القيم

يقول: إن مبادئ العشق وأسبابه اختيارية داخلة تحت التكليف (فالنظر والتفكير والتعرض للمحبة أمر اختياري فإذا أتى بالأسباب كان ترتيب المسبب عليها بغير اختياره).


ويقول الإمام بن القيم، إن العشق لا يحمد مطلقاً ولا يذم مطلقاً.. فإذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً..


أستاذ البشرية

عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم.. فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم نرَ للمتحابين مثل النكاح).


وقال عمرو بن العاص في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني على جيش فيه أبو بكر وعمر فلما رجعت قلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة.. قلت إنما أعني من الرجال. فقال: أبوها.


وفي الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)


الحُبّ والكرامة:

ورد في صحيح البخاري: أن (مغيثاً) كان يمشي خلف زوجته (بريرة) بعد فراقها له وقد صارت أجنبية عنه ودموعه تسيل على خديه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ابن عباس ألا تعجب من حُبّ مغيث بريرة ، ومن بغض بريرة مغيثاً! ثم قال لها النبي: لو راجعتِه.. فقالت بريرة: أتأمرني يا رسول الله.. فقال: إنما أنا شافع.. قالت: لا حاجة لي فيه).


لو لم يرد هذا الحديث في صحيح البخاري بإسناد قوي لشككنا فيه.. هل يصل بغض المرأة لشخص ما إلى الحد الذي يجعلها ترفض وساطة النبي صلى الله عليه وسلم.. لقد (أفرد) الكثيرون من أئمة الحديث شروحاً في ذلك وكان أعظمها ما ذكره الإمام ابن حجر العسقلاني ، حيث قال إن فرط الحُبّ يذهب الحياء..


الحُبّ من طرف واحــد

كتبت "كريمان حمزة " تقول: (ماذا لو أدرك المحب أن حبيبه لا يحبه بل أنه لا يشعر به على الإطلاق؟ بل ربما يكون معلّق القلب بحب آخر.. ماذا يفعل العاشق من طرف واحد؟ علي العاشق إذا أيقن أن حبه من طرف واحد.. أن يبتعد فوراً.. فالبعد وطوله وقسوته تطفئ مع الأيام نار الحب.. عليه فوراً أن يستفيق ولا يسترسل في مشاعره.. وليحكّم عقله في عواطفه ويلملم قواه المبعثرة المفتونة.. وليحاول الوقوف رابط الجأش.. وحذارِ من التسول فإن الحب لا يستجدي).


الحب من طرف واحد ابتلاء يحتاج إلى معاناة ومجاهدة للنفس ومخالفة للهوى وليس هذا بالأمر السهل الميسّر، فإن العواطف المصدومة تعمل على تمزيق الكيان وتشتيت الفكر.. وقد يستولي الشيطان على وجدان المحب فيدفع العاشق من طرف واحد إلى العناد والاسترسال في مشاعر لا يستحقها الطرف الآخر فتذل المحب وتجبره على الرضا بالهوان وعندئذ يغضب رب العالمين.


والإمام الشافعي يقول:

ومن الشقاوةِ أن تحب ::: ومن تحبّ يحب غيرك


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعز بقومٍ جعل الله ذله على أيديهم" و"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"


ولنعلم أن الله يغار إذا أفرط العبد في عشق مخلوق.. فاشتغل به ونسي خالقه.. ثم على المحب من طرف واحد أن يوقن أن الحب والزواج رزق من الله.. قدّره منذ الأزل (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) 22-23 الذاريات.


وفي هذا يقول الكاتب الراحل عبدالوهاب مطاوع: (إن من أسباب شقائنا في هذه الحياة أننا لا نعرف كيف نقول في الوقت المناسب (وداعاً) لمن أحببناه وأردناه قبل أن يتمكن الداء فينا ويتغلغل في دمائنا ويتحول لدينا إلى رغبة قهرية مذلة لا حيلة لنا معها.. فالاستجداء الطويل للأشياء يجعل الإنسان يفقد البهجة بنوالها بعد أن بذل من نفسه ومن كرامته لكي ينالها ما يفقدها كل قيمتها ومعناها لديه.. وعلى الإنسان أن يعرف دائماً متى يتوقف عن استجداء مشاعر الآخرين الذين يوصدون قلوبهم وأبواب رحمتهم دونه، ومتى يروّض النفس على التخلص من رغبتها القهرية فيمن لا يريدونه ولا يحفظون له حرمة ولا كرامة ، ماذا يعيبنا في أن يرفضنا الآخرون لأننا لم نصادف لديهم بعض ما نحمله لهم نحن من مشاعر.. وقد نكون في نفس الوقت الأمل المنشود لغيرهم.. فلو سلّم الإنسان بإرادة الله وكفّ عن التطلع إلى ما لم تشأه له الأقدار لتحررت طاقته النفسية من الأحزان وثقل الترقب وهواجس الانتظار وخيبة الرجاء).


إن عزة المسلم تقول إن الكرامة قبل العاطفة، والدين قبل الدنيا، فالإحساس نعمة، فنحن نعلم أن تغيير الطبائع من المستحيلات.. وإذا قيل لك إن جبلاً تحرك من مكانه فَصَدِّق، وإذا قيل لك إن إنساناً غيّر مِن طبعه فشَكِّك.. ومن هذه القاعدة يكون الاتجاه (فأظلم الظالمين لنفسه مَن تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مَوَدّة من لا ينفعه).


كما قال الإمام الشافعي.. فليس من الحكمة أن نضيّع الوقت في إثبات حسن نيتنا تجاه مَن لا يضمرون لنا إلا سوء النية.


الصــداقــــــة:

يروى أن رجلاً قال لعبدالله بن جعفر يوماً: سيّدي، إن فلاناً يقول إنه يحبني.. فبماذا أعلم صدقه؟.. فقال له هذه الحكمة الموجزة: (بسيطة.. امتحن قلبك بقلبه.. فإن شعرت أنك تودّه فإنه يودّك ).. تلك علاقة الأصدقاء.. بين الرجل والرجل أو المرأة والمرأة ، فلا توجد صداقة بين الرجل والمرأة في الإسلام.. وهي ثوابت ونصوص واضحة كالشمس لن نتطرق إليها الآن.


ونعود مع عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي يرشدنا قائلاً: أحبب حبيبك هَوناً ما فقد يصبح بغيضك يوما ما.


نعم فالإسلام دين الوسطية في كل شيء.. لا إفراط ولا تفريط..


سلطان الحُبّ

إن من قال لمحبوبه أعبدك فقد كفر.. فحب الله يعتبر بمثابة الساق التـي تغذّي كل أنواع الحُبّ الأخرى.

ويبقى السؤال: ما موقف الإسلام من رجل تعلق قلبه بامرأة والحُبّ شيء لا يُمْلَك وهو أمر بيد الله.. فكيف يحاسبنا الله على أمر يملكه هو، وليس لنا فيه أية إرادة أو اختيار؟! رجل فشل في الزواج من محبوبته ولم يملك أية وسيلة أو حيلة لدفع هذا الميل وردّ هذا الحُبّ.. وبقي على هذه الحال متعففاً حتى وافته المنية؟!


الإسلام هو دين الواقعية الذي لم يقف من الغريزة الجنسية موقف الكبت والمعاداة ، فقد شرع الزواج .. وفي الحديث الذي أورده الطبراني والبيهقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : من كان موسراً لأن ينكح ثم لم ينكح فليس مني).


وقد كان يردد: (إني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء.. فمن رغب عن سُنّتي فليس مني).


فالإسلام لم يؤاخذ إنساناً على الميل القلبي الذي يأتي للمرء رغماً عنه، ولا يملك لدفعه أية حيلة أو سبب.. قال تعالى في سورة النساء (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)


معنى هذا أن ميل القلب ليس بمقدور الإنسان.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يميل قلبياً للسيدة عائشة رضي الله عنها أكثر من باقي زوجاته، ولكنه كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك).


ومن واقعية الإسلام: أن من ابتلي بحب امرأة وما استطاع أن يصل إليها بعقد أو زواج فعليه أن يتشاغل عنها وينساها بالتوغل في حُبّ الله، فالدنيا والدين في القلب ككفتي ميزان.. ليتنا نجعل الغلبة للدين.


روشتة علاج العشق:

أورد "ابن القيم" في كتابه "زاد المعاد".. علي العاشق أن يتذكر قبائح المحبوب، وما يدعوه إلي النفرة عنه، فإنه إن طلبها وتأملها وجدها أضعاف محاسنه التي تدعوه إلي حبه.. فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبقَ له إلا صدق الملجأ إلي من يجيب المضطر إذا دعاه.. فالتفكير في المخلوق يُبعد عن الخالق.


يروي الشيخ "ابن سينا" قصة طريفة عن العشق فيقول: "استدعاني حاكم ولاية (جرجان) بإيران لعلاج أحد أقاربه.. فوجدتُ شاباً أنهكه المرض.. فوضعتُ يدي على نبضه وكلفتُ شخصاً يذكر له أسماء شوارع المدينة وطرقاتها وظل هكذا حتى بلغ اسم مكان مُعَيَّن.. تحرك النبض عنده حركة عجيبة.. ثم عند اسم معيّن بالذات حدثت نفس الحركة في نبض المريض.. فعرف ابن سينا أن هذا الشاب مريض بالعشق.. وواضح من القصة استخدام ابن سينا معدل النبض لمعرفة اسم المعشوق عن طريق ذِكر أسماء عدة فإذا اضطرب النبض عند اسم معيّن كان هو.. ويفيد ذلك في نظر ابن سينا في العلاج.


الحب والاشتهاء:

يرى ابن سينا: (أن الشهوة عامل مساعد في ظاهرة العشق.. وأن العشق مجموعة من الوساوس والأفكار السمجة والسخيفة التي تتسلط على ذهن الإنسان وتسبب له الأرق والقلق).. وأنا أرى من نافذة هذا العصر الذي نعيشه الآن أن العشق شبيه بالمانخوليا يجلبه الإنسان على نفسه باستحسان بعض الصور والشمائل في المحبوب وتفعيل ذلك في اللاشعور مع تسلط الشهوة.. كل ذلك ينتج عنه الوهم المسمى "حب" أو خرافة "العشق".


أعراض العشق:

- غَوَر مقلة العين ويبسها وكبر جفونها.

- عدم قيام الغدد الدفعية بوظيفتها علي الوجه الأكمل.

- يظهر علي المريض الضعف والوهن والذبول والهزال.

- يصاب المريض بالاضطرابات والتذبذب الانفعالي.

- اضطراب عمليتي التنفس والنبض.

- سرعة نبضات القلب عند رؤية المحبوب أو سماع صوته فجأة أو من يشابهه في الملامح والصوت.


العلاج عند ابن سينا:

يلجأ ابن سينا في علاج العشق إلي تنويم المريض حتى يستريح عقله من عملية التفكير.. كما ينصح بالعلاج عن طريق الأكل المناسب.


كما يلجأ ابن سينا إلى إلهاء المريض عن موضوع عشقه.. أي شغله بأمور واهتمامات أخرى كالأنشطة الرياضية والعلمية والثقافية والرحلات.. كما يرى أن الدواء من نفس الداء قمة العلاج.. وهو ما يُعرف بفكرة التعويض أي يستبدل هدف صعب المنال بأخرى يستطيع الزواج منها.


ومع عظيم احترامي للشيخ ابن سينا أرى أن ما يصلح لعلاج فرد قد لا يصلح للآخر.. فالمتعلم الناضج قد تكفيه النصيحة، والجاهل قد يحتاج لمرحلة علاج طويلة، أو العكس !!! كما أن البشر منهم من ينتصح ومنهم المغرور العنيد ومنهم أيضاً من يستحسن هذا الذل ويجد فيه متعته التي يجترها دائماً ويرفض كل ما يقال له.


لكن لا يبقى لنا دائماً إلا الله ... للخلق جميعاً شاء بعضهم أو استكبر.. فالعشق مضاد للتوحيد -كما ذكر علماء الإسلام- وذمّه الله عز وجل في كتابه الكريم:

(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) 24 يوسف

وقد اختلف العلماء في درجات العشق وأنواعه، وقال بعضهم هي:

الهوى - العلاقة - الكَلِف - العشق - الشُغِف (بضم الشين وكسر الغين) - اللوع - الشَغَـَف (بفتح الشين والغين) – الوَلَه.


وكما أسلفتُ في بداية الموضوع أن الحب يختلف عن العشق وأن درجات العاطفة تبدأ من: التعود والارتياح والقبول والإعجاب والحب.. في إطاره المنطقي -ولا ضرر في ذلك- لكنها تنتهي بما يغضب الله ورسوله.. في درجات العشق والومق والشغف.. والومق هو مرحلة الجنون كما حدث مع مجنون ليلى "قيس بن الملوح" وغيره.. أما الشغف.. فقد أورده الله عز وجل في سورة يوسف عن امرأة العزيز ونسوة المدينة.. {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} يوسف: 30


الحُبّ ليس ضعفاً ولا مرضًا

قد نختلف مع الذين قالوا إن الحُبّ هو الشيء الذي يسرقك من عاملي الزمان والمكان ، فخواطر الشيخ الشعراوي قد تسرق بعضنا من المكان والزمان.. مثلاً.. أو تجويد الشيخ (عبدالباسط عبدالصمد) أو ترتيل المقرئ (فارس عباد).. أو قصيدة شعر.. ولذا نحن نرى أن الحُبّ حالة خاصة كالمدينة الفاضلة وأساطير كليلة ودمنة مع القليل من الواقعية.


تكتمل دائرة هذه الواقعية عند مَن يعرف ربه وأصول شرائعه.. فلا يصل إلى تأليه المحبوب وعبوديته له.. فالعبودية لا تكون إلا لله.. وأن يعي تماماً أن المحبوب كائن حي.. يتفل ويعرق ويبول ويغوط ويحيض.. أما أن يصل الأمر بالبعض -كما رأيت بنفسي من أحد رواد قصر من قصور الثقافة بالقاهرة منذ عدة سنوات- محاولة الانتحار بسبب مشكلة عاطفية.. فتلك هي الحماقة.. والقلوب الخاوية من أنوار خالقها.


وكما ورد في الأثر (وَيْحَكِ يا نفسُ.. مالكِ لا ترعوي؟ مالك تشدينني إلى جواذب الأرض وتقيدينني برغائب الطين؟.. ويحكِ يا نفس.. مالكِ تزينين لي الدنيا كأنها ليست بزائلةٍ ولا حائلة.. كأنها لا تردي مريدها في سجّين!


ألم تعلمي يا نفسُ أنها لا تزيد عن ستة أشياء: مأكولٌ ومشروبٌ وملبوسٌ ومشمومٌ ومركوبٌ ومنكوح.. فأفضل المآكل فيها العسل وهي بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء وفيه يستوي جميع الحيوان.. وأفضل الملبوس فيها الديباج (الحرير) وهو نسيج دودة.. وأفضل المشموم فيها المسك وهو دم فأرة (نوع من الغزال).. وأفضل المركوب فيها الفرس وعليه يُقتل الرجال.. وأما المنكوح فيها المرأة وهي مبال في مبال).


ونعود إلى (محمد إبراهيم مبروك) الذي يردّ قائلاً: (الحُبّ ليس ضعفاً ولا مرضاً ، والمشكلة ليست في الحُبّ ذاته ولكن في الحرمان من المحبوب لأن وئام المحب مع محبوبه هو غاية السعادة.. فلا يمكن وصف ذلك بالمرض والعلّة.. فالحُبّ يصنع المعجزات.. فيتحدى أنطونيو الإمبراطورة الرومانية ويستولي على ممالك الشرق لأنه سيتزوج كليوباترا.. ويخترق (فرهاد) الجبل ليصنع طريقاً يعبر الملك منه مادام قد وعد بأن يكافئه على ذلك بأن يزوجه من حبيبته.. ويتحدى (عنترة) المستحيل ويطارد أعتى الفرسان من أجل "عبلة").


فالحُبّ قوة دافعة ولكنه سلاح ذو حدين.. إذن القضية في ذات العاشق وبنفس الإصرار والرغبة في حسمها.. وبكل هذه القوة العاصفة يندفع المحب في تحقيق كينونته ولهذا قيل قديماً: لا تستطيع أية قوة في الوجود أن تهزم جيشاً من العشاق فكيف يقال بعد ذلك إن الحُبّ ضعف! ربما.


فقضايا الحياة لا ولن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. الأهم فالمهم، وكل ما خلا الله باطل، ولذا فإن دراستي للأدب الإنجليزي تجعلني أقول إن أرضية الحُبّ في الغرب تختلف عن عالمنا مهما قيل غير ذلك.. فالقضية ليست (هاملت) و(أثلو) أو (روميو وجوليت) ولكنها قضية عفة وطهر نطرحها من منظور إسلامي.. ولا يمكن أن تكون شطحات (شكسبير) أو حكايات (شارلوت برونتي) هي مرجعيتنا.


هل الحُبّ ابتلاء

حُبّ + حرمان من المحبوب = ابتلاء رهيب.

يقول الإمام ابن القيم: إن درجة العشق فوق درجة الصبر، وإنه نوع من الابتلاء، إنْ صَبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين، وإن سخط وجزع فاته معشوقة وثوابه، وإن قابل هذه البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر.


وتروي كتب التراث عما فعلته (سالومي) الراقصة التـي كانت ابنة زوجة الملك (ربيبته) وكانت تعرف أن الملك يعشقها ولكنها كانت تهوى النبيّ يحيى عليه السلام الذي يرفض حبها، فدبرت المكيدة الشهيرة، وبعد أن رقصت للملك (رقصة سالومي) التـي تنزع شيئاً من ملابسها عن جسدها بعد كل حركة حتى تصبح عارية تماماً.. وطلبت من الملك رأس سيدنا يحيى.. وفي هذا يقول الأديب عبدالرحمن الشرقاوي: (آه ما أهون دنياكم على طفل الحقيقة.. رأسُ يحيى وهو قدّيسٌ نبي.. بالذي فيه من حلمٍ ومن علمٍ عليمْ.. كانت مهر بَغِيّ من بغايا أورشليم.. آه ما أهون دنياكم على طفل الحقيقة).


لقد وصل العشق بزليخة زوجة عزيز مصر أن تراود يوسف عن نفسه.. ثم بعد ذلك تعلن على الملأ (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ)

وبعد..

فالكلام في الحُبّ شائق.. ولكن البحث فيه شائك..

ومازال البابُ مفتوحاً في هذا الموضوع لآراء العلماء، وأطروحات القراء..
 
أعلى