ياسين طه حافظ - عن الجنس والكتابة

كُتّاب عديدون أثروا من رواياتهم. كتاباتهم الجنسية تلك التي ترضي آلافاً، ملاييناً أحياناً من طلبة وشباب وكهول وحتى شيوخ "معوِزين" . وسينما ازدهرت بأفلام فيها عري أو احتضان أو نصف مضاجعة أو تجربة أو مشهد من رقص شرقي تِكشف الراقصة فيه عن نصف فخذيها لجياع الشرق الأوسط وأفريقيا..

هذا ما عرفناه من الروايات الرائجة والأفلام، لا المصرية والهندية، ولكن الأمريكية والانجليزية والإيرانية قبل هيمنة الدين. ومما في الدول التي كانت اشتراكية. الأفلام الجنسية أو التي فيها بعض من الجنس صارت مثل تجارة المخدرات قبل السماح الجزئي بها.
والروائي المحترف يعرف متى ينعش روايته وكيف ينمي عنصر، بل عناصر التشويق وحتى تحين القبلة أو الموعد أو السرير. وكذلك صانع الفيلم ومؤلف نصه تأليفاً خاصاً أو بناءً على رواية. هم يعرفون ما يؤكدون عليه في الرواية، ما يحذفونه وما يضيفون لها لضمان النجاح أو المبيع .. ولم تسلم من هذا كبريات الروايات والأفلام التاريخية وحتى الأفلام البوليسية ووصل الأمر إلى أفلام الخيال العلمي .. كما ان الأغاني الشائعة توحي بمثل ذلك أو تشير اليه.
هذه ظاهرة يدركها الجميع وان لم يتوقفوا عندها. لكن علماء الاجتماع يعرفونها ثم عرفها رجال التربية ولم تفت السياسيين. علماء الاجتماع والتربية اهتموا بها بحوثاً ودراسات وبيانات والسياسة عرفت كيف توظفها شاغلا أو أداء مهمات.
وهكذا نحن أمام الجذب او الاستغلال او ربح التذاكر والأموال.
منذ القرن التاسع عشر ونحن نرى ذلك ونقرأه وحتى لاحَقَنا في أغلفة الكتب والمجلات ومعاجين الحلاقة والأسنان .. الجنس – المرأة كان وما يزال لحد كبير مادةً فاعلة في الشعر والرواية والسينما والإعلان.
لكن اسأل، بعد هذا التحرر من كثير من القيود الاجتماعية وبعد حضور العري والأجساد مختلفة الجمال وألوان البشرة، وبعد ان صرنا نرى الأجساد العارية واضحة او نصف واضحة في الشارع والفندق والسوق والحفلات والحدائق العامة ولم يعد سرّاً ولا عادت الأجساد مثيرة نادرة ...، هل سيظل الجنس او المرأة، وسواها، موضوعَ إثارةٍ وجذب وشديد الحيوية والفعل في الرواية والأفلام؟ حتى الآن هو بالقدر نفسه من التأثير في شباب ومراهقين وشيوخ تنبض عروقهم من حرمان قديم او من تصابٍ. نعم نحن مانزال نرى أفلاماً قوامها لقاءات ساخنة بعد لأي وما نزال نقرأ روايات على أغلفتها: Extravagantly Sexual أو بحياء ما عادت له ضرورة:
Highly Enjoyable .. وما يزال الفنانون والمصممون يعنون بذلك او هم يستجيبون لمتطلبات دور النشر التي هي اعرف بالسوق. وما نلاحظه ان من الكتب المترجمة، يُرَحّب بواسعة المبيع والمقصود هنا كتابات عن الجنس او قصص الحب او الكتب الجنسية المباشرة.
صار واضحاً في السنوات القليلة الأخيرة افتقاد هذا الموضوع لقدرته على الإثارة بسبب ما ذكرناه من توافر حضور المرأة الواسع في المجتمع وحضور الأجساد نصف العارية في كل مكان، سواء في حفلات السهرة الراقية أو بين متوسطي الحال في المدن ومن العوائل الحاكمة إلى العاملات في المخازن . ثمة إشباع اتضح في تلك البلدان وقلة شراهة في بلداننا بخاصة عند من ألفوا الحياة المدنية. قلة اهتمام واضحة بالنسبة لما كان.
لكن ما يزال بعض من الكتاب يبنون شهرتهم ومبيعهم على ذلك، ومنهم كاتبات عديدات. هن أيضاً اما ليصرحن بقضيتهن النسوية واما لأنهن عرفن اللعبة وشخصياً أظن الاثنين! كتاب آخرون، هم الأكثر نضجاً فكرياً ومعرفياً، أدركوا أموراً أخرى تهم الإنسان وتعينه، فنجد كتاباتهم تكسب حضورها من أجواء إنسانية أخرى وما عادوا يوظفون الجنس أو يتاجرون به. كما ان الشعر المتقدم والرسم بدءا يبتعدان الى موضوعات فكرية وانتبهات إنسانية وجمالية أخرى. ظاهرة الشعراء "النسويين"، أعني كتّاب الشعر الذي يفحّ جنساً او رغبات بدائية مما ظل غالباً للطلبة والمراهقين وجلّاس المقاهي، بل هو صار معيباً في أحيان كثيرة. هو أحياناً يهبط بالشعر والشاعر بدلاً من ان يرتفع بهما ويسمو.
أطنه وقتاً مناسباً لننتبه ونحن نكتب الرواية أو ونحن نشرع القوانين أو ونحن نكتب قصائد عن الحب، المرأة ما عادت إعلاناً ولا ممراً لرغبات. صار مضحكاً التأكيد على التضوّر أو على اوصاف الجسد (ونسبة توزيع اللحم فيه).. فهنا اشعر بهبوط من نوع ما. هبوط في المستوى الثقافي والنضج الشخصي، حين اقرأ لأحدهم بائساً يتسول او يتوسل من غير أن اقرأ له ما يرقى بنفسه وبشعره وبها. فلا افكار ولا معاني ولا آفاق انسانية.. الجنس مبذول ان شئت جنساً فدع للحبيبة او المعشوقة رمزيتها وعوالمها الجمالية وانسانيتها، ازدهاراً او مِحَناً ومتاعب.
نعم، ستبقى المرأة ويبقى مضمونها وجسدها حاضرين في الادب والفنون والسينما ولكن هذا الموضوع بدأ، وسيمتلك ابعاداً اخرى، رمزاً او دلالة. ما عادت فقط جسداً للرغبة او للتجارة والسلوى. نحن الآن امام المعنى وثمة الجسد والاحترام او الفهم الأرقى.
هو وقت لينتبه الكتّاب، كما انتبهت السينما، الى ان تغيراً اجتماعياً قد حصل. وما عاد الفلم الجيد تشغله فرص استحواذ او اغتصاب او لقطات عري في قصة حب مبتذلة او هابطة المستوى الفكري. خمدت هذه الإثارات للأسباب التي ذكرناها. نحن الان في مرحلة حضارية، الإنسانية فيها هي موضوع الاهتمام والحب والرغبات بعض من المفردات في هذا الموضوع. عزل هذه المفردات هبوط باهميتها. قد يأتي الجنس في السياق حاصل اعتزاز وحميمية لا حاصل جوع وبدائية. لا نريد التعامل مع المرأة – الجنس بمحصلة قديمة.
كلمة "المرأة" صارت توحد فكرة النساء كجماعة اجتماعية مهيمن عليها من قبل الرجال كجماعة اجتماعية. هذه المقابلة افردت مفهومات جديدة للجنسين في عصرنا. ثمة اسئلة جديدة بدل جسد المرأة وحاجاتها النسبية. هي اليوم تُرى بمنظور نضالي بالنسبة للحركة النسوية ولم تعد مجرد جنسانية معزولة عن المضمون الانساني. العمل اليوم لتقييد جنسانية الذكور بقدر ما هي لتحرر المرأة من تحمل الخسارة بسبب رغبة الرجل.
هذا الفهم ما يزال غائباً عن الكثير مما نقرأ من روايات واشعار ومما نراه في السينما. هذه صارت صفة هبوط في المستوى. لا اظن الاستمرار على هذا دائماً نتيجة جهل، هو في الأساس استمرار على تسخير الموضوع واستمرار الإفادة من مستوى الجمهور العام في فهم المرأة ثم في قضيتها للتأكيد على الحال التي سبقت حركات التحرر ثم لعرقلة مسيرتها. وكما نرى، واضح استغلال الموضوع في السياسة والثقافة أو الإعلام واستفادة التجارة من الاثنين. هو واقع مرئي بوضوح، واقع استغلال المرأة تجاريا وسياسيا وحتى فيما تظهره الأفلام الحربية وما يُعرض اليوم من قصص وافلام الخيال العلمي. كلها تؤدي مهمة تستّرية للرجل، لاستمرار استغلاله وهيمنته. فالمرأة هنا قد تؤدي دور أسيرة يحررها الرجل او محتالة يؤخذ منها الكنز او تُستثمَر وسيلةَ إغراء وإثارة حتى تكتمل القصة.
اعتقد بأنه وقت مناسب للكاتب ان يوظف ثقافته الحديثة وينتبه للحقائق والافكار الجديدة وهو يكتب أو وهو يرسم او يخرج فلماً. مخجلٌ اننا نعمل ونحمل افكار ما قبل القرن التاسع عشر. فقد اعترضت لبراليات التاسع عشر على قوانين استبعاد النساء من الحقوق الاجتماعية، أي من الاحترام!
مؤسف ان هذا الحراك الاجتماعي وهذا الواقع الجديد وهذا التقدم العظيم في الفكر الانساني يبدو وراء ادراك الرجال وحتى خيالهم. او انهم يغضون النظر عنه لسبب وجيه أنه سيحرمهم من جبائرهم المفاهيمية وسيدمر الآلة الاغرائية لتجارتهم ذات الصلة بالنخاسة!
 
أعلى