عبد الله عبد الجبار - قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي.. الفصل الخامس: الشعر الغزلي

معنى الغزل:
إذا رجعنا إلى أمهات كتب اللغة وجدنا أن الغزل والنسيب والتشبيب كلمات مترادفات. فابن سيده يقول: إن الغزل تحديث الفتيان الجواري، والتغزل: تكلف ذلك, والنسيب: التغزل بهن في الشعر، والتشبيب مثله.
وابن منظور يقول: إن الغزل حديث الفتيان والفتيات واللهو مع النساء. ومغازلتهن: محادثتهن ومراودتهن. والتغزل: التكلف لذلك. ونسب النساء ينسب نسبا ونسيبا ومنسبة: شبب بهن في الشعر وتغزل. وشبب بالمرأة: قال فيها الغزل والنسيب. وهو يشبب بها أي: ينسب بها. ويقول الزبيدي مثل ذلك1.
هذا هو رأي طائفة من أكبر علماء اللغة, فما رأي الأدباء ومؤرخي الأدب قديما وحديثا؟ يرى ابن سلام -وهو في طليعة الباحثين في الأدب- أن الكلمات الثلاث متحدة المعنى, فهو يقول: "كان لكثير في التشبيب نصيب وافر وجميل مقدم عليه في النسيب". فالنسيب والتشبيب في هذه العبارة مترادفان. ومرة أخرى يقول: "وكان عمر يصرح بالغزل ولا يهجو ولا يمدح, وكان عبيد الله يشبب ولا يصرح، ولم يكن له معقود شعر وغزل كغزل عمر"2. فالغزل والتشبيب هنا بمعنى واحد، ويستخلص من ذلك أن الغزل والنسيب والتشبيب في رأي ابن سلام كلمات مترادفات

واستعمل صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الغزل دالا على النسيب في مواضع شتى من كتابه، وكذلك استعمل الجاحظ الغزل والتشبيب بمعنى واحد.
ويرى ابن رشيق أن التغزل والنسيب والتشبيب كلها بمعنى واحد, وأن الغزل إلف النساء والتخلق بما يوافقهن، وقد اقتفى أثر قدامة في أن الغزل غير التغزل. إلا أن الدكتور الحوفي لا يميل إلى التفرقة بين الغزل والتغزل؛ لأن التغزل ليس تكلف الغزل كما قد يتبادر، ذلك أن التاء هنا كالتاء في مصادر أخرى مثل: التقدم والترقي والتعلم. وقد حاول بعض القدماء أن يفرقوا بين هذه الكلمات, ومن هؤلاء التبريزي الذي يرى "أن النسيب ذكر الشاعر المرأة بالحسن والإخبار عن تصرف هواها به، وليس هو الغزل. وإنما الغزل الاشتهار بمودات النساء والصبوة إليهن, والنسيب ذكر ذلك"1. وهذا الرأي مخالف لآراء الأدباء واللغويين من قبل.
أما في العصر الحاضر, فقد حاول المرحوم محمد هاشم عطية أن يصنع شيئا يشبه أن يكون تحديدا لهذه الكلمات, فقال: "ويترجح عندنا أن الغزل هو الاشتهار بمودات النساء وتتبعهن والحديث إليهن والعبث بذلك في الكلام, وإن لم يتعلق القائل منهن بهوى أو صبابة. وأما التشبيب فهو ما يقصد إليه الشاعر من ذكر المرأة في مطالع الكلام وما يضاف إلى ذلك من ذكر الرسوم ومساءلة الأطلال؛ توخيا لتعليق القلوب وتعقيدا لأسماع قبل المفاجأة بالعرض من الكلام. وأما النسيب فهو أثر الحب وتبريح الصبابة فيما يبثه الشاعر من الشكوى وما يصفه من التجني, وما يعرض له من ذكر محاسن النساء"2. ويتفق معه الأستاذ السباعي بيومي في أن التشبيب هو الغزل التمهيدي, ويختلف معه في غير ذلك. فوصف جمال المرأة ومحاسنها وجاذبيتها نسيب عند الأستاذ هاشم وغزل عند الأستاذ السباعي.

واستعمل طه حسين كلمة الغزل دالة على الأنواع كلها. وكذلك فعل الدكتور الحوفي في رسالته للماجستير عن "الغزل في الشعر الجاهلي"، وهي في رأيه أخف نطقا وأكثر شيوعا، كما أن عدم التفرقة هو رأي اللغويين والأدباء من القدماء.


1 شرح ديوان الحماسة 3/ 112.
2 الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي ص107.
 
فينوس الحجازيين:

يغرم الحجازيون بالمرأة الجميلة، ومقياس الجمال عندهم يتوفر في المرأة: الكحلاء، العيناء، الزجاء، البلجاء، مع بياض في البشرة, واستقامة في الأنف، وأشر في الأسنان, وسمرة في الشفتين, وطول في العنق, وغيد في الأعطاف. وتكون سوداء الشعر, بيضاء النحر، دقيقة الخصر، طويلة, ملتفة الساقين والساعدين، تهتم بما يكمل هذه الأوصاف الجسدية من طيب وخضاب وملبس ملائم دون تكلف.
وكما نرى معاهد التجميل تنتشر في أنحاء العالم، كذلك كانت عند الحجازيين -مثل غيرهم من العرب- صانعات الجمال، وهن النساء اللواتي يتعاهدن العرائس ويجملنهن، وقد تنجح صانعة الجمال إلى درجة أن تجعل القبيحة جميلة مؤقتا؛ ولذلك أبطل الإسلام هذه العادة وحظر العمل بها لأنها خديعة.
ومن أنواع الجمال المصنوع التنميص والتزجيج والتفليج والتلمية والوشر والوشم والوصل ... فأما التنميص فنزع ما بين الحاجبين من شعر حتى يصيرا كأنهما أبلجان، والتزجيج حف الحاجبين وإطالتهما بالأثمد, والتفليج تفريق ما بين الثنايا والرباعيات، والتلمية خضاب الشفة واللثة بأثمد, والوشر تحزيز الأسنان وتحديدها لتحكي الأشر؛ لأنها من صفات الشابات، والوشم معروف وأكثر ما يكون بالذراع والشفة واللثة، والوصل إطالة الشعر بشعر معار1.
ولدينا قصيدة لقيس بن الخطيم, يصور فيها جمال المرأة الحجازية كما يريدها هو؛ فهي مزيج من الفضائل المادية والمعنوية. فهي مرحة مدلّلة, لا هي بالطويلة ولا بالقصيرة, لا سمنة فيها ولا نحافة إلا خصرها فهو نحيف يكاد ينقصف, ووجهها مشرق كالدرة التي أخرجت من الصدفة, فيها حور العين وجيد العنق, تكاد تضيء, نئوم الضحى تنام عن شئونها, فإذا قامت إليها, فإنما تقوم رويدا كأنما تخشى أن تقع:
رد الخليط الجمال فانصرفوا ... ماذا عليهم لو أنهم وقفوا
فيهم لعوب العشاء آنسة الد ... ل عروب يسوءها الخلف
بين شكول النساء خلقتها ... قصد فلا جبلة ولا قضف
تفوق الطرف وهي لاهية ... كأنما شف وجهها نزف
قضى الإله حين صورها الـ ... ـخالق ألا يكنها سدف
تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف
حوراء جيداء يستضاء بها ... كأنها خطوط بانة قصف
تمشي كمشي الزهراء في دمث الر ... مل إلى السهل دونه الجرف
كأن لباتها تضمنها ... هزلى جراد أجوازه خلف
كأنها درة أحاط بها الـ ... ـغواص يجلو عن وجهها صدف1

وهذا سلامة بن جندل يجمع عدة أوصاف لحبيبته في بيت واحد؛ فهو يذكر امتلاء أردافها وطولها وبياض بشرتها, مما تتميز به المرأة الحرة عن الأمة:
ليست من الزول أردافا إذا انصرفت ... ولا القصار ولا السود العناكيب21
الأصمعيات 1/ 45، الأغاني 3/ 22.
جبلة: غليظة. قضف: نحافة. تنغرف: تنقطف من خصرها. قصف: لين. الزهراء: البقرة الوحشية. دمث: لين. جرف: جمع جرف وهو ما تجرفته السيول وأكلته من الأرض. خلف: جمع خليف وهو السهم الحديد، الطرير. أجوازه: أواسطه. يجلو: يعلو.

والنابغة ينسب إلى حبيبته صفات المرأة الحرة بنفي صفات الإماء عنها؛ فهي ليست من السود ولا تبيع قدور النحاس في المجتمعات:
ليست من السود أعقابا إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما1

والمزرد بن ضرار يقول عن المرأة الجميلة في نظره: إنها بيضاء، تميل إلى اللهو وإلى الغزل:
وبيضاء فيها للمحالم صبوة ... وفيها لمن يرنو إلى اللهو شاغل2

وكما وصفوا بالبياض, نجدهم أحيانا يصفون بالصفرة كما نجد عند قيس بن الخطيم:
صفراء أعجلها الشباب لداتها ... موسومة بالحسن غير قطوب3

والنابغة يرى من جمال حبيبته أن تكون صفراء, كثوب من حرير:
صفراء كالسيراء أكمل خلقها ... كالغصن في غلوائه المتأود4

ومفهوم أن مرادهم من وصف المرأة بالصفرة الغزل والتشبيب والابتهاج لمرأى هذه الصفرة, وإذًا فلا بد أن تكون الصفرة المحمودة هي التي تنشأ عن كسل المرأة وحسن التغذية. وهذا هو فهم من التغزل بالبياض أيضا، فليسوا يحمدون البياض الناشئ عن مرض وإنما هو بياض الصحة والشباب, كما نرى عند حسان إذ يصف بياض المرأة بالبرد:
يحملن حوا حور المدامع في الريـ ... ـط وبيض الوجوه كالبرد5

وقيس بن الخطيم يصف حبيبته ببياض الأسنان, وقلة لحم اللثة:
تنكل عن حمش اللثات كأنه ... برد جلته الشمس في شؤبوب6

ويصفون النهد بالبروز وطغيانه على الصدر, كما نرى عند النابغة:
والبطن ذو عكن لطيف طيه ... والنحر تنفجه بثدي مقعد7

وإذا وصفوا الشعر فتنوا بسواده وغزارته، والنابغة يشبهه فوق ذلك بعناقيد العنب الثقيلة:
وبفاحم رجل أثيث نبته ... كالكرم مال مع الدعام المسند1

وإذا وصفوا الساق شبهوه في التفافه واندماجه بالبردي، وقد وصفه بذلك شاعران واتفقا في التعبير. قال قيس بن الخطيم:
تخطو على ديتين غذاهما ... غدق بساحة حائر يعبوب2
وقال المزرد بن ضرار:
وتخطو على ديتين غذاهما ... نمير المياه والعيون الغلاغل3

ولصوت الحبيبة على الشاعر الحجازي تأثير كبير؛ ولهذا فإن قيس بن الخطيم لا يمل حديثها ويفزع إذا سكنت؛ لأن حديثها عذب شهي لا ينبغي أن ينقطع:
ولا يغث الحديث ما نطقت ... وهو بفيها ذو لذة طرف
تخزنه وهو مشتهى حسن ... وهو إذا ما تكلمت أنف4

ومما يفتن الشاعر الحجازي ويخلب لبه ابتسامة الحبيبة, فالنابغة يرى في ضحكتها قوة فعالة ستنزل العصم من الجبال والغيث من المزن:
وإن ضحكت للعصم ظلت دوانيا ... إليها وإن تبتسم إلى المزن يبرق5

والشاعر الحجازي تعجبه المرأة العفيفة التي تضنّ بوصلها, وتحافظ على شرف أسرتها وسمعة أقاربها، فقيس بن الحدادية يشهد الله أن نعمى حبيبته ضلت بوصله, على أنهما تجاورا شهورا عديدة:
أجدك أن نعم نأت أنت جازع ... قد اقتربت لو أن ذلك نافع
قد اقتربت لو أن في قرب دارها ... نوالا ولكن كل من ضن مانع
وقد جاورتنا في شهور كثيرة ... فما نولت والله راءٍ وسامع6

والمرأة العفيفة حيية, وهذا الحياء يعجب الشاعر الحجازي، فهو يريد المرأة التي تحافظ على قناعها, ولا تتلفت ولا ترفع بصرها كما يقول الشنفرى:
لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفت
كأن لها في الأرض نسيا تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت1

وقيس بن الأسلت يشيد بالمرأة التي تستحوذ على تقدير جاراتها, فيمنعها حياؤها من زيارتهن ويجئن لزيارتها:
وتكرما جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر
وليس بها أن تستهين بجارة ... ولكنها منهن تحيا وتخفر2

ويشيد النابغة بأنها لا تذيع أسرارها الداخلية بين صديقاتها, فهي لا تنشر أخبار غضبها إن غضبت, ولا أسباب سرورها إن رضيت:
إذا غضبت لم يشعر الحي أنها ... أرببت وإن نالت رضا لم تدهدق2

والشاعر يعذر المرأة إذا انصرفت عنه لكبر سنه، بل ويعتب على نفسه أن يستميل النساء بعدما شاخ، فالنابغة يستنكر على نفسه الحب بعد شيب قذاله ومفرقه:
علقت بذكر المالكية بعدما ... علاك مشيب في قذال ومفرق4

وفي موضع آخر يكرر هذا العتاب:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع5

وحسان بن ثابت يعجب من تطلعه إلى التصابي بعد التجربة, وبعد الشيب الذي كسا مفرقه:
وكيف لا ينسى التصابي بعدما ... تجاوز رأس الأربعين وجربا
وقد بان ما يأتي من الأمر واكتست ... مفارقه لونا من الشيب مغربا6


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغزل في العصر الجاهلي 114
2 ديوان سلامة بن جندل 26.

1 ديوان النابغة 65.
2 المفضليات 1/ 92.
3 ديوانه.
4 ديوان النابغة 28.
5 ديوان حسان 13.
6 ديوانه 6.
7 ديوانه 28.

1 ديوان النابغة 31.
2 ديوانه.
3 المفضليات 1/ 92.
4 ديوانه 17.
5 ديوان النابغة 29.
6 الأغاني 13/ 6.

1 الأغاني 21/ 91.
2 الأغاني 15/ 195.
3 ديوان النابغة 39. الدهدقة: الضحك الشديد.
4 ديوانه 39.
5 ديوان النابغة 49.
6 ديوان حسان 12.
 
أنواع الغزل:

نعرف أن الشعر الغزلي يصدر إما عن عاطفة الحب والغرام، وإما أن ينبعث بدافع الشهوة والسعي وراء الغريزة، وإما أن يكون غزلا عفويا كالذي يجيء في أوائل القصائد العربية في الجاهلية والإسلام نوعا ما، وهذا الغزل لا يصدر في أغلب أحواله عن عاطفة وإنما سبيله سبيل ما سنراه عند الشعراء الحجازيين من الغزل الكيدي الذي يتخذه الشاعر وسيلة للنيل من خصمه بذكر محارمه في شعره، فالغزل هنا وسيلة لا غاية, والشعر الذي ينبثق غزله من العاطفة هو الغزل العذري والغزل المادي.

الغزل العذري:

أما الحب العذري فهو الحب الذي لا يدنسه الحبيبان بالشهوة ولا تحوم فوقهما طيور المادية، وقد نسب هذا الحب إلى بني عذرة؛ لأن الحب كان يفتك بهم, وكانوا يستعذبون آلام الحب ويستزيدون أحباءهم منها. وهناك اختلاف في نشأة هذا النوع من الغزل؛ فالدكتور طه حسين يراه وليد السياسة الأموية والمستشرق ماسينيون يراه أثرا من آثار أفلاطون في الشعر العربي، ولكن الدكتور الحوفي يؤكد أنه نشأ في العصر الجاهلي1, وأورد على ذلك شواهد هي قصائد مستقلة للحب الخالص لا شيء فيها سوى الغزل؛ منها لقيس بن الحدادية قصيدة غزلية في أربعة وأربعين بيتا, وأخرى لحسان في سبعة عشر بيتا, وهذه القصائد أثر الغزل المادي فيها ضئيل، فنحن نرى للنابغة قصيدة من هذا النوع يتغزل بحبيبته نعم، ويتشوق إلى عهدهما الماضي يوم كانا معا يتناجيان والزمان غافل عنهما, فيتبادلان الأسرار المكتومة والحب الصافي ... وينتقل إلى المرحلة التالية حيث هجرته نعم, فإذا هو يدعو قلبه للإفاقة من سكرة الحب ولكن أنى له ذلك, فقد عذر حبيبته وبكى رحيلها:

وقد أراني ونعما لابثين معا ... والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
أيام تخبرني نعم وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
لولا حبائل من نعم علقت بها ... لأقصر القلب عنها أي إقصار
فإن أفاق فقد طالت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
نبئت نعما على الهجران عاتبة ... سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
رأيت نعما وأصحابي على عجل ... والعيس للبين قد شدت بأكوار
فريع قلبي وكانت نظرة عرضت ... حينا وتوفيق أقدار لأقدار1

والعذريون الحجازيون يصورون عواطفهم وعواطف أحبائهم في أسلوب شبه قصصي كما يفعل شعراء الغزل المادي، فقيس بن الحدادية يورد ما يجيش به خاطره وما تبثه حبيبته في حوار؛ فهو يسألها: متى ترجع؟ فتجيبه بأن البعد لن يقطع ما بينهما من عهد ومودة, وراحت تشكو إليه ما تلقاه من الوشاة الذين يبثون عن حبهما الإشاعات المؤلمة؛ فيعزيها عن ذلك وينصحها بالصبر والكتمان. فتقول: إن السر لن يتسرب منها؛ لأنه دون حجاب ودون الحجاب الأضالع أيضا ... وحين يأتي المنادي بالرحيل يهرع إليها ويخاطر بحياته ليراها ويودعها، فتبثه خوفها عليه وتتعجب من جرأته:
وقلت لها في السر بيني وبينها ... على عجل أيان من سار راجع
فقالت لقاء بعد حول وحجة ... وشحط النوى لا لذي العهد قاطع
وقد يلتقي بعد الشتات أولو النوى ... ويسترجع الحي السحاب اللوامع
سعى بينهم واشٍ بأفلاق برمة ... ليفجع بالإظعان من هو جازع
بكت من حديث بثّه وأشاعه ... ورصعه واشٍ من القوم راصع
بكت عين من أبكاك لايعرف البكا ... ولا تتخالجك الأمور النوازع
فلا يسمعن سري وسرك ثالث ... ألا كل سر جاوز اثنين شائع
وكيف يشيع السر مني ودونه ... حجاب ومن دون الحجاب الأضالع
وما راعني إلا المنادي: ألا اظعنوا ... ولا الرواعي غدوة والقعاقع
فجئت كأني مستضيف وسائل ... لأخبرها كل الذي أنا صانع
فقالت تزحزح ما بنا كبر حاجة ... إليك ولا منا لفقرك راقع
فما زلت تحت الستر حتى كأنني ... من الحر ذو طمرين في البحر كارع
فهزت إلي الراس مني تعجبا ... وعضض مما قد فعلت الأصابع

ومن العذريين الحجازيين الذين قضوا حياتهم يترنمون بحبيبة واحدة, مسافر بن عمرو الذي قضى عليه الحب, فإنه كان يحب هندا بنت عتبة وهي تبادله الحب أيضا, ولكن أبا سفيان تزوجها وأخبر المسافر بذلك وهما في الحيرة عند النعمان؛ فاعتلّ علة شديدة وقال:
ألا إن هندا أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوسا وأسهما

وحاول أطباء الملك علاجه ولكنهم عجزوا، ومات مسافر في طريقه إلى مكة2.


الغزل المادي:

وهو الغزل الحسي الذي أساسه حب تمتزج به ميول شهوانية وعواطف خالية من التحرج وأوصاف ربما لا يرضى عنها إلا أنصار الأدب المكشوف3. والظاهر أنه نشأ في البيئة الحجازية من تأثير الإماء اللواتي كن لا يتحرزن ولا يبالغن في العفة, وكن يأتين إلى الحجاز من طرق شتى، ويكفي أن نعرف أن جوائز الملوك للشعراء تكون من الإماء بعض الأحيان. قال النابغة يمدح النعمان بأنه يبذل الإماء المنعمات في هباته جنبا إلى جنب مع الإبل الغلاظ الشداد:
الواهب المائة المعكاء زينها ... سعدان توضح في أوبارها اللبد
والراكضات ذيول الريط فانقها ... برد الهواجر كالغزلان بالجرد4




1 الغزل في العصر الجاهلي 159.

1 ديوان النابغة 38.

1 الأغاني 13/ 6.
2 الأغاني 8/ 46.
3 الأصول الفنية للأدب, عبد الحميد حسن 74.
4 ديوان النابغة 21.

1 تفسير الطبري 18/ 103.
2 الإصابة 8/ 295.
3 الإصابة 8/ 40.
4 ديوان سحيم 19.

1 ديوان سحيم 60.
2 المفضليات 1/ 81.
3 ديوان سحيم 35.
4 ديوان سحيم 23.
1 الأصمعيات 1/ 23.
2 سيرة ابن هشام 3/ 132.
3 العمدة 2/ 121.

1 Arapic Literature q 20.
2 طبقات الشعراء 81.
1 الأغاني 3/ 12.

1 تاريخ الطبري 3/ 3.
2 الأغاني 3/ 12.
 
أعلى