خولة الفرشيشي - الجسد الأنثوي.. ثقافة إبداع وحياة

قلما حظي الجسد بدراسة كاملة تناولته كموضوع معرفي وذلك لكثرة المحاذير الاجتماعية والدينية والأخلاقية التي لا تزال ترى في الجسد قيمة مادية دونية يتحرج عنها الفرد في الحديث عنه ويترفع ليضمن الاحترام والود من الآخر في مقابل تحركه في الفضاء الاجتماعي بأريحية دون عراقيل ومخاطر لأن موضوع الجسد يعتبر تابوها مغلقا شديد الإحكام مستندين على الأسطورة الدينية أن الجسد مصدره الخطيئة والشهوة التي طردت آدم من الجنة.

هذا بصفة عامة، أما جسد المرأة فقد حظي بأكثر من التحقير والتهميش في ثقافتنا العربية الإسلامية للإرث الديني والاجتماعي الذي يحمله كل منا مما يجعل المرأة تعيش في سجن كبير من المحاذير والموانع التي شيطنت المرأة وقزّمت من مرتبتها لصالح الرجل استنادا على أسطورة طرد ادم من الجنة بإيعاز من حواء ونجد هذا في موروثنا الشعبي التقليدي أن حواء “زريعة إبليس” كونها فتنة ومصدر خراب وفساد في المجتمع وفي المقابل نقف على محاولات جدية ومتجددة على مر العصور لإقصاء المرأة وجسدها من الحياة العامة بغطاء ديني واجتماعي والإرث الذكوري السطوي والاستبدادي الذي يسعى في إزاحة المرأة من الفعل الإجتماعي وتجنب مزاحمة الآخر –الذكر- في الوجود الإبداعي والمبتكر.. ورغم أن المرأة قد أثبتت وجودها بشكل فاعل في العمل وفي شتى المجالات الأخرى.

فلا يمكن فصل الجسد عن ذواتنا وتاريخنا حيث تلازم معهما ولم ينفصل عنهما إلى يومنا هذا لأن الجسد شكل وعاء ثقافيا واجتماعيا أفرغ فيه الإنسان على مر العصور أنماط سلوكه وثقافته.

من ناحية أخرى يجب الإشارة أن لغة الجسد سابقة للغة اللفظ فهو الذي يربط بين الإنسان وعالمه وهو جملة التعبيرات التي تبني وتؤسس العلاقة مع الآخر والجماعة ويمثل كل علاقات وتفاعلات الفرد مع محيطه فلا داعي إلى تجاوز موضوع الجسد تحت أي مسمى من المسميات والسعي إلى تمزيق حاجز الصمت والمنع والبحث في اللامفكر فيه واستنطاقه لمراجعة تأويلاتنا ونظرتنا تجاه الجسد لما يحمله من أبعاد مادية ثقافية أو اجتماعية.

فقد تناولت عديد الأبحاث جسد المرأة في إطار البحث الاجتماعي أو الفلسفي وذلك لترسبات وتراكمات تاريخية تمتد إلى عصور تسبق الإسلام ولما فيه من إغراء معرفي لكسر حاجز المسكوت عنه ومقارعة المحرم الاجتماعي بحجج علمية صرفة .

و لكن لم نجد دراسات تبين أن جسد المرأة في قرانا ومدننا التونسية هو بطاقة عبور لثقافتنا التونسية وهو مخزن ومستودع لثقافتنا المحلية صرح به بصفة علنية على أجساد نسائنا.

فالمهتم بأحوال جسد المرأة يلاحظ حضورا بارزا على مستوى الأدوار وغيابا على مستوى القراءات العلمية والمتعلقة بمضمار حياة المرأة الريفية التي تتحرك في عالم ضيق بالقوة مفتوح بالفعل لأنها تجاوزت كل الحدود ورسمت شخصية مستقلة تتحرك بها وفيها في مجالات مختلفة من الواجبات العملية وصولا إلى الإبداع والفن كالغناء الكافي الذي يعتبر من مقومات الثراث التونسي وأيضا صناعة الفخار والذي يستبطن طاقات فنية هائلة المنتج من نساء الأرياف.

فعلاقة المرأة الريفية بجسدها غير علاقة المرأة بتونس بجسدها فالريفية تطبع تاريخها وتراثها على جسدها وتكتبه بطرق مختلفة ولا تزال تحتفظ به رغم المتغيرات التي حدثت وما تزال تحدث بواقعنا المعيش.

فعلى جسدها نجد الوشم والحناء والكحل وكل لوازم الزينة التي تحتفل بها كما نجدها في الأعراس والمأتم في صورة أخرى غير صورتها في العمل فجسدها لغة ثانية تحكي الحياة في ذاك المجتمع والتمثلات الجماعية فالمرأة في الريف ليست بإمرأة بيت وأم أطفال فقط بل هي أيضا عاملة في مواسم جني الزيتون ومواسم الحصاد لها ثقافتها الخاصة وتمظهراتها الثقافية تختلف عن باقي نساء المدن الأخرى وجسدها ليس هذا الجسد الذي سبق أن تحدث عنه بالسوء في مخيالنا التراثي بكونه جسد فتنة يثير الشهوات بل هو جسد ينتج خبزا وحياة وفنا وإبداعا ..
 
أعلى