آمـال قرامي - مساءلة الجسد الأنثوي في التفكير

كم نتمنّى أن لا تخصّ المرأة العربية بمحور بحث خاصّ في الندوات التي تقام هنا وهناك أو في الأركان القارّة في عدد من المجلات والدوريات أو حتى في مواقع شبكات الإنترنيت. ولكن يبدو أنّنا لم نصل بعد إلى مرحلة التفكير في قضايا الإنسان عموما، أي الشخص البشري بقطع النظر عن جنسه أو عرقه أو لونه أو دينه. ففي حين يكون الرجل ذاتا، تبقى المرأة موضوعا يستدعي منّا مزيد التمحيص والمعالجة المعمّقة، نظرا إلى تدني منزلتها في المجتمعات العربية المعاصرة. وبينما تتوسّع دائرة الاجتهاد في إشكاليات مختلفة تخصّ التفكير الإسلامي، يظلّ "فقه النساء" مشدودا إلى قضايا تقليدية مثل تعدّد الزوجات، الحجاب، الخروج إلى العمل، وغيرها من المواضيع التي مازالت تؤثر في حياة المرأة وفي منزلتها.


ولئن حاول بعضهم طرح إشكاليات جديدة معبّرة عن الواقع المتغيّر فإنّ هذه المحاولات تبقى عملا فرديا. وهي بمثابة آراء غير خاضعة لخطة عمل منظّمة كما أنّها مبثوثة في عدد من المؤلفات، منها ما يتعلّق بالفكر الإسلامي، ومنها ما له صلة بالدراسات التشريعية القانونية، ومنها ما له ارتباط بالدراسات النسائية أو الدراسات الجندرية. وبناء على ذلك فإنّ ممارسة فكر نقدي متعلّق بقضايا المرأة لم يؤد إلى ظهور حقل معرفي مخصوص مثلما هو الشأن بالنسبة إلى واقع المعرفة في الغرب إذ ظهر مبحث المرأة والدين women and Religion أو الجندر والدين Gender and Religion. بيد أنّ هذه المجالات لم تتهيأ بعد الأرضية الملائمة لظهورها في المجتمعات العربية أو الإسلامية المعاصرة. ومن ثمّة فإنّ الباحث مدعو إلى الاطلاع على أكثر من دراسة ومؤلف لاستقراء التطور الحاصل في مجال الاجتهاد من أجل النهوض بوضع المرأة العربية.


كم نتمنّى أيضا أن يتطرّق جميع الباحثين إلى مواضيع تشغل الضمير الجمعي دون حرج أو خجل أو خوف أو لجوء إلى فرض الرقابة على الذات. فإذا بهم ينتقون المواضيع وفق معياري "السلامة" و"راحة البال" المزعومة ويتحاشون إثارة مسائل لها علاقة بالنسوان. إنّ الباحث المهتم بالقضايا النسائية، سواء انتمى إلى الثقافة العربية أو الغربية، مازال ينظر إليه على أنّه باحث من درجة" ثانية" وذلك بسبب خضوع المعرفة للجندرة (التمييز بين الجنسين الناجم عن التشكيل الاجتماعي الثقافي للفرد). فكما هو معلوم هناك تصنيف لحقول معرفية على أساس الجنس: مواضيع يتطرّق لها الرجال، وهي شريفة كالفلسفة وعلم الكلام وعلم الحديث وغيرها. وفي المقابل، هناك مواضيع تخصّ النسوان وينظر إلى المنشغلين بها نظرة استنقاص. ولعلّ هذا الأمر جعل النساء من أكثر الدارسين اهتماما بمعالجة القضايا النسائية. فمن باب أولى أن تفكّر الباحثة في قضايا "بنات جنسها"، سواء كانت منتمية إلى الفكر المحافظ أو التيار الإسلامي المتشدّد أو التيار العلماني الليبرالي أو النسوية أو غيرها من الأيديولوجيات.


لقد آثرنا أن نتطرّق إلى موضوع ما زال يحرج الضمير الجمعي الإسلامي: "مساءلة الجسد الأنثوي في التفكير الإسلامي". ولم يكن سبب اهتمامنا بهذا الموضوع راجعا إلى الوفاء للجنس الذي ننتمي إليه. فالباحث من المفروض أنّه حيادي لا يربط بين موضوع البحث وهويته الجنسية، ولكن عقدنا العزم على طرح إشكالية مازالت تتطلّب الحفر والتنقيب والتحليل المستفيض والاستقراء. ذلك أنّ الجسد يشكّل محور هوية المرأة، بل محور هوية الأمّة. وانطلاقا من ذلك يعدّ الجسد أداة المقاربة الأساسية للمرأة. وعلاوة على ذلك يعتبر الخوض في هذا الموضوع أساسيا لانضوائه تحت قضية الإصلاح المطروحة اليوم بشدّة على الضمير الجمعي العربي الإسلامي، ولاسيما العالمي. فلا خلاص للمجتمعات العربية المعاصرة دون معالجة وضع المرأة.


إنّ الناظر في كتب التراث يتبين أنّ الحديث عن جسم المرأة هو حديث حول التغييرات البيولوجية لهذا الجسد الأنثوي(حالات الحيض، الإخصاب،المرض،...). والكتابة حول هذا الموضوع كتابة وصفية ترسم حدود المسموح به والممنوع حتى يغدو الجسد جسدا خاضعا لمنظومة قيمية محددة، أي جسدا منضبطا. وفي مقابل ذلك لا يحضر الجسد الذكوري بنفس درجة حضور الجسد الأنثوي ولا يخضع لنفس التقنين. وهو أمر لا يخصّ الإسلام وحده إذ نجد ما يماثله في اليهودية والمسيحية.[*]


ذاك هو فقه النساء: حديث الرجال حول جسد مهيأ لأن يكون مادة استثمار داخل مؤسسة الزواج. لقد كان العالِم صاحب خطاب ومنتج نصّ، مدار النظر فيه المرأة. وحتى الآراء التي وصلتنا بخصوص موقف المرأة من الأحكام التي حدّدت علاقتها بالآخرين، آراء محدودة لا تؤسس لتفكير معمّق حول مكانة المرأة في المجتمع أو موقفها من النصوص التي تضبط علاقتها بجسدها. فهل نحن إزاء تهميش أم تعتيم أم تصميت؟ لا غرابة في ذلك مادامت الكتابة فعلا ذكوريا ومادام التاريخ تاريخ الرجال.


إنّ هذا الغياب يشرّع اليوم لظهور دراسات خاصّة بتاريخ النساء، هدفها الرئيسي تجميع الآراء المتفرّقة في كتب التراث وإعادة بناء تصوّر حول مدى مساهمة المرأة في حركة إنتاج المعرفة، وخاصّة في مجال الاجتهاد. ثمّ إنّ هذا الغياب يحفز عددا قليلا من الدارسات على التوجّه نحو اختصاص التيولوجيا النسوية أو النسائية[†]feminist theology La theologie feminine,


ما من شكّ أنّ التحولات التي شهدتها المجتمعات العربية، إن كان ذلك على مستوى نمط العيش أو أشكال التواصل أو نمط المعرفة القائم على استثمار ما أفرزته الحداثة من قيم قد أجبر الإصلاحيين على النظر في منزلة المرأة ومن ثمة طرحت قضية التعليم وقضية العمل وحق المرأة في الخروج وغيرها من القضايا بيد أنّ الاهتمام بعلاقة المرأة بجسدها ظل محتشما ومحدودا وفي كثير من الحالات، محرجا نظرا إلى ارتباط الجسد الأنثوي بالجنسانية.


لقد أفرزت حركات ما بعد الحداثة نقاشا وحركية في العلوم الإنسانية من فلسفة وأدب وأنتربولوجيا وغيرها، أدّى إلى تغيير البنى التقليدية في المجتمع والأفكار. بيد أنّ خلخلة البنى القديمة والمرجعيات لم يحدث بنفس الدرجة في البلدان العربية.


ويعزى الفضل في الاهتمام بهذه المسألة إلى الحركات النسوية التي برزت في عدد من البلدان العربية. إذ أدّت هذه الحركات إلى تفطن المرأة العربية إلى غياب تقاليد إصلاحية بخصوص التفكير في علاقة المرأة بجسدها في التراث الفقهي من جهة، وإلى وعي النساء بمدى تأثير التصوّر الذكوري للجسد الأنثوي في تدنّي منزلة المرأة. ولذلك نهضت مجموعة من النساء بعبء إعادة النظر في المنظومة الفقهية وتشكيل وعي جديد لدى المرأة، يحفزها على التفكير في طبيعة العلاقة التي تربطها بجسدها. فبينما لا تحصر شخصية الرجل في ذكورته بالمعنى البيولوجي، تختزل في المقابل شخصية المرأة في أنوثتها ويتمّ تغييب المرأة عن البعد الاجتماعي في مقابل تضخيم البعد الجنساني ويترتب عن ذلك هشاشة الموقع الاجتماعي للمرأة وتهميش تاريخي لأدوارها المتعددة.


ولعلّه يجوز الحديث عن مدرسة نسائية ضمّت مفكّرات أخذن على عاتقهن إعادة قراءة النصوص الدينية وتحليلها وبادرن بإثارة قضايا تشغلهن كاختزال الصفة الإنسانية للمرأة في أنوثتها ورفض مطابقة الحاضر بالماضي التي هي، في الواقع، امتثال سلبي للماضي.


ولمّا كان المجال لا يسمح بالخوض في كافة أوجه هذه العلاقة وفي طبيعة الإشكاليات المتصلة بها فقد آثرنا التوقف عند بعضها من ذلك:


1ـ حقّ المرأة في التصرّف في جسدها

لمّا كان الوعي الجديد بضرورة تطوير المنظومة الفقهية قد صدر من خارج المؤسسة الدينية ومن قبل شخصيات فكرية ذات توجهات أيديولوجية متعددة، فقد أمكن طرح أسئلة جديدة ترتبط بمفهوم الجسد المنتج، أي المكلّف بالإنجاب. فهل بمقدور المرأة تنظيم الولادات وتحديد النسل واتخاذ قرار الإجهاض أم إنّها ليست مخيّرة في التحكّم في جسدها وفي وظيفتها الإنجابية ويبقى القرار النهائي بيد الزوج باعتباره الناكح والمرأة منكوحة وهو مالك "البضع" وهي مطالبة بـ"تسليمه" له.


لقد عمدت عدد من الباحثات إلى الخوض في موضوع حقّ المرأة في المتعة وحقّها في المطالبة برفع الضيم الذي يلحقها نتيجة استهتار الزوج بحقّها أو غيابه. فما أكثر النساء اللواتي يعشن الكبت الجنسي بسبب فقدان الأزواج أو غيابهم في بلاد المهجر أو غياهب السجون ولا حلّ لهؤلاء، حسب رجال الدين والدعاة، سوى الصبر والاستعانة بالدين بالإكثار من الصلاة والصوم لحفظ الأعراض.


وبالإضافة إلى ذلك لم تتوان عدد من الدارسات عن إثارة موضوع الجسد الأنثوي المستمتِع لا داخل مؤسسة الزواج، فقط بل خارجه. فتمّ كسر جدار الصمت وظهر التنديد بالرياء الاجتماعي والنفاق وتمّ الكشف عن الأساليب التي تلجأ إليها المرأة للهروب من الضغوط النفسية والمراقبة والعقاب العائلي في ظلّ مجتمع قدّس العذرية وأثّم الجسد الأنثوي. من ذلك سعي عدد من الفتيات إلى إجراء عمليات إعادة غشاء البكارة لا امتثالا للقوانين الأخلاقية والقيم الدينية التي لا تنص على الحاجة لفحص عذرية المرأة بل خوفا من جرائم الشرف. ففي المجتمعات العربية ذات البنية البطريكية يُلزم الرجالُ النساءَ بالعفّة في مرحلة ما قبل الزواج وبعدها، ويطالبنهنّ بإثبات عذريتهن بينما يتغاضى المجتمع عن عفّة الرجال. فممارسة الجنسانية من مقتضيات الفحولة وإبراز "القوامة" أمّا ممارسة المرأة للجنسانية فهي علامة على فساد الدين والأخلاق.


2ـ الطاعة في الفراش أم الشراكة في المتعة ؟

لئن ألحّت كتب التراث على ضرورة تدبير الجسد الأنثوي حتى يكون جسدا مسخّرا لإرضاء الطلبات الجنسية للبعل، فإنّ المنضوين تحت قيم الحداثة، حاولوا التنبيه إلى دور التنشئة الاجتماعية في ترسيخ مقولة" الجسد الوليمة" والنتائج المترتبة عن ذلك كتهميش حاجة المرأة إلى الإشباع الجنسي وإذعانها للرجل أداء للواجب وخوفا من العقاب المسلّط على الناشز. وهو أمر يولّد ظاهرة الرياء الزوجي في ظلّ مجتمع يحكمه التراتب الجنسي والطبقي والمذهبي والديني. ومن ثمّة تجاوز أنصار الحداثة الطرح التقليدي الذي يلحّ على ضرورة طاعة المرأة في الفراش باعتبارها مملوكا للزوج لا تتصرّف في نفسها وتقدّم حقّه على حقّها، إلى التأكيد على مفهوم الشراكة في المتعة بعيدا عن هيمنة الزوج وتسلّطه على المرأة متوخيا في ذلك كافة أشكال العنف للوصول إلى اللذّة. كما أن هؤلاء نبّهوا إلى خطورة وضع المرأة التي تحمل جسدا وتجهل تضاريسه ومواضع اللذّة فيه معتقدة أنّ طاعة الزوج جنسانيا هي جواز العبور إلى الجنّة وهي علامة على لممارسة الدين على أفضل وجه.


بيد أنّ هيمنة الثقافة الذكورية واستمرارية النسق المهيمن في العلاقات القائم على الطاعة والخضوع، جعل المرأة في كثير من الحالات، عاجزة عن إثارة هذا الموضوع وراضية بالنزر ذلك أنّ المنظومة الأخلاقية تصادر حقّ المرأة في المطالبة بالمتعة.


3ـ الجسد المستباح والكرامة الإنسانية

لم تول كتب الفقه أو الفتاوى أو النوازل أهميّة كبرى لظاهرة العنف المسلّط على المرأة وهو عنف لفظي وعنف مادي( جرائم الشرف والتأديب والخفاض...) وعنف رمزي. أمّا المحدثون فقد انكبوا على دراسة هذه الظاهرة وتفكيك مختلف البنى التي تقف وراء العنف، كما أنّهم عملوا على التنبيه إلى مختلف المؤسسات التي تعضد القهر. فانتقدوا "حقّ الرجل في تأديب زوجته بالضرب" مشيرين إلى ضرورة إقامة العلاقة الزوجية على قيم المودة والمحبّة والمعاشرة الحسنة لا علاقة الابتزاز والنفاق وهدر كرامة المرأة بتبرير حقّ الرجل في الضرب والتأديب لضمان الطاعة وسدّ المنافذ أمام النشوز. وكأنّ واجب المرأة الوحيد طاعة الزوج في الفراش وتجنّب كلّ تصرّف حرّ في جسدها فهذا الجسد لا يعترف بوجوده إلاّ إذا كان جسدا منضبطا راضخا لإرادة الآخر. وما من شكّ أنّ العنف المسلّط على الزوجة يوظّف لتكريس تفوّق الرجل على المرأة وامتيازه بجملة من الحقوق من ذلك حقّ الرغبة. إذ لا معنى لتواصل جرائم الشرف إلاّ رفض المجتمع الذكوري أن تكون المرأة صاحبة رغبة ذاتية، أي أن يكون لها شوق ذلك أنّ الشوق عنوان التحرّر من كلّ أشكال السلطة المفروضة والعبور إلى الاستقلال. أمّا تواصل عمليات الخفاض بحجّة الحفاظ على العفّة فلا معنى له سوى تعمّد خصاء الجسد الأنثوي وهدر كيانها بتحويلها إلى أداة لمتعة الزوج وحده.


وبيّن أنّ حشر المرأة في فضاء الجنسانية التي تعكس هوامات المجتمع، أفضى إلى إقامة علاقة لا متوازنة: طرف ضعيف مسلوب الإرادة يُعامل بعقلية تأديبية لأنّه يمثّل الفتنة ومصدر الريبة لضعف العقل والعجز عن السيطرة على الغرائز، في مقابل حرّية أكبر تمنح للرجل فله أن يستبدل الأجساد ويعدّد النساء ويطلّق.


4 ـ الجسد الحامل لعلامة

لئن اتفق أنصار الحداثة والمحافظون على إثارة قضية تشييء جسد المرأة في مجتمع الاستهلاك فانتقدوا بشدّة الإعلام البصري الذي يقدّم الجسد الأنثوي باعتباره سلعة معروضة تغري الناظر، فإنّ هؤلاء اختلفوا في المنطلقات والأهداف. فبينما كان مقصد المحافظين حماية الأخلاق ودعوة المسلم إلى مقاطعة "الكليبات" المثيرة للغرائز، فإنّ المحدثين لم يتناولوا هذه الظاهرة من منظور التحريم والتجريم، بل من زاوية تكريم الجسد الأنثوي والارتقاء به من وضع الشيء أو البضاعة إلى وضع، يحفظ كرامته وينزّهه عن عمليات الاستغلال والتوظيف. وبالإضافة إلى ذلك سعى المحدثون إلى التنديد بخطاب المتشدّدين القائم على اعتبار المرأة رمز الهوية. وفق هذا الإطار بقيت التشريعات المعاصرة مرتبطة بالفقه القديم غير قادرة على مراعاة متطلبات الواقع. فزواج المسلمة بغير المسلم لا ينظر إليه إلاّ من زاوية هيمنة الثقافة الغربية على الثقافة الإسلامية أو من خلال حرب الهويات أو سيادة جسد الآخر على جسد المسلمة ذلك أن مفهوم الزواج عقد للتلذّذ بآدمية. ولا غضاضة أن يقدّم جسد المسلمة للاستهلاك المحلي. أمّا إذا نخرط في علاقة مع الأجنبي فإنّه جسد ملفوظ خارج الأمة.


لقد عمل أنصار الحداثة على دعوة المشرّع إلى مراقبة الجهاز اللغوي المعتمد في النصوص التشريعية مثل النكاح، النشوز، تسليم النفس والوطء وغيرها. فهذه الكلمات تخدش كرامة المرأة ولا تتماشى مع القيم الواردة في منظومة حقوق الإنسان كما أنّ هؤلاء سعوا إلى التنديد بما تعرضه الفضائيات من برامج غايتها دعوة المرأة إلى حجب جسدها باعتباره عورة وهدفها الرئيسي تأثيم الجسد الأنثوي. إذ لا يخفى أنّ جسد المرأة في هذا الخطاب الأخلاقي الوعظي هو حامل لعلامة ظاهرية دالة على الهوية في زمن الانكسار. والمرأة المسلمة يجب أن تهب جسدها للأمّة حتى ترسم عليه آمالها وهواماتها باعتبار أنّ المرأة مكلّفة بهذه الرمزية وتجد قيمتها ليس في كيانها الذاتي ومن مرجعيتها الداخلية إنّما من القيمة التي تسبغ على وظائفها وأدوارها. ولكن إلى متى يختزل كيانها في وظائف ودلالات تخدم الآخرين ولا تخدمها؟



خاتمة

نخلص بعد عرضنا لعدد من القضايا التي طرحت حول علاقة المرأة بجسدها في المجتمعات العربية المعاصرة إلى مجموعة من الاستنتاجات نجمعها في الآتي:


1ـ إنّ مساءلة الجسد في المجتمع التأديبي تدفعنا إلى معرفة منظومة الأخلاق السائدة. فتاريخ الأخلاق هو تاريخ بناء الجسد وطرق تشكيله مثلما أشار إلى ذلك أقطاب الفكر الحديث. كما أنّ مساءلة هذا الجسد، تقتضي الانتباه إلى المفاهيم الدينية الثقافية المسيطرة على تطوير مكانة المرأة. فهي مفاهيم بعيدة عن الحياد الذي تدعيه لأنّها صيغت قي سياق هيمنة الرجل على المرأة كما أنّ هذا الحياد المزعوم لا وجود له البتة إذ أنّ كلّ شكل للمعرفة يتأتى من علاقة سلطة وهيمنة.


2ـ لقد بنى الفقهاء أحكامهم انطلاقا ممّا طالبوا به جسد المرأة من وظائف منها، التمييز بين الجنسين وتجسيد التراتبية الهرمية وترسيخ المنظومة القيمية. وسار عدد كبير من المعاصرين على نفس الخطى إذ طالبوا الجسد الأنثوي أن يكون علَما على الهوية ورمز مقاومة هيمنة الثقافة الغربية. ولكن متى تخرج المرأة من وضع الاستلاب إلى وضع الوعي بهذا الجسد ومتى تستعيد جسدها لتفصح عن ذاتها وكينونتها؟


3ـ تتطلّب الممارسة النقدية التحليلية جرأة كبرى وقدرة على فكّ التداخل بين الظواهر المتلازمة لا اجترار المواقف القديمة. ويحتاج هذا النمط من التفكير إلى التحرّر من المرجعيات الثابتة والتمثلات الاجتماعية والبنى الذهنية السائدة. ولئن كانت الممارسة الفكرية النقدية لعدد من القضايا الاجتهادية قد استطاعت أن تتحرّر من أسر المرجعيات القديمة، فإنّ قضية المرأة ظلّت رهينة البنى الفكرية التقليدية التي حالت دون تجديد الفكر الإسلامي. فردّ المجتمعات العربية على انتشار القيم الحديثة وهيمنة الثقافية الغربية والعولمة، تجلّى في الارتداد إلى الوراء والتشبث بالموروث. كما أنّه أفرز ردود فعل مضادة. ولعلّ ظاهرة البرامج التلفزية للدعاة والعلماء في الفضائيات، علامة على اكتساح هذا التوجّه، إذ صار هؤلاء الدعاة منبع الحقيقة ومصدر الصدق بالنسبة إلى شرائح اجتماعية كثيرة. ولا يخفى أنّ انتشار هذه الظاهرة دليل على فراغ في الفضاء الثقافي الفكري المعاصر وعلامة على هشاشة التحديث إذ تعطلّ مبدأ المساواة وصارت القضية الرئيسية تحجيب النساء، ومصادرة الجسد الأنثوي. فهذه المسائل تغذّي المتخيّل وتسمح للمهزوم والمقهور بالتفريج عن الذات باعتبار أنّ المهيمن عليه تحوّل إلى مهيمن.


4 ـ لا بدّ من الإقرار بأنّ الاجتهاد في القضايا المتصلة بعلاقة المرأة بجسدها ووعيها بحقوقها، مازال محدودا. وترجع صعوبة التعمّق في هذا المبحث إلى عدم اعتبار مثل هذه المواضيع من ضمن الأولويات المطروحة على الضمير الجمعي لصلة الجسد الأنثوي بالجنسانية. كما أنّ وضع المرأة ما زال ينظر إليه على أنّه من الركائز الأساسية لنظام الاعتقاد. فيصبح تطبيق الأحكام المتعلّقة بالأحوال الشخصية من علامات رسوخ العقيدة ويكون التخلي عنها واستبدالها بقوانين حديثة من دلائل الكفر. وهذا ما يفسّر عسر تطوير مدونات الأحوال الشخصية ورسوخ الخطاب التقليدي في التاريخ. وهو أمر يستدعي تناولا نقديا لنصوص التراث وإقامة علاقة معرفية جديدة معها للكشف عن آليات اشتغال هذه النصوص ومدى قدرتها على إنتاج المعنى وتزويد المتخيّل بعناصر جديدة وإقرار حقيقة ما.


أمّا قلّة عدد النسوة المنشغلات بالشأن الديني فإنّها مسألة راجعة، في اعتقادنا، إلى العوائق التي تواجهها المرأة التي تخترق مثل هذه الميادين التي ظلّت لفترات تاريخية طويلة حكرا على الرجال، كما أنّ لهذا الغياب صلة بقضية المواجهات العنيفة مع التيارات الإسلامية. فمن تجرّأت على إثارة قضايا تتصل بالجسد تقدّم نفسها" كبش فداء". وعديدة هي حالات الاعتداء على شرف الكاتبات المدافعات عن حقّ المرأة في التصرّف في جسدها عبر المجلات أو عبر شبكات الإنترنيت وعبر غيرها من قنوات بث المعرفة. فنحن إزاء عنف لفظي وآخر رمزي و حالات من التكفير. وما من شكّ أنّ الضغوط النفسية الممارسة على المرأة تدفع عددا كثيرا من الباحثات إلى الصمت أو إلى اختيار مواضيع ذات صلة بالمباحث التقليدية كالنفقة والطلاق وتعدّد الزواج والشهادة والإرث والجهاد وتجنّب التطرّق إلى موضوع جسد المرأة. وهنا نلاحظ هوّة سحيقة بين المواضيع المتداولة وما يفرزه واقع الحياة اليومية من ظواهر تتطلّب الخوض فيها والتحليل والتمحيص من ذلك جنسانية المرأة العانس والجسد المعروض للفرجة أو الاستهلاك والسحاق وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج والممارسات الجنسانية الجديدة لدى شرائح مختلفة من المجتمع بعد ظهور مواقع الأنترانت الخاصة بالأيروطيقيا أو الفضائيات المتخصصة في "البورنونغرافيا" والسلوك الجديد الذي بدأ ينتشر بين صفوف عدد من الرجال من ذلك تعمّد بعض الأزواج إذلال الزوجة وتعييرها بأنّها لا تملك جسدا أنثويا يثير الغلمة فهي عاجزة عن الاضطلاع بدور المرأة الفتنة لجهلها التام بدور الملابس والألوان وأنواع الأنسجة والعطور والأدوات المساعدة على الإثارة كالرقص وغيرها واكتفائها بالتمدّد على الفراش وانتظار الزوج حتى يكون هو الفاعل.


وهكذا حالت ثقافة الحجب، وهو حجب يتعدّى حجب الشعر ومعالم الجسد إلى حجب حضور المرأة باعتبارها طرفا فاعلا وشريكا، دون التحرّر من سطوة الماضي والانخراط في التفاعل الحقيقي مع الحاضر، كما أنّها أفضت إلى تقديم قراءة هشّة للإسلام تقوم على فهم تقليدي ضيّق يُعنى بالطقوس واستمرارية التمايز بين الجنسين وبذلك حجبت فعالية العقل المجتهد.


5ـ إنّ قمع الجسد الأنثوي والتفنّن في وسائل تجريمه وتأثيم أفعاله ورغباته، ينتج نماذج غير سوية من البشر يتعذّر عليهم أن يكونوا مبدعين. فهدر الرغبة وفرض القيود على الجسد يلتقي مع قمع الفكر وهدر الطاقات. فلا سبيل بعد ذلك إلى بناء الإنسان في المجتمعات التي تمارس القمع والتسلّط والهيمنة والرقابة على الأرواح والأجساد والأفكار.


6ـ من الواضح أنّ وضع تجديد الفكر الإسلامي الخاصّ بقضية المرأة، لا يختلف عن وضع غيره. فمنزلة المرأة في التراث الديني التوحيدي متشابهة. وهناك قواسم مشتركة تكشف عن هيمنة النمط الذكوري في المعرفة وفي الاقتصاد والسياسة والدين. ويبدو أنّه يصعب على الفكر التوحيدي تثوير النصوص من الداخل. فقد ظهرت دراسة الإنجيل على يد ممثلات الحركة النسوية اللواتي اعتمدن الهرومنيوطيقا، (التي هي في الأصل منهج لتفسير الكتاب المقدس) منهجا لتفكيك نصوص الإنجيل. ويؤكد اللاهوت النسوي أنّ الخطاب اللاهوتي التقليدي محكوم بالذكورية التي حكمت عليه بالانحياز ومن ثمّة فإنّه يريد أن يكون لاهوتا أكثر توازنا. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود لاهوت نسوي في السجال الدائر بين الكاثوليك والبروتستانت ولاهوت نسوي يهودي. وعلاوة على ما سبق ظهرت دراسات التصوّف النسوي التي تبرز الخصائص المميّزة للخبرة الصوفية النسوية.


وهكذا يمكن القول إنّ تطوير وضع المرأة في الفكر الديني التوحيدي لم يكن نتيجة ممارسة اجتهادية أنجزها رجال الدين من داخل المرجعية الدينية، وإنّما كان فعل مراجعة من خارج المؤسسة الدينية، نهض به المؤمنون بقيم الحداثة والنسويات[‡] والمنشغلات والمنشغلون بالدراسات النسائية على حدّ سواء.


نخلص إلى القول إنّه لكي يكون للمرأة قول خاصّ بشأن علاقتها بجسدها عليها أوّلا أن تمتلك هذا الجسد وأن تتخلّص من حالة الارتهان إلى الأب والأخ والزوج والعشيرة والأمّة، وثانيا عليها أن تعرف جسدها حتى يكون التعبير بواسطته بمثابة قول جديد ومختلف. إنّ إنتاج هذا الخطاب يتطلّب وقتا طويلا حتى يتبلور ويصبح فاعلا ، بعدها يمكن الحديث عن تقاليد إصلاحية بشأن تطوير مكانة المرأة.


* جامعية تونسية







Florence Heymann et Danielle Storper Perez,Le Rabbin,le médecin et le corps des femmes :la juste[*] distance,in Sous La direction de Florence Heymann et Danielle Storper Perez, Le Corps Du Texte :pour une anthropologie des textes de la tradition juive,CNRS Edition,Paris,1997,p179-181 .

Loades,A.(ed) (1990) Feminist Theology :A Reader,London :SPCK. [†]

وهناك اختلاف واضح بين الدراسات التي أنجزتها النسويات في بيئة انفصلت فيها الدولة عن الدين والبحوث التي نهضت بعا فئة من النسويات العربيات في مجتمعات للدين فيها دور كبير. فالحركة النسوية العربية لم يكن بوسعها تجنب الحديث عن النصوص الدينية وتفسيرها وبيان مدى تأثيرها في العقليات .

[‡] Hampson, D. (1990) Christianity and Feminism, Oxford :Blackwell; Stanton, E.C. (1985) The Woman ‘s




صورة مفقودة
 
أعلى