أنور محمود زناتي - ابن حزم.. الرائد الأول لحقوق المرأة.. أعطاها حقها وحملها المسؤولية

إنه ابن حَزْم [1] (384 - 456هـ / 994 - 1063م) الفقيه الظاهري، والشاعر، والأديب، ودارس الملل والنحل، مناهض الرِّقِّ والعبودية، ونصير المرأة [2] "كان أبو محمد ابن حزم حامل فنون؛ من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة"[3].


لعبت كتابات ابن حزم دورًا كبيرًا في تحسين مكانة المرأة في الأندلس، ويكفي أن نلقي نظرة على كتاب "طوق الحمامة" لنجد ابن حزم ينادي بتحرير المرأة، واحترام حرياتها[4]، ويقص علينا الكثير من أسرارها دون حرج أو إنكار، ودون أن يلاحقها بالسب واللعن، كما حدث من جانب بعض الفقهاء والمتشددين.


اهتم ابن حزم بالمرأة في كل دراساته، وأعطاها حقها في الهيئة الاجتماعية، وساواها بالرجل مساواة تامة في الحقوق الإنسانية[5]، وقد فسر ابن حزم قوله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 34] بأنها قوامة لا علاقة لها بالحقوق والطبيعة الإنسانية، أو القدرة على تصريف الأمور، ولو كانت قوامته (أي الرجل) بهذا المعنى للزم أن يكون كل رجل أفضل من كل امرأة، وهذا - في نظر ابن حزم - لا يستقيم في لغة العقل، وفي نظره أن المرأة هي التي تعلم الأطفال..تعلمهم القرآن والحديث والشعر والخط، ومن الطبيعي أن يبدي الطفل اهتمامه بالمرأة في سن مبكرة، فإذا أصبح شابًّا رأى اهتمام الكبار بالشعر والغزل والمغامرات..ورأى عددًا كبيرًا من النساء في بيته وفي بيت غيره من الكبراء والأثرياء..وكان ابن حزم واحدًا منهم، ويرى البعض أن تربية ابن حزم على يد النساء وظروف نشأته التي تميزت بالرخاء أثرت على إنتاجه؛ فأصبحت صورة المرأة عنده إيجابية[6].


ناقش ابن حزم آراء الفقهاء الذين لم يقدروا المرأة قدرها قائلًا: "وجائز أن تلي المرأة الحكم، وهو قول أبي حنيفة - وقد روي عن عمر أنه ولى "الشِّفَاءَ" امرأة من قومه - محتسبة في السوق، فإن قيل: قد قال رسول الله: ((لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة))، قلنا: إنما قال ذلك رسول الله في الأمر العام الذي هو الخلافة، برهان ذلك قوله: ((المرأة راعية على مال زوجها، وهي المسؤولة عن رعيتها))، وقد أجاز المالكية أن تكون وصية ووكيلة، ولم يأتِ نص في منعها أن تلي بعض الأمور"[7].


أجاز ابن حزم أن تتولى المرأة وظيفة لها خطرها وجلالها العظيم، وهي وظيفة القضاء[8]، وقد منعها أكثر الفقهاء من ذلك، ويؤكد ابن حزم على مساواة المرأة بالرجل - في حدود تخصصها؛ فالجهاد على المرأة ندب ولا نهي عنه، وجهادها الحج، والنفار للتفقه في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليها كوجوبه على الرجال، وفرض عليها التفقه في كل ما يخصها، كما أن ذلك فرض على الرجال، وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة، والصلاة، والصوم، وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس، وغير ذلك كالرجال ولا فرق،ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها، وقد كان ذلك؛ فهؤلاء أزواج النبي وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين، وقامت الحجة بنقلهن، ولا خلاف بين أصحابنا وجميع نحلتنا في ذلك" [9].


أعطى ابن حزم للمرأة كل حقوقها، بل وكل حق يمكن أن يعطيه لها أي فقيه آخر بمن فيهم أبو حنيفة - رضي الله عنه، وفي المقابل حملها مسؤوليتها كاملة تجاه الرجل،ويمنع ابن حزم التفريق بين الزوج وزوجه إذا لم ينفق عليها، بل إنه فوق هذا يوجب عليها الإنفاق إذا كان معسرًا وعجز عن الكسب، وهي غنية ذات مال، ففي هذه الحالة تجب نفقته عليها؛ وذلك لأنها وارثة، وبمقتضى ظاهر النص في قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 233] عند الكلام على النفقة، وهي وارثة، فتجب عليها نفقته إذا عجز عن الكسب[10]،وفي ذلك يقول ابن حزم: "فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية، كلفت النفقة عليه، ولا ترجع عليه بشيء من ذلك إذا أيسر"، وأجاز المذهب الظاهري في الزكاة أن: "تعطي المرأة زوجها من زكاتها"[11].


لا يريد ابن حزم للمال أن يكون هو الرابطة الوحيدة التي تربط بين الزوجين، بل يرى أن الزواج رباط مقدس، لا تؤثر فيه تقلبات الأيام، عُسرًا ويُسرًا، فإنه إذا أعسر الزوج - لأي سبب - أنفقت عليه زوجه، حفاظًا على الرباط بينهما، وردًّا لفعله معها أيام أن كان الزوج غنيًّا يكفي حاجات امرأته وينفق عليها من ماله، إنها يجب - في هذه الحالة - أن تتحمل مسؤوليتها أمام من كان يتحمل مسؤوليتها وحالت ظروفه دون إتمام رسالته[12].


وكما دافع ابن حزم عن المرأة وأعطاها حقوقها الشرعية كاملة، دافع عنها أيضًا - كأنثى - اجتماعيًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا، ولم يظلم ابن حزم المرأة ويحملها المسؤولية الاجتماعية عند الخطأ وحدها، أو ينتظر منها فوق طاقتها، بل إنه يحدد معنى الصلاح لدى المرأة والرجل على السواء، فيقول: ولست أبعد أن يكون الصلاح في الرجال والنساء موجودًا، وأعوذ بالله أن أظن غير هذا، وإني رأيت الناس يغلطون في معنى هذه الكلمة، أعني الصلاح، غلطًا بعيدًا، والصحيح في حقيقة تفسيرها أن الصالحة من النساء هي التي إذا ضُبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع أمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضُبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهِّل الفواحش تحيَّلت في أن تتوصل إليها بضروب من الحيل، وأما امرأة مهملة ورجل متعرض فقد هلكا وتلفا"[13].


نقد ابن حزم أيضًا آراء الذين يطالبون الوفاء من المرأة وحدها دون الرجل، ويلومون المرأة إذا سقطت، ولا يلومون - بنفس الدرجة - الرجل، مع أن الله تعالى ساوى - في العقوبة - بين الزانية والزاني: "وإني لأسمع كثيرًا ممن يقول: الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء، فأطيل العجب من ذلك، وإن لي قولًا لا أحول عنه: الرجال والنساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء"[14].


يقول عنه الفيلسوف الإسباني "أورتيجا أي جاسيت": وقد تكلم ابن حزم في كتابه طوق الحمامة عن العلاقة الخالدة بين الرجل والمرأة، وسجل تحليلاته العبقرية عن المرأة بعقل رجل موضوعي، لا يذم ولا يمدح، مستخدمًا لهجة الفيلسوف، وأسلوب الأديب، ومحاولة الإنسان الدائمة لكي يفهم نفسه ويفهم الآخرين.


وفي ثنايا الطوق نشعر من أسلوب ابن حزم وتحليله إكبارًا للمرأة في أكثر أوضاعها التي أحلها الله، ومساواة تامة بالرجل في حدود ما أمر الله[15].


عمل ابن حزم على إنصاف المرأة وعدل في الأحكام التي أصدرها تجاهها[16]، بينما نجد غيره من الفقهاء لا ينفك عن إهانة المرأة التي أنجبته؛قال الحسن بن علي بن المنتصر بن الزمزمي الكتاني: "ما من مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مشدد على المرأة وميسر، فإن ابن حزم يسلك سبيل التيسير، وعنده أن المرأة في الأحكام كالرجل، إلا ما خصه الدليل...وانظر إلى كثير من الفقهاء، خاصة المتأخرين منهم، فإنهم يلمح من كلامهم استنقاص المرأة والتحجير عليها، مرة بحجة قصورها، وأخرى بحجة سد الذرائع،وهذا ما لم أجده عند ابن حزم، بل الصالحات منهن عنده صالحات، والفاسدات بحسب فسادهن، مثلهن في ذلك مثل الرجال.


لم يدخر ابن حزم وسعًا في الترويج لمشروعه النهضوي؛ فلجأ أحيانًا إلى بعض الأمراء الذين توسم فيهم العون من أجل تحقيقه، لكنه تعرض للمطاردة والاضطهاد من قِبل الأمراء والفقهاء والعامة على السواء، بل كثيرًا ما شُرِّد وأحرقت كتبه[17]، وقد عزا ابن حَيان - على الرغم من بعض تحامله على ابن حَزْم - ما أصابه من الفقهاء إلى أنه.."من الحسد الذي لا دواء له" [18].


الحق أن ابن حزم قد كرم المرأة تكريمًا عاليًا، حين ارتفع بالنظرة إليها عن مستوى الشهوة والنظرة إليها: من أنها ليس فيها من جوانب الحياة التي تستحق التعامل معها غير الجنس، ففي الطوق، وفي سائر تراث ابن حزم، ظهرت المرأة في أكثر من صورة، معلمة ومتعلمة، شاعرة ومثقفة، عفيفة لا تطمع فيها الأبصار، وفيَّة ذات خلال عالية، تستحق أن يبكيها الرجل، بل أن يموت أسفًا عليها إذا فارقها: حية أو ميتة.

وأين قرطبة دار العلوم فكم ♦♦♦ من عالمٍ قد سمى فيها له شانُ

[1] انظر ترجمة ابن حزم وأعماله، جذوة المقتبس: 290، وبغية الملتمس رقم: 1204، والصلة: 395، وطبقات الأمم: 86، والذخيرة 1/ 1: 140، ومطمح الأنفس: 55، والمغرب في حلى المغرب 1: 354، والمعجب: 30، وتاريخ الحكماء للقفطي: 156، وتذكرة الحفاظ 3: 241:، ومسالك الأبصار (الجزء الثامن)، وفي طوق الحمامة معلومات عنه، وكذلك في سائر كتبه ورسائله.
[2] محمد أبو زهرة: ابن حزم، حياته، عصره - آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، ص 278.
[3] الذخيرة: (تحقيق البدري)، ج 1، ص 103، نقلاً عن ابن حَيان.
[4] محمود إسماعيل: إشكالية المنهج في دراسة التراث،رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2004، ص 22.
[5] راجع: شرف الدين عبدالحميد، مكانة المرأة المسلمة في الأندلس.
[6] الطاهر أحمد مكي: دراسات عن ابن حزم،ط 4، دار المعارف 1993، ص 65.
[7] راجع: ابن حزم: المحلى، دار الآفاق الجديدة، ج، 9 ص492.
[8] راجع: ابن حزم: المحلى، دار الآفاق الجديدة، ج، 9 ص 492.
[9] ابن حزم: الأحكام 3: 81 وما بعدها.
[10] راجع: شرف الدين عبدالحميد، مكانة المرأة المسلمة في الأندلس.
[11] المحلى 6/152.
[12] شرف الدين عبدالحميد، مكانة المرأة المسلمة في الأندلس.
[13] ابن حزم: طوق الحمامة، تحقيق الطاهر مكي، دار الهلال، القاهرة، 1994م، ص 315.
[14] ابن حزم: طوق الحمامة، تحقيق الطاهر مكي، دار الهلال، القاهرة، 1994م، ص 314.
[15] ابن حزم: طوق الحمامة، تحقيق الطاهر مكي، دار الهلال، القاهرة، 1994م، ص 231.
[16] المحلى: 3|196.
[17] محمود إسماعيل: إشكالية المنهج في دراسة التراث،رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2004، ص 23.
[18] عبدالحليم عويس: ابن حزم الأندلسي،ط2، الزهراء للإعلام العربي 1998، ص 78.




* ابن حزم.. الرائد الأول لحقوق المرأة
د. أنور محمود زناتي
 
أعلى