محمد بن أحمد بن سالم السفاريني - غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

مَطْلَبٌ : فِي آدَابِ النِّكَاحِ .
وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ مِنْ آدَابِ النَّوْمِ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ عَلَى آدَابِ النِّكَاحِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّنَاسُلُ ، وَعَمَارُ الدُّنْيَا ، وَقَدَّمَ فِي صَدْرِ ذَلِكَ الْحَثَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِأَخْذِ النَّصِيحَةِ وَالْحَزْمِ ، فَإِنَّ إهْمَالَ نَصَائِحِ النُّصَّاحِ مِنْ أَقْوَى الْمُضِرَّاتِ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا ، فَقَالَ : فَخُذْ لَك مِنْ نُصْحِي أُخَيَّ وَصِيَّةً وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضُرْ بِقَلْبٍ مُؤَبَّدِ ( فَخُذْ لَك مِنْ ) خَالِصِ ( نُصْحِي ) يُقَالُ نَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ كَمَنَعَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً وَنَصَاحِيَةً وَهُوَ نَاصِحٌ وَنَصِيحٌ ، وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ ، وَنَصَحَ خَلِصَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّصِيحَةِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ يَا ( أُخَيَّ ) تَصْغِيرُ أَخٍ ، وَالْأُخُوَّةُ مِنْ النَّسَبِ وَالصَّدِيقِ وَالصَّاحِبِ ، وَالْمُرَادُ هُنَا : الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ ( وَصِيَّةً ) مَفْعُولُ خُذْ .
وَالْوَصِيَّةُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَالْأَنْبِيَاءِ فِي أُمَمِهِمْ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَبْرَارِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَدَفَاتِرِ الْعُلَمَاءِ ( وَكُنْ ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسَاعِدُ عَلَى نَجَاةِ نَفْسِهِ وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الْآفَاتِ وَإِنْقَاذِهَا مِنْ التَّبَعَاتِ ( حَازِمًا ) أَيْ عَاقِلًا فَهِمًا ضَابِطًا .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْحَزْمُ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ كَالْحَزَامَةِ وَالْحُزُومَةِ ، يُقَالُ حَزُمَ كَكَرُمَ فَهُوَ حَازِمٌ وَحَزِيمٌ ( وَاحْضُرْ ) لِاسْتِمَاعِ وَصِيَّتِي وَتَلَقِّي مَوْعِظَتِي ( بِقَلْبٍ ) أَيْ بِعَقْلٍ وَفَهْمٍ وَذَوْقٍ ( مُؤَبَّدِ ) أَيْ قَائِمٍ مُخَلَّدٍ غَيْرِ مُتَعْتَعٍ ، وَلَا مُخْتَلِجٍ ، بَلْ صَامِدٌ مُتَهَيِّئٌ لِأَخْذِ مَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالنَّصَائِحِ .

مَطْلَبٌ : لَا يَنْكِحُ الْكَبِيرُ الشَّابَّةَ وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ : وَلَا تَنْكِحَنْ إنْ كُنْت شَيْخًا فَتِيَّةً تَعِشْ فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي ( وَلَا تَنْكِحَنْ ) أَيْ لَا تَتَزَوَّجَنْ ( إنْ كُنْت ) أَنْتَ ( شَيْخًا ) أَيْ بَلَغْت سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الشَّيْخُ وَالشَّيْخُونُ مَنْ اسْتَبَانَتْ فِيهِ السِّنُّ أَوْ مِنْ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى وَخَمْسِينَ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ أَوْ إلَى ثَمَانِينَ .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّيْخُ مِنْ الْخَمْسِينَ إلَى السَّبْعِينَ ، وَالشَّبَابُ مِنْ الْبُلُوغِ إلَى الثَّلَاثِينَ ، وَالْكَهْلُ مِنْ الثَّلَاثِينَ إلَى الْخَمْسِينَ ثُمَّ هُوَ شَيْخٌ إلَى السَّبْعِينَ .
وَالْهَرِمُ مِنْ السَّبْعِينَ إلَى أَنْ يَمُوتَ ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالشَّيْخِ مَنْ بَانَتْ فِيهِ السِّنُّ ، فَنَهَاهُ النَّاظِمُ أَنْ يَنْكِحَ ( فَتِيَّةً ) وَهِيَ مَنْ بَلَغَتْ إلَى حَدِّ الثَّلَاثِينَ كَالْفَتَى ، مِثْلُ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ ، فَإِنَّك إنْ نَكَحْت وَأَنْتَ شَيْخٌ شَابَّةً ( تَعِشْ ) مَعَهَا ( فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ ) مِنْ احْتِمَالِكَ لِمَا يَبْدُو مِنْهَا مِنْ بَذَاذَةِ اللِّسَانِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّبَرُّمِ مِنْك ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَا تَجِدُ عِنْدَك مِنْ بُغْيَةِ النِّسَاءِ وَطِلْبَتِهِنَّ ، فَإِنَّ غَايَةَ مَقْصُودِ النِّسَاءِ الْجِمَاعُ الَّذِي عَجَزْت عَنْهُ لِكِبَرِ سِنِّك ، فَأَنْتَ فِي سِنِّ الْكِبَرِ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْك الْبُرُودَةُ ، وَهِيَ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْحَرَارَةُ وَالشَّبَقُ ، فَأَنْتُمَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسَارَ مُغَرِّبًا شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ ( أَوْ ) أَيْ إنْ لَمْ تَحْبِسْهَا عَنْ نَيْلِ شَهَوَاتِهَا وَتَقْصُرْهَا عَلَيْك ( تَرْضَ بِ ) الْفِعْلِ ( الرَّدِي ) وَهُوَ الزِّنَا الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ ، وَكُنْت حِينَئِذٍ دَيُّوثًا وَالدَّيُّوثُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، فَخَسِرْت عِرْضَك وَتَنَغَّصَتْ عَلَيْك عِيشَتُك ، وَخَسِرْت آخِرَتَك ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسْرَانُ الْمُبِينُ .
وَلِذَا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ : وَمِنْ التَّغْفِيلِ أَنْ يَتَزَوَّجُ شَيْخٌ صَبِيَّةً .
وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ وَأَنَّ نَفْسَهُ تَطْلُبُ مِنْهُ شِرَاءَ الْجَوَارِي الصِّغَارِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ يُرِدْنَ النِّكَاحَ ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَبِيرِ ذَلِكَ .
فَقَالَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ : يَنْبَغِي لَك أَنْ تَشْتَغِلَ بِذَكَرِ الْمَوْتِ ، وَمَا قَدْ تَوَجَّهْت إلَيْهِ ، وَأَنْ تَحْذَرَ مِنْ اشْتِرَاءِ جَارِيَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا فَإِنَّهَا تَبْغَضُكَ ، فَإِنْ أَجْهَدْت نَفْسَك اسْتَعْجَلْت التَّلَفَ ، وَإِنْ اسْتَبْقَيْت قُوَّتَك غَضِبَتْ هِيَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرِيدُ شَيْخًا كَيْفَ كَانَ .
قَالَ : وَقَدْ أَنْشَدَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : أَنْشَدَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَفِقْ يَا فُؤَادِي مِنْ غَرَامِك وَاسْتَمِعْ مَقَالَةَ مَحْزُونٍ عَلَيْك شَفِيقِ عَلِقْت فَتَاةً قَلْبُهَا مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِك فَاسْتَوْثَقْت غَيْرَ وَثِيقِ فَأَصْبَحْت مَوْثُوقًا وَرَاحَتْ طَلِيقَةً فَكَمْ بَيْنَ مَوْثُوقٍ وَبَيْنَ طَلِيقِ ثُمَّ قَالَ : فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَعُدُّ عَلَيْك الْأَيَّامَ ، وَتَطْلُبُ مِنْك فَضْلَ الْمَالِ لِتَسْتَعِدَّ لِغَيْرِك ، وَرُبَّمَا قَصَدَتْ حَتْفَك فَاحْذَرْ ، وَالسَّلَامَةُ فِي التَّرْكِ وَالِاقْتِنَاعِ بِمَا يَدْفَعُ الزَّمَانَ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا فِي كِتَابِ آدَابِ النِّسَاءِ : وَاسْتُحِبَّ لِمَنْ أَرَادَ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ أَنْ يَنْظُرَ لَهَا شَابًّا مُسْتَحْسَنَ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُحِبُّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلَى ابْنَتِهِ فَيُزَوِّجُهَا الْقَبِيحَ الدَّمِيمَ ، إنَّهُنَّ يُرِدْنَ مَا تُرِيدُونَ } .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَا تُنْكِحُوا الْمَرْأَةَ الْقَبِيحَ الدَّمِيمَ فَإِنَّهُنَّ يُحْبِبْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ مَا تُحِبُّونَ لِأَنْفُسِكُمْ وَالدَّمِيمُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَأَمِيرٍ الْحَقِيرُ ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ وَجَمْعُهُ دِمَامٌ كَجِبَالٍ ، وَهِيَ بِهَاءٍ يَعْنِي دَمِيمَةً وَجَمْعُهَا دَمَائِمُ وَدِمَامٌ أَيْضًا انْتَهَى .
فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنْ النَّاظِمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَفَهْمٍ وَحَازِمٍ .
وَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ : مَطْلَبٌ : لَا يَنْكِحُ مَنْ هِيَ أَعْلَى مِنْهُ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ : وَلَا تَنْكِحَنْ مِنْ نَسْمِ فَوْقِكَ رُتْبَةً تَكُنْ أَبَدًا فِي حُكْمِهَا فِي تَنَكُّدِ ( وَلَا تَنْكِحَنْ ) أَيُّهَا الْأَخُ فِي اللَّهِ ( مِنْ نَسْمِ ) جَمْعِ نَسَمَةٍ مُحَرَّكَةً : الْإِنْسَانُ وَالرُّوحُ وَنَفْسُ الرِّيحِ إذَا كَانَ ضَعِيفًا .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالنَّسَمَةُ مُحَرَّكَةً الْإِنْسَانُ جَمْعُهُ نَسْمٌ وَنَسَمَاتٌ وَالْمَمْلُوكُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَعْتَقَ نَسَمَةً } النَّسَمَةُ النَّفْسُ وَالرُّوحُ أَيْ مَنْ أَعْتَقَ ذَا رُوحٍ وَكُلُّ دَابَّةٍ فِيهَا رُوحٌ فَهِيَ نَسَمَةٌ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ النَّاسَ .
وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ } أَيْ خَلَقَ ذَاتَ الرُّوحِ ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُهَا إذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ .
يُرِيدُ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّك لَا تَنْكِحُ مِنْ كَرَائِمَ ( فَوْقَك ) أَيْ أَعْلَى مِنْك ( رُتْبَةً ) أَيْ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ ( تَكُنْ ) أَنْتَ ( أَبَدًا ) مُدَّةً كَوْنِهَا مَعَك ( فِي حُكْمِهَا ) أَيْ فِي حُكْمِ زَوْجَتِك الَّتِي مَنْصِبُهَا أَعْلَى مِنْك وَرُتْبَتُهَا أَرْقَى مِنْ رُتْبَتِك ( فِي تَنَكُّدِ ) مِنْ افْتِخَارِهَا عَلَيْك ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهَا بِك لِإِهَانَتِك عِنْدَهَا ، وَنَقْصِك فِي عَيْنِهَا ، فَإِنْ بَذَلَتْ لَك حَقَّك رَأَتْ أَنَّهَا مَنَحَتْك أَمْرًا لَسْت أَهْلًا لَهُ ، بَلْ إنَّمَا أَجَابَتْك إلَى مَا سَأَلْت مِنَّةً مِنْهَا امْتَنَّتْ بِهَا عَلَيْك ، وَإِنْ لَمْ تُجِبْك رَأَتْ أَنَّهَا فَعَلَتْ أَمْرًا هِيَ أَهْلٌ لَهُ مِنْ عَدَمِ اكْتِرَاثِهَا بِك لِعُلُوِّهَا وَنُزُولِكَ .
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ النَّكَرِ وَتَعَبِ الْخَاطِرِ وَتَنْغِيصِ الْعَيْشِ ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ زَوْجَتِهِ عَلَى ضِدِّ قَصْدِهِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الِارْتِفَاعَ بِنِكَاحِهَا وَالْمُفَاخَرَةَ بِأَخْذِهَا فَعُوقِبَ بِضِدِّ قَصْدِهِ جَزَاءً وِفَاقًا وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ مُشِيرًا إلَى الْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ : وَلَا تَرْغَبَنْ فِي مَالِهَا وَأَثَاثِهَا إذَا كُنْت ذَا فَقْرٍ تُذَلُّ وَتُضْهَدْ ( وَلَا تَرْغَبَنْ ) نَهْيُ إرْشَادٍ كَنَظَائِرِهِ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ ( فِي مَالِهَا ) أَيْ مَالِ الزَّوْجَةِ الَّتِي تُرِيدُ أَخْذَهَا ، فَإِنَّهَا تَتَعَالَى بِهِ عَلَيْك فَتَحْصُلُ عَلَى غَايَةِ الذُّلِّ ( وَ ) لَا تَرْغَبَنْ فِي أَثَاثِهَا ) أَيْ أَثَاثِ الزَّوْجَةِ الَّتِي تُرِيدُ نِكَاحَهَا .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْأَثَاثُ مَتَاعُ الْبَيْتِ بِلَا وَاحِدٍ أَوْ الْمَالُ أَجْمَعُ وَالْوَاحِدَةُ أَثَاثَةٌ .
انْتَهَى ( إذَا كُنْت ) أَنْتَ ( ذَا ) أَيْ صَاحِبَ ( فَقْرٍ ) أَيْ لَسْت بِغَنِيٍّ فَإِنَّك إنْ تَزَوَّجْت ذَاتَ مَالٍ مَعَ فَقْرِك ( تُذَلُّ ) لِعَدَمِ فَضْلِك عَلَيْهَا وَتَخَلُّفِك عَنْ تَحْصِيلِ مُرَادَاتِهَا وَافْتِقَارِك لِمَا فِي يَدِهَا ، فَبِقَدْرِ قِصَرِ يَدِك يَطُولُ عَلَيْك لِسَانُهَا ( وَتُضْهَدْ ) أَيْ تُقْهَرْ .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : ضَهَدَهُ كَمَنَعَهُ قَهَرَهُ كَاضْطَهَدَهُ وَأَضْهَدَ بِهِ جَارٍ عَلَيْهِ انْتَهَى .
يَعْنِي أَنَّك مَعَ اتِّصَافِك بِالذُّلِّ يَحْصُلُ لَك أَيْضًا مِنْ الْقَهْرِ وَالْمَهَانَةِ مَا يَحْصُلُ لِلطَّالِبِ مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَانِ وَتَعَدُّدِ الْإِحْسَانِ ، فَيُعْكَسُ عَلَيْك الْحَالُ ، وَتَحْصُلُ عَلَى الْوَبَالِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْأَفْرِيقِيِّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثِّقَاتِ ، وَيُدَلِّسُ وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا { لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ ، وَلَأَمَةٌ جَرْبَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ} .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا { مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا ذُلًّا ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا فَقْرًا ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا دَنَاءَةً ، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ إلَّا أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيُحْصِنَ فَرْجَهُ وَيَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ}
قُلْت : ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ ، وَقَالَ هُوَ ضِدُّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا } إلَخْ وَفِيهِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ .
قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ قَالَ النَّسَائِيُّ : مَتْرُوكٌ .
وَأَشَارَ إلَى الْوَصِيَّةِ الرَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ : مَطْلَبٌ : لَا يَسْكُنُ الرَّجُلُ فِي دَارِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَهْلِهَا : وَلَا تَسْكُنَنْ فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا تُسَمَّعْ إذَنْ أَنْوَاعَ مِنْ مُتَعَدِّدٍ ( وَلَا تَسْكُنَنْ ) أَنْتَ بِهَا ( فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ) فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ ( تُسَمَّعْ ) بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ أَيْ تُسْمِعُك هِيَ وَسُفَهَاءُ أَهْلِهَا ( إذَنْ ) أَيْ بِسَبَبِ سُكْنَاكَ فِي دَارٍ عِنْدَ أَهْلِهَا ( أَنْوَاعَ ) جَمْعَ نَوْعٍ وَحَذَفَ تَنْوِينَهُ ضَرُورَةً ( مِنْ ) أَذًى ( مُتَعَدِّدٍ ) مِنْ شَتْمٍ وَسَبٍّ وَمِنَّةٍ وَأَذِيَّةٍ لِعِزِّهَا وَذَلِكَ ، وَغِنَاهَا وَفَقْرِك ، وَاعْتِضَادِهَا بِأَهْلِهَا وَوَحْدَتِك ، فَهِيَ لِرُعُونَتِهَا تَشْمَخُ عَلَيْك وَتَتَفَضَّلُ ، وَأَنْتَ لَدَيْهَا تَتَضَرَّعُ وَتَتَذَلَّلُ .
فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ ، وَإِلَى هَذَا الْحَدِّ صَارَ مَآلُهُ ، فَلَا خَيْرَ فِي حَيَاتِهِ ، وَسُحْقًا لَهُ وَلِلَذَّاتِهِ .
وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي فَضْلِ عِرْسِهِ يَرُوحُ عَلَى هُونٍ إلَيْهَا وَيَغْتَدِي ( فَلَا خَيْرَ ) وَلَا نَجَابَةَ وَلَا رُشْدَ وَلَا إصَابَةَ ( فِيمَنْ ) أَيْ فِي رَجُلٍ ( كَانَ ) هُوَ ( فِي فَضْلِ عِرْسِهِ ) أَيْ زَوْجَتِهِ فَكَانَ نَاقِصَةٌ اسْمُهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ وَفِي فَضْلِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ خَبَرُهَا .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْعَرُوسُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مَا دَامَا فِي أَعْرَاسِهِمَا ، وَهُمْ عُرُسٌ ، وَهُنَّ عَرَائِسُ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ : الْعُرْسُ بِالضَّمِّ الزِّفَافُ وَهُوَ مُذَكَّرٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلطَّعَامِ ، وَالْعَرُوسُ وَصْفٌ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَا دَامَا فِي أَعْرَاسِهِمَا .
وَجَمْعُ الرَّجُلِ عُرُسٌ بِضَمَّتَيْنِ مِثْلُ رَسُولٍ وَرُسُلٍ ، وَجَمْعُ الْمَرْأَةِ عَرَائِسُ ، وَعَرِسَ الرَّجُلُ عَنْ الْجِمَاعِ يَعْرُسُ مِنْ بَابِ تَعِبَ كَلَّ وَأَعْيَا ، وَأَعْرَسَ بِامْرَأَتِهِ بِالْأَلِفِ دَخَلَ بِهَا ، وَأَعْرَسَ عَمِلَ عُرْسًا ، وَعَرَّسَ الْمُسَافِرُ بِالتَّثْقِيلِ إذَا نَزَلَ لِيَسْتَرِيحَ ثُمَّ يَرْتَحِلُ ، وَالِاسْمُ التَّعْرِيسُ انْتَهَى .
وَفِي الْقَامُوسِ : وَالْعِرْسُ بِالْكَسْرِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ وَرَجُلُهَا وَالْجَمْعُ أَعْرَاسٌ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَالْمَعْنَى : أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ فِي فَضْلِ امْرَأَتِهِ يَكُونُ مَسْلُوبَ الْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ عَكَسَ الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنْ كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ .
وَأَمَّا هَذَا فَصَارَتْ هِيَ قَائِمَةً عَلَيْهِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَزِيَّةُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ .
فَهُوَ ( يَرُوحُ ) أَيْ يَرْجِعُ ( عَلَى هُونٍ ) أَيْ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ يُقَالُ : هَانَ هُونًا بِالضَّمِّ وَهَوَانًا وَمَهَانَةً ذَلَّ فَهُوَ ذَلِيلٌ فِي إيَابِهِ ( إلَيْهَا ) لِاحْتِيَاجِهِ لِمَا فِي يَدَيْهَا ( وَيَغْتَدِي ) أَيْ يَذْهَبُ كَذَلِكَ ، فَالذُّلُّ مُلَازِمٌ لَهُ ذَهَابًا وَإِيَابًا ؛ لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ ذَلَّ لِمَنْ حَاجَتُهُ عِنْدَهُ ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْصَافِ الزَّوْجَةِ لَا مِنْ أَوْصَافِ الرَّجُلِ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمَّا سُلِبَ الْخَيْرِيَّةَ ، وَصِفَاتِ الرُّجُولِيَّةِ وَرَضِيَ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ ، وَأَلِفَ الرَّاحَةَ ، وَتَوَسَّدَ الرَّاحَةَ ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ النِّسْوَانِ ، وَالْفَتَايَا لَا الْفِتْيَانِ.
وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ .
ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِنْفَاقِ ، فَقَالَ : مَطْلَبٌ : حُكْمُ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ : وَلَا تُنْكِرَنْ بَذْلَ الْيَسِيرِ تَنَكُّدًا وَسَامِحْ تَنَلْ أَجْرًا وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ ( وَلَا تُنْكِرَنْ ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ أَنْتَ عَلَى زَوْجَتِك ( بَذْلَ ) الشَّيْءِ ( الْيَسِيرِ ) مِنْ بَيْتِك مِنْ إعْطَاءِ سَائِلٍ وَطُعْمَةِ جَائِعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَلَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تُنْكِرَ ذَلِكَ ( تَنَكُّدًا ) أَيْ لِأَجْلِ التَّنَكُّدِ ، يُقَالُ نَكِدَ عَيْشُهُمْ كَفَرِحَ اشْتَدَّ وَعَسُرَ ، وَالْبِئْرُ قَلَّ مَاؤُهَا.
وَنَكِدَ زَيْدٌ حَاجَةَ عَمْرٍو مَنَعَهُ إيَّاهَا ، وَنَكِدَ زَيْدٌ فُلَانًا مَنَعَهُ مَا سَأَلَهُ أَوْ لَمْ يُعْطِهِ إلَّا أَقَلَّهُ .
وَالنُّكْدُ بِالضَّمِّ قِلَّةُ الْعَطَاءِ وَيُفْتَحُ ، يَعْنِي لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنْك وَشُحًّا فِيكَ ، وَبُخْلًا وَحِرْصًا فِيمَا لَدَيْك ، فَإِنَّ الشُّحَّ مَذْمُومٌ ، وَالْبَخِيلَ مَلُومٌ .
وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ ، وَثَبَتَ عَنْ مَعْدِنِ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ ، مُسَامَحَةُ النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَعْلَمَ شُحَّ زَوْجِهَا وَبُخْلَهُ فَيَمْتَنِعَ عَلَيْهَا الْبَذْلُ .
وَلَكِنَّ النَّاظِمَ لَا يَرْضَى لَك أَنْ تَتَّصِفَ بِالشُّحِّ الْمُنَافِي لِلْفَلَاحِ ، فَلِذَا قَالَ ( وَسَامِحْ ) أَيْ جُدْ وَتَكَرَّمْ ، يُقَالُ سَمُحَ كَكَرُمَ سَمَاحًا وَسَمَاحَةً وَسُمُوحَةً وَسَمْحًا جَادَ وَكَرُمَ ، كَأَسْمَحَ فَهُوَ سَمْحٌ وَيُجْمَعُ عَلَى " سُمَحَاءُ " .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَسُمَحَاءُ كَأَنَّهُ جَمْعُ سَمِيحٍ وَمَسَامِيحُ كَأَنَّهُ جَمْعُ مِسْمَاحٍ وَنِسْوَةٌ سِمَاحٌ لَيْسَ غَيْرُ انْتَهَى .
فَالسَّمَاحَةُ تُفِيدُ صَاحِبَهَا الْأَجْرَ وَالرَّاحَةَ ، وَلِذَا قَالَ ( تَنَلْ ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ ( أَجْرًا ) بِالْمُسَامَحَةِ وَبَذْلِ الزَّوْجَةِ الْيَسِيرَ مِنْ مَالِك ، فَإِنَّمَا لَهَا أَجْرُ مُنَاوِلٍ وَلَك الْأَجْرُ كَامِلًا ( وَ ) تَنَلْ مَعَ الْأَجْرِ ( حُسْنَ التَّوَدُّدِ ) أَيْضًا ، فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُك مَرَّتَيْنِ الْأَجْرَ وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ بَيْنَك وَبَيْنَ أَهْلِك .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْوُدُّ وَالْوِدَادُ الْحُبُّ ، وَيُثَلَّثَانِ كَالْوِدَادَةِ وَالْمَوَدَّةِ ، وَتَوَدَّدَهُ اجْتَلَبَ وُدَّهُ ، وَتَوَدَّدَ إلَيْهِ تَحَبَّبَ ، وَالتَّوَدُّدُ التَّحَابُّ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ ؛ فَإِنَّ لَهَا أَجْرَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ شَيْئًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا .
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إذَا تَصَدَّقَتْ بَدَلَ أَنْفَقَتْ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي مَالٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ أَفَأَتَصَدَّقُ ؟ قَالَ : تَصَدَّقِي وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْك } .
وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّهَا جَاءَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ ؟ قَالَ : أَرْضِخِي مَا اسْتَطَعْت وَلَا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْك } .
وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لَهَا أَجْرٌ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا ، لَهُ بِمَا كَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ ؟
قَالَ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا } وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ هَلْ تَتَصَدَّقُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا ؟ قَالَ : لَا إلَّا مِنْ قُوتِهَا ، وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ زَادَ ابْنُ رَزِينٍ الْعَبْدَرِيُّ فِي جَامِعِهِ : فَإِنْ أَذِنَ لَهَا فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ فَعَلَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالْأَجْرُ لَهُ ، وَالْإِثْمُ عَلَيْهَا .
فَإِنْ قُلْت : مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ ؟ فَالْجَوَابُ الْجَوَازُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَمَا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَالْمَنْعُ فِي الْكَثِيرِ ، أَوْ الْجَوَازُ فِيمَنْ تَعْلَمُ الزَّوْجَةُ مِنْهُ الْكَرَمَ وَالسَّمَاحَةَ ، وَالْمَنْعُ فِيمَنْ تَعْلَمُ شُحَّهُ وَحِرْصَهُ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كَلَامِهِمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

مَطْلَبٌ : يَحْسُنُ عَدَمُ السُّؤَالِ عَمَّا فِي الْبَيْتِ : وَلَا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا عَهِدْت وَغُضَّ عَنْ عَوَارٍ إذَا لَمْ يَذْمُمْ الشَّرْعُ تَرْشُدْ ( وَلَا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا ) أَيْ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي ( عَهِدْته مِنْ مَتَاعٍ يَسِيرٍ وَنَفَقَةٍ قَلِيلَةٍ ) فَإِنَّ التَّنْقِيبَ عَنْ كُلِّ كَثِيرٍ وَحَقِيرٍ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْحِرْصِ وَالشُّحِّ .
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ " قَالَتْ الْخَامِسَةُ : زَوْجِي إنْ دَخَلَ فَهِدَ ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ " قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهَا إنْ دَخَلَ فَهِدَ أَيْ نَامَ وَغَفَلَ كَالْفَهْدِ لِكَثْرَةِ نَوْمِهِ ، يُقَالُ : أَنْوَمُ مِنْ فَهْدٍ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : تَصِفهُ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ .
وَقَوْلُهَا : وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ تَمْدَحُهُ بِالشَّجَاعَةِ أَيْ صَارَ كَالْأَسَدِ ، يُقَالُ : أَسِدَ الرَّجُلُ وَاسْتَأْسَدَ إذَا صَارَ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهَا : وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ ، أَيْ لَا يُفَتِّشُ عَمَّا رَأَى فِي الْبَيْتِ وَعَرَفَ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا يَتَفَقَّدُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَعَايِبِ الْبَيْتِ وَمَا فِيهِ ، فَكَأَنَّهُ سَاهٍ عَنْ ذَلِكَ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ شَرْحُ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ عَنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ مَا قَالَ : هَذَا يَقْتَضِي تَفْسِيرَيْنِ لِعَهِدَ ، أَحَدُهُمَا عَهِدَ قَبْلُ فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى تَفَقُّدِ الْمَالِ ، وَالثَّانِي : عَهِدَ الْآنَ فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِغْضَاءِ عَنْ الْمَعَايِبِ وَالِاحْتِمَالِ .
وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هَذَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَمِّ مَنْ كَانَ بِخِلَافِهِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الذَّوَّاقَ الْمِطْلَاقَ الَّذِي أَرَاهُ لَا يَأْكُلُ مَا وَجَدَ ، وَيَسْأَلُ عَمَّا فُقِدَ ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ كَالْأَسَدِ ، وَكَانَ خَارِجًا كَالثَّعْلَبِ ، لَكِنْ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ ، وَهُوَ عِنْدَهَا كَالثَّعْلَبِ ، وَخَارِجًا كَالْأَسَدِ } .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ فَهِدَ هَذَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ ، جَعَلَتْ كَثْرَةَ تَغَافُلِهِ كَالنَّوْمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وُصِفَ الْفَهْدُ بِالْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الشَّرَهِ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا خُلُقُ مَدْحٍ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَمِمَّا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهَا ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ .
وَتَلَمَّحَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ أَمْثَالِهِ وَأَضْعَافِهِ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ وَالْعُلَمَاءِ .

مَطْلَبٌ : فِي غَضِّ الطَّرْفِ وَالتَّغَافُلِ عَنْ زَلَّةِ الْإِخْوَانِ .
قَالَ مُتَمِّمًا لِمَا قَدَّمَهُ ( وَغُضَّ ) طَرْفَك وَتَغَافَلْ ( عَنْ عَوَارٍ ) بِتَثْلِيثِ الْعَيْنِ الْعَيْبُ ، لِأَنَّ تَأَمُّلَ الْعَيْبِ عَيْبٌ فَالْأَوْلَى التَّغَافُلُ .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعَاقِلُ هُوَ الْحَكِيمُ الْمُتَغَافِلُ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ : مَا الْمُرُوءَةُ ؟ قَالَ التَّغَافُلُ عَنْ زَلَّةِ الْإِخْوَانِ .
وَفِي فُرُوعِ الْإِمَامِ ابْن مُفْلِحٍ : حَدَّثَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا قِيلَ : الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ .
وَكَثِيرًا مَا وَصَفَتْ الْعَرَبُ الْكُرَمَاءَ وَالسَّادَةَ بِالتَّغَافُلِ وَالْحَيَاءِ فِي بُيُوتِهَا وَأَنْدِيَتِهَا .
قَالَ الشَّاعِرُ نَزِرُ الْكَلَامِ مِنْ الْحَيَاءِ تَخَالُهُ صَمْتًا وَلَيْسَ بِجِسْمِهِ سَقَمُ وَقَالَ آخَرُ : كَرِيمٌ يَغُضُّ الطَّرَفَ دُونَ خِبَائِهِ وَيَدْنُو وَأَطْرَافُ الرِّمَاحِ دَوَانِي وَقَالَ كُثَيِّرٌ : وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَطَلَّبْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وَلَمَّا كَانَ إطْلَاقُ نِظَامِهِ يَشْمَلُ مَا يَمْدَحُهُ الشَّرْعُ وَيَذُمُّهُ بَيَّنَ النَّاظِمُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْسُنُ عَدَمُ السُّؤَالِ وَالتَّغَافُلُ وَغَضُّ الطَّرْفِ عَنْ الْعَوَارِ فَقَالَ ( إذَا لَمْ يَذْمُمْ ) أَيْ يَعِبْ وَيَشِنْ ( الشَّرْعُ ) ذَلِكَ وَإِلَّا وَجَبَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ ، فَإِنَّ التَّغَافُلَ إنَّمَا يُمْدَحُ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ وَفِي الْمُسَامَحَةِ فِي كَلِمَةٍ ، وَإِهْمَالِ أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ فَلَا يَحْسُنُ التَّغَافُلُ لَا سِيَّمَا عَنْ الْوَاجِبَاتِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { الْغَفْلَةُ فِي ثَلَاثٍ : عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَحِينَ يُصَلِّي الصُّبْحَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَغَفْلَةُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يَرْكَبَهُ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ ، وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
فَإِنَّك أَيُّهَا الْأَخُ فِي اللَّهِ إنْ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك بِهِ مِنْ عَدَمِ السُّؤَالِ وَمِنْ غَضِّ الطَّرْفِ عَنْ الْعَوَارِ حَيْثُ لَمْ يَذُمَّهُ الشَّرْعُ ( تَرْشُدْ ) لِكُلِّ فِعْلٍ حَمِيدٍ وَتَسْعَدْ ، وَتُوَفَّقْ لِلصَّوَابِ وَتُسَدَّدْ .

مَطْلَبٌ : النِّسَاءُ وَدَائِعُ عِنْدَ الرِّجَالِ : وَكُنْ حَافِظًا أَنَّ النِّسَاءَ وَدَائِعُ عَوَانٌ لَدَيْنَا احْفَظْ وَصِيَّةَ مُرْشِدِ ( وَكُنْ ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسْتَرْشِدُ وَالْحَافِظُ لِدِينِهِ ، الْمُجْتَهِدُ عَلَى إظْهَارِ الْأَدَبِ وَتَبْيِينِهِ الْمُتَفَقِّدَ غَثَّ الْقَوْلِ مِنْ سَمِينِهِ ( حَافِظًا ) حِفْظَ تَحْقِيقٍ وَتَفَهُّمٍ ، وَتَدْقِيقٍ وَتَعْلِيمٍ ، حَدِيثَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ، مَعْدِنِ الْأَسْرَارِ . وَيَنْبُوعِ الْأَنْوَارِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ وَكُنْ حَافِظًا وَدِيعَتَك يَعْنِي زَوْجَك ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( أَنَّ ) أَيْ لِأَنَّ ( النِّسَاءَ وَدَائِعُ ) اللَّهِ عِنْدَنَا ( عَوَانٌ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ أَيْ أَسِيرَاتٌ ( لَدَيْنَا ) أَيْ عِنْدَنَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ ( احْفَظْ ) أَيُّهَا الْأَخُ ( وَصِيَّةَ ) أَخٍ نَاصِحٍ شَفِيقٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُرْشِدِ هُنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مُرْشِدِ ) لِفِعْلِ الصَّوَابِ ، حَرِيصٍ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ ، وَلَا تُهْمِلْ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا فَتَنْدَمَ إذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَظَهَرَ الْمَكْتُومُ .
فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ ثُمَّ قَالَ : { أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا ، فَحَقُّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ } .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ، وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْهَا بِلَفْظِ { خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي } .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ .
وَلَفْظُ الْحَاكِمِ { خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِلنِّسَاءِ } وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَكَانَ غَيُورًا مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ ؛ وَلِذَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مَطْلَبٌ : فِي الْغَيْرَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهَا : وَلَا تُكْثِرْ الْإِنْكَارَ تُرْمَ بِتُهْمَةٍ وَلَا تَرْفَعَنَّ السَّوْطَ عَنْ كُلِّ مُعْتَدِ ( وَلَا تُكْثِرْ الْإِنْكَارَ ) عَلَيْهَا فَإِنَّك تُقَوِّي الْعَيْنَ عَلَيْهَا فَإِنْ فَعَلْت ( تُرْمَ ) زَوْجَتُك بِسَبَبِ كَثْرَةِ إنْكَارِكَ عَلَيْهَا ( بِتُهْمَةٍ ) فِي نَفْسِهَا.
فَيَقُولُ الْفُسَّاقُ : وَأَهْلُ الْفُجُورِ لَوْلَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْهَا الْمَكْرُوهَ لَمَا أَكْثَرَ مِنْ إنْكَارِهِ عَلَيْهَا .
وَالتُّهْمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوَهْمِ ، يُقَالُ اتَّهَمَهُ بِكَذَا اتِّهَامًا ، وَاتَّهَمَهُ كَافْتَعَلَهُ وَأَوْهَمَهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِ التُّهْمَةَ أَيْ مَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَاتُّهِمَ هُوَ فَهُوَ مُتَّهَمٌ وَتَهِيمٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ .
وَفِي الْفُرُوعِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : قَالَ سُلَيْمَانُ ، قُلْت : وَالْمَحْفُوظُ فِي التَّوَارِيخِ وَتَرَاجِمِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ دَاوُد لِابْنِهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرْ الْغَيْرَةَ عَلَى أَهْلِك مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ فَتُرْمَ بِالشَّرِّ مِنْ أَجْلِك وَإِنْ كَانَتْ بَرِيئَةً .
قُلْت : وَحَدَّثَنِي شَيْخُنَا الشَّيْخُ مُصْطَفَى اللَّبَدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْغَيْرَةِ ، فَكَانَ لَا يَدَعُ زَوْجَتَهُ تَغِيبُ عَنْ عَيْنِهِ ، فَإِذَا ذَهَبَتْ إلَى الْحَمَّامِ جَلَسَ عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَذْهَبَا جَمِيعًا ، فَضَجِرَتْ مِنْهُ وَتَبَرَّمَتْ وَقَالَتْ : هَذَا أَمْرٌ يَشُقُّ عَلَيَّ وَأَنْتَ فَضَحْتَنِي ، فَقَالَ لَهَا لَا تَطِيبُ نَفْسِي إلَّا مَا دُمْت عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ زَنَتْ .
قَالَ لِي شَيْخُنَا : نَظَرَتْ إلَى فَتًى عَابِرِ سَبِيلٍ فَقَالَتْ لَهُ مِنْ طَاقَةٍ إذَا أَذَّنَ الظُّهْرُ فَكُنْ بِالْبَابِ ، فَقَالَ أَفْعَلُ ، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْأَذَانِ جَلَسَتْ تَعْجِنُ وَجَلَسَ إلَى جَنْبِهَا ، فَلَمَّا صَرَخَ الْمُؤَذِّنُ قَالَتْ لِزَوْجِهَا فُكَّ تِكَّةَ لِبَاسِي فَقَدْ زَحَمَنِي الْبَوْلُ فَفَعَلَ وَمَسَكَتْ التِّكَّةَ بِأَسْنَانِهَا ، وَكَانَ بَيْتُ الْخَلَاءِ بِبَابِ الدَّارِ فَعَمَدَتْ إلَيْهِ فَفَتَحَتْ الْبَابَ فَوَجَدَتْ الْفَتَى فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ مَسَحَتْ ذَلِكَ فِي مِنْدِيلٍ كَانَ مَعَهَا ، وَعَمَدَتْ إلَى عَجِينِهَا وَرَمَتْ بِالْمِنْدِيلِ إلَى زَوْجِهَا ، فَقَالَ لَهَا : مَا هَذَا ؟ قَالَتْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ فَضِيحَتِي ، وَجَعْلُك هَذَا دَيْدَنًا ، وَوَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ أَرَبِي وَلَكِنْ أَنْتَ الَّذِي حَمَلْتنِي عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَرَكْت سِيرَتَك تَرَكْت أَنَا ، وَإِلَّا فَلَا ، فَتَرَكَا جَمِيعًا .
هَكَذَا قَالَ لِي رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَحَكَى لِي مِنْ هَذَا الْبَابِ حِكَايَاتٍ عَجِيبَةً وَذَكَرَ أَنَّهَا بَلَغَتْهُ عَنْ ثِقَاتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْمَحْمُودُ مِنْ الْغَيْرَةِ صَوْنُ الْمَرْأَةِ عَنْ اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ آدَابِ النِّسَاءِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَا خَيْرُ النِّسَاءِ ؟ قَالَتْ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَلَا يَرَوْنَهُنَّ فَقَالَ عَلِيٌّ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي } .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قُلْت قَدْ يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ : الرَّجُلُ إذَا رَأَى الْمَرْأَةَ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَتِنَ فَمَا بَالُ الْمَرْأَةِ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فَكَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعْجِبُ الرَّجُلَ ، فَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُعْجِبُ الْمَرْأَةَ ، وَتَشْتَهِيهِ كَمَا يَشْتَهِيهَا ، وَلِهَذَا تَنْفِرُ مِنْ الشَّيْخِ كَمَا يَنْفِرُ الرَّجُلُ مِنْ الْعَجُوزِ .
{ وَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ أَمَرَهُمَا بِالْقِيَامِ ، فَقَالَتَا : إنَّهُ أَعْمَى ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْتُمَا عَمْيَاوَانِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ؟ قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : مَعْنَى كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } .
وَالْحَمْوُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَبِإِثْبَاتِ الْوَاوِ أَيْضًا وَبِالْهَمْزَةِ أَيْضًا هُوَ أَبُو الزَّوْجِ وَمَنْ أَدْلَى بِهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا .
وَكَذَا فَسَّرَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ .
وَأَبُو الْمَرْأَةِ أَيْضًا ، وَمَنْ أَدْلَى بِهِ .
وَقِيلَ : بَلْ هُوَ قَرِيبُ الزَّوْجِ فَقَطْ وَقِيلَ قَرِيبُ الزَّوْجَةِ فَقَطْ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي مَعْنَاهُ : يَعْنِي فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَلَنَّ ذَلِكَ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا رَأْيَهُ فِي أَبِ الزَّوْجِ وَهُوَ مَحْرَمٌ ، فَكَيْفَ بِالْغَرِيبِ ، انْتَهَى .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ } .
وَفِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وَمَا بَطَنَ } وَأَنْشَدَ فِي الْفُرُوعِ لَا يَأْمَنَنَّ عَلَى النِّسَاءِ أَخٌ أَخَا مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ أَمِينُ إنَّ الْأَمِينَ وَإِنْ تَحَفَّظَ جَهْدَهُ لَا بُدَّ أَنْ بِنَظْرَةٍ سَيَخُونُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَيْرَةِ مِنْهَا الْمَحْمُودُ وَالْمَذْمُومُ : وَمَلَاكُ الْغَيْرَةِ وَأَعْلَاهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : غَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُهُ وَتَضِيعَ حُدُودُهُ وَغَيْرَتُهُ عَلَى قَلْبِهِ أَنْ يَسْكُنَ إلَى غَيْرِهِ ، وَأَنْ يَأْنِسَ بِسِوَاهُ ، وَغَيْرَتُهُ عَلَى حُرْمَتِهِ أَنْ يَتَطَلَّعَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ .
فَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ دَارَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَمَا عَدَاهَا ، فَإِمَّا مِنْ خِدَعِ الشَّيْطَانِ ، وَإِمَّا بَلْوَى مِنْ اللَّهِ كَغَيْرَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

مَطْلَبٌ : فِي ضَرْبِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ تَأْدِيبًا لَهَا .
( وَلَا تَرْفَعَنَّ ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِرْشَادُ وَالْجَوَازُ ( السَّوْطَ ) بِالسِّينِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ، الْمِقْرَعَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَخْلِطُ اللَّحْمَ بِالدَّمِ .
وَأَصْلُ السَّوْطِ الْخَلْطُ ، وَهُوَ أَنْ تَخْلِطَ شَيْئَيْنِ فِي إنَائِك ثُمَّ تَضْرِبَهُمَا بِيَدِك حَتَّى يَخْتَلِطَا .
وَجَمْعُ السَّوْطِ سِيَاطٌ وَأَسْوَاطٌ ( عَنْ كُلِّ مُعْتَدٍ ) أَيْ ظَالِمٍ مُفْسِدٍ مِنْ أَهْلِك تَأْدِيبًا لَهَا وَرَدْعًا عَنْ ظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ : إذَا ظَهَرَ مِنْ الزَّوْجَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ بِأَنْ تَتَشَاغَلَ أَوْ تُدَافِعَ إذَا دَعَاهَا إلَى الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ تُجِيبَهُ مُتَبَرِّمَةً مُتَكَرِّهَةً أَوْ يَخْتَلَّ أَدَبُهَا فِي حَقِّهِ ، وَعَظَهَا ، فَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ ، وَإِنْ أَصَرَّتْ وَأَظْهَرَتْ النُّشُوزَ بِأَنْ عَصَتْهُ وَامْتَنَعَتْ مِنْ إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ ، وَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا .
فَإِنْ أَصَرَّتْ ، وَلَمْ تَرْتَدِعْ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا فَيَكُونَ الضَّرْبُ بَعْدَ الْهَجْرِ فِي الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنْ الْكَلَامِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، أَيْ غَيْرَ شَدِيدٍ يُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا وَيَجْتَنِبُ الْوَجْهَ وَالْبَطْنَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ وَالْمُسْتَحْسِنَةَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ .
وَقِيلَ بِدِرَّةٍ أَوْ مِخْرَاقِ مِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ لَا بِسَوْطٍ وَلَا خَشَبٍ ، فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَيُمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَنْ عُلِمَ بِمَنْعِهِ حَقَّهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَيُحْسِنَ عِشْرَتَهَا ، وَلَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ لِمَ ضَرَبَهَا وَلَا أَبُوهَا ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسْأَلْ الرَّجُلَ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلَهُ تَأْدِيبُهَا كَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَلَا يَمْلِكُ تَعْزِيرَهَا فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالسِّحَاقِ ؛ لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْحَاكِمِ .
وَنَقَلَ مُهَنَّا هَلْ يَضْرِبُهَا عَلَى تَرْكِ زَكَاةٍ ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي .
قَالَ : وَفِيهِ ضَعْفٌ ؛ لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ يَضْرِبُهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ .
قَالَهُ فِي الِانْتِصَارِ .
وَذَكَرَ غَيْرُهُ يَمْلِكُهُ .
قَالَ : وَلَا يَنْبَغِي سُؤَالُهُ لِمَ ضَرَبَهَا .
قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَفِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ : الْأَوْلَى تَرْكُهُ يَعْنِي تَرْكَ الضَّرْبِ إبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتْرُكَهُ عَنْ الصَّبِيِّ لِإِصْلَاحِهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { مَا ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ } .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا { خُرُوجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ إلَى الْبَقِيعِ وَإِخْفَائِهِ مِنْهَا ، وَخَرَجَتْ فِي أَثَرِهِ فَأَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتْ : ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْت ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْت ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْت ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْت } .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ : الْإِحْضَارُ الْعَدْوُ ، { فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْت فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ حَشْيَا رَابِئَةً ؟ قُلْت : لَا شَيْءَ قَالَ لَتُخْبِرَنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ ، قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرَتْهُ فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ، ثُمَّ قَالَ : أَظَنَنْت أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ } .
قَوْلُهُ حَشْيَا هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ وَالْحَشَا وَالرَّبْوُ وَالتَّهَيُّجُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْمُسْرِعِ فِي مَشْيِهِ وَالْمُجِدِّ فِي كَلَامِهِ مِنْ ارْتِفَاعِ النَّفَسِ وَتَوَاتُرِهِ .
وَقَوْلُهُ رَابِئَةً أَيْ مُرْتَفِعَةَ الْبَطْنِ .
وَقَوْلُهَا لَهَدَنِي بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ، وَرُوِيَ بِالزَّايِ وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ يُقَالُ لَهَدَهُ وَلَهَّدَهُ بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ دَفَعَهُ ، وَيُقَالُ لَهَزَهُ أَيْ ضَرَبَهُ بِجَمْعِ كَفِّهِ فِي صَدْرِهِ ، وَيَقْرَبُ مِنْهَا لَكَزَهُ وَوَكَزَهُ.

مَطْلَبٌ : فِي مُدَارَاةِ الْمَرْأَةِ وَعَدَمِ الطَّمَعِ فِي إقَامَةِ اعْوِجَاجِهَا : وَلَا تَطْمَعَنْ فِي أَنْ تُقِيمَ اعْوِجَاجَهَا فَمَا هِيَ إلَّا مِثْلُ ضِلَعٍ مُرَدَّدِ ( وَلَا تَطْمَعَنْ ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ .
وَالطَّمَعُ الْحِرْصُ ، يُقَالُ : طَمِعَ فِي الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ حَرَصَ عَلَيْهِ ( فِي أَنْ تُقِيمَ ) أَنْ وَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ أَيْ فِي إقَامَتِك ( اعْوِجَاجَهَا ) أَيْ زَوْجَتِك .
وَالِاعْوِجَاجُ مَصْدَرُ اعْوَجَّ اعْوِجَاجًا ( فَمَا هِيَ ) فِي اعْوِجَاجِهَا وَعَدَمِ اسْتِقَامَتِهَا ( إلَّا مِثْلُ ) شَبَهُ ( ضِلَعٍ ) بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِهَا أَيْضًا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ ( مُرَدَّدِ ) أَيْ مُعْوَجٍّ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ بَلْ اسْتِقَامَتُهُ مُتَعَذِّرَةٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ فِيهِ أَصْلِيٌّ طَبِيعِيٌّ خُلِقَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ كَذَلِكَ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَزُولُ وَالطَّبْعُ أَمْلَكُ .
وَكُلُّ هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، فَإِنْ أَقَمْتهَا كَسَرْتهَا فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَك عَلَى طَرِيقَةٍ ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ ، وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ ، وَقِيلَ إذَا كَانَ فِيمَا هُوَ مُنْتَصِبٌ كَالْحَائِطِ وَالْعَصَا قِيلَ فِيهِ عَوَجٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْوَاوِ ، وَفِي غَيْرِ الْمُنْتَصِبِ كَالدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُقَالُ فِيهِ عِوَجٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَفِي النِّهَايَةِ : الْعَوَجُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ شَيْءٍ مَرْئِيٍّ كَالْأَجْسَامِ ، وَبِالْكَسْرِ فِيمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ كَالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ ، وَقِيلَ : الْكَسْرُ يُقَالُ فِيهِمَا مَعًا وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ .
فَعَلَى الْعَاقِلِ الْعَفْوُ وَالتَّغَافُلُ وَإِنْ سَاءَهُ مِنْهَا خُلُقٌ فَقَدْ يَسُرُّهُ خُلُقٌ آخَرُ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ، أَوْ قَالَ غَيْرَهُ } .
قَوْلُهُ يَفْرَكُ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ أَيْضًا ، وَضَمُّهَا شَاذٌّ أَيْ يَبْغَضُ .

مَطْلَبٌ : فِي أَنَّ السُّكْنَى فَوْقَ الطَّرِيقِ مُوجِبَةٌ لِلتُّهْمَةِ : وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةِ تَئُولُ إلَى تُهْمَى الْبَرِيِّ الْمُشَدِّدِ ( وَسُكْنَى الْفَتَى ) يَعْنِي إذَا سَكَنَ الرَّجُلُ ( فِي غُرْفَةٍ ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْعَلِيَّةِ جَمْعُهَا غُرُفَاتٍ بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا ، وَغُرَفٌ كَصُرَدٍ حَالَ كَوْنِ الْغُرْفَةِ ( فَوْقَ سِكَّةٍ ) أَيْ طَرِيقٍ ( تَئُولُ ) أَيْ تَرْجِعُ سُكْنَاهُ كَذَلِكَ ( إلَى تُهْمَى ) وَسُوءِ ظَنِّ النَّاسِ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً جَبَّ الْغِيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ } .
وَفِي حَدِيثٍ { مَنْ وَقَفَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَلَا يَلُومُنَّ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ فِيهِ } وَذَلِكَ أَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ تَئُولُ إلَى تُهْمَى ( الْبَرِيِّ ) مِنْ الْعَيْبِ ، النَّزِهِ مِنْ قَاذُورَاتِ الذُّنُوبِ ، الْمُتَحَفِّظِ فِي أَمْرِ دِينِهِ ( الْمُشَدِّدِ ) عَلَى نَفْسِهِ فِي صَوْنِهَا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ ، وَالْمُضَيِّقِ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ الطُّمُوحِ وَلِسَانِهِ مِنْ الْبَذَاذَةِ ، الصَّائِنِ لِكُلِّ جَوَارِحِهِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا اتِّهَامُ الْبَرِيِّ الَّذِي بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ بِحَالِ غَيْرِهِ .
فَالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يَسْكُنُ مَكَانًا مُشْرِفًا عَلَى حُرَمِ الْمُسْلِمِينَ .
وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ النَّاظِمِ أَنَّ سُكْنَى الْفَتَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ يَئُولُ إلَى تُهْمَى أَهْلِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ ، فَرُبَّمَا رَأَى زَوْجَتَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَتَشَبَّبَ بِهَا أَوْ وَصَفَهَا لِآخَرَ فَيُوهِمُ بِوَصْفِهِ إيَّاهَا اطِّلَاعَهُ عَلَيْهَا .
فَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْأَوْلَى حَسْمُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَادَّةِ .
وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ يُبَيِّنُ لِمَنْ أَرَادَ الزَّوَاجَ مَنْ يَتَزَوَّجُ وَيُحَذِّرُهُ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالْجَمَالِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَصْلِ ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنُطْفَتِهِ .
وَبَدَأَ بِالتَّنْفِيرِ عَنْ حَسْنَاءِ الذَّاتِ قَبِيحَةِ الصِّفَاتِ فَقَالَ : مَطْلَبٌ : يَخْتَارُ الرَّجُلُ زَوْجَةً ذَاتَ أَصْلٍ : وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبٍ إلَى أَصْلِهَا الرَّدِي ( وَإِيَّاكَ يَا هَذَا ) أَيْ الْمُسْتَمِعُ لِنِظَامِي ، الْمُحْتَفِلُ بِكَلَامِي ، الْمُسْتَشِيرُ مِنِّي ، وَالطَّالِبُ لِلنَّصِيحَةِ مِنْ جِهَتِي ، وَالنَّاقِلُ لَهَا عَنِّي ( وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ ) أَيْ احْذَرْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا وَلَا تَرْغَبْ فِيهَا ، بَلْ ارْغَبْ عَنْهَا .
وَالرَّوْضَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ نَبَاتٌ مُجْتَمِعٌ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِفَاعٍ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَاءٍ .
قَالَهُ فِي الْمَطَالِعِ .
وَفِي الْقَامُوسِ : الرَّوْضَةُ وَالرِّيضَةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الرَّمْلِ وَالْعُشْبِ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ فِيهَا .
وَالدِّمْنَةُ آثَارُ الدَّارِ وَالْمَوْضِعُ الْقَرِيبِ مِنْهَا وَالْجَمْعُ دِمَنٌ .
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَالْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ { إيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ ، قَالُوا وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الْمَرْأَةُ الْجَمِيلَةُ مِنْ الْمَنْبَتِ السُّوءِ } وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ .
وَمَعْنَى كَلَامِ النَّاظِمِ التَّحْذِيرُ مِنْ الْبِنْتِ الْجَمِيلَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ مُتَّصِفِينَ بِغَيْرِ الْعَفَافِ ، فَإِنَّ الْفُرُوعَ تَتْبَعُ الْأُصُولَ غَالِبًا .
وَلِذَا قَالَ ( سَتَرْجِعُ ) تِلْكَ الْبِنْتُ وَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَمُتَّصِفَةً بِالْعِفَّةِ ( عَنْ قُرْبٍ ) وَلَوْ تَسَتَّرَتْ بِالْعَفَافِ ( إلَى أَصْلِهَا ) وَمَنْبَتِهَا ( الرَّدِي ) غَالِبًا .
وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ : يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْأُصُولِ فِيمَنْ يُخَالِطُهُ وَيُعَاشِرُهُ وَيُشَارِكُهُ وَيُصَادِقُهُ وَيُزَوِّجُهُ أَوْ يَتَزَوَّجُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصُّوَرِ ، فَإِنَّ صَلَاحَهَا دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ الْبَاطِنِ .
قَالَ : أَمَّا الْأُصُولُ فَإِنَّ الشَّيْءَ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ .
وَبَعِيدٌ مِمَّنْ لَا أَصْلَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنًى مُسْتَحْسَنٌ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ إذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ رَدِيءٍ فَقَلَّ أَنْ تَكُونَ أَمِينَةً .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْمُخَالِطُ وَالصَّدِيقُ وَالْمُبَاضِعُ وَالْمُعَاشِرُ فَإِيَّاكَ أَنْ تُخَالِطَ إلَّا مَنْ لَهُ أَصْلٌ يَخَافُ عَلَيْهِ الدَّنَسَ ، فَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ ، وَإِنْ وَقَعَ خِلَافُ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ : أَشِرْ عَلَيَّ فِيمَنْ أَسْتَعْمِلُ ؟ فَقَالَ : أَمَّا أَرْبَابُ الدِّينِ فَلَا يُرِيدُونَك ، وَأَمَّا أَرْبَابُ الدُّنْيَا فَلَا تُرِيدُهُمْ ، وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْأَشْرَافِ فَإِنَّهُمْ يَصُونُونَ شَرَفَهُمْ عَمَّا لَا يَصْلُحُ .
ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ : دَعَانِي الْمُعْتَصِمُ يَوْمًا فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ الْحَمَّامَ ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَلَا بِي وَقَالَ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْهُ ، إنَّ أَخِي الْمَأْمُونَ اصْطَنَعَ فَأَنْجَبُوا وَاصْطَنَعْت أَنَا مِثْلَهُمْ فَلَمْ يُنْجِبُوا .
قُلْت وَمَنْ هُمْ ؟ قَالَ اصْطَنَعَ طَاهِرًا وَابْنَهُ ، وَإِسْحَاقَ وَآلَ سَهْلٍ ، فَقَدْ رَأَيْت كَيْفَ هُمْ ، وَاصْطَنَعْت أَنَا الْأَفْشِينَ فَقَدْ رَأَيْتَ إلَى مَآلِ أَمْرِهِ وَأَسَاسِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ شَيْئًا وَكَذَلِكَ أَنْبَاحٌ وَوَصِيفٌ .
قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَاهُنَا جَوَابٌ عَلَيَّ أَمَانٌ مِنْ الْغَضَبِ ، قَالَ لَك ذَلِكَ قُلْت نَظَرَ أَخُوك إلَى الْأُصُولِ فَاسْتَعْمَلَهَا فَأَنْجَبَتْ فُرُوعُهَا ، وَاسْتَعْمَلْت فُرُوعًا لَا أُصُولَ لَهَا فَلَمْ تُنْجِبْ .
فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ مُقَاسَاةُ مَا مَرَّ بِي طُولُ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ .
انْتَهَى .
وَفِي خَبَرٍ { اُنْظُرْ فِي أَيِّ شَيْءٍ تَضَعُ وَلَدَك فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ } .
وَقِيلَ إنَّ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ عَابَ يَوْمًا عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَمَا يَجِبُ ، فَقَالَ لَهُ وَلَدُهُ ( أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ ) إنَّك عَمَدْت إلَى فَاسِقِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَإِمَاءِ الْحِجَازِ فَأَوْعَيْتَ فِيهِنَّ بُضْعَك ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ يُنْجِبُوا ، وَإِنَّمَا تَحِنُّ لِصَاحِبَاتِ الْحِجَازِ ، هَلَّا فَعَلْت فِي وَلَدِك مَا فَعَلَ أَبُوك فِيك حِينَ اخْتَارَ لَك عَقِيلَةَ قَوْمِهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي وَصْفِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُنَافَسَ فِيهَا شِعْرًا : صِفَاتُ مَنْ يَسْتَحِبُّ الشَّرْعُ خِطْبَتِهَا جَلَوْتُهَا لِأُولِي الْأَبْصَارِ مُخْتَصِرَا حَسِيبَةٌ ذَاتُ دِينٍ زَانَهَا أَدَبٌ وَلَوْ تَكُونُ حَوَتْ فِي حُسْنِهَا الْقَمَرَا غَرِيبَةٌ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ خَاطِبْهَا هَذِي الصِّفَاتِ الَّتِي أَجْلُو لِمَنْ نَظَرَا بِهَا أَحَادِيثُ جَاءَتْ وَهِيَ ثَابِتَةٌ أَحَاطَ عِلْمًا بِهَا مَنْ فِي الْعُلُومِ قَرَا .

مَطْلَبٌ : فِي الْكَفَاءَةِ وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ .
( تَنْبِيهَاتٌ ) : ( الْأَوَّلُ ) : فِي الْكَفَاءَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
إحْدَاهُمَا أَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، فَإِذَا فَاتَتْ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الزَّوْجَةِ وَهِيَ بِهِ ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إلَّا الْأَكْفَاءَ ، وَلَا يُزَوِّجْهُنَّ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ } .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " لَأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوِي الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا .
وَقَالَ سَلْمَانُ لِجَرِيرٍ : إنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَا يَتَقَدَّمُ فِي صَلَاتِكُمْ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُكُمْ .
إنَّ اللَّهَ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَهُ فِيكُمْ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْكَفَاءَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ .
نَعَمْ هِيَ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ .
قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ : وَالْكَفَاءَةُ فِي زَوْجٍ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لَا لِصِحَّتِهِ فَيَصِحَّ مَعَ فَقْدِهَا فَهِيَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى مَنْ يُحَدِّثَ ، فَلَوْ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ الْفَسْخَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ جَمِيعِهِمْ فَوْرًا وَمُتَرَاخِيًا .
وَيَمْلِكُهُ الْأَبْعَدُ مَعَ رِضَا الْأَقْرَبِ وَالزَّوْجَةُ .
نَعَمْ لَوْ زَالَتْ الْكَفَاءَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَصَّ الْخِيَارُ بِالزَّوْجَةِ فَقَطْ .
وَالْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : الدِّينُ ، فَلَا يَكُونُ الْفَاجِرُ وَالْفَاسِقُ كُفُؤًا لِعَفِيفٍ عَدْلٍ .
الثَّانِي : الْمَنْصِبُ وَهُوَ النَّسَبُ ، فَلَا يَكُونُ الْأَعْجَمِيُّ وَهُوَ مَنْ لَيْسَ مِنْ الْعَرَبِ كُفُؤًا لِعَرَبِيَّةٍ .
( الثَّالِثُ ) : الْحُرِّيَّةُ ، فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَلَوْ مُبَعَّضًا كُفُؤًا لِحُرَّةٍ وَلَوْ عَتِيقَةً .
( الرَّابِعُ ) : الصِّنَاعَةُ ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُ صِنَاعَةٍ دَنِيئَةٍ كَحِجَامَةٍ ، وَحِيَاكَةٍ ، وَزَبَّالٍ ، وَكَسَّاحٍ كُفُؤًا لِبِنْتِ مَنْ هُوَ صَاحِبُ صِنَاعَةٍ جَلِيلَةٍ كَالتَّاجِرِ وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الْعَقَارِ .
( الْخَامِسُ ) : الْيَسَارُ بِمَالٍ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ عَلَيْهَا عَادَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا فِي بَيْتِهِ ، فَلَا يَكُونُ الْعَسِرُ كُفُؤًا لِمُوسِرَةٍ ، وَلَيْسَ مَوْلَى الْقَوْمِ كُفُؤًا لَهُمْ ، وَيَحْرُمُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إلَّا بِرِضَاهَا وَيَفْسُقُ بِهِ الْوَلِيُّ ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ .
وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَوْلِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْمَرْأَةِ فَلَيْسَتْ الْكَفَاءَةُ شَرْطًا فِي حَقِّهَا لِلرَّجُلِ .
الثَّانِي : مَنْ قَالَ إنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ كَالشَّافِعِيَّةِ ، وَالرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ عِنْدَنَا مَحْجُوجٌ بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ زَيْدًا مَوْلَاهُ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّةَ الْقُرَشِيَّةَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدًا ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
( الثَّالِثُ ) : الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ ، وَالْعَجَمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ .
لِأَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ تَزَوَّجَ ضُبَاعَةَ ابْنَةَ الزُّبَيْرِ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ أُخْتَهُ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ ، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
فَبَنُو هَاشِمٍ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ غَيْرَ الْمُنْتَسِبِ إلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ لَيْسَ كُفُؤًا لِلْمُنْتَسِبِ إلَيْهِمَا ، وَلَيْسَ الْمُحْتَرِفُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الْعَالِمِ .
وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْكَفَاءَةَ الدِّينُ وَالنَّسَبُ ، اخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ : إذَا قُلْنَا الْكَفَاءَةَ لِحَقِّ اللَّهِ اُعْتُبِرَ الدِّينُ فَقَطْ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ : أَلَا إنَّمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ وَالْكَرَمُ وَحُبُّك لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ وَالسَّقَمُ وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ إذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .

مَطْلَبٌ : لَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْفَقِيرُ إلَّا ضَرُورَةً : وَلَا تَنْكِحْنَ فِي الْفَقْرِ إلَّا ضَرُورَةً وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تُهْدَ وَتَهْتَدِ ( وَلَا تَنْكِحْنَ ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ ( فِي الْفَقْرِ ) وَهُوَ ضِدُّ الْغِنَى لِأَنَّ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ شَرَفًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ ، لَكِنَّهُ سُلَّمٌ يُتَرَقَّى بِهِ إلَى الْخَوْضِ فِي عِرْضِهِ وَعَدِمِ اكْتِرَاثِ النَّاسِ بِهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ ، وَهُوَ مَظِنَّةُ طُمُوحِ نَظَرِ الزَّوْجَةِ إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَاسْتِشْرَافِ نَفْسِهَا إلَى أَهْلِ الْبِزَّةِ مِنْ الرِّجَالِ ، وَنُبُوِّ نَظَرِهَا عَنْ بَعْلِهَا الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ يُعَادِلُ عِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافَ أَهْلِ الْغِنَى وَالنَّوَالِ ، فَلِهَذَا حَذَّرَ النَّاظِمُ الْحَكِيمُ وَالنَّاصِحُ لِإِخْوَانِهِ عَلَى حَسَبِ مَا مَنَحَهُ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ ، مِنْ النِّكَاحِ فِي فَقْرِهِ ( إلَّا ) إذَا كَانَ ذَلِكَ ( ضَرُورَةً ) أَيْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ مِنْ خَوْفِ الزِّنَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِدُخُولِ النَّارِ ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ ، وَالْحَشْرِ مَعَ الْأَشْقِيَاءِ الْفُجَّارِ ، إلَى دَارِ الْبَوَارِ ، وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ ، أَوْ مِنْ خَوْفِ دَوَاعِي الزِّنَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، فَإِذَا خَافَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ حِينَئِذٍ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى امْرَأَةً صَالِحَةً مِنْ بَيْتٍ صَالِحٍ يَغْلِبُ عَلَى بَيْتِهَا الْفَقْرُ لِتَرَى مَا يَأْتِي بِهِ إلَيْهَا كَثِيرًا ، وَلِيَتَزَوَّجَ مِنْ مُقَارِبِهِ فِي السِّنِّ ، وَلِيُتِمَّ نَقْصَهُ بِحُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَبَذْلِ الْبَشَاشَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ .
وَإِنَّمَا نَهَى النَّاظِمُ الْفَقِيرَ عَنْ النِّكَاحِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضِيلَتِهِ ، وَحَثَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ ، وَآثَارٍ مُرِيحَةٍ ؛ وَالْأَمْرُ بِهِ فِي الْكِتَاب الْقَدِيمِ الْمُنَزَّلِ ، عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمُرْسَلِ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ إذَا تَزَوَّجَ اشْتَغَلَ بَالُهُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحْصِيلِ الْمَعَاشِ ، وَرُبَّمَا صَارَ صَاحِبَ عِيَالٍ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَا يَزَالُ يَحْتَالُ .
فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَلَالِ تَرَخَّصَ فِي تَنَاوُلِ الشُّبُهَاتِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَعْفِ دِينِهِ .
وَرُبَّمَا مَدَّ يَدَهُ إلَى الْحَرَامِ ، وَارْتَكَبَ الْآثَامَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ .
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ مُوسِرًا لَأَنْ يَنْكِحَ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْ فَلَيْسَ مِنِّي } هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ .
وَأَبُو نَجِيحٍ تَابِعِيٌّ وَاسْمُهُ يَسَارٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتٌ وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيِّ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يُذَمُّ عَلَى عَدَمِ الزَّوَاجِ .
فَالْمُؤْمِنُ إذَا عَلِمَ ضَعْفَهُ عَنْ الْكَسْبِ اجْتَهَدَ فِي التَّعَفُّفِ عَنْ النِّكَاحِ وَتَقْلِيلِ النَّفَقَةِ ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، الَّذِي فَقَدْنَا فِيهِ الْمُعِينَ وَالْإِخْوَانَ .
فَلَا بَيْتُ مَالٍ مُنْتَظِمٍ ؛ وَلَا خَلِيلٌ صَادِقُ الْمَوَدَّةِ فِي مَالِهِ نَتَوَسَّعُ وَنَحْتَكِمُ .
فَلَيْسَ لِلْفَقِيرِ الذَّلِيلِ مِنْ صِدِّيقٍ وَلَا خَلِيلٍ إلَّا الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
وَقَدْ كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَتَفَقَّدُ أَكَابِرَ الْعُلَمَاءِ .
فَقَدْ بَعَثَ إلَى مَالِكٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ .
وَإِلَى ابْنِ لَهِيعَةَ بِأَلْفِ دِينَارٍ .
وَأَعْطَى عَمَّارَ بْنَ مَنْصُورٍ أَلْفَ دِينَارٍ وَجَارِيَةً بِثَلَثِمِائَةِ دِينَارٍ .
وَمَا زَالَ الزَّمَانُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ؛ إلَى أَنْ آلَ الْحَالُ إلَى انْمِحَاقِ الرِّجَالِ ؛ وَصَارَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

مَطْلَبٌ : الصَّوْمُ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ .
وَلَمَّا نَهَى النَّاظِمُ الْفَقِيرَ عَنْ النِّكَاحِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ شَدِيدَةٌ وَيَحْتَاجُ إلَى كَسْرِهَا بِنَوْعٍ مَا أَرْشَدَهُ إلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ ( وَلُذْ ) أَيْ اسْتَتِرْ وَاحْتَمِ مِنْ اللَّوْذِ بِالشَّيْءِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ بِهِ كَاللِّوَازِ مُثَلَّثَةٌ وَاللِّيَاذُ وَالْمُلَاوَذَةُ وَالْمَلَاذُ الْحِصْنُ أَيْ تَسَتَّرْ وَتَحَصَّنْ ( بِوِجَاءِ الصَّوْمِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْوِجَاءُ أَنْ تُرَضَّ أُنْثَيَا الْفَحْلِ رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ ، وَيَتَنَزَّلُ فِي قِطْعَةِ الْخِصَاءِ وَقَدْ وَجِيءَ وِجَاءً فَهُوَ مَوْجُوءٌ ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُوجَأَ الْعُرُوقُ وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الصَّوْمَ يَقْطَعُ النِّكَاحَ .
وَإِضَافَةُ الْوِجَاءِ إلَى الصَّوْمِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفِهَا .
أَيْ وَلُذْ بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ وِجَاءٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالْبَاءَةُ وَالْبَاءُ النِّكَاحُ .
وَفِي لَفْظٍ " عَلَيْكُمْ بِالْبَاءِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ : وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَمْرَ الْعَزَبِ بِالتَّزْوِيجِ ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَمْرَ الْمُتَزَوِّجِ بِالْبَاءَةِ ، وَالْبَاءَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْوَطْءِ .
وَقَوْلُهُ { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } فُسِّرَتْ الْبَاءَةُ بِالْوَطْءِ ، وَفُسِّرَتْ بِمُؤَنِ النِّكَاحِ وَلَا يُنَافِي التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ إذْ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا مُؤَنِ الْبَاءَةِ ثُمَّ قَالَ { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } فَأَرْشَدَهُمْ إلَى الدَّوَاءِ الشَّافِي الَّذِي وُضِعَ لِهَذَا الْأَمْرِ ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَكْسِرُ شَهْوَةَ النَّفْسِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهَا مَجَارِيَ الشَّهْوَةِ ، فَإِنَّهَا تَقْوَى بِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ ، وَقَلَّ مَنْ أَدَمْنَ الصَّوْمَ إلَّا وَمَاتَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ ضَعُفَتْ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ ( تَهْدِ ) مَنْ اقْتَدَى بِك ( وَتَهْتَدِ ) أَنْتَ فِي نَفْسِك إلَى السَّبِيلِ الَّتِي أَرْشَدَ إلَيْهَا الطَّبِيبُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ وَأَحْكُمُ وَأَرْحَمُ .
فَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ أَقْوَمُ وَأَسْلَمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ يُبَيِّنُ لَك مَنْ تَتَزَوَّجُ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ : مَطْلَبٌ : النِّسَاءُ لُعَبٌ يَنْبَغِي تَحْسِينُهَا وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ : وَكُنْ عَالِمًا إنَّ النَّسَا لُعَبٌ لَنَا فَحَسِّنْ إذَنْ مَهْمَا اسْتَطَعْت وَجَوِّدْ ( وَكُنْ ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لِلنِّكَاحِ ، الْمُسْتَرْشِدِ إلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّجَاحُ ( عَالِمًا ) عِلْمَ فَهْمٍ وَتَحْقِيقٍ ، وَامْتِثَالٍ وَتَدْقِيقٍ .
( إنَّ النِّسَاءَ ) جَمْعٌ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهَا .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : النِّسْوَةُ بِالْكِسْرَةِ وَالضَّمِّ وَالنِّسَاءُ وَالنِّسْوَانِ وَالنِّسُونُ بِكَسْرِهِنَّ جُمُوعُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهَا ( لُعَبٌ ) جَمْعُ لُعْبَةٍ بِالضَّمِّ التِّمْثَالُ وَمَا يُلْعَبُ بِهِ ( لَنَا ) يَعْنِي نُلَهَّى بِهِنَّ وَنَسْكُنُ إلَيْهِنَّ وَتَنْبَسِطُ نُفُوسُنَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِنَّ .
( فَحَسِّنْ ) أَمْرُ إرْشَادٍ ( إذَنْ ) أَيْ حَيْثُ إنَّ النِّسَاءَ لُعَبٌ لَنَا فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُحَسِّنَ لُعْبَتَك ( مَهْمَا اسْتَطَعْت ) يَعْنِي : اقْصِدْ الْحَسْنَاءَ فَتَزَوَّجْهَا وَلَا تَنْكِحْ الشَّوْهَاءَ ( وَجَوِّدْ ) مَهْمَا اسْتَطَعْت ، أَيْ : اقْصِدْهَا جَيِّدَةَ الْخِصَالِ ، مُشْتَمِلَةً عَلَى الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ ، مَعَ طِيبِ الْأَصْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ آنِفًا ؛ تَظْفَرْ بِغَايَةِ الْآمَالِ ، وَيُغَضَّ مِنْك الْبَصَرُ ، وَيُعَفَّ الْفَرْجُ ، وَتَقْتَصِرْ عَلَى الْمُبَاحِ ، وَيَنْتِجْ لَك ذَلِكَ النَّجَاحَ.
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ صَيْدِ الْخَاطِرِ : تَأَمَّلْت فَوَائِدَ النِّكَاحِ وَمَعَانِيَهُ وَمَوْضُوعَهُ فَرَأَيْت أَنَّ الْأَصْلَ الْأَكْبَرَ فِي وَضْعِهِ وُجُودُ النَّسْلِ ، لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَزَالُ يَتَحَلَّلُ ثُمَّ يَخْلُفُ الْمُتَحَلِّلُ الْغِذَاءَ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ مَا لَا يَخْلُفُهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ فَنَائِهِ وَكَانَ الْمُرَادُ امْتِدَادُ أَزْمَانِ الدُّنْيَا جُعِلَ النَّسْلُ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ وَلَمَّا كَانَتْ صُورَةُ النِّكَاحِ تَأْبَاهَا النُّفُوسُ الشَّرِيفَةُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ ، وَمُلَاقَاةِ مَا لَا يَسْتَحْسِنُ لِنَفْسِهِ جُعِلَتْ الشَّهْوَةُ تَحُثُّ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ .
ثُمَّ هَذَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ يَتْبَعُهُ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي يُؤْذِي احْتِقَانُهُ ، فَإِنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ مِنْ الْهَضْمِ الرَّابِعِ ، فَهُوَ مِنْ أَصْفَى جَوْهَرِ الْغِذَاءِ وَأَجْوَدِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ ، فَهُوَ أَحَدُ الذَّخَائِرِ لِلنَّفْسِ ، فَإِنَّهَا تَدَّخِرُ لِبَقَائِهَا وَقُوَّتِهَا الدَّمَ ثُمَّ الْمَنِيَّ ثُمَّ تَدَّخِرُ التُّفْلَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْمِدَةِ الْبَدَنِ كَأَنَّهُ لِخَوْفِ عَدَمِ غَيْرِهِ .
فَإِذَا ازْدَادَ اجْتِمَاعُ الْمَنِيِّ أَقْلَقَ عَلَى نَحْوِ إقْلَاقِ الْبَوْلِ لِلْحَاقِنِ ، إلَّا أَنَّ إقْلَاقَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ إقْلَاقِ الْبَوْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَتُوجِبُ كَثْرَةُ اجْتِمَاعِهِ وَطُولُ احْتِبَاسِهِ أَمْرَاضًا صَعْبَةً ، لِأَنَّهُ يَرْتَقِي مِنْ بُخَارِهِ إلَى الدِّمَاغِ فَيُؤْذِي وَرُبَّمَا أَحْدَثَ سُمِّيَّةً ، وَمَتَى كَانَ الْمِزَاجُ سَلِيمًا فَالطَّبْعُ يَطْلُبُ بُرُوزَ الْمَنِيِّ إذَا اجْتَمَعَ كَمَا يَطْلُبُ بُرُوزَ الْبَوْلِ .
وَقَدْ يَنْحَرِفُ بَعْضُ الْأَمْزِجَةِ الصَّحِيحَةِ ، فَإِذَا وَقَعَ الِاحْتِبَاسُ أَوْجَبَ أَمْرَاضًا ، وَجَدَّدَ أَفْكَارًا ، وَجَلَبَ الْعِشْقَ وَالْوَسْوَسَةَ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ .
قَالَ : وَقَدْ نَجِدُ صَحِيحَ الْمِزَاجِ يُخْرِجُ ذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ وَهُوَ بَعْدُ مُتَقَلْقِلٌ ، فَكَأَنَّهُ الْآكِلُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ قَالَ : فَبَحَثْت عَنْ ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ وُقُوعَ الْخَلَلِ فِي الْمَنْكُوحِ ، إمَّا لِدَمَامَتِهِ وَقُبْحِ مَنْظَرِهِ ، أَوْ لِآفَةٍ فِيهِ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِلنَّفْسِ ، فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ مَا يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ فَقِسْ مِقْدَارَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ فِي الْمَحَلِّ الْمُشْتَهَى وَفِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ دُونَهُ كَالْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخْذَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَطْءِ فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ ، وَكَوَطْءِ الْبِكْرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَطْءِ الثَّيِّبِ .
فَعُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ تَخَيُّرَ الْمَنْكُوحِ يَسْتَقْصِي فُضُولَ الْمَنِيِّ ، فَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ كَمَالُ اللَّذَّةِ لِمَوْضِعِ كَمَالِ بُرُوزِ الْفُضُولِ .
ثُمَّ قَدْ يُؤَثِّرُ هَذَا فِي الْوَلَدِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ شَابِّينَ فَرَّجَا أَنْفُسَهُمَا عَنْ النِّكَاحِ مُدَّةً مَدِيدَةً كَانَ الْوَلَدُ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِمَا أَوْ مِنْ الْمُدْمِنِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَلِهَذَا كُرِهَ نِكَاحُ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَقْبِضُ النَّفْسَ عَنْ انْبِسَاطِهَا فَيَتَخَيَّلُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنْكِحُ بَعْضَهُ ، وَمُدِحَ نِكَاحُ الْغَرَائِبِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
إلَى أَنْ قَالَ : فَمَنْ أَرَادَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ وَقَضَاءَ الْوَطَرِ فَلْيَتَخَيَّرْ الْمَنْكُوحَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَخْطُوبَةِ ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ فَلْيَتَزَوَّجْهَا ، وَلْيَنْظُرْ فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ عَلَامَتَهَا تَعَلُّقٌ بِالْقَلْبِ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَصْرِفُ الطَّرْفَ عَنْهَا ، فَإِذَا انْصَرَفَ الطَّرْفُ قَلِقَ الْقَلْبُ وَتَقَاضَى النَّظْرَةَ .
فَهَذَا الْغَايَةُ وَدُونَهُ مَرَاتِبُ عَلَى مَقَادِيرِهَا يَكُونُ بُلُوغُ الْأَغْرَاضِ .
قَالَ : وَمَنْ قَدَرَ عَلَى مُنَاطَقَةِ الْمَرْأَةِ أَوْ مُكَالَمَتِهَا بِمَا يُوجِبُ التَّنْبِيهَ ثُمَّ لِيَرَى ذَلِكَ مِنْهَا ، فَإِنَّ الْحُسْنَ فِي الْفَمِ وَالْعَيْنَيْنِ فَلْيَفْعَلْ .
قَالَ : وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُبْصِرَ الرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُ نِكَاحَهَا مَا هُوَ عَوْرَةٌ يُشِيرُ إلَى مَا يَزِيدُ عَلَى الْوَجْهِ .
وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَوَقَانُ النَّفْسِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ تَوَقَانُ نَفْسِهِ لِأَجْلِ الْمُسْتَجِدِّ وَتَوَقَانِهَا لِأَجْلِ الْحُبِّ ، فَإِذَا رَأَى قَلَقَ الْحُبِّ أَقْدَمَ .
ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ : مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ كُلُّ تَزْوِيجٍ عَلَى غَيْرِ هَوًى حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْمُتَخَيِّرِ أَنْ يَتَفَرَّسَ الْأَخْلَاقَ فَإِنَّهَا مِنْ الْخَفِيِّ ، فَإِنَّ الصُّورَةَ إذَا خَلَتْ مِنْ الْمَعْنَى كَانَتْ كَخَضْرَاءِ الدِّمَنِ ، فَإِنَّ نَجَابَةَ الْوَلَدِ مَقْصُودَةٌ ، وَفَرَاغَ النَّفْسِ عَنْ الِاهْتِمَامِ بِوُدٍّ مَحْبُوسٍ أَصْلٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ إقْبَالَ الْقَلْبِ عَلَى الْمُهِمَّاتِ .
وَمَنْ فَرَغَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ الْعَارِضَةِ أَقْبَلَ عَلَى الْمُهِمَّاتِ الْأَصْلِيَّة وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ } فَمَنْ قَدَرَ عَلَى امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَلْيُغْمِضْ عَنْ عَوْرَاتِهَا وَلْتَجْتَهِدْ هِيَ فِي مُرَاضَاتِهِ ، فَإِنْ خَافَ مِنْ وُجُودِ الْمُسْتَحْسَنَةِ أَنْ تَشْغَلَ قَلْبَهُ عَنْ ذَكَرِ الْآخِرَةِ أَوْ تَطْلُبَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ الْوَرَعِ وَيَدْخُلُ فِيمَا لَا يَجْمُلُ إذْ يَبْعُدُ فِي الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْعَفَافُ فَلْيُبَالِغْ فِي حِفْظِهِنَّ وَسِتْرِهِنَّ فَإِنْ وَجَدَ مَا لَا يُرْضِيهِ عَجَّلَ الِاسْتِبْدَالَ فَإِنَّهُ سَبَبُ السُّلُوِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ كَغَيْرِهِ : يُسْتَحَبُّ نِكَاحُ دَيِّنَةٍ وَلُودٍ بِكْرٍ حَسِيبَةٍ جَمِيلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، قِيلَ وَاحِدَةٌ ، وَقِيلَ : عَكْسُهُ كَمَا لَوْ لَمْ تُعِفَّهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ لَيْتَ إذَا تَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ يَفْلِتُ .
قَالَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي مُنَاظَرَاتِهِ لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَأَرَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَتَسَرَّى فَقَالَ يَكُونُ لَهَا لَحْمٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كَانَ يُقَالُ لَوْ قِيلَ لِلشَّحْمِ أَيْنَ تَذْهَبُ لَقَالَ أُقَوِّمُ الْمُعْوَجَّ .
وَكَانَ يُقَالُ : مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلْيَسْتَجِدْ شَعْرَهَا فَإِنَّ الشَّعْرَ وَجْهٌ فَتَخَيَّرُوا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ قَالَ : وَكَانَ يُقَالُ النِّسَاءُ لُعَبٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ مَا يَلِيقُ بِمَقْصُودِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَذْكُرَ لَهُ مَا يَصْلُحُ لِلْمَحَبَّةِ ، فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَا تَوَدُّ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْبِكْرَ مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالدِّينِ وَالْقَنَاعَةِ .
وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إلَى الْعِشْرِينَ ، وَيَتِمُّ نَشْوُ الْمَرْأَةِ إلَى الثَّلَاثِينَ ، ثُمَّ تَقِفُ إلَى الْأَرْبَعِينَ ثُمَّ تَنْزِلُ .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الثَّيِّبِ مَنْ قَدْ طَالَ لُبْثُهَا مَعَ رَجُلٍ .
قَالَ : وَأَحْسَنُ النِّسَاءِ التُّرْكِيَّاتُ ، وَأَصْلَحُهُنَّ الْجَلَبُ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْ أَحَدًا انْتَهَى .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ ، إنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ } .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ : مَطْلَبٌ : خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا الْحَافِظَةُ لَهُ فِي مَغِيبِهِ وَمَشْهَدِهِ : وَخَيْرُ النَّسَا مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ ( وَخَيْرُ النِّسَاءِ ) قَصَرَهُ ضَرُورَةً ( مَنْ ) أَيْ امْرَأَةٌ أَوْ الَّتِي ( سَرَّتْ ) هِيَ أَيْ أَفْرَحَتْ ، يُقَالُ سَرَّهُ سُرُورًا وَسُرًّا بِالضَّمِّ ، وَسُرَى كَبُشْرَى ، وَتَسِرَّةً وَمَسَرَّةً أَفْرَحَهُ ، وَسُرَّ هُوَ بِالضَّمِّ وَالِاسْمُ السَّرُورُ بِالْفَتْحِ ( الزَّوْجَ ) مَفْعُولُ سَرَّتْ ( مَنْظَرًا ) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنْ فَاعِلٍ ، أَيْ خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ سَرَّ الزَّوْجَ مَنْظَرُهَا ( وَمَنْ ) أَيْ امْرَأَةٌ أَوْ الَّتِي ( حَفِظَتْهُ ) أَيْ صَانَتْهُ وَحَفِظَتْ مَا اسْتَوْدَعَهَا إيَّاهُ مِنْ نَفْسِهَا وَمَالِهِ ( فِي مَغِيبِ ) الزَّوْجِ عَنْهَا ( وَمَشْهَدِ ) مِنْهُ إلَيْهَا ، فَتَحْفَظُ فَرْجَهَا وَجَمِيعَ نَفْسِهَا مِنْ كَلَامٍ وَنَظَرٍ وَتَمْكِينٍ مِنْ قُبْلَةٍ وَلَمْسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَتَحْفَظُ مَالَهُ عَنْ الضَّيَاعِ وَالتَّبْذِيرِ ، وَبَيْتَهُ عَنْ دُخُولِ مَنْ لَا يُرِيدُ دُخُولَهُ إلَيْهِ .
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمَا جَيِّدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَلْبًا شَاكِرًا ، وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا ، وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ } الْحُوبُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتُضَمُّ هُوَ الْإِثْمُ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ } وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ قَالَ { إنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ } .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ثَلَاثٌ مِنْ السَّعَادَةِ : الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَرَاهَا تُعْجِبُك ، وَتَغِيبُ فَتَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِك ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ وَطِئَةً فَتُلْحِقُك بِأَصْحَابِك ، وَالدَّارُ تَكُونُ وَاسِعَةً كَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ .
وَثَلَاثٌ مِنْ الشَّقَاءِ : الْمَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوءك وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْك ، وَإِنْ غِبْت لَمْ تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِك ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفًا فَإِنْ ضَرَبْتهَا أَتْعَبَتْك وَإِنْ تَرَكْتهَا لَمْ تُلْحِقْك بِأَصْحَابِك ، وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ الْمَرَافِقِ }.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ بُكَيْرٍ الْحَضْرَمِيُّ فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا.
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : مُحَمَّدٌ صَدُوقٌ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ .
وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ : ثَلَاثَةٌ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ : الدَّارُ الْوَسِيعَةُ إذَا كَانَتْ مَنِيعَةً ، وَالْفَرَسُ السَّرِيعَةُ إذَا كَانَتْ تَلِيعَةً ، وَالْمَرْأَةُ الْمُطِيعَةُ إذَا كَانَتْ بَدِيعَةً .
وَمَعْنَى زِيَادَتِهَا فِي الْعُمْرِ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرَى لِعَيْشِهِ لَذَّةً وَلِعُمُرِهِ بَرَكَةً ، وَتَمْضِي أَيَّامُهُ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ ، وَأَوْقَاتُهُ بِاللَّذَّةِ وَالْحُبُورِ بِخِلَافِ مَنْ رُمِيَ بِضِدِّ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْمَهَالِكِ ، لِمَا ضُيِّقَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَالِكِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا هُنَالِكَ

مَطْلَبٌ : الْخَيْرُ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ .
وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنْ يَكُنْ الْخَيْرُ فِي شَيْءٍ فَفِي ثَلَاثَةٍ : الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ " الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ : الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ " .
وَفِي رِوَايَةٍ الشُّؤْمُ فِي أَرْبَعٍ فَزَادَ الْخَادِمَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَقِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُون مُسْتَثْنًى مِنْ حَدِيثِ لَا طِيَرَةَ.
وَقِيلَ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ يَقُولُونَ الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ ، الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ } فَسَمِعَ الرَّاوِي آخِرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا .
وَقِيلَ شُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَشُؤْمُ جِيرَانِهَا وَأَذَاهُمْ ، وَشُؤْمُ الْخَادِمِ سُوءُ خُلُقِهِ وَعَدَمُ تَعَهُّدِهِ لِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالشُّؤْمِ هُنَا عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ .
وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَتَعَرُّضِهَا لِلرَّيْبِ .
وَشُؤْمُ الْفَرَسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا .
وَقِيلَ حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا .
وَقَالَ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ : وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ لِي فِي تَأْوِيلِهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى الْقَطَّانِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثٍ : فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ } فَقَالَ يُوسُفُ سَأَلْت ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ سُفْيَانُ : سَأَلْت عَنْهُ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ : سَأَلْت عَنْهُ سَالِمًا فَقَالَ سَالِمٌ : سَأَلْت عَنْهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : سَأَلْت عَنْهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: { إذَا كَانَ الْفَرَسُ ضَرُوبًا فَهُوَ مَشْئُومٌ ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَرَفَتْ زَوْجًا غَيْرَ زَوْجِهَا فَحَنَّتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَعِيدَةً عَنْ الْمَسْجِدِ لَا يُسْمَعُ فِيهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ ، وَإِذَا كُنَّ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُنَّ مُبَارَكَاتٌ } .
قُلْت : وَتَقَدَّمَ بُعْدُ الدَّارِ عَنْ الْمَسْجِدِ وَمَدْحُهُ فَلَعَلَّ مَا هُنَا إنْ صَحَّ لِعَدَمِ سَمَاعِ الْأَذَانِ دُونَ نَفْسِ الْبُعْدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَفِي الطَّبَرَانِيِّ وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ امْرَأَةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطْرِ الْبَاقِي } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظٍ { إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ نِصْفَ الدِّينِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي } .

مَطْلَبٌ : الْجَمَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ .
" تَتِمَّةٌ " فِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الْمَلَاحَةِ وَالْجَمَالِ بِطَرِيقِ الْإِيجَازِ وَالْإِجْمَالِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْبَابِ التَّاسِعَ عَشَر مِنْ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ : اعْلَمْ أَنَّ الْجَمَالَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، فَالْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ ، وَهُوَ جَمَالُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْجُودِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ ، وَهَذَا الْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ وَمَوْضِعُ مَحَبَّتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } .
وَهَذَا الْجَمَالُ يُزَيِّنُ الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جَمَالٍ ، فَيَكْسُو صَاحِبَهَا مِنْ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ وَالْحَلَاوَةِ بِحَسَبِ مَا اكْتَسَبَتْ رُوحُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْطَى مَهَابَةً وَحَلَاوَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِ ، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ ، وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبَّهُ ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْعِيَانِ ، فَإِنَّك تَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ الْمُحْسِنَ ذَا الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ مِنْ أَحْلَى النَّاسِ صُورَةً وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ غَيْرَ جَمِيلٍ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ وَتُحَسِّنُهُ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ تُكْثِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ إنَّهَا تُحَسِّنُ الْوَجْهَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يَحْسُنَ وَجْهِي .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَالَ لِلْبَاطِنِ أَحْسَنُ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ تَعْظِيمِ صَاحِبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْمَيْلِ إلَيْهِ ، وَأَمَّا الْجَمَالُ الظَّاهِرُ فَزِينَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ الصُّوَرِ عَنْ بَعْضٍ ، وَهِيَ مِنْ زِيَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } قَالُوا هُوَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ وَالصُّورَةُ الْحَسَنَةُ وَالْقُلُوبُ كَالْمَطْبُوعَةِ عَلَى مَحَبَّتِهِ كَمَا هِيَ مَفْطُورَةٌ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً وَثَوْبُهُ حَسَنًا أَفَذَلِكَ مِنْ الْكِبْرِ ؟ فَقَالَ لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } فَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ ، وَغَمْطُ النَّاسِ النَّظَرُ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالِاحْتِقَارِ وَالِاسْتِصْغَارِ لَهُمْ ، وَتَقَدَّمَ هَذَا مَبْسُوطًا .
وَالْجَمَالُ الظَّاهِرُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى عِبَادِهِ يُوجِبُ الشُّكْرَ .
وَشُكْرُهُ التَّقْوَى وَالصِّيَانَةُ ، فَكُلَّمَا شَكَرَ مَوْلَاهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ زَادَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَمَنَحَهُ كَمَالًا .
وَأَمَّا إنْ بَذَلَ الْجَمَالَ فِي الْمَعَاصِي عَادَ وَحْشَةً وَشَيْنًا كَمَا شُوهِدَ مِنْ عَالَمٍ كَثِيرٍ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ .
فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ انْقَلَبَ قُبْحًا وَشَيْنًا يَشِينُهُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ .
انْتَهَى .
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ الْقَائِلِ : وَمَا يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوهِهِمْ إذَا كَانَتْ الْأَفْعَالُ غَيْرَ حِسَانِ فَلَا تَجْعَلْ الْحُسْنَ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَتَى فَمَا كُلُّ مَصْقُولِ الْحَدِيدِ يَمَانِي وَقَالَ آخَرُ وَأَحْسَنَ : صُنْ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلَّا فَيَذْهَبْ فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالًا وَيُكْسِبْ وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبْ فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللَّهَ إنْ تُرِدْ دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبْ يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَةً وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لِلْحُسْنِ تَسْلُبْ وَتُكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بِهَائِهِ وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبْ فَسَارِعْ إلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدْ الْهَنَا غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبْ فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَنَّةٍ بِهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظًى تَتَلَهَّبْ .

مَطْلَبٌ : ثَلَاثَةٌ تَجْلُو الْبَصَرَ .
وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ وَقِيلَ مَوْضُوعٌ { ثَلَاثَةٌ يُجَلِّينَ الْبَصَرَ : النَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ ، وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي ، وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ } .
أَوْرَدَهُ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ { ثَلَاثَةٌ يَزِدْنَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ : الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ } وَعَزَاهُ إلَى أَبِي الْحَسَنِ الْعِرَاقِيِّ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ .
قَوْلُهُ : يُجَلِّينَ الْبَصَرَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ .
وَيُرْوَى فِي لَفْظٍ { ثَلَاثَةٌ تَجْلُو الْبَصَرَ : الْخُضْرَةُ وَالْمَاءُ الْجَارِي ، وَالْوَجْهُ الْحَسَنُ } وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ : ثَلَاثَةٌ تَجْلُو عَنْ الْقَلْبِ الْحَزَنْ الْمَاءُ وَالْخُضْرَةُ وَالْوَجْهُ الْحَسَنْ وَيُرْوَى فِي حَدِيثٍ { النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ يُورِثُ الْفَرَحَ ، وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْقَبِيحِ يُورِثُ الْكَلَحَ } وَهَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِحَدِيثٍ فِيمَا أَظُنُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْكَلَحُ تَقَبُّضُ الْوَجْهِ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا كَانَ النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ يَزِيدُ فِي الْبَصَرِ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْقَبِيحِ يَنْقُصُ مِنْهُ ، وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ آبَائِهِ يَقُولُ : الْجَمَالُ مَرْحُومٌ وَقَالُوا : شَفِيعُ الْحُسْنِ مَقْبُولٌ وَنَظَمَ ذَلِكَ ابْنُ قَنْبَرٍ الْمَازِنِيُّ فَقَالَ : وَيْلِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا وَزَادَ قَلْبِي إلَى أَوْجَاعِهِ وَجَعَا كَأَنَّمَا الشَّمْسُ فِي أَعْطَافِهِ لَمَعَتْ حُسْنًا أَوْ الْبَدْرُ مِنْ آزَارِهِ طَلَعَا مُسْتَقْبِلٌ بِاَلَّذِي يَهْوَى وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الذُّنُوبُ وَمَعْذُورٌ بِمَا صَنَعَا فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إسَاءَتَهُ مِنْ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُ مَا شَفَعَا قَالَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُنَجِّمُ : كُنْت يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُقَطِّبٌ إذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَكَانَ مِنْ الْحُسْنِ عَلَى غَايَةٍ ، فَلَمَّا رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ ضَحِكَ وَقَالَ يَا يَحْيَى مَنْ الَّذِي يَقُولُ : فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ .
الْأَبْيَاتَ ؟ فَقُلْت ابْنُ قَنْبَرٍ ، فَقَالَ لِلَّهِ دَرُّهُ ثُمَّ اسْتَنْشَدَنِي الْأَبْيَاتَ فَأَنْشَدْته إيَّاهَا وَقَدْ انْقَلَبَ تَقْطِيبُهُ ضَحِكًا وَسُرُورًا..

مَطْلَبٌ : فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَالْمَلِيحَةِ .
وَفِيهِ حِكَايَتَانِ لَطِيفَتَانِ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَالْمَلِيحَةِ ، فَقَالَ الْجَمِيلَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ بِبَصَرِك عَلَى الْبُعْدِ ، وَالْمَلِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ بِقَلْبِك عَلَى الْقُرْبِ .
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْأَغَانِي : قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ يَوْمًا لِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ : أَنَا أَجْمَلُ مِنْك ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ : بَلْ أَنَا أَجْمَلُ مِنْك ، فَاخْتَصَمَتَا إلَى عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، فَقَالَ : لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا ، أَمَّا أَنْتِ يَا سُكَيْنَةُ فَأَمْلَحُ ، وَأَمَّا أَنْتِ يَا عَائِشَةُ فَأَجْمَلُ ، فَقَالَتْ سُكَيْنَةُ : قَضَيْت وَاَللَّهِ لِي عَلَيْهَا .
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ : مَا أَجْمَلَكَ يَا أَبَا صَفْوَانَ ، قَالَ : كَيْفَ تَقُولِينَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِي عَمُودُ الْجَمَالِ وَلَا رِدَاؤُهُ وَلَا بُرْنُسُهُ ، أَمَّا عَمُودُهُ فَالْقَوَامُ وَالِاعْتِدَالُ وَأَنَا قَصِيرٌ ، وَأَمَّا رِدَاؤُهُ فَالْبَيَاضُ وَلَسْت بِأَبْيَضَ ، وَأَمَّا بُرْنُسُهُ فَسَوَادُ الشَّعْرِ وَجُعُودَتِهِ وَأَنَا أَصْلَعُ ، وَلَوْ قُلْت مَا أَمْلَحَك لَصَدَقْت .
وَفِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ : إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بِهَا مَسْحَةٌ مِنْ جَمَالٍ فَهِيَ جَمِيلَةٌ وَضِيئَةٌ ، فَإِذَا أَشْبَهَ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْحُسْنِ فَهِيَ حُسَانَةٌ ، فَإِذَا اسْتَغْنَتْ بِجَمَالِهَا عَنْ الزِّينَةِ فَهِيَ غَانِيَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَالِي أَنْ لَا تَلْبَسَ ثَوْبًا حَسَنًا وَلَا تَتَقَلَّدَ قِلَادَةً حَسَنَةً فَهِيَ مِعْطَالٌ ، فَإِذَا كَانَ حُسْنُهَا بَائِنًا كَأَنَّهُ قَدْ وَسِمَ فَهِيَ وَسِيمَةٌ ، فَإِذَا قُسِمَ لَهَا حَظٌّ وَافِرٌ مِنْ الْحُسْنِ فَهِيَ قَسِيمَةٌ ، فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا يَسُرُّ الرَّوْعَ فَهِيَ رَائِعَةٌ ، فَإِذَا غَلَبَتْ النِّسَاءَ بِحُسْنِهَا فَهِيَ بَاهِرَةٌ .
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ : الصَّبَاحَةُ فِي الْوَجْهِ ، وَالْوَضَاءَةُ فِي الْبَشَرَةِ ، وَالْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ ، وَالْحَلَاوَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ ، وَالْمَلَاحَةُ فِي الْفَمِ ، وَالظُّرْفُ فِي اللِّسَانِ .
وَالرَّشَاقَةُ فِي الْقَدِّ ، وَاللَّبَاقَةُ فِي الشَّمَائِلِ .
وَكَمَالُ الْحُسْنِ الشَّعْرُ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : وَالْبَرَاعَةُ فِي الْجِيدِ .
وَالرِّقَّةُ فِي الْأَطْرَافِ ، وَأَكْثَرُ هَذَا التَّنْزِيلِ عَلَى التَّقْرِيبِ ، وَالتَّحْقِيقِ مِنْهُ بَعِيدٌ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِأَعْرَابِيَّةٍ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَصِفِي لِي النِّسَاءَ ، قَالَتْ لَهُ : عَلَيْك بِالْبَضَّةِ الْبَيْضَاءِ الدَّرْمَاءِ اللَّعْسَاءِ الشَّمَّاءِ الْجَيْدَاءِ ؛ الرَّبْحَلَةِ السَّبْحَلَةِ ، الْمُدْمَجَةِ الْمَتْنِ ، الْخَمِيصَةِ الْبَطْنِ ، ذَاتِ الثَّدْيِ النَّاهِدِ ، وَالْفَرْعِ الْوَارِدِ وَالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ ، وَالْحَدَقَةِ الْكَحْلَاءِ ، وَالْعَجِيزَةِ الْوَثِيرَةِ ، وَالسَّاقِ الْمَمْكُورَةِ ، وَالْقَدَمِ الصَّغِيرَةِ فَإِنْ أَصَبْتهَا فَأَعْطِهَا الْحُكْمَ فَإِنَّهُ غُنْمٌ مِنْ الْغُنْمِ .
قَالَ فِي كِفَايَة الْمُتَحَفِّظِ : الْبَضَّةُ الرَّقِيقَةُ الْجِلْدِ .
وَفِي الْقَامُوسِ : دَرِمَ كَفَرِحِ اسْتَوَى وَالْكَعْبُ أَوْ الْعَظْمُ وَأُرَاهُ اللَّحْمَ حَتَّى لَمْ يَبِنْ لَهُ حَجْمٌ .
وَامْرَأَةٌ دَرْمَاءُ لَا يَتَبَيَّنُ كُعُوبُهَا وَمَرَافِقُهَا .
وَاللَّعْسَاءُ هِيَ الَّتِي فِي شَفَتِهَا سَوَادٌ .
وَكَذَا اللَّمْيَاءُ وَالشَّمَّاءُ هِيَ الَّتِي فِي أَنْفِهَا ارْتِفَاعٌ وَاسْتِوَاءٌ ؛ فَإِنْ ارْتَفَعَ وَسَطُ الْأَنْفِ عَنْ طَرَفَيْهِ فَهُوَ أَقْنَى وَالْمَرْأَةُ قَنْوَاءُ وَالْجَيْدَاءُ طَوِيلَةُ الْجِيدِ ، وَالْجِيدُ بِالْكَسْرِ الْعُنُقُ أَوْ مُقَلَّدُهُ أَوْ مُقَدَّمُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ، وَفِيهِ جَارِيَةٌ رِبْحِلَةٌ ضَخْمَةٌ جَيِّدَةُ الْخَلْقِ طَوِيلَةٌ .
وَالسَّبْحَلَةُ الْحَسَنَةُ الْخَلْقِ .
قَالَ الْمُتَنَبِّي : سَارُوا بِخَرْعُوبَةٍ لَهَا كِفْلٌ يَكَادُ عِنْدَ الْقِيَامِ يُقْعِدُهَا رِبْحِلَةٌ أَسْمَرُ مُقْبِلُهَا سَبْحَلَةٌ أَبْيَضُ مَجْرَدُهَا وَالْمَتْنُ الظَّهْرُ .
وَمَعْنَى مُدْمَجَةٍ أَيْ مَلْفُوفَةِ الْمَتْنِ ، وَقَوْلُهَا : الْخَمِيصَةِ الْبَطْنِ أَيْ خَالِيَةِ الْبَطْنِ بِمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَفِخَةِ الْبَطْنِ ، يُقَالُ خَمِصَ الْبَطْنُ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ خَلَا .
وَيُقَالُ : رَجُلٌ خُمَصَانُ بِالضَّمِّ وَالتَّحْرِيكِ وَخَمِيصُ الْحَشَى أَيْ ضَامِرُ الْبَطْنِ وَهِيَ خَمْصَانَةٌ وَخَمِيصَةٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ، وَقَوْلُهَا ذَاتِ الثَّدْيِ النَّاهِدِ أَيْ صَاحِبَةِ الثَّدْيِ الْمُرْتَفِعِ ؛ وَالْفَرْعِ الْوَارِدِ أَيْ الشَّعْرِ الطَّوِيلِ ؛ وَالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ أَيْ الْوَاسِعَةِ ؛ وَالْحَدَقَةِ الْكَحْلَاءِ ؛ الْحَدَقَةُ إنْسَانُ الْعَيْنِ وَالْكُحْلُ سَوَادُهَا خِلْقَةً ؛ وَالْعَجِيزَةُ الْكِفْلُ ؛ وَقَوْلُهَا الْوَثِيرَةِ أَيْ كَثِيرَةِ اللَّحْمِ أَوْ السَّمِينَةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْمُضَاجَعَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ .
وَقَوْلُهَا وَالسَّاقِ الْمَمْكُورَةِ الْغَلِيظَةِ الْحَسْنَاءِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْحُورَ الْعِينَ بِأَوْصَافٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَنَّهُنَّ حُورٌ ؛ وَالْحَوَرُ شِدَّةُ بَيَاضِ أَبْيَضِ الْعَيْنِ وَشِدَّةُ سَوَادِ أَسْوَدِهَا .
وَقِيلَ الْعَيْنُ الَّتِي بَدَنُهَا أَسْوَدُ كَعَيْنِ الْمَهَا وَبَقَرِ الْوَحْشِ .
وَالْعَيْنُ جَمْعُ عَيْنَاءُ ؛ وَهِيَ وَسِيعَةُ الْعَيْنِ .
وَوَصَفَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ كَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ ؛ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا وَاسْتَدَارَ وَلَمْ يَتَدَلَّ إلَى أَسْفَلَ ؛ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ خَلْقِ النِّسَاءِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِسِنِّ الشَّبَابِ .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ .
وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُشَوِّقُ أَهْلَ الْإِيمَانِ إلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ ؛ لِيَدْخُلُوا فَسَيَّحَ الْجِنَانِ .
وَيَتَنَعَّمُوا بِالْحُورِ الْحِسَانِ .
وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ ..
ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَسُرُّ زَوْجَهَا إذَا نَظَرَ إلَيْهَا أَوْصَافًا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا فَقَالَ : مَطْلَبٌ : فِي أَوْصَافِ الْمَرْأَةِ الْمَحْمُودَةِ : قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ ( قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ ) أَيْ لَيْسَتْ طَوِيلَةَ اللِّسَانِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَلَا هِيَ قَبِيحَةُ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ أَنَّهَا تَسْتَطِيلُ عَلَى بَعْلِهَا بِكَلَامِهَا وَلَا هِيَ بِالْبَذِيَّةِ بَلْ قَصِيرَةُ اللِّسَانِ وَالْأَلْفَاظِ لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ .
وَهَذَا قِصَرٌ مَعْنَوِيٌّ ( قَصِيرَةُ بَيْتِهَا ) أَيْ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيْتِهَا لَا تَدُورُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ .
بَلْ لَا تَزَالُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِهَا مَقْصُورَةً فِيهِ .
وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَيْ مَسْتُورَاتٌ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : الْمَقْصُورَاتُ الْمَحْبُوسَاتُ .
قَالَ الْإِمَام الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ إلَى مَنَازِلِ الْأَفْرَاحِ .
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ وَهُمْ فِي الْخِيَامِ .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ قُصِرْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ وَلَا يَطْمَحْنَ إلَى سِوَاهُمْ ؛ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ ( قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ ) أَيْ لَا تَطْمَحُ بِطَرْفِهَا إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : ( عَنْ كُلِّ ) رَجُلٍ ( أَبْعَدِ ) بَلْ طَرْفُهَا مَقْصُورٌ عَلَى زَوْجِهَا فَقَطْ .
وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ هُوَ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي .
لَكِنَّ هُنَا قَاصِرَاتٌ الطَّرْفِ بِأَنْفُسِهِنَّ وَهُنَاكَ مَقْصُورَاتٌ ؛ وَكَأَنَّ مَنْ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى : { مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } فَرَّ مِنْ أَنْ يَكُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي الْخِيَامِ لَا تُفَارِقُهَا إلَى الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ .
وَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُنَّ بِصِفَاتِ النِّسَاءِ الْمُخَدَّرَاتِ الْمَصُونَاتِ وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْوَصْفِ .
وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهُنَّ لَا يُفَارِقْنَ الْخِيَامَ إلَى الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ .
كَمَا أَنَّ نِسَاءَ الْمُلُوكِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْمُخَدَّرَاتِ الْمَصُونَاتِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي سَفَرٍ وَغَيْرِهِ إلَى مُنْتَزَهٍ وَبُسْتَانٍ وَنَحْوِهِ ؛ فَوَصْفُهُنَّ اللَّازِمُ لَهُنَّ الْقَصْرُ فِي الْبَيْتِ ؛ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُنَّ مَعَ الْخَدَمِ الْخُرُوجُ إلَى الْبَسَاتِينِ وَنَحْوِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ مَقْصُورَاتٌ قُلُوبُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فِي خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ .

مَطْلَبٌ : فِي بَيَانِ الْأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَالِ .
قَالَ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ : يُسْتَحَبُّ السَّعَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : وَجْهُهَا وَصَدْرُهَا وَكَاهِلُهَا - وَهُوَ مَا بَيْنَ كَتِفَيْهَا - وَجَبْهَتُهَا .
وَيُسْتَحَبُّ مِنْهَا الْبَيَاضُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : لَوْنُهَا وَفَرْقُهَا وَثَغْرُهَا وَبَيَاضُ عَيْنِهَا ، وَالسَّوَادُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : عَيْنُهَا وَحَاجِبُهَا وَهُدْبُهَا وَشَعْرُهَا .
وَيُسْتَحَبُّ الطُّولُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ قَوَامُهَا وَعُنُقُهَا وَشَعْرُهَا وَبَنَانُهَا .
وَيُسْتَحَبُّ الْقِصَرُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مَعْنَوِيَّةٌ : لِسَانُهَا وَيَدُهَا وَرِجْلُهَا وَعَيْنُهَا ، فَتَكُونُ قَاصِرَةَ الطَّرْفِ ، قَصِيرَةَ الرِّجْلِ عَنْ الْخُرُوجِ ، قَصِيرَةَ اللِّسَانِ عَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ ، قَصِيرَةَ الْيَدِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يَكْرَهُ الزَّوْجُ وَعَنْ بَذْلِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ الرِّقَّةُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ : خَصْرُهَا وَفَرْقُهَا وَحَاجِبَاهَا وَأَنْفُهَا .
وَقَالَ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ : وَمِمَّا يُسْتَحْسَنُ فِي الْمَرْأَةِ طُولُ أَرْبَعَةٍ : وَهِيَ أَطْرَافُهَا وَقَامَتُهَا وَشَعْرُهَا وَعُنُقُهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَنَانَ .
وَقَالَ وَقِصَرُ أَرْبَعَةٍ : يَدُهَا وَرِجْلُهَا وَلِسَانُهَا وَعَيْنُهَا ، فَلَا تَبْذُلُ مَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا ، وَلَا تَسْتَطِيلُ بِلِسَانِهَا ، وَلَا تَطْمَحُ بِعَيْنِهَا.
قَالَ وَحُمْرَةُ أَرْبَعَةٍ : لِسَانُهَا وَخَدُّهَا وَشَفَتُهَا مَعَ لَعَسٍ وَإِشْرَابُ بَيَاضِهَا بِحُمْرَةٍ .
وَقَالَ فِي الرِّقَّةِ : أَنْفُهَا وَبَنَانُهَا وَخَصْرُهَا وَحَاجِبُهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَرْقَ هُنَا .
قَالَ وَغِلَظُ أَرْبَعَةٍ : سَاقُهَا وَمِعْصَمُهَا وَعَجِيزَتُهَا وَذَاكَ مِنْهَا.
وَقَالَ فِي الْوَسَاعِ مِنْهَا : جَبِينُهَا وَوَجْهُهَا وَعَيْنُهَا وَصَدْرُهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَاهِلَ .
قَالَ وَضِيقُ أَرْبَعَةٍ : فَمُهَا وَمِنْخَرُهَا وَخَرْقُ أُذُنِهَا وَذَاكَ مِنْهَا.
قَالَ فَهَذِهِ يَعْنِي الَّتِي تَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ أَحَقُّ بِقَوْلِ

صورة مفقودة
 
أعلى