ضياء البوسالمي - نَحْوَ تَحْلِيلٍ أُنْترُوبُولُوجِي لِلْبُورْنُوغْرَافِيَا

(1) : [ مقدّمة ]


[ هذه ترجمة ( على أجزاء ) لمقال البروفيسور “برنارد أركاند” الصّادر في مجلّة “أنتروبولوجيا و مجتمعات” سنة 1983. قسم الأنتروبولوجيا في جامعة “لافال”

إنّ الشّروع في تحليل أنتروبولوجي للبورنوغرافيا في الغرب – مع الأخذ بعين الإعتبار خطابات و آراء الغربيّين حول هذه المسألة – يكشف عن صعوبة و حساسيّة هذا الموضوع بالنّسبة لهم. و يُعتبر الجنس هنا من “التّابوهات” و الخوض فيه يُثِيرُ مجموعة من ردود الفعل القويّة : النّشوة، الحرج، الفرح، الصّدمة أو الغضب. و البورنوغرافيا – بشكل خاصّ – عادة ما تُستقبل بالضّحك أو الإحراج. الجنس إِعْتُبِرَ أنّه يجب أن يكون موضوعا خاصًّا و إخراجه للفضاء العامّ يعدّ فُحْشًا، و البورنوغرافيا بطبيعتها دائما ما تكون في جهة النّجس/المُدَنَّسْ، الوقاحة و الشّر.
الموضوع حسّاس لأنّه يسحر أو يُسبّب الإشمئزاز، و بما أنّ الفاحش يجب أن يظلّ سرًّا فهو أيضًا ما لا نرغب و لا نودّ الخوض فيه كالمراحيض التي ظلّت دائما الشّيء القبيح في منازلنا لأنّها مصدر للإحراج. لهذا كانت البورنوغرافيا سيّئة و رديئة لِمُسْتَهْلِكِينَ أغبياء. و التّعاليق المختلفة حول البورنوغرافيا كثيرًا ما تعكسُ هذا الحرج الذي يصاحب موضوعا مسكوتا عنه. هذا ما يجعل من البورنوغرافيا تجربةً منهجيّة فريدةً. فهي مصدر و مولّد للمشاعر و هي صعبة الإستيعاب عصيّة على الفهم إذ أنّه يوجد القليل من مجالات البحث و الدّرس التي يُسْمَحُ فيها بالتّلاعب بالمعطيات أو بالمقولات المقتطعة إعتباطيّا أو الإستنتاجات المتسرّعة. ذلك أنّ النّقاشات حول البورنوغرافيا لا ترتبط أساسًا بالعلم و لكن بالأخلاق و الرّؤى السّياسيّة للمجتمع. النّتيجة هي تنوّع في الآراء و الإنطباعات التي تكون – في بعض الأحيان – مهمّة، و لكنّ عدد الأبحاث الجديّة يبقى محتشمًا. فبالرّغم من وجود عدد كبير من الأعمال الأدبيّة حول هذا الموضوع، مازلنا لا نملك إِيتْنُوغْرَافِي للبورنوغرافيا في الغرب. و هذا ما يؤدّي بنا إلى الحديث عن موضوع نعرف عنه القليل. و بالإضافة إلى “التّابو” الذي يحيط بمملكة المشاعر، يأتي الإحراج الذي يعاني منه المحلّلون كنتيجة لما للبورنوغرافيا من تأثيراتٍ تساهم في تحفيزِ ملكة اُلتَّخَيُّلِ. ههنا تنشأ تقنية مركّبة في مجالٍ لطالما واجهنا صعوبات في تطويعه و حصره. فبين الصّورة الفاحشة و النّشوة الجنسية تتدخّل لعبة اٌلمُتَخَيَّلِ التي تتولّى مهمّة قطع أطول مسافة ممكنة ( المقصود هنا المدّة الزّمنيّة ). و الخيال يبدو أنّه بإستطاعتهِ أن يقودنا إلى أيّ نتيجة : إلى المتعة كما إلى الفزع. هكذا تكون نفس الصّورة مقدِّمة و بداية لألعاب المتعة و الإنتشاء عند شخص في حين يعتبرها شخص آخر مقدِّمة و بداية لكابوس الإغتصاب. إنّ دراسة هذا “اٌلمِيكَانِيزْمْ” تتعلّق في جزء منها بعلم النّفس و العلوم الإجتماعيّة عادةً ما لا تتعامل مع هذا الموضوع بأريحيّة.
من جهة أخرى، كلّ هذا التّوتّر ليس غريبًا على كلِّ المحاولات الفاشلة في تعريف البورنوغرافيا مع منحها معنى دقيق و واضح. هنا يظهر العمل الإعتياديّ لرجال القانون و الرّقابة الذين كثيرًا ما يرسمون – بدقّة متناهية – حدود “المقبُولُ إِجْتِمَاعِيًّا” : إذ يلزمهم تعريف دقيق للفُحشِ الذي يبدو أنّ له مصيرا آخر بخلاف ذلك المُعتَادِ الذي يجعلنا كلّ مرّة نعيد فيه النّظر. و بصفةٍ عامّة، من المستحيل أن يبلغ المستهلكون دقّة المشرفين على الرّقابة، ذلك لأنّهم يكتفون بالتّمييز بين اٌلإِيرُوتِيزْم الذي لا يثور أحد ضدّه و البورنوغرافيا و التي لا يتوانى أحد في الدّفاع عنها. و ثمّة آخرون يرفضون كلّ تعريف : ” لن أقف كثيرا عند مختلف الصّعوبات الموجودة في تعريف البورنوغرافيا. هذا الخطاب الذي نبالغ في إستغلاله يحيد بنا عن الأسئلة الجوهريّة و يبرّر السّلبيّة. لذلك يمكن أن أقترح 30 تعريفا و لكنهم لن يُقْبلوا من أحدٍ لأنّ التّعاريف التي نأخذها هي تلك التي يصوغها من في السّلطة أي أصحاب النّفوذ. فهل من المعقول أن ننتظر أن يقترح أو يتبنّى هؤلاء تعاريف تخدم مصالح المعارضين و الأشخاص المضطهدين و من بينهم نساء ؟ ” ( كاري ميشلين/ البورنوغرافيا قاعدة إيديولوجيّة لإضطهاد النّساء)
من الضّروريّ أن نتبيّن أسباب إعطاء مجتمعٍ ما أهميّة لماهو بورنوغرافي، و أن نعلم ما يجب تعزيزه، رفضه أو منعه. والشّروط التي تسمح لنا بالإنتقاء هي في الحقيقة إمكانيّتنا الوحيدة لدراسة البورنوغرافيا كظاهرة إجتماعيّة. لنحذف مبشارة – و بصفة آليّة – الشّروط الذّاتيّة التي تعرّف البورنوغرافيا على أنّها أمر لا يمكن أن يكون محلّ درس و تحليل : من القاضي العجوز الذي عرّف البورنوغرافيا على أنّها كلّ ما يثير شهوته و يجعل أيره منتصبًا إلى المشاهدة التي إحتجّت على الفحش في نزع “الرّجل الخفيّ” للأشرطة التي تغطّي جسده. في هذا المستوى، العامل الرّئيسيّ هو عين النّاظر.
البورنوغرافيا كظاهرة إجتماعيّة هي تمثيل للجنسانيّة البشريّة المُنْتِجَةِ و المُسْتَهْلَكَةِ بكثرةٍ. إنّها طبعًا لا تمثّل الخطاب الغربيّ الوحيد حول الجنسانيّة ( الدّين، الفنّ، علوم الإجرام و البيولوجيا يتعرّضون لهذا الموضوع أيضًا ) و لكنّها وحدها تمتلك القدرة على إختراق الممنوع. البورنوغرافيا تذهب إلى عمق الأشياء و تصل إلى أبعد الحدود. و هذا يعني أنّها لا تتعرّض إلاّ للجنس بدون خلفيّات أو مرجعيّات.
” لم تعد الأجساد هي التي تمثّل الفُحش و لكن المبالغة في عرضها و كثرة التّعري و الكشف عن الجسد جعلت الأمر دون معنى و مفتقرا/فاقدا للدّلالة. فلتكون فاحشا، يجب أن تتعرّى مرّتين : تخلع ملابسك و تتجاوز مرحلة التّعالي ( أي خلع مجموعة من القيم ) ” ( آلان فينكلكروت و باسكال بروكنر / الأدب و الشّر )
في كلّ فترة من التّاريخ، سيقع إطلاق تسمية “بورنوغرافي” على كلّ ما يفصلُ الجنس عن ما نعتقد أنّها عناصره الأساسيّة، و على كلّ ما ينزع عنه كلّ مبالغة في التّعالِي. و خلال المائة عام الأخيرة تمكّن الغرب من المرور من الفحشِ الذي يتمثّل في العُري خارج إطار غرفة الزّواج إلى قبول العُرْي عندما يكون لدى الأجانب إلى منع تمثيل الإعتداء لجنسيّ على الأطفال. و طبيعة الشّروط الخارجيّة تتغيّر و تختلفُ بإختلاف الحقبة الزّمنية و لكنّها تنتمي إلى تمشّي تطوّري يتّجه نحو تمثّل مادِّي للجنسانيّة : لعبة أجزاء من الجسم.
هذا التّجاوز الذي حصل في عصرنا الرّاهن، يدفعنا إلى ملاحظة الإختلاف بين تمثال “داود” لمايكل آنجلو و صورة بيرت رينولدز و هو عارٍ على غلاف مجلّة بلاي غورل. يفسّر هذا التّجاوز أيضا كيف أنّ الفنّانة الأمريكيّة جودي شيكاغو يمكن أن تقوم بحركة لتكريم مجموعة من النّساء عبر عرض و تمثيل فروجهنّ في صحون و لماذا نفس لعمل من طرف هوغ هيفنر كان سيفَسَّرُ بطريقة أخرى. هذا التّجاوز أيضا هو الذي يمكّننا من إستيعاب و فهم صورة لإمرأة عارية وقع تعنيفها على أنّها بورنوغرافيّة، في حين أنّ صورة مماثلة لرجل عارٍ وقع تعنيفه لا يمكن أن تُعتَبَر صورة بورنوغرافيّة و لا حتّى إيروتيكيّة إذا كان الشّخص المعني مثبّتا على صليب و موجود في كلّ الكنائس.
سيكون من السّهل إذًا أن نعتبر أمورًا بورنوغرافيّة لأنّه و كما قال هربرت ماركوزه ( 1963 ) فقوّة الأخلاق تلعب ضدّ إستعمال الجسد كشيء بسيط، أي كأداة للمتعة. الجنس يجب أن يكشف عن بعض القيم المتعالية و الجنسانيّة يجب أن يقع إجلالها من طرف الحبّ. و قد أشارت سوزان سونتاغ ( 1967 ) أنّ معظم التّحاليل بقيت مقتصرة على الإختزال النّفسيّ و المعجم الدّينيّ و هذا دليل على تدهور تجربة الجنسانيّة و تراجع مكانتها في هذه الثّقافة التي لا يوجد بها سوى المخيال الدّينيّ الذي يُعتبَرُ قابلاً للتّصديق في كلّيتهِ. و سوزان سونتاغ أيضا هي التي أشارت إلى صعوبة الحديث عن الشّر عندما تفتقر إلى المعجم الدّينيّ و المعجم الفلسفيّ. ففي مرحلة أولى يجب أن نرى كيف ينجح المختصّون/العلماء الغربيّون في الحديث عن الشّر. بعدها نعتبر أنّ النّقاش حول البورنوغرافيا هو نقاش إيديولوجيّ حول العلاقات بين الأجناس و أخيرًا البحث عن طريقة تجل البورنوغرافيا نتيجة إجتماعيّة ( نتيجة من نتائج مجتمع الإستهلاك ).


.
صورة مفقودة
 
نَحْوَ تَحْلِيلٍ أُنْترُوبُولُوجِي لِلْبُورْنُوغْرَافِيَا (2) :

[ الجوانب التي نعتقد أنّنا نعلمها ]
( الجزء الأوّل )

رغم وفرة الأعمال الأدبيّة حول البورنوغرافيا، فإنّ هذا الموضوع ظلّ مغيّبا لأنّ الكتّاب عادة ما يقدّمون تعليقا سطحيّا، رأيا متشدّدا و جاهزا أو تحليلا لبعض الأعمال التي تطرح تمثيليّتها إشكالا.
الإنجازات قليلة و نادرة و يمكن أن نضبطها في قائمة محدودة.

في البداية، تجدر الإشارة إلى أنّ الصناعة ( البورنوغرافيا ) موجودة و قد شهدت إنتشارا واسعا و ملحوظا خلال العشرين سنة الأخيرة. في أميركا الشماليّة، عادة ما يُقَدَّمُ رقم معاملات سنويّ يساوي 5 مليار دولار؛ و هذا يعتبر رقما مهما و لكنّه يمثّل 2.8 % من سوق بيع الكحول في الولايات المتحدة الأمريكيّة. كان لهذه الصناعة كذلك تأثيرا إقتصاديا غير مباشر، على الأقل على مستوى السياحة ( مثال كوبا قبل الثورة و الدنمارك في أواخر الستينات ) و على مستوى التطور التكنولوجي؛ تقنيات تسجيل الفيديو و أخيرا، الكاميرا مكّنت من تطوير الصور دون الجاجة إلى اللّجوء إلى مختبر.
نحن نعلم كذلك أنّ تقنيات التّسجيل، إعادة الإنتاج و بثّ الصّورتحوّل المجال السمعي البصري لكتاب و تقوم ببتمرير نوع كامل من البورنوغرافيا من من دائرة العامّ إلى دائرة الخاصّ؛ و هذا ما يعلن - على الأرجح - موت السينما المختصّة و هو ما يجعل كذلك كلّّ محاولة حجب صعبة التحقّق و عقيمة.
من جهة أخرى - و على الرّغم من أنّه لا دليل على ما تقدّم - يبدو أنّه من العقلانيّ إعتبار دَمَقْرَطَةُ البورنوغرافيا في الغرب إنجازا مهمّا. لقد كانت البورنوغرافيا في الماضي - في تعبيراتها الأكثر تفصيليّة - حكرا على صالونات البرجوازيّة، ثمّ تحوّلت تدريجيّا لتصبح متاحة للجميع وللبروليتاريا التي لم تكن تملك من البورنوغرافيا سوى مجرّد قصص فاحشة، لكن أصبح بإمكانها فيما بعد أن تتستهلك بالعين أنواعا متعدّدة من الأجساد المبهرة و التي كانت مخصّصة لأصحاب النّفوذ.

من زاوية أخرى، إذا نظرنا إلى هذه الصّناعة من جهة الأنتروبولوجيا الوصفيّة ( ethnographie ) و قمنا بدراسة كاملة في هذا المجال، نستنتج أنها أن تمنح و تهدي كلّ شيء. لقد وهبت صناعة البورنوغرافيا كلّ الصور الممكنة و ذلك نتيجة لإنطلاقها من قناعة راسخة : الممارسات الجنسيّة تغطي كلّ التنّوع الموجود و الإعتقاد في وجود سوق/ساحة لعرض و "تجسيد" كلّ هذه الممارسات؛ إلى درجة أنّ إشتغالها الدائم على مستوى الجسد فقط حوّلها بسرعة إلى حقل فقير و مُسْتَهْلَكْ. إشتغلت صديقة على تحضير فيلم دنماركيّ بعنوان "الحياة الجنسيّة للمسيح" و قد أحدث هذا الفيلم ضجّة و جدلا دون أن يقع تصويره. تخبرنا الصديقة عن حيرة منتجي البورنوغرافيا : " عندما أظهرتم كلّ حيثيّات جسد الإنسان، و إستغللتم كلّ أنواع الحيوانات التي يمكن أن تُقَام معها علاقة جسديّة وأظهرتم بالتفصيل كلّ هذا الشذوذ، ماذا تفعلون ؟ ماهو هدفكم ؟ " المنتجون قاموا بكلّ هذا و يسألون عن العمل بعد ذلك.
و رغم كلّ ما يُقَالُ عن دور الفنّان في التّجديد و البحث عن الجنون و الخارج عن المألوف، تبقى البورنوغرافيا سجينة حركات "ميكانيكيّة" للأجساد لذلك فإنّ هذه الصناعة تعاني من المبالغة في تقديم مثل هذه الأشياء : مثال الدنمارك له قيمة بالنسبة للكثيرين حيث تعتبر هذه الظاهرة حديثة نسبيا، لكن و على الرغم من ذلك، فقد وقع تجاوز صدمة البداية و متعة خرق و تجاوز الممنوع، لتنخفض نسبة الإستهلاك و تستقرّ بين 12% و 15% من السكان و بذلك تظطر الصناعة إلى الإقتصار على نسبة معيّة من المستهلكين.
هذه الإنجازات المعدودة تبقى ثانويّة أمام الأهميّة التي يعطيها الأدب للتّأثيرات الإجتماعيّة للبورنوغرافيا. أغلب المهتمّين قلقون من آثار إستهلاك كمّ هائل من الصور الإستيهاميّة. والغربيّون و إن كانوا معتادون على التّمييز بين الحقيقي و المتخيّل فإنّ العلاقة بين هذين العالمين أصبحت تثير إهتمامهم. يُعْتَبَرُ هذا الموضوع من أكثر المواضيع التي وقع درسها و لم يقع تقديم حلول، و قد كانت الأجوبة و الحلول الأكثر تضاربا و الأقل تحليلا مُقَدَّمَة على أنّها أكيدة و ثابتة. لكن تبقى هذه المسألة في محور الإهتمامات لأنّ الإجابة ستؤسّس لسياسة إجتماعيّة عقلانيّة في ما يتعلّق بالبورنوغرافيا.
 
أعلى