الجاحظ - الرسائل الأدبية

فصل من صدر كتابه في النساء
إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمداً على فراشه. وأول ذلك إدخال الضيم على مروءته، واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته.

ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة، وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة، وحب الرعية للأئمة، وحب المصطنع لصاحب الصنيعة، مع اختلاف مواقع ذلك من النفوس، ومع تفاوت طبقاته في العواقب، احتجنا إلى الاعتذار من ذكر العشق المعروف بالصبابة، والمخالفة على قوة العزيمة، لنجعل ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب، وسخف الرأي الذي دعا إلى تأليفه، والإشادة بذكره. إذا كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ، ومن قائل متكلف، ومن سامع طاعن، ومن منافس مقصر. كما أنها لا تنفك من ذي سلامة متسلم، ومن عالم متعلم، ومن عظيم الخطر حسن المحضر، شديد المحاماة على حقوق الأدباء، قليل التسرع إلى أعراض العلماء.
وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب. وليس كل حب يسمى عشقاً، وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار، كما أن السرف اسم لما زاد على المقدار الذي يسمى جوداً، والبخل اسم لما نقص عن المقدار الذي يسمى اقتصاداً، والجبن اسم لما قصر عن المقدار الذي يسمى شجاعة.
وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء، مستعمل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن الزبير: " والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء " .
وذكر بعض الناس رجلاً كان مدقعاً محروماً، ومنحوس الحظ ممنوعاً، فقال: " ما رأيت أحداً عشق الرزق عشقه، ولا أبغضه الرزق بغضه! " فذكر الأول عشق الشرف، وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات.
وقد يستعمل الناس الكناية، وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة، يريدون أن يظهر المعنى بألين اللفظ، إما تنويهاً وإما تفضيلاً، كما سموا المعزول عن ولايته مصروفاً، والمنهزم عن عدوه منحازاً. نعم، حتى سمى بعضهم البخيل مقتصداً ومصلحاً، وسمي عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصياً.
ولما رأينا الحب من أكبر أسباب جماع الخير، ورأينا البغض من أكبر أسباب الشر، أحببنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير، ليفرق بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما، والموجبة لكونهما.
فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها، ظفر المحب بحبيبه، والعاشق بطلبته، ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه، في وزن سعادة الطالب المنجح وسروره، ووجدنا العشق كلما كان أرسخ، وصاحبه به أكلف، فإن موقع لذة الظفر منه أرسخ، وسروره بذلك أبهج.
فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بعدوه المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته.
قلنا: إنا قد رأينا الكرام والحلماء، وأهل السؤدد والعظماء، ربما جادوا بفضلهم من لذة شفاء الغيظ، ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس، وبعد الهمة والقدر. ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق، وبالثمين من العروض. وربما خرج من جميع ماله، وآثر طيب الذكر على الغني واليسر. ولم نر نفس العاشق تسخو بمعشوقه، ويجود بشقيقة نفسه لوالد ولا لولد بار، ولا لذي نعمة سابغة يخاف سلبها، وصرف إحسانه عنه بسببها.
ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال به، في جنب ما يهبون للنساء. حتى كأن العطر والصبغ، والخضاب والكحل، والنتف والقص، والتحذيف والحلق، وتجويد الثياب وتنظيفها، والقيام عليها وتعهدها، مما لم يتكلفوه إلا لهن، ولم يتقدموا فيه إلا من أجلهن، وحتى كأن الحيطان الرفيعة، والأبواب الوثيقة، والستور الكثيفة، والخصيان والظؤورة، والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن، والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن.
فصل منه
وباب آخر: وهو أنا لم نجد أحداً من الناس عشق والديه ولا ولده، ولا من عشق مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام. قال الله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " .
فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خولهم من كرامته، ومن عليهم من نعمته، ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء. ولقد قدم ذكرهن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم.

(1/190)


فإن قال قائل: فقد نجد الرجل الحليم، والشيخ الركين، يسمع الصوت المطرب من المغني المصيب، فينقله ذلك إلى طبع الصبيان، وإلى أفعال المجانين، فيشق جيبه، وينقض حبوته، ويفدي غيره، ويرقص كما يرقص الحدث الغرير، والشاب السفيه. ولم نجد أحداً فعل ذلك عند رؤية معشوقه.
قلنا: أما واحدة فإنه لم يكن ليدع التشاغل بشمها وبرشفها، واحتضانها، وتقبيل قدميها، والمواضع التي وطئت عليها، ويتشاغل بالرقص المباين لها، والصراخ الشاغل عنها. فأما حل الحبوة، والشد حضراً عند رؤية الحبيبة فإن هذا مما لا يحتاج إلى ذكره، لوجوده وكثرة استعمالهم له، فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن أن لذة الغناء تشغله بمقدار العشر من لذته، بل ربما لم يخطر له ذلك الغناء على بال.
وعلى أن ذلك الطرب مجتاز غير لابث، وظاعن غير مقيم؛ ولذة المتعاشقين راكدة أبداً مقيمة غير ظاعنة.
وعلى أن الغناء الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن، أحسن، والغناء الشهي من الوجه الشهي والبدن الشهي أشهى. وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة.
وكم بين أن يفدى إذا شاع فيك الطرب مملوكك، وبين أن يفدى أمتك؟ وكم بين أن يسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله، وبين فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه.
وعلى أن الرجال دخلاء على النساء في الغناء، كما رأينا رجالاً ينوحون، فصاروا دخلاء على النوائح.
وبعد، فأيما أملح وأحسن، وأشهى وأغنج، أن يغنيك فحل ملتف اللحية، كث العارضين، أو شيخ منخلع الأسنان، مغضن الوجه، ثم يغنيك إذا هو تغنى بشعر ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس، أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة، أو من فضة مجلوة، بشعر عكاشة بن محصن:
من كف جارية كأن بناتها ... من فضة قد طرفت عنابا
وكأن يمناها إذا نطقت به ... ألقت على يدها الشمال حسابا
فصل منه
فأما الغناء المطرب في الشعر الغزل فإنما ذلك من حقوق النساء. وإنما ينبغي أن تغني بأشعار الغزل والتشبيب، والعشق، والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك الأشعار، ويهن شبب الرجال، ومن أجلهن تكلفوا القول في النسيب.
وبعد، فكل شيء وطبقه، وشكله ولفقه، حتى تخرج الأمور موزونة معدلة، ومتساوية مخلصة.
ولو ان رجلاً من أدمث الناس وأشدهم تلخيصاً لكلامهم، ومحاسبة لنفسه، ثم جلس مع امرأة لا تزن بمنطق، ولا تعرف بحسن حديث، ثم كان يعشقها، لتناتج بينهما من الأحاديث، ولتلاقح بينهما من المعاني والألفاظ، ما كان لا يجري بين دغفل بن حنظلة، وبين ابن لسان الحمرة. وإنما هذا على قدر تمكن الغزل في الرجل.
فصل منه
والمرأة أيضاً أرفع حالاً من الرجل في أمور. منها: أنها التي تخطب وتراد، وتعشق وتطلب، وهي التي تفدى وتحمى. قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف: أيفدي الأمير أهله؟ قال: والله إن تعدونني إلا شيطاناً، والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن!
فصل منه
وإنما يملك المولى من عبده بدنه، فأما قلبه فليس له عليه سلطان.
والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة، فالناس يختلفون في جهة الطاعة، فمنهم من يطيع بالرغبة، ومنهم من يطيع بالرهبة، ومنهم من يطيع بالمحبة، ومنهم من يطيع بالديانة.
وهذه الأصناف، وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يمازجها هوىً لم تقو على صاحبها قوة العشق. وفي الأثر المستفيض والمثل السائر: " إن الهوى يعمي ويصم " ؛ فالعشق يقتل.
فصل منه
ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه، وبالمشي إلى بيت الله، وبصدقة ماله، وعتق رقيقه. فيسهل ذلك عليه، ولا يأنف منه. فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه، وطار الغضب في دماغه، ويمتنع ويعصي، ويغضب ويأبى، وإن كان المحلف سلطاناً مهيباً، ولو لم يكن يحبها، ولا يستكثر منها، وكانت نفسها قبيحة المنظر، دقيقة الحسب، خفيفة الصداق، قليلة النسب.
ليس ذلك إلا لما قد عظم الله من شأن الزوجات في صدور الأزواج.
فصل منه في ذكر الولد
وباب آخر: وهو أنا لو خيرنا رجلاً بين الفقر أيام حياته، وبين أن يكون ممتعاً بالباه أيام حياته، لاختار الفقر الدائم مع التمتع الدائم.

(1/191)

وليس شيء مما يحدث الله لعباده من أصناف نعمه وضروب فوائده، أبقى ذكراً، ولا أجل خطراً من أن يكون للرجل ابن يكون ولي بناته، وساتر عورة حرمه، وقاضي دينه، ومحيي ذكره، مخلصاً في الدعاء له بعد موته، وقائماً بعده في كل ما خلفه مقام نفسه.
فمن أقل أسفاً على ما فارق، ممن خلف كافياً مجرباً، وحائطاً من وراء المال موفراً، ومن وراء الحرم حامياً، ولسلفه في الناس محبباً. وقال رجل لعبد الملك بن مروان، وقد ذكر ولد له: " أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك! " .
ونظر شيخ وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال: " آنس الله بكم لاحقكم، فوالله إن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة " .
وليست النعمة في الولد المحيي، والخلف الكافي، بصغيرة.
فصل منه
وباب آخر: وهو أن الله تعالى خلق من المرأة ولداً من غير ذكر، ولم يخلق من الرجل ولداً من غير أنثى. فخص بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر.
فصل منه في ذكر القرابات
وأما أنا فإني أقول: إن تباغض الأقرباء عارض دخيل، وتحابهم واطد أصيل، والسلامة من ذلك أعم، والتناصر أظهر، والتصادق في المودة أكثر. فلذلك القبيلة تنزل معاً وترحل معاً، وتحارب من ناوأها معاً، إلا الشاذ النادر، كخروج غني وباهلة من غطفان، وكنزول عبس في بني عامر، وما أشبه ذلك. وإلا فإن القرابة يد واحدة على من ناوأهم، وسيف واحد على من عاداهم، وما صلاح شأن العشائر إلا بتقارب سادتهم في القدر، وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل، كما قال في الأثر المستفيض: " لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا " .



صورة مفقودة
 
فصل من صدر كتابه في النساء
إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمداً على فراشه. وأول ذلك إدخال الضيم على مروءته، واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته.

ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة، وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة، وحب الرعية للأئمة، وحب المصطنع لصاحب الصنيعة، مع اختلاف مواقع ذلك من النفوس، ومع تفاوت طبقاته في العواقب، احتجنا إلى الاعتذار من ذكر العشق المعروف بالصبابة، والمخالفة على قوة العزيمة، لنجعل ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب، وسخف الرأي الذي دعا إلى تأليفه، والإشادة بذكره. إذا كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ، ومن قائل متكلف، ومن سامع طاعن، ومن منافس مقصر. كما أنها لا تنفك من ذي سلامة متسلم، ومن عالم متعلم، ومن عظيم الخطر حسن المحضر، شديد المحاماة على حقوق الأدباء، قليل التسرع إلى أعراض العلماء.
وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب. وليس كل حب يسمى عشقاً، وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار، كما أن السرف اسم لما زاد على المقدار الذي يسمى جوداً، والبخل اسم لما نقص عن المقدار الذي يسمى اقتصاداً، والجبن اسم لما قصر عن المقدار الذي يسمى شجاعة.
وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء، مستعمل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن الزبير: " والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء " .
وذكر بعض الناس رجلاً كان مدقعاً محروماً، ومنحوس الحظ ممنوعاً، فقال: " ما رأيت أحداً عشق الرزق عشقه، ولا أبغضه الرزق بغضه! " فذكر الأول عشق الشرف، وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات.
وقد يستعمل الناس الكناية، وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة، يريدون أن يظهر المعنى بألين اللفظ، إما تنويهاً وإما تفضيلاً، كما سموا المعزول عن ولايته مصروفاً، والمنهزم عن عدوه منحازاً. نعم، حتى سمى بعضهم البخيل مقتصداً ومصلحاً، وسمي عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصياً.
ولما رأينا الحب من أكبر أسباب جماع الخير، ورأينا البغض من أكبر أسباب الشر، أحببنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير، ليفرق بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما، والموجبة لكونهما.
فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها، ظفر المحب بحبيبه، والعاشق بطلبته، ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه، في وزن سعادة الطالب المنجح وسروره، ووجدنا العشق كلما كان أرسخ، وصاحبه به أكلف، فإن موقع لذة الظفر منه أرسخ، وسروره بذلك أبهج.
فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بعدوه المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته.
قلنا: إنا قد رأينا الكرام والحلماء، وأهل السؤدد والعظماء، ربما جادوا بفضلهم من لذة شفاء الغيظ، ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس، وبعد الهمة والقدر. ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق، وبالثمين من العروض. وربما خرج من جميع ماله، وآثر طيب الذكر على الغني واليسر. ولم نر نفس العاشق تسخو بمعشوقه، ويجود بشقيقة نفسه لوالد ولا لولد بار، ولا لذي نعمة سابغة يخاف سلبها، وصرف إحسانه عنه بسببها.
ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال به، في جنب ما يهبون للنساء. حتى كأن العطر والصبغ، والخضاب والكحل، والنتف والقص، والتحذيف والحلق، وتجويد الثياب وتنظيفها، والقيام عليها وتعهدها، مما لم يتكلفوه إلا لهن، ولم يتقدموا فيه إلا من أجلهن، وحتى كأن الحيطان الرفيعة، والأبواب الوثيقة، والستور الكثيفة، والخصيان والظؤورة، والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن، والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن.
فصل منه
وباب آخر: وهو أنا لم نجد أحداً من الناس عشق والديه ولا ولده، ولا من عشق مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام. قال الله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " .
فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خولهم من كرامته، ومن عليهم من نعمته، ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء. ولقد قدم ذكرهن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم.

(1/190)


فإن قال قائل: فقد نجد الرجل الحليم، والشيخ الركين، يسمع الصوت المطرب من المغني المصيب، فينقله ذلك إلى طبع الصبيان، وإلى أفعال المجانين، فيشق جيبه، وينقض حبوته، ويفدي غيره، ويرقص كما يرقص الحدث الغرير، والشاب السفيه. ولم نجد أحداً فعل ذلك عند رؤية معشوقه.
قلنا: أما واحدة فإنه لم يكن ليدع التشاغل بشمها وبرشفها، واحتضانها، وتقبيل قدميها، والمواضع التي وطئت عليها، ويتشاغل بالرقص المباين لها، والصراخ الشاغل عنها. فأما حل الحبوة، والشد حضراً عند رؤية الحبيبة فإن هذا مما لا يحتاج إلى ذكره، لوجوده وكثرة استعمالهم له، فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن أن لذة الغناء تشغله بمقدار العشر من لذته، بل ربما لم يخطر له ذلك الغناء على بال.
وعلى أن ذلك الطرب مجتاز غير لابث، وظاعن غير مقيم؛ ولذة المتعاشقين راكدة أبداً مقيمة غير ظاعنة.
وعلى أن الغناء الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن، أحسن، والغناء الشهي من الوجه الشهي والبدن الشهي أشهى. وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة.
وكم بين أن يفدى إذا شاع فيك الطرب مملوكك، وبين أن يفدى أمتك؟ وكم بين أن يسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله، وبين فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه.
وعلى أن الرجال دخلاء على النساء في الغناء، كما رأينا رجالاً ينوحون، فصاروا دخلاء على النوائح.
وبعد، فأيما أملح وأحسن، وأشهى وأغنج، أن يغنيك فحل ملتف اللحية، كث العارضين، أو شيخ منخلع الأسنان، مغضن الوجه، ثم يغنيك إذا هو تغنى بشعر ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس، أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة، أو من فضة مجلوة، بشعر عكاشة بن محصن:
من كف جارية كأن بناتها ... من فضة قد طرفت عنابا
وكأن يمناها إذا نطقت به ... ألقت على يدها الشمال حسابا
فصل منه
فأما الغناء المطرب في الشعر الغزل فإنما ذلك من حقوق النساء. وإنما ينبغي أن تغني بأشعار الغزل والتشبيب، والعشق، والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك الأشعار، ويهن شبب الرجال، ومن أجلهن تكلفوا القول في النسيب.
وبعد، فكل شيء وطبقه، وشكله ولفقه، حتى تخرج الأمور موزونة معدلة، ومتساوية مخلصة.
ولو ان رجلاً من أدمث الناس وأشدهم تلخيصاً لكلامهم، ومحاسبة لنفسه، ثم جلس مع امرأة لا تزن بمنطق، ولا تعرف بحسن حديث، ثم كان يعشقها، لتناتج بينهما من الأحاديث، ولتلاقح بينهما من المعاني والألفاظ، ما كان لا يجري بين دغفل بن حنظلة، وبين ابن لسان الحمرة. وإنما هذا على قدر تمكن الغزل في الرجل.
فصل منه
والمرأة أيضاً أرفع حالاً من الرجل في أمور. منها: أنها التي تخطب وتراد، وتعشق وتطلب، وهي التي تفدى وتحمى. قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف: أيفدي الأمير أهله؟ قال: والله إن تعدونني إلا شيطاناً، والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن!
فصل منه
وإنما يملك المولى من عبده بدنه، فأما قلبه فليس له عليه سلطان.
والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة، فالناس يختلفون في جهة الطاعة، فمنهم من يطيع بالرغبة، ومنهم من يطيع بالرهبة، ومنهم من يطيع بالمحبة، ومنهم من يطيع بالديانة.
وهذه الأصناف، وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يمازجها هوىً لم تقو على صاحبها قوة العشق. وفي الأثر المستفيض والمثل السائر: " إن الهوى يعمي ويصم " ؛ فالعشق يقتل.
فصل منه
ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه، وبالمشي إلى بيت الله، وبصدقة ماله، وعتق رقيقه. فيسهل ذلك عليه، ولا يأنف منه. فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه، وطار الغضب في دماغه، ويمتنع ويعصي، ويغضب ويأبى، وإن كان المحلف سلطاناً مهيباً، ولو لم يكن يحبها، ولا يستكثر منها، وكانت نفسها قبيحة المنظر، دقيقة الحسب، خفيفة الصداق، قليلة النسب.
ليس ذلك إلا لما قد عظم الله من شأن الزوجات في صدور الأزواج.
فصل منه في ذكر الولد
وباب آخر: وهو أنا لو خيرنا رجلاً بين الفقر أيام حياته، وبين أن يكون ممتعاً بالباه أيام حياته، لاختار الفقر الدائم مع التمتع الدائم.

(1/191)

وليس شيء مما يحدث الله لعباده من أصناف نعمه وضروب فوائده، أبقى ذكراً، ولا أجل خطراً من أن يكون للرجل ابن يكون ولي بناته، وساتر عورة حرمه، وقاضي دينه، ومحيي ذكره، مخلصاً في الدعاء له بعد موته، وقائماً بعده في كل ما خلفه مقام نفسه.
فمن أقل أسفاً على ما فارق، ممن خلف كافياً مجرباً، وحائطاً من وراء المال موفراً، ومن وراء الحرم حامياً، ولسلفه في الناس محبباً. وقال رجل لعبد الملك بن مروان، وقد ذكر ولد له: " أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك! " .
ونظر شيخ وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال: " آنس الله بكم لاحقكم، فوالله إن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة " .
وليست النعمة في الولد المحيي، والخلف الكافي، بصغيرة.
فصل منه
وباب آخر: وهو أن الله تعالى خلق من المرأة ولداً من غير ذكر، ولم يخلق من الرجل ولداً من غير أنثى. فخص بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر.
فصل منه في ذكر القرابات
وأما أنا فإني أقول: إن تباغض الأقرباء عارض دخيل، وتحابهم واطد أصيل، والسلامة من ذلك أعم، والتناصر أظهر، والتصادق في المودة أكثر. فلذلك القبيلة تنزل معاً وترحل معاً، وتحارب من ناوأها معاً، إلا الشاذ النادر، كخروج غني وباهلة من غطفان، وكنزول عبس في بني عامر، وما أشبه ذلك. وإلا فإن القرابة يد واحدة على من ناوأهم، وسيف واحد على من عاداهم، وما صلاح شأن العشائر إلا بتقارب سادتهم في القدر، وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل، كما قال في الأثر المستفيض: " لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا " .
 
[11- فضل الجارية على الغلام]
قال (صاحب الجواري) :
فنحن نترك ما أنكرت علينا ونقول: لو لم يكن حلال ولا حرام، ولا ثواب ولا عقاب، لكان الذي يحصّله المعقول ويدركه الحسّ والوجدان، دالّا على أنّ الاستمتاع بالجارية أكثر وأطول مدّة؛ لأنه أقل ما يكون التمتّع بها أربعون عاما، وليس تجد في الغلام معنىّ إلّا وجدته في الجارية وأضعافه.
فإن أردت التفخيذ فأرداف وثيرة، وأعجاز بارزة لا تجدها عند الغلام. وإن أردت العناق فالثّديّ النواهد، وذلك معدوم في الغلام. وإن أردت طيب المأتى فناهيك، ولا تجد ذلك عند الغلام. فإن أتوه في محاشّه حدث هناك من الطّفاسة والقذر ما يكدّر كلّ عيش، وينغّص كلّ لذة.
وفي الجارية من نعمة البشرة ولدونة المفاصل، ولطافة الكّفين والقدمين، ولين الأعطاف، والتثنّي وقلّة الحشن وطيب العرق ما ليس للغلام، مع خصال لا تحصى، كما قال الشاعر:
يصف جودة القدّ وحسن الخرط، ويفرق بين المجدولة والسّمينة.
وقولهم «مجدولة» يريدون جودة العصب وقلّة الاسترخاء، ولذلك قالوا: خمصانة وسيفانة، وكأنها جانّ، وكأنّها جدل عنان، وكأنّها قضيب خيزران. والتثنّي في مشية الجارية أحسن ما فيها، وذلك في الغلام عيب؛ لأنّه ينسب إلى التخنيث والتأنيث- وقد وصفت الشعراء المجدولة في أشعارها، فقال بعضهم:
لها قسمة من خوط بان ومن نقا ... ومن رشأ الأقواز جيد ومذرف
وقال آخر:
مجدولة الأعلى كثيب نصفها ... إذا مشت أقعدها ما خلفها
وقال الآخر:
ومجدولة جدل العنان إذا مشت ... ينوء بخصريها ثقال الرّوادف
وقال الأحوص:
من المدمجات اللحم جدلا كأنّها ... عنان صناع أنعمت أن تخوّدا
وقالوا في ذلك أكثر من أن نأتي عليه.
والغلام أكثر ما تبقى بهجته ونقاء خدّيه عشرة أعوام، إلى أن تتّصل لحيته ويخرج من حدّ المرودة، ثم هو وقاح طورا ينتف لحيته، وتارة يهلبها ليستدعي شهوة الرّجال. وقد أغنى الله الجارية عن ذلك، لما وهب لما من الجمال الفائق، والحسن الرائق.
فإن قلت: إنّ من النساء من تتحسّن وتستر عيبها بخضاب الشعر وغيره، كما قال الشاعر:
عجوز ترجّى أن تكون فتيّة ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظّهر
تدسّ إلى العطّار ميرة أهلها ... ولن يصلح العطّار ما أفسد الدّهر
قلنا: قد يفعل ذلك بعض النساء إذا شيّبت وليس كالغلام، لعموم هلب اللّحى في الغلمان.


[12- الخصيان]
وذكرت الخصيان وحسن قدودهم، ونعمة أبشارهم، والتلذّذ بهم، وأنّ ذلك شيء لا تعرفه الأوائل، فألجاتنا إلى أن نصف ما في الخصيان وإن لم يكن لذلك معنى في كتابنا، إذ كنّا إنما نقول في الجواري والغلمان.
والخصيّ- رحمك الله- في الجملة ممثّل به، ليس برجل ولا امرأة، وأخلاقه مقسّمة بين أخلاق النساء وأخلاق الصّبيان، وفيه من العيوب التي لو كانت في حوراء كان حقيقا أن يزهد فيها منه؛ لأن الخصيّ سريع التبدّل والتنقّل من حدّ البضاضة وملاسة الجلد، وصفاء اللّون ورقّته، وكثرة الماء وبريقه، إلى التكسّر والجمود والكمود، والتقبّض والتجمّد والتحدّب، وإلى الهزال وسوء الحال. لأنّك ترى الخصيّ وكأنّ السيوف تلمع في وجهه، وكأنه مرآة صينيّة، وكأنّه جمّارة، وكأنّه قضيب فضّة قد مسّه ذهب، وكأنّ في وجناته الورد. فإن مرض مرضة، أو طعن في السنّ ذهب ذهابا لا يعود.
وقال بعض العلماء: إنّ الخصيّ إذا قطع ذلك العضو منه قويت شهوته، وقويت معدته، ولانت جلدته، وانجردت شعرته، وكثرت دمعته، واتّسعت فقحته، ويصير كالبغل الذي ليس هو حمارا ولا فرسا؛ لأنّه ليس برجل ولا امرأة. فهو مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ويعرض للخصيّ سرعة الدّمعة والغضب، وذلك من أخلاق النساء والصّبيان. ويعرض له حبّ النميمة وضيق الصّدر بما أودع من السّرّ.
ويعرض لهم البول في الفراش ولا سيّما إذا بات أحدهم ممتلئا من النّبيذ.
ومما ناله من الحسرة والأسف لما فاتهم من النّكاح مع شدّة حبّهم للنساء، أبغضوا الفحول أشدّ من تباغض الأعداء، فأبغضوا الفحول بغض الحاسد لذوي النّعمة.
وزعم بعض أهل التجربة من الشّيوخ المعمّرين أنّهم اعتبروا أعمار ضروب الناس فوجدوا [طول] أعمار الخصيان أعمّ من جميع أجناس الرجال، وأنهم لم يجدوا لذلك علّة إلّا عدم النّكاح. وكذلك طول أعمار البغال لقلة النّزو. ووجدوا أقل الأعمار أعمار العصافير؛ لكثرة سفادها.
ثم الخصيّ مع الرّجال امرأة، ومع النّساء رجل. وهو من النمائم والتحريش والإفساد بين المرء وزوجه، على ما ليس عليه أحد. وهذا من النّفاسة والحسد للفحول على النساء. ويعتريه إذا طعن في السنّ اعوجاج في أصابع اليد، والتواء في أصابع الرّجل.
ودخل بعض الملوك على أهله ومعه خصيّ فاستترت منه، فقال لها:
تستترين منه وإنما هو بمنزلة المرأة! فقالت: ألموضع المثلة به يحلّ له ما حرّم الله عليه.
مع أنّ في الخصيّ عيوبا يطول ذكرها.
ولولا خوف الملال والسآمة على الناظر في هذا الكتاب، لقلنا في الاحتجاج عليك بما لا يدفعه من كانت به مسكة عقل، أو له معرفة. وفيما قلنا ما أقنع وكفى. وبالله الثّقة.


[13- مقطعات من احاديث البطالين]
وقد ذكرنا في آخر كتابنا هذا مقطّعات من أحاديث البطّالين والظّرفاء، ليزيد القارىء لهذا الكتاب نشاطا، ويذهب عنه الفتور والكلال، ولا قوّة إلا بالله.
1- قال: مرض رجل من عتاة اللّاطة مرضا شديدا، فأيسوا منه، فلما أفاق وأبل من مرضه، دخل عليه جيرانه فقالوا له: احمد الله الذي أقالك، ودع ما كنت فيه من طلب الغلمان والانهماك فيهم، مع هذه السنّ التي قد بلغتها. قال: جزاكم الله خيرا؛ فقد علمت أنّ فرط العناية والمودّة دعاكم إلى عظتي. ولكنّي اعتدت هذه الصناعة وأنا صغير، وقد علمتم ما قال بعض الحكماء: ما أشدّ فطام الكبير! قال الشاعر:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
فقاموا من عنده آيسين من فلاحه.
2- قال: كان رجل من اللّاطة وله بنون لهم أقدار ومروءات، فشانهم بمشيته مع الغلمان وطلبه لهم، فعاتبوه وقالوا: نحن نشتري لك من الوصائف على ما تشتهي، تشتغل بهنّ، فقد فضحتنا في الناس. فقال: هبكم تشترون لي ما ذكرتم فكيف لشيخكم بحرارة الجلجلتين! فتركوا عتابه وعلموا أنّه لا حيلة فيه.
3- وقال بعض اللّوطيين: إنّما خلق الأير للفقحة، مدوّر لمدوّرة؛ ولو كان للحر كان على صيغة الطّبرزين.
وقال شاعرهم:
إذا وجدت صغيرا ... وكأت أصل الحماره
وإن أصبت كبيرا ... قصدت قصد الحراره
فما أبالي كبيرا ... قصدت أو ذا غراره
4- وقيل لامرأة من الأشراف كانت من المتزوّجات: ما بالك مع جمالك وشرفك لا تمكثين مع زوجك إلّا يسيرا حتى يطلّقك؟ قالت: يريدون الضّيق، ضيّق الله عليهم.
5- قال: طلّق رجل امرأته، فمرّ رجل في بعض الطّرقات فسمع امرأة تسأل أخرى عنها فقالت: البائسة طلّقها زوجها! فقالت: أحسن بارك الله عليه. فقال لها: يا أمة الله، من شأن النّساء التعصّب بعضهن لبعض، وأسمعك تقولين ما قلت. قالت: يا هذا، لو رأيتها لعلمت أن الله تعالى قد أحلّ لزوجها الزّنى، من قبح وجهها.
6- وقال مخنّث لامرأة: يا معشر النّساء، مالكنّ همّة إلّا طلب النّيك، لا تؤثرن عليه شيئا. فقالت: إن أمرا انتقلت من شهوته من طبع الرّجال إلى طبع النساء حتّى عقرت لحيتك له، لحقيق ألّا تلام عليه.
7- قال إسحاق الموصليّ: نظرت إلى شابّ مخنّث حسن الوجه جدّا قد هلب لحيته فشان وجهه، فقلت له: لم تفعل هذا بلحيتك، وقد علمت أن جمال الرجال في اللّحى؟ فقال: يا أبا محمد، أيسرّك بالله أنّها في استك؟
قلت: لا والله! فقال: ما أنصفتني، أتكره أن يكون في استك شيء وتأمرني أن أدعه في وجهي!.
8- وقال: اشترى بعض ولاة العراق قينة بمال كثير، فجلس يوما يشرب وأمرها أن تغنّيه، فكان أوّل صوت تغنّت به:
أروح إلى القصّاص كلّ عشيّة ... أرجّي ثواب الله في عدد الخطى
فقال للخادم: يا غلام، خذ بيد هذه الزّانية فادفعها إلى أبي حزرة القاصّ. فمضى بها إليه فلقيه بعد ذلك، فقال: كيف رأيت تلك الجارية؟
فقال: ما شئت أصلحك الله، غير أنّ فيها خصلتين من صفات الجنّة! قال:
ويلك ما هما؟ قال: البرد، والسّعة.
9- قال: علق رجل من أهل المدينة امرأة فطال عناؤه وشقاؤه بها حتّى ظفر بها، فصار بها إلى منزل صديق له مغنّ، ثم خرج يشتري ما يحتاج إليه، فقالت له: لو غنّيت لي صوتا إلى وقت مجيء صديقك! فأخذ العود وتغنّى:
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
قال: فأخذت المرأة خفّها ولبست إزارها وقالت: ويلي ويلي، لا والله لا جلست! فجهد بها فأبت وصاحت، فخشي الفضيحة فأطلقها. وجاء الرجل فلم يجدها، فسأله عنها فقال: جئتني بمجنونة؛ قال: ما لها ويلك؟
قال: سألتني أن أغنّيها صوتا ففعلت، فضربت بيدها إلى خفّها وثيابها فلبست وقامت تولول، فجهدت أن أحبسها فصاحت فخلّيتها. قال: وأيّ شيء غنّيتها؟ فأخبره، فقال: لعنك الله! حقّ لها أن تهرب! قال: تواصف قوم الجماع، وأفاضوا في ذكر النساء، وإلى جانبهم مخنّث فقال: بالله عليكم دعوا ذكر الحر لعنه الله! فقال له بعضهم: متى عهدك به؟ قال: مذ خرجت منه! 10- قال: تزوج رجل امرأة، فمكثت عنده غير بعيد، ثم أتى الرجل بالذي زوّجه فقدّمه إلى القاضي فقال: أصلحك الله، إنّ هذا زوّجني امرأة مجنونة. قال: وأيّ شيء رأيت من جنونها؟ قال: إذا جامعتها غشي عليها حتّى أحسبها قد ماتت. فقال له القاضي: قم قبحك الله فما أنت لمثل هذه بأهل. وكانت ربوخا.
11- قال: كانت عائشة بنت طلحة من المتزوّجات، فتزوّجها عمر بن عبيد الله بن معمر التّيميّ، فبينا هي عنده تحدّث مع امرأة من زوّارها إذ دخل عمر فدعا بها فواقعها، فسمعت المرأة من النّخير والشّهيق أمرا عجيبا، فلمّا خرجت قالت لها: أنت في شرفك وقدرك تفعلين مثل هذا! قالت: إنّ الدوابّ لا تجيد الشّرب إلّا على الصّفير!.
12- قال: وكانت حبّى المدينية من المغتلمات، فدخل عليها نسوة من المدينة فقلن لها: يا خالة، أتيناك نسألك عن القبع عند الجماع يفعله النّساء، أهو شيء قديم أم شيء أحدثه النّساء؟ قالت: يا بناتي، خرجت للعمرة مع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فلمّا رجعنا فكنّا بالعرج نظر إليّ زوجي ونظرت إليه، فأعجبه منيّ ما أعجبني منه فواثبني، ومرّت بنا عير عثمان فقبعت قبعة وأدركني ما يصيب بنات آدم، فنفرت العير- وكانت خمس مائة- فما التقى منها بعيران إلى الساعة.
والقبع: النّخير عند الجماع. والغربلة: الرّهز. كذاك تسمّيه أهل المدينة.
ويقال إن حبّى علّمت نساء أهل المدينة القبع والغربلة.
13- قال: وكانت خليدة امرأة سوداء ذات خلق عجيب، وكان لها دار بمكّة تكريها أيّام الحجّ، فحجّ فتى من أهل العراق فاكترى منزلها، فانصرف ليلة من المسجد وقد طاف فأعيا، فلما صعد السّطح نظر إلى خليدة نائمة في القمر، فرأى أهيأ النّاس وأحسنه خلقا، فدعته نفسه إليها فدنا منها، فتركته حتى. رفع رجليها فتابعته وأرته أنها نائمة، فناكها، فلمّا فرغ ندم فجعل يبكي ويلطم وجهه، فتعاربت وقالت: ما شأنك؟ لسعتك حيّة؟ لدغتك عقرب؟ ما بالك تبكي؟ قال: لا والله ولكنّي نكتك وأنا محرم. قالت: فتنيكني وتبكي؟
أنا والله أحقّ بالبكاء منك. قم يا أرعن! 14- وقال ابن حبّى لأمّه: يا أمّه، أيّ الحالات أعجب إلى النّساء من أخذ الرجال إيّاهنّ؟ قالت: يا بنيّ، إذا كانت مسنّة مثلي فأبركها وألصق خدّها بالأرض ثمّ أوعبه فيها. وإذا كانت شابّة فاجمع فخذيها إلى صدرها فأنت تدرك بذلك ما تريد منها وتبلغ حاجتك منها.
15- وقال: اشترى قوم بعيرا وكان صعبا، فأرادوا إدخاله الدار فامتنع، فجعلوا يضربونه وهو يأبى، فأشرفت عليهم امرأة كأنّها شقّة قمر، فبهتوا ينظرون إليها، فقالت: ما شأنه؟ فقال لها بعضهم: نريده على الدّخول فليس يدخل. قالت: بلّ رأسه حتّى يدخل.
16- قال: نظر رجل بالمدينة إلى جارية سريّة ترتفع عن الخدمة، فقال: يا جارية، في يدك عمل؟ قالت: لا، ولكن في رجلي.
17- قال بعضهم: كنّا في مجلس رجل من الفقهاء فقال لي رجل:
عندك حرّة أو مملوكة؟ قلت: عندي أمّ ولد، ولم سألتني عن ذلك؟ قال: إنّ الحرّة لها قدرها فأردت أن أعلّمك ضربا من النّيك طريفا. قلت: قل لي.
قال: إذا صرت إلى منزلك فنم على فقاك، واجعل مخدّة بين رجليك وركبك.
ليكون وطاء لك، ثمّ ادع الجارية وأقم أيرك وأقعدها عليه، وتحوّل ظهرها إلى وجهك، وارفع رجليك ومرها أن تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر، ومرها تصعد وتنزل عليه؛ فأنّه شيء عجب. فلمّا صار الرجل إلى منزله فعل ما أمره به، وجعلت الجارية تعلو وتستفل، فقالت: يا مولاي، من علّمك هذا النّيك؟ قال: فلان المكفوف. قالت: يا مولاي، ردّ الله عليه بصره!
18- قال: كانت امرأة من قريش شريفة ذات جمال رائع ومال كثير، فخطبها جماعة وخطبها رجل شريف له مال كثير، فردّته وأجابت غيره، وعزموا على الغدوّ إلى وليّها ليخطبوها، فاغتمّ الرجل غمّا شديدا، فدخلت عليه عجوز من الحيّ فرأت ما به وسألته عن حاله فأخبرها، قالت: ما تجعل لي إن زوّجتك بها؟ قال: ألف درهم. فخرجت من عنده ودخلت عليها، فتحدّثت عندها مليّا وجعلت تنظر في وجهها وتتنفّس الصّعداء، ففعلت ذلك غير مرّة، فقالت الجارية: ما شأنك يا خالة، تنظرين في وجهي وتنفّسين؟
قالت: يا بنيّة، أرى شبابك، وما أنعم الله عليك به من هذا الجمال، وليس يتمّ أمر المرأة إلّا بالزّوج، وأراك أيّما لا زوج لك. قالت: فلا يغمّك الله، قد خطبني غير واحد وقد عزمت على تزويج بعضهم. قالت: فاذكري لي من خطبك. قالت: فلان. قالت شريف، ومن؟ قالت: فلان. قالت:
شريف، فما يمنعك منه؟ قالت: وفلان- لصاحبها- قالت: أفّ أفّ، لا تريدينه. قالت: وماله أليس هو شريفا كثير المال؟ قالت: بلى، ولكن فيه خصلة أكرهها لك. قالت: وما هي؟ قالت: دعى عنك ذكرها. قالت:
أخبريني على كلّ حال. قالت: رأيته يبول يوما فرأيت بين رجليه رجلا ثالثة.
وخرجت من عندها فأتته، فقالت: أعد إليها رسولك. وأتاها الرجل الذي كانت أجابته- بعد مجيء الرسول- فردته وبعثت إلى صاحب المرأة: أن اغد بأصحابك. فتزوّجها فلما بنى بها إذا معه مثل الزّرّ، فلمّا أتتها العجوز فقالت: بكم بعتني يا لخناء؟ قالت: بألف درهم. قالت: لا أكلتها إلّا في المرض!
19- قال: كان هشام بن عبد الملك يقبض الثّياب من عظم أيره، فكتب إلى عامله على المدينة: «أمّا بعد فاشتر لي عكاك النّيك» . قال: وكان له كاتب مدينيّ ظريف، فقال له: ويحك، ما عكاك النّيك؟ قال: الوصائف. فوجّه إلى النّخّاسين فسألهم عن ذلك. فقالوا: عكاك النّيك الوصائف البيض الطوال. فاشترى منهنّ حاجته، ووجّه بهنّ إليه.
قال: وكانت بالمدينة امرأة جميلة وضيّة، فخطبها جماعة وكانت لا ترضى أحدا، وكانت أمّها تقول: لا أزوجها إلّا من ترضاه. فخطبها شابّ جميل الوجه ذو مال وشرف. فذكرته لابنتها وذكرت حاله وقالت: يا بنيّة إن لم تزوجي هذا فمن تزّوّجين؟ قالت: يا أمّه: هو ما تقولين، ولكنّي بلغني عنه شيء لا أقدر عليه. قالت: يا بنيّتي لا تحتشمين من أمّك، اذكري كلّ شيء في نفسك. قالت: بلغني أنّ معه أيرا عظيما وأخاف ألّا أقوى عليه.
فأخبرت الأمّ الفتى فقال: أنا أجعل الأمر إليك تدخلين أنت منه ما تريد وتحبسين ما تريد. فأخبرت الابنة فقالت: نعم أرضى إن تكفّلت لي بذلك.
قالت: يا بنّية والله إنّ هذا هو لشديد عليّ، ولكنّي أتكلّفه لك. فتزوّجته.
فلما كانت ليلة البناء قالت: يا أمّه، كوني قريبة منّي لا يقتلني بما معه.
فجاءت الأمّ وأغلقت الباب وقالت له: أنت على ما أعطيتنا من نفسك؟ قال: نعم، هو بين يديك. فقبضت الأمّ عليه وأدنته من ابنتها فدسّت رأسه في حرها وقالت: أزيد؟ قالت: زيدي. فأخرجت إصبعا من أصابعها فقالت: يا أمّه زيدي. قالت: نعم. فلم تزل كذلك حتّى لم يبق في يدها شيء منه، وأوعبه الرجل كلّه فيها، قالت: يا أمّه زيدي. قالت: يا بنيّة لم يبق في يدي شيء. قالت بنتها: رحم الله أبي فإنّه كان أعرف الناس بك، كان يقول:
إذا وقع الشيء في يديك ذهبت البركة منه قومي عنّي!
20- قال: تزوّج رجل امرأة وكان معه أير عظيم جدّا، فلمّا ناكها أدخله كلّه في حرها، ولم تكن تقوى عليه امرأة، فلم تتكلّم، فقال لها: أيّ شيء حالك خرج من خلفك بعد؟ قالت: بأبي أنت وهل أدخلته؟
21- قال: نظر رجل إلى امرأة جميلة سريّة، ورجل في دارها دميم مشوّه يأمر وينهى، فظنّ أنّه عبدها، فسألها عنه فقالت: زوجي. قال: يا سبحان الله، مثلك في نعمة الله عليك تتزوّجين مثل هذا؟ فقالت: لو استدبرك بما يستقبلني به لعظم في عينك. ثم كشفت عن فخذها فإذا فيه يقع خضر، فقالت: هذا خطاؤه فكيف إصابته.
22- قال: وكانت بالمدينة امرأة ماجنة يقال لها سلّامة الخضراء، فأخذت مع مخنّث وهي تنيكه بكيرنج، فرفعت إلى الوالي فأوجعها ضربا وطاف بها على جمل، فنظر إليها رجل يعرفها فقال: ما هذا يا سلّامة؟
فقالت: بالله اسكت، ما في الدّنيا أظلم من الرجال، أنتم تنيكونا الدّهر كله فلمّا نكنا كم مرّة واحدة قتلتمونا.
23- قال: تزوّج رجل امرأة فقيل له: كيف وجدتها؟ قال: كأنّ ركبها دارة القمر، وكأنّ شفريها أير حمار مثنيّ.
24- وقال بعض العجائز المغتلمات:
وخضبت ما صبغ الزّمان فلم يدم ... صبغي ودامت صبغة الأيّام
أيّام أمسي والشّباب غريرة ... وأناك من خلفي ومن قدّامي
25- وقال سياه، وكان من مردة اللّاطة، واسمه ميمون بن زياد بن ثروان، وهو مولى لخزاعة:
أخزاع إن عدّ القبائل فخرهم ... فضعوا أكفّكم على الأفواه
إلّا إذا ذكر اللّواط وأهله ... والفاتقون مشارج الأستاه
فهناك فافتخروا فإنّ لكم به ... مجدا تليدا طارفا بسياه
26- قال: وجاء سياه إلى الكميت فقال له: يا أبا عمارة، قد قلت على عروض قصيدتك:
أبت هذه النّفس إلّا ادّكارا
فقال: هات. فقال:
أبت هذه النفس إلّا خسارا ... وإلّا ارتدادا وإلّا ازورارا
وحمل الدّيوك وقود الكلاب ... فهذا هراشا وهذا نقارا
وشرب الخمور بماء الغمام ... تنفجر الأرض عنه انفجارا
27- وقال: أخذ «ديك» ، وكان من كبار اللّاطة، وهو رجل من أهل
الحجاز، مع غلام من قريش كأنه قديدة، فقيل له: عدوّ الله هبك تعذر في الغلمان الصّباح فما أردت إلى هذا؟ فقال: بأبي أنتم وأمّي، قد والله علمت أنّه كما تقولون، وإنّما نكته لشرفه.
28- وقد يضرب المثل في اللّواط بالحجاز فيقال: «ألوط من ديك» ، كما يقول أهل العراق: «ألوط من سياه» ، وهو كوفيّ.
وقد اختصرت كتابي هذا لئلا يملّه القارىء. وبالله التوفيق.
تم كتاب مفاخرة الجواري والغلمان، والله المستعان، وعليه التّكلان، ولا إله إلا هو.
يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أيضا، والله الموفق للصواب. والحمد لله أولا وآخرا، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلامه.
 
أعلى