هاني الطنبور - الصورة الأنثويّة للمرأة في المعلّقات

ما أكثر ماتحدّث الناس عن المرأة في الشعر الجاهليّ، وما أكثر ماتوقّفوا لديها فتحدّثوا عن رمزيّتها، وواقعيّتها، ووضعها الاجتماعِّي... لكنّ أحداً، في حدود مابلغْناه من العلم، لم يتناول المرأة الجاهليّة على هذا النحو الذي عليه نحن تناولناه:

فالأَوْلَى: إنّ الكتابات التي كُتِبَتْ عن العصر الجاهليّ، والتي أتيح لنا الإِلمام عَلَيْهَا، لم تحاولْ تناوُلَ المرأة، من خلال النصوص الشعريّة، على نحوٍ أُحاديٍّ: متمخِّض لها، ووقف عليها، ولكنها تناولها إمّا عَرَضَاً، وإمَّا مُعَوِّمَة إيَّاهَا في القضايا الأخراة التي عرض الشعر الجاهليّ لها. وفي ذلك شيء من الإجحاف بحقّ المرأة العربيّة، وتقصير في ذاتها.

والثانية: إننا عالجنا وضع المرأة الجاهليّة، أو المرأة العربيّة قبل الإسلام، وعلاقتها بالرجل من خلال نصوص المعلّقات السبع وَحْدَها، وقد تعمدّنا وَقْفَ هذه الدراسة على هذه المعلّقات تخصيصاً، توخّياً للتحكّم في البحث، إذا لو وسَّعْنا دائرة سعْيِنا إلى الشعر الجاهليّ كلّه لَخَشِينا أن لا ننتهي إلى رأيٍ رصين، وأن لا نتمكّن من إصدار حكم مبين.

والثانية: إننا حاولنا معالجة هذا الموضوع بمنهج ركّبناه، في مجازاتٍ متعدّدة منه: من السيمائيّة والأنتروبولوجيا معاً، وذلك ابتغاء الكشف عن وضع المرأة في المجتمع الجاهليّ، ونظرة الرجل إليها، وهي النظرة التي كانت تقوم، في الغالِب، على اعتبار أُنْثَوِيَّتها وأُنُوثتها جميعاً، وليس على اعتبار أنها كائن إنسانيّ عاقلّ، حسّاس، وأنّها شقيقة الرجل، وأنّها ، إذن، عضو فعّال ومؤثّر في المجتمع..

وربّما فزعنا، أثناء تحليل الأبيات المستشهَدِ بها حَوالِ المرأةِ في المعلّقات، إلى الإِجراء الجماليّ، أيضاً.

والأخراة: إننا لم نُرَكِزْ على الآَراء المعروفة التي قُرِرت من حول المرأة الجاهليّة - إلاّ ماكان من مناقشة الدكتور البهبيتي الذي ذهب إلى رمزيّة المرأة في المعلّقات - قبلنا، هنا وهناك. وتوّخينا التقاط الأَبَاِييتِ التي تحمل دلالةً ما: إمّا سيماءَوِيَّةً، وإمّا أنتروبولوجيّة: اعتقاداً منّا بأنّ مالم نتناولْه، نحن في هذه الكتابة، قد يكون سَوَاؤُنَا تناولَه قبْلَنَا: منذ الأعصار الموغلة في القدم، وإلى هذا العهد.

*****

أوّلاً الحضور الاجتماعي ّ للمرأة في الجاهليّة

إنّ وَأْدَ كِنْدَة - وقبائل أخراةٍ كانت تحذو حذْوَها -بناتِهَا في الأَسْنَانِ المُبَكِّرةِ لَبُرْهَانٌ خِرّيتٌ على قوّة حضور المرأة في الجاهليّة، وعلى قوّة شخصيّتها، وعلى رِفْعَة مكانتها، في المجتمع العربيّ قبل الإسلام: لا على ضعف قوّتها، وقلّة حيلتها، وانحطاط منزلتها. وإنّ الآية على ذلك أنّ الوَأْدَ كان يقع للصبايا وهُنَّ في سنّ الرضاعة أو نحوها. وكان الحامل على ارتكاب تلك الجريمة البشعة هو خوف العار، فيما كان الوائدون يزعمون، ولكنّ القرآن العظيم فضح أولئك اللئام بأنّ وَأدَهُمْ بناتِهمْ، لم يكُ خشْيَةََ العار، ولكنه كان خشية الوقوع تحت ضائقة الفقر والإملاق(1).

وقد صوّر القرآن الكريم الحال الحزينة التي تقارف بعضَ لِئَامِهِمْ حين كان تولد له جاريَةٌ؛ فقد كان وجُهه يسودّ، ومُحَيَّاهُ يَربَدُّ؛ فكان يُلِمُ عليه، من أجل ذلك، الحزنُ والعبوسِ، والكلوح والقطوب (2). ويبدو أنّ قرار الوأد، كما يفهم ذلك من نصّ القرآن الكريم، كان يتمّ، غالباً، في الأيّام الأولى من ميلاد الصبيّة.

وكان الأعرابيّ ربّما غضب على امرأته وزايلها إذا لم تنجب له صبياً. وقد كان الناس يعتقدون أنّ الحليلة هي المسؤولة عن صفة جنس المولوَد، وذلك على الرغم من أنّ أعرابيّة أجابت بعلها حين غضب عليها وهجرها حولاً كاملاً: أَن وَضَعَتْ له صِبْيَّةً، بأنها لا تلد، في حقيقة الأمر، إلاّ ماكان يُزْرًعُ فيها(3). ولعلّ رجز تلك المرأة العربية يوحي بأنّ النساء كن يَرَيْنَ في أمر تحديد صفة جنس الجنين غير ماكان الرجال يرون.

لم يكن أهل الجاهليّة، إذن، يئدون صباياهم لأنهم كانوا يخشَوْنَ أن يلحَقَهُم من جرّائِهَنَّ العارُ والشنار، ولكن الحق ماقاله القرآن. أي أنه كانوا يخشون الفقر والإملاق. وإنما كانوا يخشون ذلك لعلل كثيرة منها، في تمثّلنا:

1- إنّ الصبيّة في السنّ الأوّلى ربما أسهمت في النهوض ببعض الأعمال الاقتصاديّة اليوميّة البسيطة مثل رعي الأغنام، على مقربة من الحيّ، وذلك لانتفاء الظنّ عن تعرّضها للاغتصاب، ولِمَا لا يجوز من التخوّفات عليها...

2- لكنّ الجارية مجرّد أن تقترب من سنّ المراهقة تُحْبَسُ في البيت حَبْسَاً، خَوْفَاً عليها مِمَّا لا يجوز.... وكان ينشأ عن ذلك السلوك أَنّ أباها، أو أخاها، هُوَ الذي يتولّى الإنفاق عليها، إذ تغتدي محرومةً من الإسهام في الحياة الاقتصادية الخارجيّة للأسرة: فإذا هي لا تذهب إلى الأسواق، ولا تزاول الأعمال التجارّية بنفسها، ولا تحتطب إلاّ من الأماكن القريبة جداً من الحيّ بحيث لا تغيب عنها عيْنُ الحيّ. وحينئذ ينحصر دَوْرَها في البيت الذي لم يكن مركز النشاط الاقتصاديّ للأسّرة... وتظلّ تنتظر الرجل الذي سيختطبها. ولعلّ من أجل هذا العامل الاقتصاديّ الخالص كان يتّمّ تزويج العربيّات في سنّ مبكّرّة جداً، ولا يبرح هذا الوضع قائماً إلى يومنا هذا في بعض البلدان العربيّة مثل اليمن؛ على الرغم مِنْ أنَّ تلك الأسبابَ زال بعضُها... والفتاة الشقية هي تلك التي كان يطول مُقامها في بيتِ أهلها فتَعْنس ولا تتزوّج...

بينما شأن الفتى شأنٌ آخر. لا يخاف أبوه عليه، صغيراً وكبيراً. وهو إلى ذلك يستطيع أن يكلّفه ببعض المهمّات منذ بلوغه الأوّل. وهو في أسوأ الأحوال قادر على الإغارة مع القبيلة، كما يُعَدُّ للدفاع عن نفسه أوّلاً بِحَدِّ السيف؛ ثم الدفاع عن القبيلة آخِراً إذا دُهِيَتْ بداهية، وتعرّضُ أمْنُها للأخطار... الفتاة لا؛ لم تكن في منطق الظروف الحضاريّة البدائيّة السائدة قادرةًً على الدفاع لا عن نفسها، ولا عن قبيلتها، إلاّ من الإسهامات الخلفيّة للمعركة كَقَوْتِ الخيْلِ، وتضميد كِلامَ الجرْحَى؛ كما سنستنتنج بعض ذلك من بعض معلّقة عمرو بن كلثوم.

فكانت المرأة من ذلك المنظور الجاهليّ اللّئيم عالةً على أسرتها؛ فكان يسارع بعض الطّغامِ إلى وأدها مجرّد ميلادِها.

من الغريب في هذا الأمر أنّ الوائدينَ كانوا يَفْزَعونَ إلى المرأة زَوْجَاً، ويحرصون على مودّتها وإكرامها، كما كانوا يُحبّون، ويُحْبُونَ، معاً أخواتِهِمْ، ويحمونَهُنَّ مثل البنات والحليلات حين كانوا يُصَبَّحُوَنَ بالغارات. وكانت المرأة العربية إذا زُوِّجَتْ في الغُرباء ربما جَزِعَتْ وَحَزِنَتْ لمُزايَلَتِها مغانِيَ قبيلتها، ومفارقتها ديارَ عشيرتِها، كما يؤكد ذلك بيتان من الشعر ينسبان إلى امرأة من بني عامر بن صعصعة وقد زوّجت في طيئ : فاستوحشت المقام بين أهل بعلها، فقالت:

لا تَحْمَدنَّ الدهرَ أُخْتٌ أخاً لَها


ولا تَرْثِيَنَّ، الدَّهْرَ، بِنْتٌ لِوَالِدِ

هُمُ جعلوها حيْثُ ليْسَتْ بِحُرَّةٍ


وهُمْ طرحَوها في الأقاصي الأباعِدِ(4).

ولعلّ تخوفّ المرأة العربيّة، على عهد الجاهلية، وجزَعها من التزوّج في غير بني قومِها: يعودان إلى انغلاق ذلك المجتمع، وبدائيّة وسائل المواصلات فيه: إذْ كان التنقل من صُقْعٍ إلى صُقْعٍ يتطلّب أيّاماً طِوالاً من السفر الشاقِّ، مع انعدام أمْنِ الطُرقاتِ، وقلّة موافاة القبائل؛ القبائل الأخراة.

وإذا كانت المرأة، لدى امرئ القيس، وطرفة وعنترة: كأنّها لم تَكُ إلاّ للَّذاتِ والمُضاجعاتِ؛ فإنها، لدى عمرو بن كلثوم، كانت لذلك أيضاً، وذاك أمرٌ طبيعيّ؛ ولكنها كانت تُسهِمُ في الحروب مع الرجل، وكأنّ النساء كانت بمثابة القاعدة الخلفيّة التي يستمدّ منها الرجال القوّة، ويستلهمون من جمالها ولطفها الشجاعة وحسن البلاء في ساح الوغى: حمايةً لها، وحُبَّاً فيها، وتعلٌّقاً بأطفالها، وَنْضَحَاً عن شَرَفِها:

على آثارِنا بيضٌ حِسانٌ


نُحاذِرُ أن تُقَسَّمَ أو تَهُونا

فقد كان الرجال -ولا يبرحون- من أن يقع نساؤهم تحت السبي فتُقَسَّمَ تقسيماً بين المُغيرين، أو تقع تحت وطأة المَهانة والعار. فكانت مشاركة النساء في الحروب مزدوجةً الفائدة: أنهن كنّ يَقُتْنَ خَيْلَ البُعولةِ، ويُشْرِفنَ على تمريض الكَلْمَى. كما كُنَّ، في الوقت ذاته، يَحْضُضن أولئك البعولَ على الثَّبات في ساحة الهيجاء، وإِلاّ تعرَّضْن للسَّبْي والغصب:

يَقُتْنَ جِيَادَنا ويَقُلْنَ لَسْتُمْ = بعولَتَنَا إذا لم تَمْنَعُونَا

لقد تفرّد عمرو بن كلثوم، إذن، من بين كلّ المعلقّاتييّن؛ بتسجيل هذه الصورة الراقية لدور المرأة في العربية في ذلك المجتمع المتطاحِن المتحارِب المتصارع من أجل البقاء، بل من أجل الاستعلاء، إذ ليست المرأة لدى معظم المعلّقاتييّن، إلاّ لعبة جميلةً يتلذّذ بها الرجل، لأنّها تصلح لأن يُشْبِعَ منها رَغْبَتَه الجنسيّة: ثمّ لاشيءَ من وراء ذلك يوجد فيها من غَناء! على حين أنّها لدى عمرو بن كلثوم عضو مؤثّر في المجتمع: لها كامل الحقوق، وعليها كلّ الواجباتِ - ضَمْناً على الأقل- إذْ مَنْ يشارك في الحرب يكون له السهم المُعَلَّى في بقيّة مظاهر الحياة الأخراةِ: وهي دون الحرب خَطَراً، وأهون منها شأناً.

ومن الآيات على شرف مكانة المرأة، وسمّو منزلتها على عهد الجاهليّة، وحرص الرجل الشديد على حمايتها في ذلك المجتمع المضطرب الذي لم يكن الاستقرارُ يعرفُ إليه سبيلاً : أنّ عمرو بن كلثوم قَتَلَ عمرو بن هند، وقد كان مَلِكَاً للحيرة؛ لأنّ الملك أزمَعَ على إِهَانَة عمرو بن كلثوم في شخصِ أمِّه ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة: بأن دسّ لها أُمَّهُ هِنْداً لتطلب من ليلى مناولتَها الطبَّق وهي لديها ضَيْفٌ، فاعتذرت ليلى لهند أوّلاً؛ فلمّا أعادت عليها الطلب وألحّت، صاحت ليلى: "واذلاَّهُ! يالتَغلِب!"(5) فلَمَّا سمِعَها ابْنُهَا عمرو بن كلثوم عَمَد إلى سيف كان معلّقاً قريباً من عمرو بن هند فقتله به...

وقد كانت المرأة العربيّة على عهد الجاهلية شاعرةً تفْهَم الشعر، وناقدة تستطيع التعليق عليه، وتمييزَجيّدهِ من رديئهِ، ولا يعني ذلك إلاّ أنّها كانت بلغت مقداراً صالحاً من الثقافة الشعريّة حيث تزعم أمّهات التراث العربيّ أنّ امرأ القيس وعلقمة بن عبدة -الفحل- تنازعا في أيّهما أشعر؛ ولم يُسَلِّمْ أحدُهما للآخر فاتفقا على أن يحتكما لحليلة امرئ القيس، يومئذ، أمّ جُنْدُب التي حَكَمَتْ لعلقمة على امرئ القيس مما أحفظ الملكَ الضَّلّيِلَ فطلّقها(6).

فإنّ صحّت هذه الحكاية فإنّ ذلك يعني أنّ المرأة لم تَكُ شاعرةً فحسب، ولكنها كانت أيضاً ناقدة تُصْدِرُ الأحكام، وتُجرى التعليقات، في كفاءةً مدهشة.

ولعلّ، ممّا قد يؤيّد هذه الحكاية، في مضمونها على الأقلّ، خبر آخر يزعم أنّ الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلميَّة) بارَتْ في سوق عكاظ، أمام النابغة الذبياني، حسّانَ بْنَ ثابتٍ فَحَكَمَ النابغةُ لها عليه(7).

وجاء في الأخبار أيضاً أنّ ابنةَ حسانَ بْنِ ثابتٍ كانت شاعرة، وأنّ حَسّاناً أرِقَ ذاتَ ليلةٍ فارتجل بيتيْن اثنيْن من الشعر فسمعتْه ابنتُه فأجازَتْهُ مرّتين متتاليتيّن، فقال لها أبوها: "لا أقول بيتَ شعرٍ وأنت حَيَّةٌ."(8). لكنّ الفتاة أمّنَتْ أباها قائِلَةً: "لا أقول بيتَ شعرٍ مادمتَ (أنت) حيّاً!".(8).

كما أنّ الأشعار الكثيرة، المتفرّقة، التي وردتْ شواهد على قواعدِ النحوِ، أو على صحّة اللغة في كتب النحو والمعاجم والأمهات مثل "الكتاب" لسيبويه، و"لسان العرب" لابن منظور: تدلّ على أهمّيّة مكانة المرأة العربيّة في المجتمع الجاهلي؛ إذ هناك العدد الجمّ من أبيات الاستشهاد التي قيلت إمّا في وصف أعضاء معيّنة من جسد المرأة مثل العينين، والثغر، والشعر، والأسنان، والجيد، والكشح، والثديين، والسّاقيين، والأنامل، والقدّ.... وأمّا في وصف علاقة الرجل بالمرأة، أو قالها، في الأصل، نساء...

ويفتقر هذا الموضوع إلى بحثٍ على حدة...

بينما لانكاد نجد مادّة واحدة، من موادّ المعجم العربيّ، لا تُذْكَرُ فيها المرأة على نحو أو على آخر، فكأنّ اللغة العربيّة لغة نسويّة أساساً! وكأنّ هذه التسويّة تستأثر بأمرها إلى حدّ أن العرب تعتبر كثيراً من المسمّيات مؤنّثة على الرغم من خُلِوِّها مِنْ هاءِ التأنيث في آخرِها مثل الحرب، والعَصا، والعين، والأذن، والساق، والرِجلْ، واليد، والنار، والبئر...، بالإضافة إلى الألفاظ الكثيرة التي يجوز تأنيثها وتذكيرها مثل السوق، والحال، والسبيل والرُّوح...وكأنّ العرب كانت تراعي في أصل إطلاق الأسماء على المسمّيات اتّصالَها بالمرأة، أو اعتبارها مؤنّثة لتوهم النَّسوية فيها... على حين أنّنا نلفي الأعضاء الجنسيّة للمرأة، خصوصاً، وما يتّصل بها أيضاً من حركة أو فعل تشكّل مادّة ضخمة في اللغة العربية.

ولا يقال إلاّ نحو ذلك في جمع مالا يعقل، وجمع التكسير حيث يعاملان، لدى إعادة الضمير عليهما، معاملةَ المؤنّثِ.

حقاً، لم يكن هناك نظام اجتماعيٌّ قائم، وإن كانَهُ على نحو ما، ولا قانون وضعيٌّ صارم، ولا تعاليمُ دينية تحمي المرأةَ في الجاهليّة من عُدّوان نفسِها أوّلاً، ثمّ من تسلّط الرّجل المفرِطْ عليها آخراً: إلى أن جاء الله بالإسلام فقنّن علاقتها بالرجل، وجعلها سيّدة في مالها، ورفع من شأنها في المجتمع حين جعلها شقيقة الرجل، وحين جعل الجنّة تحت أقدامها - حين تغتدي أماً - وحين اشترط في صفة العشرة بينهما أن تكون بالمودّة والمعروف....

ولكن على الرغم من الحقوق المادّية والمعنويّة التي قرّرها الإسلام للمرأة، فإنّه كان في الجاهليّة أعرافٌ وقيم تحفط للمرأة العربيّة شيئاً من حقوقها، وتحفظ لها شيئاً من كرامتها ( ونقصد بذلك المرأة الحُرَّة؛ أمّا الأمَّةُ فظلّت حالُها على هَوْنٍ، ومكانتها على سوء، إلى أن تخلّصت الإنسانيّة من نظام الرِقِّ المَقِيت) فكان الرجل يعاشرها بشيء من المعروف، والمودّة، وربما الوفاء أيضاً... وقد يدلّ على بعض ذلك هذه الوفرة الوافرة من الأشعار التي تتحدّث عن علاقات البعول بحليلاتهم، أمثال أقوالهم:

* ذريني للغنى أسْعى فإنّي = رأيْتُ الناسَ شرّهم الفقيرُ(9)
*ِتلْك عِرْسي غَضْبَى تُرُيد زِيَالِي = لِبَيْنٍ تريد أم لِدَلال؟(10)
* فإن تسألوني بالنساء فإنّني = بصيرٌ بأدواء النساء طبيبُ (11)
* تِلك عِرْسَايَ تنطِقانِ عَلى عمْـ = ــد، لي اليوم قَوْلَ زُورٍ وهتْرِ(12)...

إنّ طفوح الأشعار العربيّة القديمة - الجاهليّة خصوصاً- بذكر هذه المرأة، وإنّ التباري بين عامة الشعراء في وصف جمالها، وفي ذكر دلالها، وربما التغنّي بصفاتها الروحيّة الأخراة كما يمثل بعض ذلك في شعر عمرو بن كلثوم:

ظعائن من بني جشم بن بكر = خَلَطْنَ بميسَمٍ حَسَباً ودِينا

لَدليلٌ خِرّيتٌ، وبُرْهان ساطعٌ، على سُمُو مكانة المرأة العربية في المجتمع الجاهلي بعامّة، وفي أَنْفُسُ الشعراء بخاصة.

وعلى الرغم من أنّنا نرتاب، ارتياباً شديداً، في صحة نسبة هذا البيت إلى عمرو بن كلثوم، لأنّ هذا الشاعر لم يكن من الوَرَع والتقوى والإيمان -وهو الجاهليّ الوَثَنِّيّ- مايجعله يمتدح في النساء العنصرَ الديني لديهنّ. وكيف لا يرتاب في نسبة هذا البيت إليه وهو الذي يقول في المعلّقة نفسها:

ألاَ لاَ يَجْهَلنْ أحدٌ عليْنا = فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهلينا

فهل نصدّق بصحّة هذا البيت أم بصحّة البيت السابق؟ أمّا أَنْ نُصَدِّقَ بصحّتهما معاً، فعلينا أن نكون سُذَّجَاً، وإذن، فإن صحّ لابن كلثوم هذا البيت: الجاهِليُّ، الجاهِلُ، فليكن؛ ولكن على أن لا يصِحَّ له البيت الآخرَ الذي يتغنّى فيه بمكارم الأخلاق، وورع نساءِ تَغْلِب.

وإنّ صحّ الآخرُ له، فليكن، ولكن على أن لا يصحّ له هذا. وهبْ سلَّمْنا بمسألة الحسب والنسب في البَيْتِ السابق، لكن مابالُ ذِكْرِ الدِّيْن لدى شاعر مثل عمرو بن كلثوم الذي لم يتورّع في قتل عمرو بن هند لمجرّد حادثة كان يمكن أن يتخلّص منها بمغادرة الحيرة مع أمّه، وكتابة قصيدة هجائية فيه، ويستريح.... ولكنّه آثَرَ سفك الدّم، فقتل....

ثمّ ، إن المرأة المتدّينة - لو كان ماورد في هذا البيت يصدق على نساء بني تغلب- تسمو بنفسها، وتتواضع، وتتلطّف، وتتسامح، وتساعد الآخرين... فكان يمكن، إذن، لليلى أمّ عمرو بن كلثوم، أن تناول هنداً الطبَق -ولو من باب تجاهل العارف- أو لا تناولها إيّاه، ولكنها تتسامى بنفسها، وتتعالى بخلاقِها، وتتسامح بحُكْم، أو بفضل، دينها المزعوم مع تلك الجاهلة الفجَّةِ، الْفَظَّةِ الجِلْفَة، الغليظةِ القلب المتغطرسَةِ في جاهليّتها الجهلاء، والسامدة في ضلالتها العمياء... لكنّ ليلى كانت أجهل من هند، كما كان عمرو بن كلثوم أجهل من عمرو بن هند، في هذه الحادثة. فأين مظاهر الدين في هذا الأمر؟ ومابال التّقى والوَرِع لدى بني تغلب؟ وهل نلوم عمراً أنْ لم يَكُ متديّناً في زمن ومكان لم يَكُ فيهما نبيّ مُرسَل، ولا كتابٌ مسطّرٌ، ولا رسالة إلهيّة...

إننا، إذن، لا نعتقِدُ أن يكونَ مِثْلُ هذا الوصف الوارد لدى نهاية البيت الأخير، للمرأة الجاهليّة -من خلال وصف نساء بني تغلب- صحيحَ المتْن، ولا سليمَ الرواية، ولا صادق النسبة إلى صاحبه، لتناقضه مع الوضع الذي كان يعيشه الشاعر، ولتعارضه مع السيرة التي كان يسيرها في حياته العامّة. ولا نَخَالُ ذلك إلاّ من دَسَّ حمّاد الراوية الذي جمع نصوص المعلّقات، ثم رَوّاها الناس (13) (وهي رواية يأتيها الضعف والشكّ من كونها جاءت بعد أكثر من قرنين من الزمن، وأنّه تفرّد بها وحده، وأنّها إذن لَمْ تَكُ رواية متواتِرةً) وهي الرواية الذي كان اشتهر بالكذب، فكان لا يتحرّج في التزّيد في أشعار الناس(14).

إنّ كائناً مثل المرأة التي تمثّل الأمّ، والأخت، والبنت، والزَوْج، بالقياس إلى الرجل من وٍجهة، وتمثّل الرٍقًّة المتناهية، والحنان الغامر، وتزدخر بالحبّ العارم، والإحساس الفائض، من وجهة أخراة... وإنّ كائناً كان هو الذي ينهض في ذلك المجتمع الذي كان يحكمه الشَّظَفُ والغِلْظُ، وتَسِمُه الخُشونة والشدّة -بقسط كبير من أعباء الحياة اليوميّة فينسج الملابس ويغسلها إذا اتّسخت، ويصنع الأخبية والخيامَ ويتعهّد نظافَتها، ويطْهُو، إلى ذلك، الطعام، ويُنْجِب الأطفال، ويُرضِعُهُم ويُنْشِئُهُمْ تَنْشِئَةً.....- لَمَجْدُرَةٌ لأنْ يَلْقَى من الاحترام والتقدير، والحبّ والتكريم، والعناية والتعظيم: مانلفيه قائماً في أشعار الجاهليّين التي المعلّقاتُ السبعُ يجب أن تكون أجملّها وأروعَها.

وكأنّنا نفترض أن هناك حلقةً مفقودةً من هذا الشعر، وطَرفاً ضائعاً من هذا الأدب، وأنّ الرواة لم يكادوا يحفظون لنا منه إلاّ ماكان وَصْفَاً لجسد المرأة وعلاقتها بالرجل، أو علاقة الرجل بها: وزهدوا ، أو كادوا يزهدون، في كل، أو بعض، ماكان وصْفاً لروحها، وتسجيلاً، ولو على هون ما، لمكانتها الاجتماعيّة، وحياتها اليوميّة: على الوجه الأعمّ، والنحو الأشمل.

******

ثانياً: هل نساء المعلّقات رمزّيات؟

لقد ذهب كثير ممّن يحلو لهم أن يؤوّلوا الأشياء على غير ظاهرها، ويفسّروا الأمور على غير منطوقها، كما يقول علماء الأصول، إلى رمزّية المرأة في كثير من مواطن ذِكْرِها في أشعار الجاهليّين، وأنّها واردة بالمعنى الذي ذكرت عليه بظاهر اللّفظ، وفي صريح النسجْ. ومن ذلك ماذهب إليه أُستاذُنا الدكتور نجيب البهبيتي حول هذا الأمر الذي لا يمكن تقبُّلُه، بدون مناقشة ولا مُقادَحَة. فقد كان الشيخ ذهب إلى أنّ كلَّ امرأةٍ كان ذِكْرُها رمزاً حيث إنّ هذه المرأة، في كلّ مواردها من الشعر الجاهليّ، كانت رمزاً لقيمة؛ وأنّ الأسماء المُطْلَقة على النساء هي أسماء تقليديّة، تجري عند الشعراء دون وقوع على صاحباتها"(15).

فيما ذهب إليه الشيخُ قد يصدق على هذه المرأة، أو على هؤلاء النساء إن شئت، في الطلليّات، أو في مطالع القصائد العيون، لكنّه لا يجوز، في تمثّلنا نحن على الأقل، أن يصدق عليها في أصلابِ الطِّوالِ، والمعلّقات السبع، وخصوصاً لدى عنترة وامرئ القيس. بل ربما لدى عامة المعلّقاتيّين الآخرين أمثال الحارث بن حلّزة (أسماء- ميسون- هند)، وزهير (أمّ أوفى)، ولبيد (نوَار).

ولعلّ المرأة لم تُرْمَّز إلاّ فيما بعد لدى الشعراء الغزِليين، وخصوصاً لدى أهل التصوّف الذين بلوروا رمزّية المرأة، ووظّفوا قيمتها الجماليّة فاغتدَوْا يُطلْقِون اسمَ ليلى على كلَّ موضوع، وعلى كلّ أمل، وعلى كلّ قيمة معنويّة خِيّرة أو نبيلة، وعلى كلّ غاية كانوا يتعلّقون بها من ابن الحرّاق إلى محمّد العيد(16).

وأمّا ماقبل ذلك، فقد كان كلّ شاعر، على الأغلب، يذكر صاحبته التي كان يُحِبُّها باسمها الشخصيّ. وحتّى إذا سلَّمنْا، جَدَلاً، بأنّ هذه الأسماء التي تمتلئ بها الأشعار الجاهليّة بعامّة، والمعلّقات السبع بخاصّة -كما سنرى بعد حين- لم تكُ حقيقيّةً، فهي لم تَرْقَ قَطُّ إلى مستوى الرمز؛ وإنما قد تكون رَقِيَتْ إلى مانطلق عليه نحن "مستوى التَّعْمِيَة" وعلى أنّ القدماء من مؤرّخي الأدب العربيّ - وعلى عنايتهم الشديدة بالشعر الجاهليّ، وعلى إيلاعهم باستيعاب أخبار شعرائه، وخصوصاً في علاقاتهم بالنساء -لم يؤمنوا ، فيما بلغّنا من العلم، قط، إلى أنّ أولئك الشعراء كانوا يتحرّجون في التصريح بأسماء حبيباتهم وعشيقاتهم. بل إنّا ألفينا حكاية "دارة جلجل"، المشكوك في صحّتها لدينا، تُلحُّ على أنّ امرأ القيس كان يتابع العذارى وكان يتعشّق ابنة عمّه عنيزة جهاراً، بل كان يُراكبها على بعيرها، ويقبّلها في خدرها، ويتفرّج على جسدها وهي عارية حين كانت تسبح، وحين أرغمها على أن تخرج من ماء الغدير ليشاهدها عُريانةً: مُقْبِلَةً ومدبرة، فيما يزعم الرواة الأقدمون(17).

فما هذا التناقض المريع بين رواية تذهب إلى الإباحيَّةِ المطلقة في العلاقة مع المرأة الجاهليّة، بتواتر الروايات، واتفاق الحكايات، وبيْن رأي يذهب إلى اتّخّاذ هذه المرأة مجرّدَ رمز وقيمة؟ إنّنا إذن نستبعدُ ورودَ أسماءِ النساءِ الجاهليّات في الشعر، في الشعر على ذلك العهد، مَوْرِداً رمزيّاً في ذلك المجتمع الذي لم يكن يكاد يعرف شيئاً كثيراً أو قليلاً من الروحيات، والمعنويّات، ومن باب أولى: الرمزّيات: فكلّ العالم يعرف أنّ عبلة هي ابنة عمّ عنترة.

وكلّ العَالَم يعرف أيضاً أنّ عنيزة هي ابنة عمّ امرئِ القيس بالرواية المتواترة، والأخبار المتطابقة ولا يقال إلاّ نحو ذلك في نساء المعلّقاتيّين الآخرين.

ففيم تَمْثُلُ، إذن، هذه الرمزيّة؟ وهلا وقفناها على البكاء على الديار؟ وهلا قصرناها على الوصف العامّ لامرأة حبيبة بدونِ ذِكْرِ لاسمها، ولا وَصْفٍ لجَسَدِها، واسترحْنا فأرَحْنَا؟ أمَّا أن نعمّم الترميز، فنجعلَ من الأسماء المختلفة الكثيرة لأُوْلاءِ النساء مجرّد رموز لقيم ومبادئ وآمال؛ فإنما لا نحسب ذلك يجسّد حقيقة، ولا نراه يمثّل تقريراً لوجه من التاريخ الصحيح، والخبر الصريح.

فامرؤ القيس بن حجر حين يقول:

* قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ*

فذلك، غالباً، لم يكن يعني حبيبةً بعينها، ولا امرأةً بذاتها، بمقدار ما كان يكرّس، مطلعَ قصيدته، تقليداً شعريّاً كان كرّسه، قبله، آخرون منهم امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية(18).

وأمّا حين يقول، مثلاً:

ويوم دخلت الخِدْرَ: خِدْرَ عُنَيْزَةٍ = فقالت: لك الويلاتُ، إنكّ مُرْجِلِي

فذلك لا يعني، غالِباً ، إلاّ امرأة بعينها، امرأةً عاش معها الشاعر وأحبَّها، فأراد أن يتمتّع بها، كما كان يتمتّع بسَوائِها غَيْرَ مُعْجَلٍ ولا خائِفٍ، فيما يزعم:

* تمتّعت من لهوٍ بها غَيْرِ مُعْجِلِ*

ولم تكُ هذه المرأة، فيما أجمع عليه مؤرّخو الأدب العربيّ القديم، إلاّ عنيزَةَ نَفْسَها.(19).

أم هل كان هذا التمتّعُ تسابِيحَ روحيَّةً، وابتهالاتٍ ملائكيَّةً، نَسَجَهَا الشاعر نَسْجَاً؟ أم هل كان مجرّد عيش وهميٍّ يأتيه مع طَيْفها المُتأَوِبِ، وحُضورها المُحوِّمِ، من نفسه؟ أم كان ذلك اللهوُ مجرّد صورة رمزّية لعلاقة رجل مع امرأة لم تتمّ قطّ.؟ إنّا لا نلفي أيّ أَثَرٍ لهذه الرمزيّة في مثل هذه الأبيات التي استشهدْنا ببعضها، بمقدار ما نلفي فيها حضوراً واقعيّاً لهؤلاء النساء، مثل الوجود الواقعيّ لأولئك الشعراء أنفسهم. وإلآّ فإنّ بالغنا في الذهاب إلى أقصى الحدود في استعمال التأويل؛ فإننا سنْخُرج من حدود التأويل الممكنة، والمشروعة أدبيّاً، ونتولّج في حدود التأويل غير الممكنة، أي أنّنا سنمُرقُ من مستوى تأويل النّصّ، إلى مستوى استعمال النص فنقوِّلُه مالا يقول، ونُحَمِّلُه، مالا يحتمل؛ ونسلكه في مسالك الشَّطَطِ، وندرجه في مدارج التعسُّف، بحيث سنؤَوِّلُ، في هذه الحال، كلّ شيءٍ على غير ماهو عليه، أو على غير ما يجب أن يكون عليه؛ فيُمسي، أو يوشك أن يُمْسِي، كلُّ شيءٍ رمزيّاً، أو قل إن شئت إلاّ شيئاً من الدّقة في التعبير: يُمسي كلُّ شيء وهميَّاً في حياة الجاهليّة التي ماكان أبعَدَها عن الروحيّات والرمزّيات، بمقدار ماكان أقْرَبَها، بل ألصقها بالمادِّيَّاتِ والواقعيّات.

إننّا نعتقد، إذن، أنّ الأسماء: أسماء النساء التي وردت في المعلّقات لم ترد بمعاني الرمز ولكنها وردت بمعاني الحقيقة والواقع.

ثالثاً: ماذا عن حقيقيّة المرأة الجاهليّة
في المعلّقات؟

إذا قلنا، معجميّاً ودلاليّاً معاً: حقيقيّة المرأة، فكأنّما قلنا: عدم رمزيّتها: إمّا على وجه الإطلاق، وإمّا على سبيل النسبيّة، وكان سبق لنا في المحور الثاني، من هذه المقالة، أن زعمنا أنّنا لا ننكر، جملة وتفصيلاً، رمزيّة المرأة في الشعر الجاهلي، ولكننا لا نجاوز بها مواطنَ منه معيّنةً لا تعدْوها، ومنها -وربما أهمّها- مايذكر في الطلليّات والمطلعيّات، وما قد تدلّ عليه ظواهرُ الأحوال. وكانت حجَّتُنا، في ذلك، أنّ المؤرخيّن أجمعوا على مادّيّة العصر الجاهليّ، وواقعيّة كثير من المظاهر العامّة فيه، بناء على النصوص الشعريّة التي بلغتْنا منه، ورُوِيَتْ لنا عنه: أكثر ممّا ذهبوا إلى روحيّته ومثاليّته. يضاف إلى ذلك أنّ عامّة المؤرّخين يزعمون أنّ المرأة لم تكن لها مكانة شريفة، في كلّ الأطوار، على عهد الجاهلية، وأن الإسلام وحده هو الذي أنصفها فحقّق لها مالم يكن لديها...

ونحن مع إقرارنا واقتناعنا بما أعطى الإسلامُ المرأةَ، وبما حقّق لها من كرامة، وبما حفظ لها من ماء الوجه فاغتدتْ شقيقة الرجل (20)، بل لم يزل يكرّم المرأة الأمّ إلى أن جعل الجنة تحت أقدامها: فإنّا كنّا زعمنا، في الوقت ذاته، أنّ مكانة المرأة، على عهد الجاهليّة، لم تكن من السوء والبؤس، والمهانة والذّلّ، بحيث كانت كلّها شقاء مطلقاً.

وقد قنن الاسلام العلاقةَ بين الرجل والمرأة، واجْتَعَلَ لها حدوداً صارمةً -من خلال آيات قرآنيّة كثيرة- لا تعدوها، ومن خلال أحاديث نبويّة جمّة، وخصوصاً ماجاء في خطبة حجّة الوداع... ذلك بأنّ المرأة كانت تتدلّل على الرجل أكثر ممّا نتصوّر من سطحيّة المواقف واستعجاليّة الرأي، فمن ذلكم أنّ الرجل هو الذي كان يُرْكِبُ حليلَتَه لدى الإزماع على التَّظعان، حتى قالت إحدى النساء العربيّات إدْلالاً بنفسها، ووثوقاً من منزلتها لدى بعلها: "احْمِلْ حِرَكَ أَوْ دَعْ"!.(21).

وقد علق ابن منظور على هذه القولة التي صارت مَثَلاً، بأنّ ذلك لم يكُ منها إلاّ إدلالاً، وحثّ بعلها "على حَمْلِهَا" ولو شاءت لرَكِبَتْْ"(25).

ومن الواضح أنّ لهذا المثل العربيّ القديم دلالةً حضاريّة واجتماعيّة وعاطفيّة ذاتَ بال، وأنّه يدلّ على المنزلة المكينة التي كانت للمرأة في المجتمع الجاهليّ، فعدم ركوب المرأة، بدون مساعدة الرجل لم يكن عن عجز منها عن الركوب، بمقدار ما كان إدلالاً منها، وتغنُّجاً على بعلها، ولقد يُشْبِهُ هذا السلوكُ المتحضِّرُ مانراهُ، على عهدنا هذا، في الأشرطة السينمائيّة لدى الغربيّين، وذلك حين يفتح الرجل باب السيّارة للسيّدة -لدى الصعود والنزول- مع أنها قادرة على فتحه بنفسها، وبدون عناء، ولكنّ الرجل يأتي ذلك لباقةً وتلطّفاً، وترى المرأة تتثاقل لدى الاقتراب من السيّارة حتى يسارع هو إلى فتح الباب لها.

وعلى الرغم من اختلاف الأحوال، وتبدّل الأطوار؛ فإنّ النيّة في الحالين الاثنتين واحدة: رجل يعيش على عهد الجاهليّة يُركِبُ حليلته على البعير وهي على ذلك قادرة، ولكنها لا تفعل تدلُّلاً، ورجلٌ يعيش في نهاية القرن العشرين يستبق حليلته، أو خدينَتَه، بابَ السيّارة فيفتحه لها لكي تمتطِيَها، وهي على فتحه قادرة، لكنها تتثاقل وتتباطأ غَنَجَاً. فالنيّة هِيَ، في الحالينْ والعهدينْ، ولكنّ المظهر الحضاري هو الذي تغيّر فاستحال من البعير إلى السيّارة.

ويعني ذلك، كما نرى من خلال تحليل مضمون هذا المثل الجاهلي، أنّ الرجل العربيّ سبق الرجل الغربيّ، بقرون طِوالٍ، إلى هذا السلوك المتحضّر.

كما أنّ قول امرئ القيس:

وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضرِبي = بسهَميْكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّلِ

برهانٌ ساطع على رقة قلب الرجل العربيّ، وَرَهَافَةِ كِبدِه، ولطافة إحساسه، إزاء المرأة: هذا الكائِن اللطيفِ المُدَمِّرِ معاً. كما يدلّ على بعض ذلك، أيضاً، هذا الفيض الفائض، والوَفْرُ الطافِحُ، من جميل الأشعار التي قيلت وَصْفَاً للمرأة، وتشريحاً لأعضاء جسدها، وتمجيداً لعينيها وثدييها وساقيها وجِيدِها وشعَرِها وثَغْرها وابتسامتها وصوتها ومِشْيَتَهِا التي تترَهْيَأُ فيها...

إنّ التغني بجمالِ نساءٍ معيّنات، في جملة من المعلّقات، لدليل قاطع على أنّ هؤلاء الشعراء كانوا يحبّون، حقاً، نساء بأعيانهنّ، ولم يكن ذلك مجرّد رمز من الرموز، ولا مجرّد قيمة من القيم الفنّيّة، أو الجماليّة. فقد كَلِفَ امرؤ القيس بذِكْرِ جملة من أسماء النساء كما ذكر نساءً أخرياتٍ في صور عامّة مثل:

* وبيضةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها
تمتّعْتُ، من لهوٍ، بها : غيرَ مُعْجِلِ
* عَذارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
* فظلّ العذارَى يرْتمِينَ بِلَحْمِها
* ويوم عقرتُ للِعَذارَى مَطيَّتِي

ونلاحظ أن امرأ القيس قد يكون سَيِّدَ المُعَلَّقَاتِيّينَ: لا في وصف المرأة، وصفاً جسدياً، فحسب، فذلك أمر لا ينازع فيه أحدٌ، ولكنْ في تقديره المرأةَ، واحترامه إيّاها في مواقف معيّنة- وذلك على الرغم من أنّه كان أميراً سَرِيَّاً، وفارساً كِمِيَّاً؛ ومن ذلك قولُه، وقد كانت الإيماءة سبقت إليه:

وماذرفت عيناكِ إلا لتَضْرِبي = بِسَهمَيْكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتّل

فامرؤ القيس في هذا البيت وفيّ، ومقدّرِ لجمال هذه المرأة وسِحْرها إيّاه، وتعذيبها لقلبه الوامق، ولو كان امرؤ القيس زانياً، كما تصوّره بعض الأخبار المدسوسة(23): لمَا وصفَ حبّه هذه المرأةَ وأبدى تأجّج عاطفتِهِ نحوَها بهذا التقدير الذي جعله يتهالك على حبّها، ويتدلَّه بجَمالها، ويتعذّب بسْحِرْها، فإذا بكاؤُها يُدْلّهُهُ؛ وإذا دموعُها تفطِّرُ كَبدَه، وتكلمُ قلبَه.

ومن ذلك أيضاً قولُه في بعض وصف يوم دارة جُلْجُل العجيبِ، لو كانت حكايته ممّا يَصِحُّ لدينا:

* فظلّ العذارَى يرْتمِينَ بِلَحْمِها

بينما نلفي طرفة بن العبد يعبّر عمّا يشبه هذا المشهد، وهذا المعنى، بقوله:

* فَظلَّ الإماءُ يَمْتَلِلْنَ حُوارَها.

ولا سِواءٌ شاعِرٌ يذكر عذارَى، وشاعرٌ آخر يذكر إماءٌ. فالإماء مظِّنَةٌ للخدمة والامتهان، والعذارى مظنّة للعزّة والدّلال. فحِسُّ امرئِ القيس، هنا، الشعريُّ أرَقُّ، وذوقُهُ أرقى، وموقفه من المرأة أكرم. فكأنّه أراد باصطناعه لفظ "العذارى" أن يُلغي الفوارق الطبّقية بين امرأة وامرأة، فكلُّ عذراء، لدى نهاية الأمر، تمتلك خصائص العذراء، بصرف النظر عن طبقتها الاجتماعية التي كُتِبَ عليها أن تُجْتَعَل فيها. فَمَعَ مانعلم من رواية الفرزدق عن جدّة، وهي الرواية التي تذهب إلى أنّ الإماء هنّ اللواتي جمعن الحطب "فأجّجن ناراً عظيمة"(24).

إلاّ أنّ هذا الشاعر المرهَفَ الإحساسِ، الشاعرَ الإنسانَ؛ كأنَّه تَأَبَّى أن يصف أولئك الفتياتِ الجميلاتِ بالإماء، فِعْلَ طرفةَ بخَدينَاتِهِ؛ فينال من كرامتهن وجمالهنّ: ووَصْفَهُنَّ، تكريماً لهنّ، بالعذارى، كما وَصَفَ نساءَ صَنَمِ دوارٍ بالعذارى أيضاً:

* عذارى دوارٍ في مُلاءٍ مُذيّل.

إننا لنحسب ذلك التّطوافَ من حول صنم دوار كان عامّاً في النساء والرجال؛ وكان عامّاً في العذارى والمتزوّجات -أو الثيبّات-، ولكن لمّا كان لقب العذراء أكرم للمرأة (بدليل قوله تعالى لدى وصْف نساء الجنّة: (لم يَطْمَثُهنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌ)(25)؛ فإنّه وصف أولئك النساءَ بهذ العُذريّة إِغراقاً في التصوير الجمالِيّ لهنّ. فقد كان يمكنه أن يقول مثلاً:

* نساء دَوارٍ...

لكنه لو قال ذلك لكان أَذْهَبَ عن هذه الصورة الشعريّة البديعة (التي هي صورة تنهض على حركة كأنها دائريّة حيّة، مصطحبة بأجسام جميلة لطيفة، تجرّر أذيالّها حول بناية تجسّد معتقداً وثنياً... فهي صورة تمثّل شيئاً من جمال الحركة؛ وذلك على الرغم من أنّنا الآن ننظر إليها على أنها تجسّد مجرّد معتقدٍ باطل....). أطرافاً من جماليّتها. بل لاغتدتْ مجرّد صورةٍ لكائنات حيّة تتحرّك، ليس إلاّ. ولقد يسْتَميزُ لفظُ عذارى عن لفظ نساء، كما يستميز وصف مذيّل عن لفظ مُلاء، إذ لو قال: "في مُلاء" وسكت عن صفة هذه المُلاء، لما كان لذلك شيء من الوقْع الشعريّ، ولا مِنْ بَدَاعَتِه، ولا من مائه، ولا من نضارَتَهِ، ولا مِنْ توهُّجه وعُنفُوانه، لكنه لمّا وَصَفِ المُلاء بطول الذْيْل دَلَّ على كرمِ هؤلاءِ العذارى، وعزّتهن لدى قومهنْ، وَسعَةِ أيديهنّ في أُسَرِهِنّ؛ بحيث لا ترتدي المُلاءَة المُذيَّلة -أي الطويلة المتجرْجرة- إلاّ من كانت موسَرِةً مُقْتَدّرَةً على الإنفاق والمُغالاة في التماس أَجْوَدِ الأثواب وأرقِّها نَسْجَاً، وأَدَقّها صُنْعاً، وأبدعها نقشاً.

إنّ أسماءً كثيرةً تصادفنا في المعلّقات ممّا يطلق على النساء مثل: فاطمة، وعنيزة، وعبلة، ونوار، وهند، وأسماء ، وميسون، وخولة، بالإضافة إلى الأمّهات: أمّ الحويرث، وأمّ الرباب، وأمّ الهيثم، وأمّ أوفى.

ولا نحسب أنّ اختلافَ هؤلاء النساءِ يدلّ على رمزيّتهنّ؛ بمقدار مايدلّ على حقيقتهنّ. وأنّ مايذهب إليه أستاذنا البهبيتي، لدى حديثه عن الحارث بن حلّزة من أن ظاهر الشعر يقتضي "أنّ الحارث يَنْسِبُ بأسماءَ وبهندٍ، وحقيقة الأمر ليست كذلك. وإنّما أسماءُ هذه شخصيّة خياليّة تذكر أيضاً في قصة حبّ المرّقش الأكبر البكريّ الذي خرج على ملوك المناذرة"(26) لا يعدو كونه تحمّساً لفكرة كان الشيخ رَسَمَها في نفسه للعصر الجاهليّ؛ ثم راح يَنْضَحُ عنها بكلّ ما أُوْتِيَ من قوّة عقليّة، وكفاءة فكريّة، وإلاّ فإنّ مايُعَدُّ لديه "حقيقة أمر" لا ينبغي أن يجاوز كونَه وجهةَ نظرٍ، ومن ذا الذي يستطيع أن يكتب عن الشعر الجاهليّ (ويتناول المرأة من خلال هذا الشعر)؛ وذلك بعد أن مضى عليه قريبٌ من ستّةَ عشرَ قرناً: ثمّ يتحدّث، بثقة عجيبة، عن هذه الحقيقة؟ بل لا يزال كذلك حتّى يتعصَّبَ لها، ويدافِعَ عنها، على أساس أنّها عين التاريخ!....

ولِمَ تكونُ أسماءُ الحارثِ بن حلّزة مجرّدَ امرأةٍ خياليّة من حيث لم يكن هذا الحارث إلاّ شاعراً كجَميع شعراء البشر، عبر خمسة وعشرين قرناً من التاريخ الإنسانيّ المسجّل بشيء من الانتظام، يحبّ ويعشق، ويصوّر في شعره مَنْ يحبّ، ويصف مَنْ يَعْشَقُ؟ ولِمَ نَسْعَى إلى حرمان شاعر من أوّل مادّة يقوم عليها شعرُه، وهو الحبّ؟ فليس هناك شاعر حقّ على الأرض لا يحبّ. وإذن فكلّ مَن لا يحبّ لا يكون شاعراً، وماينبغي له. وإذن، ليس هناك شعر حقّ على الأرض لا يتحدّث عن الحبُ، ولا يصف المرأة، ولا يتغزّل بالحبيبة، ولا يتغنّى بجمالها.... فما لِهذا الحارث إذن يكون بِدْعاً من الشعراء قاطبة: من قدم منهم ومن حدث؟

ثمّ إنّا لا ندري كيف يذهب شيْخُنا المذَاِهَبَ الصارِمَةَ في مناقضة طه حسين، ومعارضته في موقفه المتعسّف من العصر الجاهليّ: شعرائِهِ وشعرِه، ثم يأتي إلى أسماءَ بنت عوف بن مالك بن ضبيعة بنت قيس بن ثعلبة (27) فهي إذن شخصيّة تاريخيّة، وهي التي كان يتغزّل بها المرقّش الأكبر (وهو ربيعة بن سعد بن مالك، ومن الناس من يقول: أنه عمرو، وليس ربيعة)(28). فيحرمها من وُجودها التاريخيّ الذي اتّفق عليه جميع القدماء، باسْمِ وُثوقِه بمعرفةِ الحقيقة؟ أنه ينشأُ عن هذا الموقف المنكِر لوجود الأَسْمَاءَيْنِ الاثْنَتَيْنِ: أسماءِ الحارثِ بْنِ حلزةَ، وأسماء المُرقَّش الأكبرِ رَفْضُ الفاطمتَيْنِ الاثنتَيْنِ أيضاً: فاطمةِ امرئِ القيسِ، وفاطمةِ المرّقشِ الأصغرِ (29).

ولا يزال الشيخ، رحمه الله، يتعسّف في إنكار هذه الأسماء النسويّة، الجاهليّة، التي لا نرى لإنكار تاريخيّتها أيّ مبرّرٍ مقبولٍ إلى أن يذهب إلى إنكار هندِ الحارثِ بْنِ حلزةَ أيضاً، وأنّ اسم هند "يكاد يقع في شعر كلّ شاعر اتّجه إلى ملوك المناذرة بمدح أو ذم"(30).

ونحن نعجب من شيخنا كيف يتناقض مع نفسه في موقف واحد: فبعد أن كان قررّ في الأسطار السابقة، من الصفحة نفسها، من الكتاب نفسه: أنّ أسماءَ شخصيةٌ أسطوريّة، أو خياليّة بتعبيره، نلفيه يعمّم ذلك على هندٍ أيضاً فيزعم أنّها كانت مجرّد اسم تتحلّى بذكره الشعراء على بسيل الاِزدلاف إلى المناذرة كلّما يمّمتْهم مادِحَةً، أو كلّما زايلتْهم قادِحَةً.... وماقول شيخنا في ميسون التي تغنّى بذكرها الحارثِ بْنِ حلّزةَ؟ أهي أيضاً مجرّد شخصيّة خياليّة، وامرأة رمزيّة لا صلة لها بالواقع، ولا صلة للواقع بها؟

ولِمَ ألفينا هندَ ابنةَ عُتبة يبرُزُ دورُها، ويعظُمُ شأنُها، في المجتمع المكِّيِّ حتى يمكن أن نلقبّها سيدة نساء قريش على عهد الجاهليّة؟ ومابال هند أمّ عمرو -ملك الحيرة- حتى بلغت منزلة من السؤدد، وتبوّأتْ مكانةً من العِزّ: قوّة شخصيّة، وعلوّ قدر، ورفعة نفْس: حتّى أمكن نسج حكاية أَنَفَة خدمة ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم -وبنت مهلهل بن ربيعة- ومن حولها، وأنّ ليلى هذه هي الوحيدة، من بين نساء العرب، التي كان يمكن أن تأْنَفَ من خدمتها؟ (ونلاحظ ذلك أنّ عمرو بن هند تَسَمَّىَ، على غيرِ ديدَنِ العرب في الانِتساب، باسم أمِّه، وألحق لقبه بها: تكريماً لها، وتشريفاً لمنزلتها). ثم مابالُ هندٍ بنتِ الخُسّ التي كانت من أعقل النساء العربيَّاتِ في الجاهليّة، وأَعزِّهنَّ...؟ ثمّ مابال الهُنُودِ الأخرياتِ اللواتي لا يأتي عليهنّ العّدُّ... ؟ فهل كنّ جميعاً ذوات صلةٍ، أو كان الرجال الذينَ كان لهم بهنّ صلةٌ ما، بالمَناذرة؟... ثمّ، لم ألفيْنا الزبَّاءَ تحكمُ، وبلقيساً تَمْلِكُ، وتُماضرُ تُبْدِعُ، وَسَلّمَّنا بذلك تسلِيماً، وأقررنا به إقراراً؟ ثمّ لِمَ ألفينا هؤلاء النساء جميعاً مذكوراتٍ في التاريخ المضطرَبِ في الشعرُ الجاهليّ فلَمْ ننُكر أسماءَهن، ولا فكّرنا في رفض تاريخيّتِهِنّ، ولا شكَّكْنَا في وجودهنّ: حتّى إذا صادفنا شاعراً من شعراء المعلّقات، أو من شعراء الجاهليّة بعامّة، يتغزّل بامرأة تُسَمَّى هِنْدَاً، أو أسماءَ أو فاطمةَ، أقمْنا القيامة، وأقعدنا الدنيا، وأقلقْنا الكون؛ من أجل أن نزعم للناس أنّ هنداً هذه لا تعدو كونَها أسطورةً في أساطير الأوّلين ‍!؟...

إنّ الرأي لدينا يقوم على الاِعتدال، فمَنْ ذَكَرَ الشعراءُ من النساء في المطالع، أو الطلليّات، قد ربّما يكون مجرّدَ رمزٍ، أو مجرّد تقليدٍ شعريّ. وقد يكون هذا المذهب، لدينا، أدنى إلى الوَجاهة والسَّداد، أمَّا النساء اللائي ذُكِرِتْ بأسْمائِهَا، والتي ذكرْنا طائفةً منها، في صلب المعلّقات، وتحت أَسْيَقَةٍ تاريخيَّةٍ لا يُنكِرها أحدٌ من العقلاء، فأَوْلئكَ نِساءٌ حقيقيَّاتُ الوجودِ، تاريخيَّاتُ الشخصيَّاتُ، في أغلب الظنّ. وليس لنا في ذلك من حُجّة سِوَى أنّ الأدب الإنسانيّ منذ كان، وعبر قريب من خمسة وعشرين قرناً من تاريخه؛ أي منذ عهد هوميروس إلى أحمد شوقي: كان الغزل من موضوعاته الكبرى، والتغنّي بجمال المرأة من تقاليده المُثلى.

وإلاّ فكيف نَقْبَلُ بأن يكون لعُمَرَ بْنِ أبي ربيعة -وكان يعيش في أول عهد الإسلام- أي لم يكن بعيداً عن عهد الجاهليّة من الوجهة الزمنيّة الخالصة -فاطمةُ، ونُعْمٌ ، وغيرهما، نِساءٌ في حياته، ومغامراته غراميّة في تاريخه، على نحو أو على آخر.... نسلّم بكلّ ذلك حتى إذا أُبْنا الْقَهْقَرَى إلى أقّلَّ من قرنٍ في عهد الجاهليّة خُضنا الباطِل خَوْضَاً: فأثبتنا مالا يُثْبَتْ، وأنكرنا مالا يُنكر؟ إنّا لا نكاد نقول عن عصر عمر بن أبي ربيعة إلاّ ما ألفيناه مدّونَّاً في كتب تاريخ الأدب؛ لكننا إن عُدنا إلى عصر امرئ القيس، وعنترة، والحارث بن حلّزة.... أوّلنا الأشياء على سَواءِ ظاهِرها، وذهبْنا في ذلك المذاهِبَ الغريَبَةَ، واضطربنا المضطرَبَاتِ العجَيبة، وزعمنا للناس أنّ أولئك الشعراءَ كانوا يصطنعون الرمز، قبل أن يغتدِيَ هذا الرمز تقليداً أدبيّاً يعترف به النقد، ويرتاح إليه العِلمْ. وإذن، فقد كانوا يعرفون الرمزيّة قبل أوّانها، ويتعاملون معها قبل زمانها؛ فكانوا يقرضون الشعر ضمن تياراتها. وإذن، فلا حرج ولا إثم أن نجعل من مثل الحارث بن حلّزة، على مذهب أستاذنا البهبيتي، مالارْمِي العرب، بل مالاَرْمِي العرَبِ على عهدِ الجاهليّة؛ وأنه كانّ يرمز بالأسماءِ، أسماءِ النساء؛ دون أسماء الرجال، مثلُه مَثُل أصاحِيبهِ من المعلّقّاتيّين.

ذلك هو التعسُّفُ في المذهَب، والتكلُّفُ في الرأْي، والمغالاةُ في التأويل.

وإذا كانت نَوار، وأسماءُ، وهِنْدُ، ومَيْسُون، وفاطِمةُ، وعنيزةُ، وعَبْلَةُ، وَخولةُ، وأمُّ الحويرث، وأمُّ الرباب، وأمّ الهيثم، وأمّ أوفى، ومُرِّيَّةُ لبيدٍ، وابنةُ مالكِ عنترةَ!، وجارَيتُه أيضاً، وبيضَةُ خدرٍ امرئِ القيس، وعذارَى دَوارِهِ، وعذارَى دارةِ جُلْجُلِةِ، وحِسَانُ عمرو بنِ كلثوم، وظَعائِنُ بُنِيَ جُشَمٍ: لَمْ يَكُنَّ إلاّ مجرّد رموز في الرموز، وأساطير في الأساطير: فما القول في أثدائِهِنَّ التي كانت تشبه الأحْقاقَ، وكشوحِهِنَّ التي كانت تشبه الجُدُلُ، وسُوْقِهِنَّ الرَّيَّا التي كانت تشبه البَلْنَطَ أو الرُّخام، وشعورِهِنَ المُسْتَشْزَراتِ إلى العلا، وعطورِهِنَ الشذّية التي كانت تعبق من فُرُشِهِنّ إذا نِمْنَ، وتنتشر من حولهنّ إذا تَرَهْبَأْنَ متكسِّرات في المَشِي...؟

أم كان كُلُّ أولئك مجرّد رموزٍ؟ أم يعني ذلك أنّ بعض الناس يريد أن ينكر وجود المرأة، أصلاً، في الحياة من حيث هي، فيحتال على إنكار دورها في المجتمع، وحضورها في أخْيِلَة الشعراء بتلفيق هذا الشيءِ الذي لم يفكّر فيه شعراء الجاهليّة قطّ، والذي يقال له الرمزيّة؟ أم ماذا يُلاصُ من إنكارِ أسماءِ النساءِ؟ فهل هو إنكار لوجودهنّ، ورَفْضٌ لحضورهن، في المعلّقات؟

******

رابعاً : جماليّةُ المرأة في المعلّقات

ربما سنتولّج إلى معالجة هذه الفقرة من آخر ماكنّا أثرّناه من مُساءلاتٍ في أواخر الفقرة السابقة. وإذا كنّا دَأبنا، في كثير من كتاباتنا الأخيرة، على إيثار عدَم الإجابة عن الأسئلة التي نثيرها، فلأننا نعتقد أنّ طريقَتَنا في إِلْقَائِها تجعل الإجابة عنها كامنةً فيها، أو أنها توحي على الأقلّ، بوجه من الوجوه، بِضَرْبٍ من الإجابة عنها.

وإنما ذهبنا إلى مادِّيَّةِ الوصف النسِويِّ في المعلّقات بخاصّة، وإلى مادّيّة الوصف من حيث هو بعامّة: لأنّنا لا نرى أيّ مُبرّرٍ: لا أخلاقيّ، ولا دينيّ، ولا قانونيّ، ولا نفسيّ، ولا اجتماعيّ، كان يحمل أولئك المعلّقاتيّين على التلميح دون التصريح، وعلى الترميز دون التقرير والتوضيح، ولعلّ الأوصاف الدقيقة التي حاول المعلّقاتيّون توصيفَ المرأةِ بها أن تكون من بين الآيات التي نتخّذ منها ظَهِيراً لنا على إِبعاد رمزيّة المرأة، في المعلّقات، من سبيلنا.

ونحاولُ الآن التوقَف لدى تفاصيل هذا الوَصف الجماليّ، لعلنا أن نستطيع تبيانَ جسديَّةِ أولئك النساء المعلّقاتيّات، وجماليّتهنّ في تلك السُّمُطِ الرائعات.

1- وصف المرأة في المعلّقات

نلاحظ أن وصف المرأة في المعلقات ، إلا في استثناءات نادرة يرتكز على الجسد الجميل للمرأة، ويُعْنَى برسْم أعضائِها رسْماً تجسيديّاً، كما يعمد إلى وصف مَفَاتِنها (من الذراعين والساقين والثديَيْن إلى النَّحر والكشح والعجيزة والشَّعْرَ والجَيدِ)، وإلى وصف كلّ ماهو مِظنّةٌ لإثارة الرغبة الجنسيّة لدى الرجل من جسدها. فصورة المرأة في المعلّقات هي صورة أنثى تصلح لإطفاء الرغبة الجنسيّة العارمة لدى الذِّكْرِ؛ لا امرأة تشاطر الرجل حياته وآماله وآلامه، وتظاهره في الكدح اليوميّ، وتقاسمه جمال الحياة الروحية التي يبدو أنّها -من خلال ماوصلّنا من شعر جاهليّ على الأقلّ- كانت غائبةً من وجودهم إلاّ في مظاهر نادرة...

فالصورة العامّة التي ينهض عليها وجود المرأة، إٍذن، في الشعر الجاهليّ بعامّة، وفي المعلّقات بخاصّة؛ تتمثّل في أُنْثَوِيَّتَها (نسبة إلى الأنثى)، لا في أُنُوَثَتِها، أو امْرأَتَيَّتِها. فكانت لديهم، كما يبدو ذلك من كثير من النصوص الشعريّة، مجرّد جسد غضٍّ بضٍّ، يتلذّذ به الرجل، ويُشْبِعُ رغبتَه الجنسيَّة منه، دون أن تكون شيئاً آخرَ متمَثِّلاً في شيء آخر... فهل كان ذلك حقاً؟ إنّنا نعتقد أنّ المرأة ربّما كانت أرقى منزلةً من ذلك؛ كما كنّا رأينا في الفقرتين: الأولى والثانية من هذه المقالة، ولكنّ النصوص التي تتحدّث عن منزلتها الشريفة في المجتمع الجاهليّ هي التي تُعْوزنا...

ولعلّ أهم مايمكن استخلاصُه من قراءتنا المتكرّرة، لهذه السبعِ المعلّقاتِ، أنّ وصف المرأة فيهنّ ينصرف، في جملة منه، إلى أعضاء جسدها. وكثيراً ما ينصرف هذا الوصف، كما كنّا أومأنا إلى بعض ذلك منذ قليل، خصوصاً إلى شَعَرها، وعينيها، وثغرها، وأسنانها، وجيدِها، ونحْرِها، وَنَهْدَيْهَا، وكشحها، ومتْنِها، وَبَشَرَتِهَا، وقامتها، وبَنانها، وساقَيْها، وذراعيها، وملابسها، وعِطْرها، وابتسامتها، ومِشْيَتها، وصوتها، وحُليّها، وكُحِلها، ودموعها...

وقد انصرف الوصف لدى امرئ القيس، في معلّقته خصوصاً، إلى شَعَر المرأة، وقامتها، وساقيها، وكشحها، ونحْرها -وتَرائبها- وبَشَرتها، وجيدها، وعينيها، وخدّيها ومتنها، وبُنانِها، وملابسها، وتمايلُهِا في مشيتها، وعطرها، وحليها، ودموعها، ومَرْاَكبِها...بينما يتجَسَّدُ وصف المرأةِ، في معلّقة طرفة، في ثغرها البسّام ومشيتها المُتَرَهْيئَة، وَبَشَرَتِهَا البضّة، ووجهها الناضر، وصوتها الرخيم، وملابسها الفَضْفَاضَة، المفتوحة، وحُلِّيّها المُثيرة، وكُحلها، وظُعُنها، ويتمثّل وصف المرأة لدى زهير في وشم مِعْصَمْيْها، وَمَلْهَاها، وليس أكثر من ذلك. على حين أنّ لبيداً أثاره في جمال المرأة وشْمُها فوصفه، وسوادُ عينيها فذكره.

أمّا عمرو بن كلثوم فقد ألفيناه يصف من المرأة ثديْيها البضّيْن الرخصيْن معاً، وأنّهما يشبهان حُقَّ العاج، وذراعيها وأنّهما تشبهان ذراعِي الناقةِ البيضاءِ غضاضةً وضخامةً وامتلاءً، وبياضَ لونِ جسدها، وفَتاءَ سِنِّها، وطولَ قامتِها، وضخامةَ مأْكَمَتِها، حتّى إنّ الباب ليضيق عن سعتها فيه، وطراوةََ ساقيْها وبياضُها، ولطافَةَ كَشْحِها، وضخامةَ رَوادفها، وخَشاشَ حَلْيِها...

ولم يَفْتْ عنترةَ أن يصف في المرأة ثغرَها، وريقَتَها، وفِرَاشها وجِيدَها، وقِنَاعَها...

ونلاحظ أنّ عنترة يلتقي في وصف مفاتن المرأة من حول الجِيِد الذي يشبه جيدَ الرئم مع امرئ القيس. كما يلتقي طرفة مع امرئ القيس وعنترة في وصف فراشِها الوثير أو الضائِعِ بالمِسْك.

ويلتقي عنترة مع امرئ القيس في وصف عِطرها، ويلتقي لبيد مع امرئ القيس في وصف عيني المرأة بالسواد، وتشبيههاً بعيون أرآم وَجْرة. ويلتقي طَرَفة وعمرو بن كلثوم مع امرئِ القيس في وصف بياض لونها. بينما يلتقي عمرو بن كلثوم مع امرئ القيس في وصف كشحها، وساقيها، وطول قامتها، ويلتقي طرفة مع عنترة في وصف ثَغْرِها وريقَتَها. ويلتقي طرفة أيضاً مع امرئ القيس في ذكر ظُعُنِها (مراكبها)، ومِشْيَتها...

وقد تفرّد امرؤ القيس بوصف شَعْر المرأة، ونحْرِها وترائِبها، وَخَدَّيْهَا، وَبنانها، وكفِّها؛ من حيث تفرّد طرفة بن العبد بوصف جمال مِشيتها، ونَضارة وجهها، ورَخَامَة صوتها، وكُحْلِها. على حين أنّ عمرو بن كلثوم تفرّد بوصف ثديَيْها، وذراعيها، وضخامة مأكمَتِها، ورودِافِها، ورنين حَلْيِها.

ويمكن أن نستخلص من هذه المتابعات الوصفيّة التي تابعنا بها نصوص المعلّقات، في الجانب المنصرف إلى وصف المرأة منها، جملةَ استنتاجات، لعلّ أهمّها:

أ- أن امرأ القيس هو أوصف المعلّقاتيّين للمرأة، وأقدرُهم على ملاحظة مكامن الجمال فيها، ومظاهر الفتنة منها. وقد يكون ذلك إمّا لطول عشرته إيّاها، وإمّا لقدرته العجيبة على تصوير عواطفه إزاءها، ولبراعته في تصوير عواطفها، هي أيضاً، إزاءه.

ب- إنّ امرأ القيس المعلّقاتيّ الوحيد الذي يحاور المرأة، ويُسمِعُنا حِوَارَها، هي أيضاً، على حين أنّ المعلّقّاتيّين الآخرين كأنما يتحدّثون عن كائن ميت. إنه يجعلنا نسمع منه ومنها. إنّ حبيبات امرئ القيس يتحدثّن ويتغنّجن ويتدلّلن حديث الأنثى المغنّج...

ج- إنّ امرأ القيس المعلّقاتيّ الوحيد الذي يجعلنا نشهد مصاحَبَتِه إيّاها: يُراكِبُها في هودجها على بعيرها، ويُماشيها ليلاً إلى نحو الخلوة للإلتذاذ بها، وليَهْصِرَ بِفَوْدَيْ رأسِها، لتتمايل عليه: هضيمَ الكشحَ ريَّا المُخَلْخَلِ...

د- إن امرأ القيس أقدر من أصحابه، في منظورنا نحن على الأقل، قدرةً على تصوير المرأة ليس من حيث هي أنثى يطفئ الرجلُ منها شبَقَ الرغبة الجنسيّة فحسب، ولكن من حيث هي امرأةٌ عزيزة في نفسها، كريمةٌ في شرفها، موسِرَةٌ، مخدومة:

* نؤوم الضُّحَى لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ.

هـ- أنّ امرأ القيس أكثر المعلّقاتيّين تَعداداً لأوصاف المرأة حيث عرض، كما سبقت الإِيماءة إلى بعض ذلك، لصفة شَعْرِها، وساقيْها، وكشْحها، ونحرها، وبشرتها، وجيدها، وعينيها، وخديها، وبنانها، وكفّها، وقامتها، وملابِسها، وعطرها، وبعض حَلْيِها، وظُعُنِها، ومشيتها... وهو أمر لم يستطع أحد من المعلّقاتيّين تحقيقَه؛ إذا كان قُصارَى الواحدِ منهم أن يصف بعض ماوصف؛ ولم يكد الواحد منهم يتفرّد إلاّ بصفات قليلة تغاضى عنها هو مثل الثغر، والريق، والثديين، والذراعْين، ورنين الحلي...

ونلاحظ أَنَّ امرأ القيس عَمَدَ إلى اصطناع اللغة الإيحائيّة بحيث وصف الخَدَّ بالأَسَالة، والعينين بالسَّواد، والجِيْدَ بالطول غير الفاحِش، والنحْر بالصفاء والبياض واللَّمَعان: فدلّ ذلك - من المرأةَ الموصوفة- على إِشراقة الثغر، ولذاذة الريق، وطيب النفس... كما أنّه حين وصف صاحَبَتَه بأنها نؤوم الضحى أجمل، في هذه الصورة الموسرة، كُلُّ معاني اليَسار والثراء، والنِّعمة والنَّعمة معاً، إذْ لا يعقل أن نصادف سيّدة "نؤوم الضحى" مخدومة، ولا تكون موسرة، وإذن لا تكون متحليةً بأنواع الحليّ، وأصناف الجواهر من أساوِر وقلائدَ وخلاخِيلَ وأقراطٍ ودَمالجَ وَخَواتِمَ وَفَتَخٍ... مِمّا تعتقد المرأة أنّه يزيدها جمالاً وحُسناً، وبهاء وفتنة.

و- إنّ ستّة من سبعة من المعلّقاتييّن وصفوا المرأة بشكل يختلف، كثيراً أو قليلاً، عن الآخر. ويمكن ترتيبُهم، بناء على تواتر هذا الوصف لديهم وكثافته في معلّقاتهم؛ فنجد أمرأ القيس يتبوّأ المنزلة الأولى بخمسةَ عشرَ وصفاً، وعمرو بن كلثوم في المنزلة الثانية بأحد عشر وصفاً، وطرفة في المنزلة الثالثة بتسعة أوصاف، ثم عنترة بخمسة، ولبيداً بوصفين اثنين، من حيث لم يجاوز زهيراً وصْفاً واحِداً، وهو في الحقيقة غير صريح.

أمّا الحارث بن حلّزة اليشكريّ فكأنّه لم يستهوِهِ في المرأة شيء من جمالِها فغاب وصفُها من معلّقته التي كان عَجِلا فيها، فيما يبدو، إلى وصف أشياءَ أخراةٍ برع فيها الحارث براعة عجيبة، وخصوصاً وصفَ الأصواتِ والحركات...

2- القيمة الجماليّة لوصف المرأة في المعلّقات

لماذا هذا الإيلاعُ بوصف جمال المرأة، ونعْتِ كافّة أعضاء جسدها؟ ولم استأثر الرجل وَحْدَهُ -الشاعر- بوصف المرأة دون استئثار المرأة بوصف الرجل؟ فهل وُلِدَ الشِّعْرُ ذَكَرَاً، لا أنثى؟! أم كان ذلك قصوراً من المرأة، أو تقصيراً؟ أم لم يكُ لا هذا ولا ذاك، ولكن شِعْرَها، أو بعض شعرها، الذي يُفْتَرَضُ أنَّها قالته في وصف الرجل: اندثر لأنّ الرواة الرجال لم يَرْوُوهُ، لبعض التدبير؟ وإذا ثبت أنّ المرأة العربيّة على عهد الجاهليّة لم يُتَحْ لها أن تصف ذُكًوْرَةَ الرجل، وقوّةَ عضلاتِه، وجهارة صوتِه، وشِدَّةَ قَبْضَتِهِ، وشجاعةَ نفْسِه، وسخاءَ يده حين يُنفق عليها، وحين يَهّبُها مايَهَبُها... فماذا كان يمنعها من ذلك وقد ثبت أنّ الشعريَّةَ تُتاح للرجل، كما تتاح للمرأة؟ أَلأَنَّ المجتمع العربيّ، حتى في جاهليّته الأولى، كان يأبى على المرأة أن تُبْدي عمّا في نفسها، فتعبّر عن ذلك في شعر تصف فيه، ماتصف؟ أمّ لأنّ همّ المرأة ليس التعبير اللفظّي، السطحيّ، ولكنّ همَّها، منذ الأزل، التعبير الجسديّ، الجماليّ، وحده؟... ذلك بأنّ ماعدا ماوصلنا من الأرجاز التي تداولتْها المعاجم العربيّة القديمة استشهاداً بها على صحّة الألفاظ المعجميّة؛ فإنّنا لا نكاد نظفر إلاّ بقليل من الأشعار الغزليّة التي قالتْها المرأة في الرجل... وأشهر شواعِرهنْ الخنساءُ وهي التي استنفدتْ معظم شِعْرِها رثاءً لأخوَيْها صخرٍ ومُعاويةً حين قٌتَلا في إحدى الغارات...

بينما نلفي الرجل غيرَ ذلك شأناً. نجده صُراحاً مقداماً في وصف المرأة يتعرّض لأدقّ الأعضاء منها حيث نجد المعلّقاتيّين، مجتمعين، يصفون منها: الشعرَ، والساقين، والكشح، والنحر، والبشرة، والجِيدَ، والعينين، والخدّين، والذراعين، والمتْن، والكفَّ، والبَنان، والقدُّ، والمِشية التي تترهْيَأُ بها، والملابس التي تتبختر فيها، والعطر الذي تتعطّر به، والحُلِيِّ التي تتحلّى بها، والمراكب الخالصة لها، مثل الغَبيطِ والْحُدُجِ.

وحين نتأمّل هذه الأوصاف التي بلغت، عبر المعلّقات، زهاء ثلاثين وصفاً، نلاحظ أنّها طَوّقَتِ المرأة من أخمصِ قدميها إلى قُلّةِ رأسِها بحيث لم تكد تغادر منها شيئاً ممّا يمكن أن توصَفَ به، جَمالياً، إلاّ وصفتْه وْصْفَاً. ولعلّ أغلظهم وَصْفَاً للمرأة، وأدناهم إلى الحس الجنسيّ أن يكون عمرو بن كلثوم الذي وصف الثَّدْيَ فشبّهه بالحُق، والروادف فوصفها بأنها مُثْقَلَّة باللّحم الغضّ... بينما نلفي عنترة يتعفّف فلا يصرّح بالمغلّظات فيذكر من المرأة غُروبها الواضِحَ، ثَغْرَها الجميلَ العَذْبَ المُقبَّلِ....

وعلى نقيض مايشيع في عامّة الكتابات النقديّة العربيّة فإنّ أوصاف امرئ القيس للمرأة محتشمة إلى حدّ بعيد، مترفّعة بعيدة، مهذّبة على نحو نلفيه، فيه، يَسْلُك سبيل الدلالة الحافِّية (الإيحائيّة)، ولا يَسْقُطُ في المباشرة المغلّظة، إذ نجد عامّة أوصافه توحي بالجمال العبقريّ للموصوفة، ولكن دون التصريح بذلك على النحو الذي نلفي عمرو بن كلثوم يعالج به وصف المرأة:

* وثدياً مثلَ حُقِّ العاجَ رَخْصاً
حَصاناً من أكفِّ اللاّمسينا
* وكَشْحاً قد جُنِنْتُ به جُنونَا

بل إنّا نجده في الحال الثانية لا يصف، في الحقيقة، حيث يذكر الكشح مجرّدَاً، من كلّ وصف، وأنّ الجنون الذي أَلمَّ عليه منه هو الدالّ على جماله واتّصافه بكلّ مواصفات الرشاقة، وكأنّ الناصّ، هنا، أَسَفَّ إلى أدنى مستوىً ممكِن من القصور في وصف هذا الكشح الذي حمله على الجنون، وأفضى به إلى الدَّالَةِ. فهو لم يَصِفْه لنا، لم يُرِدْ أو لم يستطع، ولكنّه وصف لنا موقفه منه، وتأثير جماله في نفسه...

بينما نلفي امرأ القيس يصف كشح صاحبته في معلّقته مرّتين اثنتين:

* فتمايلت عليَّ هَضِيمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخلخلِ
* وكشحٍ لطيفٍ كالجَديلِ مُخَضَّرٍ


فنلاحظ أنه، هنا، كأنّه شاعر من شعراء باريس يصف حسناءَ باريسيّةً تترهيأُ في حُلّة شفّافة عبر أحد شوارِعها الأنيقةِ النّظيفة؛ لا شاعر جاهليّ كان يعيش في بعض روابِي كِنْدَةَ، أو في بعض الجبليْن من بعد ذلك (أجأ وَسَلْمى) ببلاد طّيّئ. فالتنصيص على هضم الكشح، وخُموص البطن، ودقّة الخصر: دليل على رفعة الحسّ الجماليّ، ورقّة الذوق ورقيّه لدى الرجل العربيّ منذ الجاهليّة الأولى. فهذا الكشح هضيمٌ في طور، ولطيفٌ في طور آخر. ونجد امرأ القيس يربط الكشح، في الحاليْن الاثنتين، بالساقين، في الحال الأولى يصفه بدون تشبيه، ويجمله بدون تفصيل.

* هضيم الكشح ريّا المخلخلِ.

أمّا في الحال الأخراةِ فإننا نُلفيه يفصّل الوصف تفصيلاً، فيَعْمِدُ إلى تشبيه الكشح بالجَديل (أي خِطَامِ البعير المتّخَذِ من الجِلدْ)؛ فلقد بالغ الشاعر واحترز في وصف هذا الكشح بالنَّحالة حتّى ضَأَّلـَهُ إلى أدنى مستواه لدى هذه المرأة؛ فكأنّه تمثّلَ فيه الحدّ الأقصى من الرشاقة التي تُلْتَمَسُ في الفتاة المتريِّضَةِ الأنيقة الخفيفة الرهيفة التي تُتَّخَذ، في مألوف العادة، لِعَرْضِ الأزياء الجديدة في المجتمعات الراقية، ثمّ يعمَد إلى تشبيه الساق بأنبوب البَرْدِيّ. السَّقِيّ، فكأنّه لاحظ الساق التي هي بين الركبة والكَعْب، والبَرْدِيّ والسَّقِيِّ الذي هو بين العقدتين: فأذاب الصورة في الصورة، وألحق الشكل بالشكل، واحترز من اليَبْسِ والكَزَازِة بالبَرْدِيِّ الغَضِّ الرَّطْبِ الرَّيَّانِ؛ بالدلالة على طَراوة هذه الساق التي وُصِفَتْ في الحال الأولى بأنَّها رَيَّا (كناية عن امتلائها ونَعمتها، واعتدالها، وارتوائها)؛ وشبّهت في الحالِ الأُخراة بِأُنْبَوب البَرْدِيِّ، السَّقِيِّ:

* ساقٍ كأُنبوبِ السَّقِيّ، المُذلَّلِ.

بينما نجد عمرو بن كلثوم يصف ساقَيْ صاحبتهِ بأنّهما ساريَتانِ من العاج، أو الرُّخام.

* وسارَيَتَيْ بَلَنْطٍ أو رُخام.

وهو وصف جميل من حيث دلالتُه على صفاء لون هذه المرأة، ولكنّ الذي يبشِّعِه هو وَصْفُهما بالسارَيِتَيْنِ فكأنَّ هذا الوصف يجعلهما ضخمَتيْن إلى حدّ غير معقول، وكأنّهما كومتان، أو كثيبان، من اللُّحمانِ المتراكِمِ بعْضُها فوق بعض. وتتضاءل جماليّة هذه الصورة الوصفيّة لساقَيْ هذه المرأة بكونِهِمَا كزّتَيْنِ، يابستَيْنِ يَبَسَ العاجِ، وباردتين بُرودَة الرُّخام، فبشيءٍ قليلٍ من الذهول والشرود، والسهو والسّمود، لدى المتلّقي: تستحيل هذه الصورة في ذهنه إلى ساقيْن ضخمتين يابستيْن -على الصفاء- لِجُثَّةٍ هامدة باردة، كأنَّها التمثال المعروض. على حين أنّ الساقين لدى امرئ القيس مرتويتان بماء الفَتاء. وممتلئتان بنضارة النَّعْمة؛ وأنَّ فيهما من الحياة مايشبه الدبيب الذي يَسْرِي في أنبوب البَرْدِيِّ الطّرِيِّ، المُذَلَّلِ السَّقِيّ.

فصورة ساقيْ صاحبةِ عمرو بن كلثوم تمثّل الصفاءَ والطول، ولكن بدون توكيد وجود حياة في المشبّه به، وطراوة فيه. بينما هي لدى امرئ القيس تمثّل الصفاء والنقاء، والطراوة والنَّعْمة، والدِّفْءِ والنِّعْمَةَ، والاستقامة والاعتدال، والبضاضة والارتِواء: معاً.

وعلى أنّه يمكن قراءةُ الساريتيْن، في بيت عمرو بن كلثوم، على أنّه كان يريد بهما إلى الطرَفِ الأسفلِ كلّه من جسد هذه المَرْأَةِ: أي إلى قدميْها، وساقيها، وفخذيها، وتبدو لنا هذه القراءة وجيهةً طالما عمد الشاعر إلى استعارة الساريتيْن لذلك. أرأيت أنّنا لا نستطيع تمثّل الجزء الأسفل من السارية دون تمثّل منتهى ارتفاعها. فقد كان، إذن، يقصِد، احتمالاً، إلى ارتفاع الساريتين -بلغة أصحاب الرياضيّات- بكلّ أبعادِ ذلك الارتفاع. وقد ينشأ عن هذه القراءة أنَّه كان لهذه المرأة ساقِان ممتلئتان، وفخذان ضخمْتَان، من الكعبين إلى الوَرْكِيْن... وإذا انضاف إلى صورة هاتين الساقين، وهاتين الفخذين المتضمَّنَتَيْن في صورة الساريتين العاجيّتين: صورة الذراعين البضّتين الممتلئتين اللتين تشبهان ذراعي الناقة الفتيّة البيضاء، الطويلة العنق (أو : العَيْطَل الأدْمَاء، بتعبير عمرو بن كلثوم): اكتمل في ذهننا ماكان يريده الشاعر من صفة بعض أطراف هذه المرأة العجيبة، وقامتها المديدة؛ حتى كأنَّها عملاقة عاتية.

أمَّا جيد المرأة فقد اختصّه امرؤ القيس وعنترة وحدهما بالوصف، من حيث سكت عنه المعلّقاتيّون الآخرون. ذلك بأنّ كُلاًّ منهما شَبَّهَ جِيْدَ صاحبتهِ بجِيد الرئم، أو الجِدَايَة:

* وجيدٍ كجيدِ الرئْمِ ليس بفاحشٍ
- إذا هي نصَّتْه - ولا بِمُعَطَّلِ
* وكأنّما التفتت بجيدِ جِدايةٍ
رَشَإٍ من الغِزْلانِ جُرٍّ أَرْثَمِ

وتبدو صورة هذا الجِيدِ، لدى عنترة، مُحتاجةً إلى تكلّف الذوق لكي تغتدَي مقبولة. فكأنّ طول هذا الجيدِ مسرف فاحش، وكلَّ مازاد عن الحدّ، انقلّب إلى الضدّ، كما يقال. ولعلّ صورة جيد امرأة امرئ القيس أجمل، وطوله أمثل، لأنّه حين شبَّه جيدها بجيدالرئم، كأنّه أحسّ بأنّه طويل، وكأنّه جاوز حدّ المقبول من الطول لهذا العضو من المرأة، فاستدرك قائلاً:

ليس بفاحشٍ


- إذا هي نصَّتْه - ولا بِمُعَطَّلِ

فالأولى: أنّ هذه المرأة، حتّى في حَال نَصِّها جِيدَها، نحو العلاء، لا يبدو هذا الجيدُ فاحش الطول، ولا فاضل الامتْداد.

والأخراة: أنَّ هذا الجيد لم يكن معطَّلاً من حُلِّي، بل كان محلّىً بِعِقْدٍ يَزْدَانُ به، وقلادة تتدلَّى على النحر منه.

أمّا صورةُ جيدٍ حبيبة عنترة بن شداد فقد ظلّ حيوانِيّاً، متوحِّشاً: لا يَمْرُقُ عن صِفَةِ جِيدِ هذا الرَّشَإِ الذي على جماله يظَلُّ مجرّد حيوان. وكيف يجوزُ تسويةُ جمالِ المرأة البديع الفاتن، بجمال حيوان متوحّش في الصحراء؟

وأمّا طرفة بن العبد، ومراعاةً لتقاليد الذوق الشعريّ، في تشبيه المرأة، على عهد الجاهليّة، وفي أطراف صالحة من عهد الإسلام: فقد أطلق الغزال الأحوى على حبيبته، هو أيضاً. وعلى الرغم من أنّ طرفة سكت عن وصف عينيْ صاحبته؛ إلاّ أنّه كان يرمي إلى الصورةِ الكاملة لهذا الشادِنِ: من طول الجيدِ، ورشاقَةِ الحركة، ونحافة الجسد، وسواد العينين:

* وفي الحيّ أَحْوَى ينفض المُرْدَ شادِنٌ.

ومن الواضح أنَّ طرفة رَكَّبَ صورةَ هذه المرأة الغائبة، مجسّدةً في صورة هذا الشادن الحاضرِ بِجَعْلِهِ يَمُدُّ جيدَهُ ليكون له أطول، ولمنظره أجمل، ولشكله أظهر. فكأنّ طول هذا الجيد يتمثّل في طولْين اثنيْن، لا في طول واحد: الطول الكامن في جسمه بالقوة، كما يقول المناطقة، بدون حركة ولا تمديد، والطول الناشئ عَنْ مَدِّهِ لدى نفْضِ ورق الأَراكِ -وهو الطول بالفعل- حيث يضطر إلى تمديد أقصى مافي جيده من إمكان الاستطالة والاِمتداد.

وتشبيه المرأة بالحيوان، في الشعر العربيّ القديم بعامة، وفي المعلّقات بخاصّة، سيرةُ كانت معروفةً، وسلوكٌ كان متعارَفَاً بين الشعراء. فكما أنّ جيد الحبيبة الجميل يذكّر بجيد الرئم، أو الجِداية، أو الرَّشإِ، أو الشادِن - فبِكُلٍّ جاءَتْ تعابيرُهم: فإنّ عينيها تشبهان، في ذوقهم، عينَي البقرة الوحشيّة، بل ألفينا أمرأ القيس يختصّ هذه الأبقار بِعَزْوِهَا إلى وَجْرةَ حيث كانوا يرون بأنّ عيونها أَشَدُّ سَوَاداً، وقد تكرّرت هذه الصورة، فيما بعد، لدى لبيد بن ربيعة:

زُجَلاً كَأنَّ نِعَاجَ تُوضَحَ فَوْقها = وظِبَاءَ وَجْرَةَ عُطَّفاً أنعامُها

وكما سبق لنا أن زعمنا حول موقف امرئ القيس من المرأة، وأنّه كان يعاملها في شعره معاملة مزدوجة: من حيث هي مجرّد أنثى في حال، ومن حيث هي كائن إنسانيّ رقيق لطيف، كريم جميل، في حال أخراة... فَلَعَلَّ شيْئَاً من بعض ذلك أن يتمثّل في قوله:

تُضِيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كأَنَّها = مَنارةُ مُمْسَى راهِبِ متبَتِّلِ

فهذه الصورة لهذه المرأة كريمة، وهّاجة، تعِجُّ بالعَطاء الإنسانيّ الثرثار فهنا لا يصف امرؤ القيس ثديَيْها، ولا ساقيْها ولا وِرْكَيْها، ولا عينيْها، ولا كشْحِها ولا جِيدَها، ولا شَعَرها..

ممّا ألِفْنَا مصادفتَه في أوصاف المعلّقاتييّن لحبيباتهم؛ ولكنه يصف منها صورة تكاد تكون مثاليَّةً؛ بحيث تشكّل من حولها هالَةً من الجمال العبقريّ البديع. فكأنَّا نقرأ من خلال هذا البيت شعراً لابن الحَرَّاقِ، أو لأبي مدين، أو لِسَوائِهِمَا من شعراء أهل التصوّف، لا لشاعر جاهليّ كان يعيش في مجاهل الصحراء، وأوائل الأزمان، فهذه المرأة - المرقسيّة- إن خرجت ليلاً بَدا وجُهها مُضيئاً عبْر الظلامِ الصّفيق، والديجور الكثيف، حتّى كأنّها منارَةُ راهبٍ أسْرَجَ قنديلَه عِشاءً فبدَتْ من بعيدٍ لمُؤَوِبِيِنَ. وإنّ ربطَ بَهاءِ الوجه، وطفوح توهّجه بضوء قنديل الراهب لَفيهِ صورةٌ رومنتيكيَّةٌ من العسير علينا القدرةُُ على تحليلها ببراعة وكفاءة: فإنّ من الصور الشعريّة لمَّا يَقْصُرُ عن تحليله النثْرُ؛ وإنّ منها لَمَا يَقِفُ لديه حائِرَ الذهنِ حَسِيَراً، وإنّ منها لمَّا يَحْتَفِلُ عَلَيْهِ الجِنانُ بالفيضِ الجماليّ الطافح فيُصاب بالذهول؛ وإنّ منها لمَّا يَرْتَدُّ عنه الذوق وهو سامِدٌ كليل. نجمة مضيئة، متوهّجة بالجمال، نضّاحة بالنور، تتلألأ في ظلام الليلُ في عِشائِه... فأيّ جمال أجملُ، وأيّ روعة أروع، وأيُّ بداعةٍ أبدع، مِمَّا نقرأ، وممَّا نتصوَّر ونتذّوّق، فيما نقرأ؟ لقد تَنْضَخُ هذه الصورةُ، لهذه المرأة الليليّة النورانيَّةِ؛ بالبَراءة الغَجَرِيّة، وبِالوصف السمح، وبالتصوير السَّخِيَّ، وبالذوق العبقريّ، وبالجمال العذريّ... إنها ، كأنّها صورةُ الحياة الأولى، أو كأنّها براءةُ الكلمة حين نُطِقَتْ لأوّل مرة: عذراء طاهرة....

لم تكن هذه النجمة، هذه المرأة الفاتنة: مجرّدَ نجمةٍ ناريَّةٍ يأتي ضوؤُها الخافِتُ الخجولُ من أقاصي الكون السحيق، ولكنَّها كانت بيضةَ خِدْرٍ عَيْناءَ، ونؤومَ ضُحىً حسناءَ: لم يبرح الجمال يطفح منها، والنورُ يتضوَّعُ من أعضاء جسدها، حتّى باتت فَلْقَةً من النور العظيم الذي يضيء الظلام.

ويُوَسْوِسُ إلينا أَنَّ الناصّ نفسَه، بعد أن صوّر من هذه المرأة البديعة ما صوَّر، وبعد أن ذَكَر كشحها، وساقيها، وبياضَها، وصفاءَ نحرِها، وأسالَةَ خدِّها، وسواد عينيها وكِبَرِهُما، وطول جيدِها واعتدالَ طولِه، وكثافة شَعَرِها وطولَه، ورقّة بنانِها، وطراوةَ كَفِّها... كأنّه لم يقتنع بكلِّ ما ذَكّرَ من صفات هذه المرأة التي أَذْهَلته بجمالها الكريم فأوجزها في أَنَّها تضيء الظلام، ليقطع سؤالَ أَيِّ سائلٍ له: وعمَّا يَصنع اللهُ بما لم يُذْكَرْ من صفاتها الأخراةِ؟...

ولدى تتبّعنا للموصوفات في المرأة، أو منها، عبر المعلّقات، ألفينا صفة الحلي تستبدّ باهتمامهم بورُودها لدى ثلاثة من المعلّقاتيّين، على حين أنّنا ألفينا عِطْرَها، وسواد عينيها ، وطول قامتها، ووشْمِها، وبياض لونها، وهِضَمَ كشْحِها، وإشراقةَ ثغرها، ولطف مشيتها: لا تِردُ إلاّ مرّتين اثنتين في المعلّقات كلّها.

ويتبوَّأ امرؤ القيس المنزلة الأولى حين نلفيه مذكوراً في وصف الحلي، وفي وصف العطر، وسواد العينين، وطول القامة، وبياض اللون وصفائه، وَهِضَم الكشحْ ولطافته، وجمال المشية وأناقتها... فهذه هي الأوصاف التي استأثرتْ بعناية المعلّقاتيّين وأذواقهم، يضاف إليها أوصاف أخراة لم تتكرّر إلاّ مرّة واحدة لدى هذا أو ذاك منهم. وقد كنّا عرضنا لها في بعض هذه الفقرة.

3- ملابس المرأة الجاهليّة في المعلّقات:

لو طَلَبَ إلينا طالب أن نقدَّم له صورةً دقيقة، وأمينة لِمَا كانت تلبسه المرأة العربيّة في الجاهليّة - ولِمَا كان الرجل، أيضاً، يلبسه على ذلك العهد -لعجزْنا عن ذلك عجْزاً، ولاضطرْبنا اضطراباً: لصمت التاريخ، ولِخَرَسِ الأخبار، ولِشُحِّ النصوص الشعريّة بالمعلومات، ولاضطراب الروايات في معظم الحالات.. ولولا هذه النُّتَف النزْرة، والنُّبَذُ الضَّحلة، من الأشعار التي بلغتْنا، صحيحة أو منحولة عن عهد الجاهليّة، والتي قد نظفر في تضاعيفها ببعض الإيحاءات، أو بعض الإيماءات، إلى بعض هذه الملابس التي نَنْشُدُ تفاصيلَ شأنِها: لكان تصوُّرُنا، إِذن، لهذه المسألة مُظْلِمَاً، وإذن لَمَا كنا استطعنا أن نتولّج إليها من أيّ باب.

ولقد أغرانا بأن نتناول هذه المسألة الطريفة في هذا البحث الذي نقفه على شأن المرأة في المعلّقات السبع، ضمن هذه المقالة، أمران اثنان على الأقلّ:

أوّلهما: أنّا لم نقرأْ، ممّا كتب الناس عن هذا العهد، أو عن هذه النصوص الشعرية المُعْتَزِيَةِ إلى ذلك العهد -إِلاّ أن نكون مقِصّرين في القراءة، قليلِي الإلمامِ بما كتبوا - شيئاً عن هذه الملابس التي كانت المرأة العربية، على عهد الجاهليّة، تتّخذها للسُّترة والتدفُّؤِ أوّلاً، ثمّ للتزّين والتبرّج آَخِرَا. ولقد أشار القرآن العظيم إلى سيرة المرأة في الجاهليّة الأولى فوصفها بأنّها كانت تتبرّج للرجال، وتكشف عن بعض مفاتِن جسدِها لتفتنهم، ولتغريهم بكلّ مايدفعهم إليها، ويعلّقهم بها، فقال:(ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليَّةِ الأولى)(31)، وإنّما أُمَرتِ المرأة في الإسلام بالتصوّن والتعفّف، والتستّر والتخلّق؛ حتى لا تشبه المرأة الجاهليَّة التي كانت "تُلقي الخمار على رأسها ولا تَشُدُّه، فيواري قلائدها وقُرُطَها وعُنقها، ويبدو ذلك كله منها" (32): فيكون ذلك أفتن للرجال، وأشدّ إغراءً لهم بِهَنّ، وكأنَّ دَعْوَةٌ متغنّجِةٌ إيّاهُم إليهنّ؛ فكان "لهنّ مِشيةٌ وتكسُّرٌ وتغنّج"(32)، فكانت المرأة العربيّة في الجاهليّة ربما لبست "الدرع من اللؤلؤ غير مَخِيط الجانبيْن"(34)، بالإضافة إلى الملابس الشفّافة التي كانت تُبْدِي من المرأة ما بالداخل، من الخارج...

ولعلّ هذه الوثيقة الدينيّة الأولى -وهي نصّ القرآن العظيم- التي تفْضَح سلوك أولئك النساء الجاهليّات. وإذا كان التبرّجُ معنىً ينصرف إلى كلّ ماتُظهره المرأة وترفعه من زينتها وجسدها؛ أي إلى كل المُغْرِيات التي تُغْرِي بها الرجَلَ الضعيف؛ فإنه يجب أن يكون هذا التبرّج مصحوباً، وانطلاقاً من كتب التفسير(35) المختلفة، بجملة من المظاهر الإغرائيّة الماثلة، خصوصاً، في رقّة الملابس، وَشَفَافِةِ القِناع، وَوَسْوَسَة الحَلِّيِ، ورنينِ الخلاخل، وخَشاشِ الأساور واهتزاز الأقراط، وإرسال الشّعرِ، وكلَّ مايمكن أن تَفْتِنَ به المرأةُ الرجلَ،وتُدَلِّههُ: من جسدها، من خلال ملابسها وحركاتها...

بيد أنّ يَسْتَبِينُ لنا أنّ المرأة الجاهليَّة كانت ترتدي ملابَس فاتنةً في الحفلات والمناسبات السعيدة؛ وأنّ ذلك لم يك لدى البدويّات من النساء -ذاك شيء نتمثّله بالمنطق وجريان العادات - ولكنه كان، ربما، وقْفَاً على نساء القرى مثل مكة، ويثرب واليمامة، والحِيرة، والطائف، وصنعاء وما ضارع هذه المدَن العربيّة الأزليّة التي كانت تعرف شيئاً قليلاً أو كثيراً من الازْدِهار، والتي كانت تكتظّ بشيء من الحركة وسعادةِ الأحوال. إن هذه الآية الشريفة هي التي كشفت لنا عن أنّ أولئك النساء لَمْ يَكُنَّ يرتدين ملابَس من الشَّعْرِ والوبَر، ولا من الصوف والجِلْدِ، ولكنهنّ كن، يرتدين ملابَسُ يُظَنُّ، أنها كانت منسوجة منالقطن والحرير.

كما كنّ يتحلّين بأنواع الحلى ليتبرجْن بها، ويترهيَأن فيها؛ حتّى أنّ المرأة الجاهليّة ربما كانت "تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرِضُ نفْسَها على الرجال"(36) ولعلّ قول امرئ القيس:

* عذارى دَوارٍ في ملاء مُذيَّلِ.

أَنْ يَسْتَبِيْنَ لنا بعض هَذا ويوضَّحِهُ تَوْضِيحاً ما: ذلك بأنَّ فيه إيماءَةً باديَةً إلى التبرَّج الذي كان النساء في الجاهليَّة يتبرَّجن به، وهو الطواف حول ذلك الصنم بملابس طويلة تتجرجر من ورائهنّ مع ماكان ينشأ عن ذلك حتماً من تحلٍّ بالحُلِيِّ، وتعطّرٍ بالعُطور، وتزّينُ بأنواع الزينات الأخراة...

وآخرهما: أنّا لاحظنا في نصوص المعلّقات، إشارات إلى ملابس المرأة وحليها وعطرها وزينتها بوجه عامّ. وعلى أنّ الحديث من ملابس المرأة لم يكد يرد إلاّ في معلّقتي امرئ القيس، وطرفة. ولم يكن ذكرها وِصفاً مقصوداً لذاته، كما صادَفْنَا بعض ذلك في وصف بعض أعضاء جسد المرأة، ولكنه كان عارضاً. وقد نقرأ لدى امرئ القيس، من هذه الملابس، لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ، وعدم الانتطاق عن التفضّل أيضاً، كما نقرأ الدِّرْع، والمِجْوَل، والمُلاءِ المذيّل، وثياب النوم، والمِرْط المرحّل. بينما نقرأ لدى طرفة: البُرْد، والمِجْسَد، وأذيال السَّحْل الممدَّد، وسَعة قِطَابِ جَيْبِ المرأة، والبُرْجُد.

ويدلّ أغلب صفات هذه الملابس، التي استخلصناها من معلّقتي امرئ القيس وطرفة، على سعة أيدي أولئك النساء، وتبرّجهنّ وتزّينهنّ، أكثر ممّا يدلّ على تعرّضهنّ للابتذال والخدمة، ذلك بأنّ مقتضيات الأحوال كانت تقتضي أن يذكر هذا الضرب من الملابس النسويّة الدالّة على غَضاضة العيش، وَسَعةِ الحالِ، وسُبوغ النعمة، لأنَّ الشاعرين الاثنيْن كانا بصدد وصف حبيباتٍ أنيقاتِ العيش، رقيقاتِ الذوق؛ إذ لا يمكن لشاعر أن يحبّ امرأة بدون قلب، ولا فتاة غليظة الكبد، فَظّة الطبع، سيئة الذوق، منعدمة الأنوثة، خالية من الغنج، محرومة من الدلال النسويّ... فكأنّ أناقة الملابس كانت دليلاً على رقّة العاطفة، وجمال مظهرها، فكانت برهاناً على جمال المخبر لدى أولئك النساء الموصوفات بالحُسن والجمال، والرقّة والدلال، والغَنج والذكاء، والقدرة على التجاوب، والقابليّة لمبادلة الهوى بالهوى، والعشق بالعشق: فقد كُنّ طويلاتِ القامات ممشوقاتِ القدود، وكنّ مسودَّاتِ الشعور نُجْلَ العيوِنِ، وكنّ رقيقاتِ القلوب نحيلاتِ الخُصور، وكنّ مُضْطَمِرَاتِ الكُشوح مُشرقات الثّغور، وكنّ عذباتِ الرّياقِ شديداتِ الاشتياق...

وكنّ يتّخذن لذلك من الملابس مايَدْلُلنَ به من الخارج على ما بالداخل، ومن السطح على مافي العمق، ومن الظاهر على مافي الباطن...

وقد كانت المرأة الجاهليَّة لا تحتزم على قميص النوم، بل كانت ترسله إرسالاً فضفاضاً على جسدها حتى يكون أفتنَ لمظهرها، وأغرى لِمَرْآَتِها. قد يدلّ على شيء من ذلك قولُ امرئ القيس:

* نؤوم الضحى لم تنتطِقْ عن تفضُّلِ.

أي أنَّ هذه المرأة لم تحتزِمْ على لباسها، كما يدل، على ذلك بعض قوله أيضاً:

فجئتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابَها = لدى السترِ، إلاّ لِبْسَةَ المتفضِّلِ.

ولعلّ ذلك أن يعني أنّ المرأة لم تكن ترتدِي من الملابس، أثناء النوم، ماكانت ترتديه أثناء النهار، وأوقات الامتهانِ، فكانت تتخفّف من كلّ ملابسها النهارِيّة، عند النوم غير ثوب واحدٍ تنام فيه (37) ويدلّ هذا على ماكانت الحياة بلغته لدى أهلّ الجاهليَّة، خصوصاً في القرى، من حضارة وتنعَّم، وإلاّ فإنَّ المرءَ قد يتصوَّر أمورَ النساءِ على ذلك العهد البعيد على غير ماذكر امرؤ القيس... بيد أنّ النّصَّ، هنا، حجّة على غير النص.

إنّ لبْسَةَ التفضّل، هنا، لا تَعْنِي شيئاً عن شعر امرئ القيس: غيرَ قميصِ النوم في لغتنا المعاصرة. وعلى الرغم من أنّ المتفضَّل، في دلالة اللغة العربيّة القديمة، يعني "اللابس ثوباً واحداً، إذا أراد الخِفَّة في العمل"، (38) في مزعم الزوزنّي، إلاّ أنّ سياق البيت لا يدلّ، هنا، على معنى التخفّف من أجل العمل والكَدْحْ، ولكنه ينصرف إلى معنى التخّفّف من الملابس الضّيقة، أو الغليظة، أو التي تستدعي حِزاماً عليها، والاجْتِزَاء بثوب واحد خفيف شفاف ناعم هو لباس النوم لدى المرأة المنعَّمة الموسِرَة؛ كما يدلّ على ذلك صريح عبارة امرئ القيس.

ذلك هو تأويلنا لقراءة بيت امرئ القيس، على الرغم من أنّ المعاجم العربيّة تخلط معنى هذا اللباس بين الرجل والمرأة فتجعله الثوبَ الواحد يرتديه الرجل أو المرأة في البيت من أجل الامتهان، أو الراحة (39)، وإنَّا لا ندري كيف استطاع الزوزني أن يحرِّفَ معنى لفظ التفضّل عن سياقه في بيت امرئ القيس، ويذهب به إلى دلالته العامّة في المعجم، ويجرّده من دلالته الجماليّة في هذا الشّعر.

وعلى أنّ المعجم العربيّ نفسَه يذكر من معاني هذا اللفظ مايختصّ بالمرأة ونومها أو اختلائها؛ أكثر ممّا يذّكر من معانيه المنصرفة إلى لِبْسة الرجل؛ إذ الأصل في الفَضْلة أنّها "الثياب التي تبتذل للنوم لأنها فضلت عن ثياب التصرّف"(40) وأيُّ سيدة تتخذ لبسة المتفضّل إنّما تتخذها حين تَسَعُ ذاتُ يدِها، فترتديها ليلاً لأنها فضلت عن ثياب التصرَّف التي ترتديها أثناء النهار، سواء أتعلّق الشأن بلباس الخروج، أم بلباس المنزل...

وكانت العرب تطلق الدِّرْعَ على لباس المرأة العَوَانِ المستوية، ولذلك ورد في تفسير الزمخشريّ، وأنّ المرأة - في آية التبرّج- كانت ترتدي الدرع من اللؤلؤ (41)؛ بينما كانت العرب تطلق على لباس الجارية المِجْول. وقد جمع امرؤ القيس بين ذيْنك معاً، على أن حبيبته، هي أيضاً، جَمَعَتْ بين الحالينْ في لباسها؛ فكأنَّها أفضلُ من الجارية الغِرَّةِ، من حيثُ نُضْجُها، وأفضل من المرأة المستوية من حيث احتفاظُها بفَتائِها، ونضارة جسدها: فكأنّها المرأة الكاملة التي تجمع بين فَتاء الفتاة ومافيها من غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ، وبين استواءِ المرأةِ العَوان ومالديها من تجربة وقابليّة للاستجابة:

* إذا ما اسْكَرَّتْ بين دِرْعٍ ومِجْوَلِ.

واللغة الشعريّة، هنا، ذات دلالة سيماءَوِيَّةٍ لطيفة، وإيحائيّة. فالاسْبِكْرارُ رمزٌ لطول القامة ومَثلُه مَثَلُ قولهِ:

* نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضّل.

وكانت المرأة الطُّوالَةُ أثيرةً لديهم كما يطالعنا ذلك في كثير من أوصافهم الدَّالة على ملامح المرأة، ومحامِدِها في كتاب الأغاني لأَبِي الفرج، وَسَوائِهِ من كُتُبِ التراث.... على حين أنّ ذِكْرَ الدّرعِ قرينة دالّة على المرأة المستوية. وفي ذكر المجول مُماثِلٌ (إقونة) للفتاة الفتيّة الحَييّةِ. فكأنَّ هذه العبارة تجمع بين ثلاثَةِ مُماثِلاتٍ (42)، إذ الاسْبكرارُ من مُلازمات الطُّولِ، والدِّرْعُ من ملازمات السيّدة المستوية، أو العوان، والمِجْوَلُ من ملازمات الجارية الفتيّة. فهنّ سِماتٌ حاضرات، يجسّدن سِماتٍ غائبات. ولعلّ إلحاحَ القيس على طولِ لباس المرأة في أكثرَ مِنْ موطنٍ من شعرهِ دليلٌ آخرُ على أنَّ المرأة حين كانت تتبرّج في الجاهليّة كان تتخّذ لها لباساً مُذيَّلاً، ورِداءً مُطوَّلاً: يتجرجرْ وراءَها فيمسح الأرضَ، شأن "فستان" العروس الموسَرة على عهدنا الراهن. ويعني ذلك أنّ هذا الضرْب من اللّباس النَّسْوِيّ عُرِفَ، لدى العرب، منذ العهود الموغلة في القدم. وإنَّ هذا الضرب من الملابس لم يكن يتّخذ للابتذال والامتهان، ولكنه كان يتّخذ للتبرُّج والزِيْنَة، وللتبخْتُرُ والفتنة. وقد كان امرؤ القيس أومأ إلى بعض ذلك بقولهِ حين وصف حركة عَذَارَى دَوَارٍ يوم كُنَّ يَطُفنْ بهذا الصنم في ثيابهنّ الطوال:

* عذارى دَوارٍ في مُلاءِ مُذيَّل.

والمُلاءةُ هي اللباس المُركَّب من لِفْقَيْنِ اثنيَن. بيد أنّ يعنينا في هذه المُلاءِ أنّها كانت تتجَرْجَرْ وراء الفتيات. وهو هنا مشهدٌ جماليّ عجيبٌ، ومُثير أنيق.

وهناك شاهد آخَرُ على طول ملابس المرأة الجاهليّة من معلّقة امرئ القيس، وهو:

* خرجْتُ بها أمْشِي تَجُرُّ وراءَنا = على أثَرَيَنْا -ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

ونحن لا نتفّق مع الزوزنيّ في شرحه لعبارة جرّ الذيل، ذيل صاحبةِ امرئ القيس، حيث أعاد طول لباسها إلى أَنّها كانت تبغي به إعفاءَ أثريْهِما (43) وهما يتمايشان. وهو وجه من القراءة، لديهِ، غريب بعيد. وكأنّ قراءة الشيخ لم تَلْحَنْ إلى دور جماليّة الثوب بالنسبة للمرأة؛ وكأنّه تغافل عن أنّ امرأ القيس ذكر اللباس المذيَّل مرتين اثنتين. وكأنّه كان يرى أنَّ العبارات تَرِدُ في النصوص الأدبيّة عفْواً، وأنّها لم توظَّفْ لموقف سيماءَوِيّ من خلال أدائها الوظيفةَ الدلاليّة العارضة الأولى.

إنّ جرّ الذيل على أَثَرِيْ العشيقيْن -امرئ القيس وصاحبته- لم يكن من أجل إِعْفاء الأثر وحده، وربما لم يرد في الحِسَابِ ذلك المعنى في ذهن تلك المرأة العاشقة؛ ولكن كان طول لباسها، أو فَضْلَتِها، دالاًّ على دَأْبٍ حضاريّ كان يَمْثُلُ في أنّ المرأة الموسَرَةِ كانت إذا شاءت النوم، أو ماله صلة به... اجتزأتْ بلباس فَضْلَتِها غيرَ محتزمةٍ عليها. ويُفْهَم من دلالة اشتقاق الفضلة، أنّها كانت خالصة للمرأة الموسرة التي تستطيع أن تستغني عن ثوب نومها أثناء الاِمتهان، أو الخروج من البيت، أمَّا المرأة الفقيرة فل تكن ترتدي لِبْسَة المتفضّل. وهذا عامّ في جميع الأزمنة والأمكنة.

ويكون ثوب النوم، في الغالب، أطولَ من ثوب الامتْهان، فكان لباس صاحبة امرئ القيس يتجرْجر وراءَها، وقل إن شئت وراءهما، ومن الواضح أنّ لفظ /أَثَرَيْنا يعني أنّ لباس المرأة كان طويلاً مذيّلاً؛ وأنّ العشيقيْن كانا متعانقيْن حتّى كأنّهما كان يشكّلان جسداً واحداً... فدلالة /على أثرينا/، كما نرى، لاتستطيع معانِي اللغة المُعْجَمِيَّة تفسيرَها؛ ولكنَّ السيمائيّة ممثّلة في التأويليّة هي التي تستطيع ذلك...

إنّ تفسيرَ الزوزني لعبارة / على أثريْنا/ يبدو غيرَ مقنع، وذلك على أساس أنّ ثوب هذه السيّدة كان من الخِفَّةِ والشفافة ما لايسمح له بأن يَقْدِرَ على الإغفاء على أَثَرَي المَشْيِ المتداخل. ثمّ إنّ المشي كان ليلاً، ولم يكن الحَيُّ مُقفِراً من قاطِنيهِ إلا من هذيْن العشيقين فيعرف الناس في غداة الغد أنهما هما اللذان كانا قد مَرَّا من هناك... ثم، إنّ الريحَ كانت بالمرصادِ لِمِثْلِ هذا المُماثِل (الإقونة: إقونة أثرَي العشيقيْن المرتسميْن على الرمل): لكي تُعْفَي عليه، وتنسج نسوجها على مواقعه.

والمعلّقاتيّ الآخَرَ الذي عُنِيَ بلباس المرأة، ولكن بدرجة أدنى، هو طرفة بن العبد، فقد ذكر أكثر من مرة، لباس قينة من القيان، ومن ذلك قوله:

* وقينة


تروح علينا بين بُرْدٍ ومَجْسَدِ

والبُرْدُ كِسَاء مخطّط، وقد فسرَّه المعجميّون العرب، القُدامى ، على أنه ثوب يمانٍ، مخطّط مُوَشّىً(44)، على حين أنّ المَجْسَدَ هو ثوب مصبوغ من الزعرفان في تعريف معجميّ، وثوبٌ أحمرُ قانٍ في تعريف معجميّ آخر(45)، ولكنّ التعريفيْن يتفقان على أنّ المَجْسَدَ قانِي اللون، أو فاقعه، وهما لونان يتمحّضان للمرأة. وكأنّنا نتمثل اشتقاق هذا المَجْسد من الجَسد، وكأنّه كان يرتدى على حُرِّ جسد المرأة.

ويمكن أن نستخلص من نصّ طرفة ثلاثة أمور مَجْدَرةٌ بالدلالة لدينا:

أوّلها: أنّ هذه القينة -المغنيّة- كانت الفتيان تغشى مَلْهَاها رواحاً لا غَدوّا؛ ممّا قد يدلّ على أنّ هؤلاء الشَّرْبَ كانوا يسْهَرون على شرابِهم ولهوهم في ذلك الملهَى الذي كانوا يختلفون إليه؛ فكان مجلسُهم ذاك، إذن، اغتباقاً لا اصطحاباً، وقد يدلّ ذلك على بعض الاِزدهار في حياتهم:

وإلاّ لَما كانوا اتَّخذوا مجالسَ للشراب، ولمّا يَمَّموا مَرتَعَ اللهو؛ فكانوا لا يتجزئون بما كانوا يترشَّفونه اصطحاباً، حتّى طِمعُوا في وَصْلهِ اغْتِباقاً.

وثانيها: أنّ هذه المغنيّة التي كانت تُقْبِلُ على الشَّرْبُ مُتراقِصَةً، مغريَةً إيّاهم في ملابس كأنها عُرْيٌ، إذ كانت ترتدي لِمُرتادي حانتِها قميصاً مخَطَّطاً من صُنْعِ يَمَانٍ، ولم تكن ترتدي لِباساً خَشِناً من الصوف شأنَ البدويّات. فكأنّ الفتاة التي يتحدّث عن لباسها طرفة كانت متحضِّرة منعَّمَة، ورقيقةَ العيشِ ناعِمةً، وأنيقة الحركة مدلّلّة: لتُغْرِيَ الفتيان باللهو في حانة صاحبها، ولتجعلهم يُقبِلون عليها، فيستمتعون بصوتها إذا غَنَّت، كما يستمتعون بالنظر إلى جمال وجهها، واعتدال قامتها، وأناقة ثوبها الذي كان يتّخذ اللون القاني إذا احمّر، واللون الفاقع إذا اصفرّ.

وكأنّ هذا الضرْب من الملابس، مضافَاً إليه ماوَصَفَ به امرؤ القيس من ملابس النساء، يصدق عليه آية التبرَّج التي فَضَحَ القرآن بها المرأة الجاهليّة.

وآخرها: إنّ هذه القينة اتّخذت لها ثوبَينْ اثنين: أحدهما داخِليٌّ ممّا يَلِي الجسد، وهو بمثابة القميص، وهو مُخَطّط موشّىً، مؤنَّقٌ؛ وأحدهما الآخرُ مُغْرٍ منظرُهُ، فاتِنٌ لونُه؛ لأنّه مصبوغ بلون الزعفران الأصفر الفاقع في تعريفٍ، أو لأنّه أحمرُ اللونِ قانِيهُ، في تعريف آخر.

واللون الأحمر إذا ارتدتْه المرأة -الجميلة الفتيّة خصوصاً - يتّخذ له دلالةً لونيّةً جديدةً كأنّها لم تكُ فيه من ذي قبل حين كان غيرَ ملبوسٍ، مَثَلُهُ مَثُلُ الأسودِ، والوَرْدِيَّ... فكما أنّ الألوان الفاتحة تزّ‍ين المرأة وتزيدها فتنة؛ فإنّ المرأة، هي أيضاً بلونها، تزّين هذه الألوان:

ولاسيما إذا بدت على ضوء الشموع، وقناديل السّليطِ التي كانت، فيما يبدو، تُتَّخَذ لديهم للإضاءة(46) وهو الضوء الذي يُحيل على الليل. وهو الليل الذي يحيل عليه قوله /تروح/ الدالُّ على زمن المَساء السحريُّ...

لكنّنا نلاحظ أنّ قينة طرفة بن العبد تضيءُ أو تُضاءُ، من حولها القناديل لكي يبرز جمالها، ويرتسم جسدها، من خلال ماكانت ترتديه من أثواب مخطّطة وملونّة معاً، بينما نلفي صاحبة امرئ القيس هي التي تضيء الظلام؛ فهي مصدر للنور، فالنور عنها ينبثق، وهي منبع للضياء، فالضياء منها يَنْبَجِسُ، ولا سواءٌ امرأةٌ تضيء الظلام عِشَاءٌ، وامرأةٌ تُضاءُ بالشموع والقناديل عِشاءً. فالأَوْلَى مصدرٌ للجمال العبقريّ الكريم، والأخرى مظهر لهذا الجمال في حدوده المألوفة لدى الناس، والممكنة في تقاليد الأعراف.

ويبدو أنّ طرفة لم يجاوز وصْفُه هذه القينةَ إلى سَوائِها من النساء، ويبدو أنه كان بها مُعْجَباً، بل لها هاوياً، فكان يتأوَّبُها إذا جَنّهُ الليل وهي في حانة الشراب، ولذلك نلفيه يصف بعض ثوبها، تارة أخراة، فيقول:

* رحيب قِطاب الجَيْبِ منها رقيقة = بَجسِّ النّدامى ، بَضَّة المُتَجرَّدِ

فكأنَّ طرفة يُسِفُّ، في هذا البيت، من منظورنا على الأقلّ، إلى وصف امرأة عموميّة هي مِلْكٌ مُشاعٌ بين الناس جميعاً، من أجل ذلك تراها أوسعت في جَيبِ مَخْرَجِ رأسها من ثوبها؛ حتى يبدوَ من جسدها جيدُها وَنْحْرُها، وكلّ ما علا منه للندامى، وحتّى يَيْسُر عليهم جَسُّ جسدِها البَّضِّ العارِي المَفاتِن.

بينما يمحّض امرؤ القيس وصْفَهُ لحبيبتهِ الخالصة له، القاصرة الطْرف عليه، فالفضلة التي كانت ترتديها، لَيْلَةَ أَوَّبَها؛ إنما ارتدتْها له وحْده، والثوب الضَّافِي المذيّل الذي أضافته إلى فَضْلَتِها، أو استغنت عن فضلتها فارتدته وحده، لدى خروجها مع الشاعر خارج الحيّ، إنما ارتدته ليتمتَّع بِهَا وحدَهُ أيضاً -من لَهْوٍ- تمتُّعاً غيرَ مُعْجَلِ. وشتّان حبيبةٌ قاصرةُ الطرْف على حبيبها، وقينةٌ عموميّة كلُّ من شاءَها، نالَها: لا تُرُدُّ يدَ لامسٍ يلمَسُها، ولا جاسَ يجُسُّها.

ونجد عمرو بن كلثوم يحترز لعفّة صاحبته واستئثاره بها وحده حين يصف منها الثَّدْيَّ بأنّه مثلُ حُقِّ العاج رَخْص، وأنّه -وهو أهمّ من ذلك شأناً- حصانٌ من أكُفِّ اللاّمسين. فكأنَّ طَرفة وحدهُ، من بين المعلّقاتيّين، هو الذي أَسَّفَّ في وصفه حين نزل إلى وَصْفِ امرأة عموميّة، على حين أن زملاءَه قدّموا لنا صورة مشرقة وجميلة للمرأة الجاهليّة التي كانت تبادل الرجل حبّاً بحب، ولكن في سمّو واعتزاز، لا في ابتذال واستخذاء.

ويذكر طرفة الثوب المذيّل، هو أيضاً، مرّة واحدة إذْ يقول:

فذَالَتْ كما ذَالَتْ وليدةٌ مَجْلِسٍ


تُريّ رَبَّها أذيالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ

فهذه القينة التي شُبِهَتْ بها الناقة: كانت تترهْيَأُ في مشيتهأ، وتتكسَّر في حركتها، وتتبختر في ملابسها، وذلك كيما تُرِي سَيَّدَها ومالِكَها أذيالَ ثوبها الأبيض المتجرْجر، لكنّ هذه الصورة الجميلة للثوب سرعان مايخمد وَهْجُها، وتنطفئ جَذْوَتُها، حين تصطدم بامرأة هي ملك للناس جميعاً، أوّ كأنّ قَدِ!...




.

صورة مفقودة
 
أعلى