ياسمين عزيز عزت - الجنس على خارطة الأديان الإبراهيمية

"إن شعرة واحدة من رأس امرأة لتساوي عندي كل اليقين الذي لديك".
ألبير كامي/ رواية الغريب



فالبطل يرى أن لحظة من حياة حرة، أو أن الحب، أو الجنس أو كلاهما، أيا كان ما تمثله لديه - شعرة واحدة من رأس امرأة- لهو أعمق و أصدق لديه من كل العقائد والأيديولوجيات التي يحيا بها ولها رجل الدين.

يعتبر الجنس هو التابو الأكبر الذي أقيمت حوله صروحا من التحريمات لازالت، بالذات في منطقتنا، هي المعوق الأساسي، ويكاد يكون الوحيد نحو حياة الحرية الكاملة التي يتمتع بها الكثيرون في الغرب . والاتهام الأول الذي يوجهه المتدينون لللادينيين هنا هو أنهم ينبذون الأديان لا لشيء إلا لتكون لهم حرية الانغماس في الشهوات الحسية، وأصارحكم أن هذا القول أحيانا هو ما يوحي بأن كل ما يمنع قائله من ممارسة ما يعده كبائر وخطايا هو خشية العقاب، لا الاعتقاد فعلا بأن الجنس شر، وهو يضع الجنس بالذات في مقابلة مع الدين كما لو كان الخطيئة الواحدة الوحيدة التي ينهى عنها الدين، كما أن العامة في شرقنا يَسمُون المرأة التي تتمتع بالحرية الجنسية بالعار الذي لا يوازيه حتى عار ارتكاب جرائم كالقتل أو خيانة الوطن ..إلخ.

والكثير من مشاكلنا الاجتماعية محورها الجنس؛ فالتحرش الجنسي، الحجاب والنقاب، تشويه الأعضاء التناسلية للإناث المسمى بالختان.. وغيرها من الأمور التي يستنزف الجدل الدائم حولها طاقاتنا النفسية والفكرية، بالرغم من سخافة مجرد الحديث فيها في القرن الحادي و العشرين، كلها محورها الجنس. أو إن شئت أن نكون أكثر دقة : تحريم الدين لكل ما يتعلق بالجنس .

كيف أصبحت التجربة الإنسانية الأكثر عمقا والأكثر إثارة للدهشة، والتي يصفها "أوشو"[1] بأنها التجربة التي من خلالها تنفتح بوابات أثيرية تدمجنا وتذيبنا في الكون، وأقول إنها التجربة التي توحد نبضاتنا بنبضات الحياة، وترتفع بنا إلى أقصى درجات السمو و النقاء، فهي لا تزيل الحواجز بينك و بين "آخر"، وبينك وبين الحياة و الكون فقط، بل من شأنها أيضا أن تمحو الحواجز الوهمية بينك وبين ذاتك، الحواجز التي يبنيها المجتمع، ويبنيها ما في العالم من نقص أو شر. إلى شر نخشاه؟

هل يمكن القول إن الأديان الإبراهيمية قد وضعت تجربة "ممارسة الحب"، وهو المصطلح الأكثر دقة في وصف التجربة الجنسية الأكثر إشباعا عاطفيًا وروحيًا وجسديًا بالطبع، فأنا لا أتحدث عن الفعل البهيمي/الميكانيكي الذي يمارسه البعض لإرضاء شبق النصف الأسفل من أجسادهم، بل أتحدث عن التقاء شخصين متساويين في تبجيلهما كل للآخر إلي حد العبادة، وفي شعورهما بالرغبة في التوحد الكامل مع الكيان الآخر، عن لحظة أقرب ما تكون للحظة التجلي الصوفي كما نتخيلها، وهي حالة يشعر فيها الإنسان بأنه يعود إلي أصله كطاقة صافية، لكنها طاقة ذات شعور في مكانها الصحيح.

لا يسعني أن أتمثل معني فعل الحب بهذا المفهوم في الإسلام، لعدة أمور ربما من أهمها السماح بتعدد الزوجات، فكيف تستطيع أن تتحد تماما بهذه الكيفية إلا مع شخص واحد يهبك كل حياته، وتهبه أيضا كل حياتك ؟ ألا يوحي التصريح بتعدد الزوجات بتصور حسي بحت للعلاقة؟ أتخيل أنه ينبغي على المرأة التي تتزوج من رجل له امرأة أخرى أو أكثر أنها، لتتجنب جحيما عاطفيا ونفسيا، ينبغي عليها أن تحصر احتياجها النفسي من شريكها في أمور أولية، وهي المعاملة الحسنة و الجنس "لا ممارسة الحب"، والدعم المادي، أما الاندماج، الذوبان التام في "شخص الحبيب فهي أمور بعيدة هنا. وكذلك أمور كالتصريح بضرب الزوجة حتي لو كان ضربا هينا[2]، يجعل منها طرف لا يرقى إلى مرتبة "الشريك" .

أما المسيحية، وإن كانت لم تحصر دور المرأة في العلاقة الجنسية في حدود المتاع الجسدي، وجعلت حقوقها الجنسية وحريتها الجنسية مساوية لما للرجل: "فلا يسلب أحدكما الآخر إلا أن يكون على موافقة"[3] . "ليس للمرأة تسلط علي جسدها، بل للرجل كما أن ليس للرجل تسلط على جسده، بل للمرأة "[4]كما أنها لم تبح التعدد، إلا أنها لم تعط أيضا لفعل الحب حقه من التبجيل أو على الأقل هذا ما يلمسه من يقرأ الكتاب المقدس بعهديه، فهناك الكثير من التعفف في العهد الجديد، ناهيك عن كون المسيح لم يتزوج، وعن تكونه في رحم عذراء بشكل معجز، إذ إنها كلها أمور لها تفسيرها اللاهوتي الذي لا يتسع له المجال هنا، إلا أننا نجد في رسائل بولس للكنائس مثلا قوله :إنه يود لو بقي الجميع كما هو[5] "أي بدون زواج"، ولكن لسبب الضيق الحاضر ليكن لكل امرئ شريكه[6].ويقول أيضا :"إن زوجت تفعل "حسنا" و إن لم تزوج تفعل "أحسن"[7] . أكان تفضيله للتبتل مرحليًا بسبب ما كان فيه المسيحيون من اضطهاد أو بسبب ظنهم آنذاك أن الوقت قد أزف، وأن نهاية العالم الحاضر باتت علي الأبواب كما يقول الرسول بطرس[8]. أو كما يقول : " يكون الذي له كالذي ليس له، والذي بلا زواج كالمتزوج ؟ أم كان تفضيلا مطلقا للبتولية ؟ أعتقد أن الكثير من المسيحيين على مر العصور قد أخذوا بالتفسير الأخير، ويشهد علي هذا العدد الضخم من الرهبان والراهبات في كل مكان وربما تعطيك المسيحية الانطباع بتفضيل البتولية "العذراوية". أيضا بسبب قول المسيح عند حديثه إلى اليهود عن الزواج والطلاق : "فإنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله في السماوات[9]. فبعكس المتخيل الإسلامي الذي يرى في الحياة الأخري جنة حسية يتمتع فيها الرجل بالجنس[10]، فإن الملكوت "الحياة الأخرى" عند المسيحي يخلو من الجنس تماما، و يبدو هذا منطقيًا، فإن فكرتنا نحن العامة عن العالم الآخر أنه مكان للأرواح، والروح لا تمارس الجنس عادة، ولا تأكل أو تتعب أو تنام، ولكن رغم ذلك مازال قول المسيح يعطي انطباعا بأنه لا ينبغي أن ننشغل بأمر هذا النوع من الملذات، إذ كما يقول العهد الجديد في موضع آخر أنه ينبغي أن ننشغل بالسماويات. و لست مع أو ضد هذا التفسير لهذه الآية بالذات.

نعود لبولس الرسول الذي يصرح بأن: "التزوج أفضل من التحرق"[11] فالزواج هنا عنده مجرد إشباع لحاجة إنسانية ملحة إن استطعت الاستغناء عنها فاستغن، وإن لم تستطع فلا لوم عليك .

كل ما سبق يغذي الشعور بأفضلية التعفف عن الجنس عند المسيحي، ويدعم مفهوم "التسامي" أي الرغبة في محاربة -وبمعني آخر "قمع"- الرغبة الجنسية، والتحول لكيان روحي بحت عن طريق الصلاة، الصوم وغيرها من العبادات الروحانية . إلى أن يحين وقت الزواج، وعندها لا يجب أيضا نسيان العبادات، بل ينبغي التوقف عن ممارسة العلاقة الزوجية للتفرغ للصلاة و الصوم[12] .كما يقول الرسول في إحدى رسائله .

أعرف عدة سيدات مسيحيات بعد إنجابهن الأطفال ووصولهن لعقد الأربعينيات من عمرهن توقفن عن ممارسة العلاقة الزوجية مع أزواجهن، و يعكس هذا الشعور بأنه كلما رغبت في التقرب إلى الله كلما كان من الأفضل تكريس أغلب وقتك للعبادة، وكلما كان من المستحسن أن تزهد في احتياجات جسدك، وفي إحدى الحالات تسبب هذا في انحراف جنسي مريع للزوج كما علمت، وفي حالات أخرى لأشخاص أكثر مثالية انتهي هذا، بالطبع، إلي حياة تعسة و اضطرابات نفسية.

نشيد الإنشاد اليهودي، السفر الوحيد في الكتاب المقدس الذي يتحدث بعذوبة نسبية عن قصة حب مشتعلة "جاء ذكر الحب العاطفي على استحياء في قصة يعقوب مع راحيل"[13]، يفسره أغلب المسيحيين تفسيرًا لا يمت للعلاقة بين الرجل والمرأة بصلة، أو يجعلها مجرد هيكل خارجي، و رمز للعلاقة بين المسيح و الكنيسة أو جمهور المؤمنين، و في الحقيقة فإنه يمكن فعلا أن يكون هذا السفر نبوة أخرى عن المسيح المنتظر؛ إذ إن العهد الجديد يشبه الكنيسة بالعروس والمسيح بالعريس الذي يقترن بها برباط أشُبه برباط الزواج لأبديته ووحدانيته، وكذلك في تحمل المسيح لخطايا عروسه الكنيسة، وتطهيرها وتخليصه إياها من براثن الشرير "إبليس" روحيا بالطبع[14] . والبعض الآخر يراه مجرد غزل أنشده سليمان في محبوبته.

سواء هذا أو ذاك، فباستثناء بعض العبارات الرقيقة مثل "المحبة قوية كالموت والغيرة قاسية كالهاوية"[15]، "أنا مريضة حبا"[16] ، "حولي عني عينيك فإنهما قد غلبتاني"[17]، لا أجد في النشيد ما كنت أتمناه من اعتراف بمدى تأثير الحب في النفس البشرية، فهو مليء بأوصاف جسدية غريبة بعض الشيء من قبيل " شعرك كقطيع معز رابض"[18]، و"ثدياك كخشفتي ظبية "[19] . كنت أتمني لو كان السفر الوحيد الذي يحتوي علي قصة حب أكثر عمقا وأكثر مصادقة لهذا الجانب الإنساني الذي لا يمكن تجاهله، و كنت أتمني لو كان الحب في الكتاب المقدس معبر عنه بشكل أكثر عاطفة، متعديا حدود التحليل و التحريم، ومظهرا فهما و تصديقا لما يشعر به المرء في تلك اللحظات النورانية من الحب الحقيقي، و متجاوزًا تحديد هذا "الذوبان" في نطاق الحاجة الجسدية التي يمكن التسامي عنها ! لكن مع كل ذلك يظل العهد القديم وهو كتاب اليهود و جزء من كتاب المسيحيين المقدس، الوحيد في الكتب الثلاثة للأديان الإبراهيمية الذي اقترب، ولو من بعيد في نشيد الإنشاد من هذه المنطقة . و تحدث ولو بلغة بسيطة أقرب إلي السذاجة عن هذه العلاقة.



[1]أستاذ في الفلسفة يحظى بشهرة عالمية إذ قام بنشر كتاباته حوالي 200 ناشر بأكثر من خمسين لغة. اشتهر بانتقاده للاشتراكية و لغاندي و للأديان المنظمة وتأملاته عن "الحسية الإنسانية".
[2]عن جابر عن النبي محمد أنه قال في حجة الوداع : ( اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
[3]1 كو7 : 5
[4]1 كو7 : 4
[5]1 كو7 : 7
[6]1 كو7: 26
[7]1 كو7:38
[8]1 بط4:7
[9]مت 22:30
[10]سورة النساء الآية رقم 57 , سورة الواقعة الآية من 22 إلي 24 , سورة الطور الآية من 17 إلي 20 , و من 21 إلي 24 ,سورة الزخرف الآية رقم 71, سورة الرحمن الآية من 70 إلي 71
[11]كو7 : 9
[12]1كو7 :5
[13]تك29
[14]أف 5 :23-33
[15]نش 8: 6:7
[16]نش2:5
[17]نش6:5
[18]نش4:1
[19]نش 4:5

.





صورة مفقودة
 
أعلى