جواد علي - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام

ويقال للرجل العزب الذي لا زوج له "الخالي"، قال امرؤ القيس:
ألم ترني أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي1
وللرجولة عند العرب أثر بارز، لما في طبيعة بلادهم من الحر وعدم وجود أمور مسلية لديهم تصرف ذهنهم عن التفكير فيه وتلهيهم بعض الشيء عن الغريزة الجنسية. ونجد في الأدب العربي شيئًا كثيرًا مما يتعلق بهذا الموضوع. وللغلمة المفرطة صار العربي مزواجًا، يتشبب بالنساء ويتغزل، والتشبيب من أمارات الرجولة عند الجاهليين.
ونجد في القصص المنسوب إلى الجاهليين وفي شعرهم شيئًا كثيرًا يتعلق بالحب: حب الرجل للمرأة، وليس العكس، ذلك لأن في طبع الرجل التباهي والتفاخر بحبه للنساء. أما المرأة فإن في طبعها الخجل الذي يمنعها من إظهار حبها وتعلقها برجل ما، ثم إن المجتمع لا يسمح لها بذلك، وهو يردعها عن أن تبوح بحبها لرجل ما، ويعد ذلك نوعًا من الخروج على الآداب العامة وجلب العار إلى البنت وإلى الأسرة. ويعبر عن النسيب بالنساء، أي بذكرهن في ابتداء القصائد، ب" التشبيب". ويعد ابتداء القصيدة بالتشبيب من العرف الجاهلي، ويقولون إن في ذلك ترقيقًا للشعر2.
والنسيب في الشعر، التشبب بالمرأة والتغزل بها، وذلك في أول القصيدة، إذا ذكرها في شعره ووصفها بالجمال والصبا، ووصف أعضاء جسمها وغير ذلك، ثم يخرج الشاعر بعد ذلك إلى المديح. ويدخل في النسيب، ووصف مرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك3.1 اللسان "14/ 239"، "خلا"، تاج العروس "10/ 118"، "خلا".
2 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".
3 تاج العروس "1/ 183"، "نسب".


والغزل في نظر بعض العلماء كالتشبيب والنسيب، كلها بمعنى واحد. وهو وصف الأعضاء الظاهرة من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك. وفرق بعض آخر بينها، بأن جعل التشبيب ذكر صفات المرأة وهو القسم الأول من النسيب، فلا يطلق التشبيب على ذكر صفات الناسب ولا على غيره. والتغزل بمعنى النسيب ذكر الغزل. فالغزل غير التغزل، والنسيب والغزل في رأي بعض آخر هو الأفعال والأقوال والأحوال الجارية بين المحب والمحبوب نفسها. وأما التشبيب فذكر حال الناسب والمنسوب به والأمور الجارية بينهما. وقال بعض: الغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودّات النساء1. وإلى غير ذلك من آراء لا صلة لها بهذا الموضوع.
والعادة أن يتغزل الرجل بامرأة فيجعلها بطلة غزله. يلف ويدور في غزله حولها ويلهج بذكرها. وقد يذكر اسمها وقد لا يذكره. وهي قد تكون امرأة حقًّا، رآها الشاعر فأعجب بها، وقد لا تكون امرأة معينة خاصة، وإنما امرأة تخيلها ذهن الشاعر، فصار يتغزل بها ويلهج بذكرها ويلج في إظهار وصفها وصفاتها وما قالت له وما قال لها إلى غير ذلك. وسبب ذلك هو أذواق أهل ذلك العهد، وعاداتهم في وجوب الابتداء بالقصيدة بهذا النوع من المقدمات، حتى يكون شعرًا رقيقًا مرموقًا، وقد أدى تغزل بعض الشعراء بنساء رجال معروفين أو ببناتهم إلى وقوعهم في مهالك. ومن أمثلة ذلك ما زعم من تغزل "النابغة الذبياني" بالمتجردة زوج الملك "النعمان بن المنذر"، وما كان من غضب الملك عليه وتهديده له بالقتل، مما اضطر النابغة إلى الهرب إلى الغساسنة أعداء النعمان، ليسلم بريشه من سيد الحيرة وما ورد في قصة الشاعر "طرفة بن العبد".
والطابع العام في هذا الغزل البراءة والعفة ونقاء الألفاظ المؤدبة، لا يتطرق فيه الشاعر إلى ما وراء إظهار الوجد والحب والتلهف إلى زيارة معشوقته له، أو زيارته لها، وذكر الأيام الجميلة وأحلام الحب الصافية الخالصة النقية، وقَلَّما نجد في الشعر الجاهلي إقذاعًا وفحشًا. فالشاعر متأدب في شعره، يعرف حدوده في الغزل فلا يتجاوزها، لأنه يعلم حقًا أنه إذا ذكر الفحش في شعره وتعرض بامرأة معينة، فأصابها بسوء قول، فإنها لن تسكت عنه، وإذا سكتت هي، فلن يفلت من عقاب أسرتها وآلها له. وقد يكون ذلك العقاب القتل.


وقد ضرب العرب المثل ببعض الرجال في شدة النكاح وكثرته. ومن هؤلاء "حوثرة" رجل بني عبد القيس، ضربت به العرب المثل في ذلك فقالت "أنكح من حوثرة"1، و "خوات بن جبير الأنصاري"، وكان يأتي أحياء العرب يتطلب النساء، فإذا سئل عن حاجته قال: قد شرد لي بعير فخرجت في طلبه. وأدرك الإسلام، ورأى الرسول، فقال له: ما فعل بعيرك الشرود؟ فقال: أما منذ قيده الإسلام فلا2. وكان يحسن الغناء. وكان إذا رأى النساء لبس حلته وجلس إليهن. وذكر أنه "صاحب ذات النحيين"3.
ويقال: "اغتلم الرجل" إذا هاج من الشهوة، وكذلك الجارية وفي الحديث: "خير النساء الغلمة على زوجها". والغلمة: شهوة الضراب، "وفسره جماعة بالشبق واشتهاء الغلمان"4. و"الشبق" شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال: رجل شبق، وامرأة شبقة5. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالشبق والغلمة، ومن هؤلاء "ابن الغز". فذكر أن عبد الملك بن مروان ذكر إيادًا، فقال: "هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دواد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز"6.
وفي المثل: "أنكح من ابن الغز"، وهو من بني إياد، واسمه سعد أو عروة أو الحارث بن أشيم. وذكروا أنه كان نكّاحًا عظيم الأير، زعموا أن عروسه زفت إليه، فأصاب رأس أيره جنبها، فقالت: أتهددني بالركبة7.
وقد عرف من يحب محادثة النساء ومجالستهن ومخالطتهن ب "الزير"8، ومن هنا قيل: "زير نساء". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من المشهورين بذلك.1 الثعالبي، ثمار "141".
2 الثعالبي، ثمار "141".
3 الإصابة "1/ 451 وما بعدها"، "2298".
4 اللسان "12/ 439"، "غلم"، تاج العروس "9/ 4"، "غلم".
5 اللسان "10/ 171"، "شبق"، تاج العروس "6/ 390"، "شبق".
6 الثعالبي، ثمار "142".
7 تاج العروس "4/ 78"، "لغز".
8 تاج العروس "3/ 347"، "زير".


ويقال لمن لا يأتي النساء عجزًا أو لا يريدهن" العنين". كما يقال للمرأة التي لا تريد الرجال ولا تشتهيهم "العنينة" على بعض الآراء1. ويقال امرأة مساحقة. وامرأة سحاقة، لمن تشتهي النساء. ويقال إنها لفظة مولدة2.
وقد عرف "التبتل" عند بعض الجاهليين، ممن تأثر بآراء الرهبان. ويراد به ترك النكاح والزهد فيه، ويكون ذلك للرجال كما يكون للنساء. وتعرف المرأة المنقطعة عن الرجال ب" البتول". وقد نهى الرسول "عثمان بن مظعون" عن التبتل. وورد في الحديث: "لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام"3. ويقال لمن لم يأت النساء ولم يتزوج "الصارور". و"الصارورة"، المتبتلة، فلم تتزوج ولم تتصل برجل. ومن ذلك: "لا صرورة في الإسلام"4. و "الصرورة" عند الجاهليين أرفع الناس في مراتب العبادة، وقد أطلقت على الراهب المتعبد، كما جاء في شعر "ربيعة بن مقروم" الضبي، من مخضرمي الجاهلية والإسلام:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متبتل
لدنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهمَّ من تاموره بتنزل5
وقد عيب العازف عن اللهو والنساء، والذي لا يطرب للهو ويبعد عنه. ولا يقرب النساء، ولا يحدثهن ولا يلهو. فإن مثل هذا الرجل هو كالحجر الصلد الجلمد، وفيه غفلة. ويقال له "العزهاة"6.1 تاج العروس "9/ 281"، "عن".
2 تاج العروس "6/ 378"، "سحق".
3 تاج العروس "7/ 220"، "بتل"، "رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل"، الإصابة "2/ 457". "رقم 5455".
4 تاج العروس "3/ 331"، "صرر".
5 الحيوان "1/ 347". "هارون".
6 اللسان "13/ 514 وما بعدها"، "عزه".


صورة مفقودة
 
أعلى